مع إطلالة يوم جديد ، وتلؤلؤ نسمات الهواء الغابرة ،  أمضي إلى الحقل لأشارك أقاربي الحصاد ، والغريب أني أول مرة أذهب إلى الحصاد ، وأقدم إلى السنابل الصفراء لأجزها بيديّ الناعمتين ، فأحصد من السنابل الكثير ، بالرغم من صغر سني ، أذكر أني لم أستطع أن أجني من الزرع كما كان يجني أبو عوض ، صاحب الجهد الكبير، والغناء المثير ، كنت أسمع كلمات غريبة ؛ وهي كلمات يستخدمها الحصادون  أثناء  جني حبات الخير ، كان أبرزها     (( الغمر ، الحلة )) وغير ذلك الكثير ، عدا عن أغاني الحصاد التي كنت كثيراً أسمعها من أبي عوض طالما كنا في الحقل .... لقد أحببت الحقل والحصيد ، حتى تعلقت قدماي اللتان تهابا الشوك في أشواك الحقل دون أن تتوجعا ، لكني كنت أضجر كثيراً من أطفال كانوا يجنون معنا السنابل ، أولئك الفتية يحبون السير حفاة ، ولم يفكروا بنظافة أقدامهم ، فكنت كثيراً ما أحرم الماء والزاد جراء جهلهم وقلة فهمهم ، فكنت أحياناً أمضـي كثيراً من الساعـات فـي دوامـة العطـش ..... لكن هذه الحال لم  تـدم طـويلاً ، حيـث كانت  عمتي مريم رحمها الله تحتاط لي ولحمزة بالماء ، وتؤمن لناء الغذاء ، كي لا يهلكنا العطش ، ويعترينا الجوع ، فأقول لها : لا بدّ أنه عمل متعب جداً ، فتقول رحمها الله : " يبدو لك الأمر الآن صعباً، لكن عما قريب سيبدو سهلاً ، فأنت أول مرة تعمل في الحقل ، وحينما تعتاد ستجد أن  الأمر سهلاً "  فأقترب ثانية من الحقل ، وكلي أملٌ أن أضاعف جهدي ، وأمضي حتى غياب شمس النهار في الحقل ، فأطرب لأغنية أبي عوض " منجلي ومنجلاه ... راح عالصاليغ جلاه ..... " ، وأضحك من أخرى يقـول فيهـا : " أوخـذ  مارسـي وأطلـع ، وأترك مـارس الأقـرع ......" ،  و طـيلـة ساعات الحصاد ، وحرارة الشمس الساطعة ، تثير العاصفة الرمال الغابرة ، وتقمرُ عيني الدامعة ، فأركض إلى هضبة مجاورة ، يوجد عليها كل ما معنا من ماء وطعام ، فأجد عمتي مريم تحضر الشاي ، وتعد الطعام ..... فتسكب لي كأساً من الشاي ، وما كدت أكمل كأس الشاي إلى أن وضعت لي الطعام قائلة : " تناول طعامك ، وأكمل شرابك كما شئت ، قبل أن يأتي غيرك فيحرمك " ، لا بدّ أنها كانت تخاف عليّ ممن أسميتهم  الأطفال المشاكسين ، فالجلوس إلى الطعام بقربهم أمرٌ مقرف جداً  ، وما أن تنـاولت طعامـي ، وأكملت شرابي ، حتى رأيت عمتي مريم  تمسك بيدها شيئاً ما ، وحينما أكملت الطعام ، اقتربت مني تضع بيدي النقود ، لا بدّ أنها ورقة زرقاء ، عشرة دنانير ! ... إنه مبلغ هائل بالنسبة لي ، لكنني هربت ، لأنني لم أعتد على هذا ، وأكره أن آخذ شيئاً من أحد وخاصة النقود ، ركضت إلى الحقل وهي تنادي عليّ بصوت منخفض ، كي لا يدري أحد ما السبب ، لا بدّ للنداء من سبب ، لكني رأيتها أخيراً تحمل معطفي التي أحضرته خشية البرد ، كنت أظن أنها ستنقله للأعلى كي لا يتسـخ بالرمال .... ومع انقضاء النهار ، واشتعال الأضواء، أصل البيت قادماً من الحقل ، فأستحم وألقي بمعطفي مع ملابسي ، وأغسل بقاياها التي كانت فريسة للرمـال  ، ثمّ القيت جسدي على السرير كأنني لم أنم منذ عام ، فتراءت لي الأحلام ، أذكر أني رأيت في منامي معطفي الذي أحضرته معي إلى الحقل يحلق  في السماء ، كما يحلق الطائر المكاء ، وحينما استيقضت من نومي أمضيت نصف عام من عمري كفلاح نشيط يتلهف بشوق لموسم الحصاد ، أو كعاشق يتلهف بأمل لرؤية محبوبته ، أو كفريسة لدموع ابتلعتها الرمال........

إلى أن حان الأوان ، وأتت ساعة الندم ، أذكر أني حينما كنت نائماً ، آنذاك رأيت في منامي معطفي يسرق مني ، أو يختفي من أمام عيني ...حتى  اختفي من بين أحضاني ، أصحو وكأني أريد أن أعود للنوم ، لكن أذني تريد أن تصحو لتسمع صوت الباب المزعج ، كنت أظنها الرياح ... فيا ليتها الرياح ، ثمّ أعاود لأكمل نومي المتقطع ، لكني أسمع  في الخارج  صوتاً ما ، لا بدّ أنه صوت بكاء ، أو صوت صفير طائر المكاء ، يعود صوت الباب ثانية ، ولكن الرياح تصمت ، والرمال تهدئ ، فكأن  قدميّ تريدا المسير  إلى الباب ، لكـن عينـي  تـريد  النـوم ، فأستيقـظ علـى صوت بكاء عمتي ، وصوت تحسر أمي ، فأريد أن أقوم لأعرف ما جرى ، لكن عيني تعجز عن الاستيقاظ ، وسرعان ما سمعت الخبر ، لا .. لا أريد أن أسمع الخبر ، عمتي مريم توفيت لا ....لا ليس هذا بخبر ، كأن عيني كانت تعرف الخبر ، لكنها تريد البكاء بعيداً عن الأنظار ، كي لا تصمت أو تُلام .... فأصحو أخيراً من نومٍ ما هو بنوم ، فأذهب إلى المقبرة ، لأرى من الدمع المعجزة ، ومن الرحمة المغفرة ، وأعود ثانية لأسكب بقايا دموع أحضرتها الرمال ، لكن الدموع لم تقاوم الحال ، فاستقرت بين ثنايا الرمال .....

وأعود ثانية إلى المنـزل كي أرتدي معطفي ، لا بدّ أنه معطف أسود ، أنه الشيء المناسب للحداد والعزاء ....... وفي الطريق إلى المقبرة ، تعود الرياح القوية المحملة ، وبأي شيء محملة ، بالرمال !......محملة ، فترفع سترتي مرات ومرات ، وكأنها تريد أن تأخذها مني ، لتحمي نفسها من الرمال ، فأدخل يديّ  في جيوب المعطف كي لا تفترسه الرمال ، فإذا بي ألمس شيئاً أشبه بالنقود ، فأدخل يدي أكثر فأكثر ، فأُخرج من جيبي ورقة زرقاء ، عشرة دنانير ! ، من أين أتت ؟ ، فأتذكر يوم الحصاد ، والرياح والرمال وحبات القمح .... فأقـول  فـي داخلـي  : لا بـدّ أن عمـتي مريم هي التي وضعت هذا في جيبي ، نعم ، فحينما هربت إلى الحقل رأيتها تحمل المعطف ، كنت أظن أنها ستبعده كي لا تأخذه الرياح ، أو تؤذيه الرمال ..... لكنها وضعت فيها العشرة دنانير التي رفضت ، وحينها تسقط دمعي ، وتعود الرياح فتأخذ تلك الورقة الزرقاء ، فأنظر إليها ... أين ذهبت ، فتحجب صورتها عني الرمال .... فتسقط دمعتي الثانية وتنهال الدموع لتحجب صورتها الرمال التي تحملها الرياح ...فأعود إلى منـزلي قبل أن أذهب إلى المقبرة ، لأكتب قصيدة رثاء ومغفرة ، كأن شيئاً ما مسك القلم وكتب على القرطاس (( فريسة لدموع ابتلعتها الرمال )) .

          


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة   العلوم الاجتماعية