يلامس حافة الطوار الأحمر والأبيض وهو يتمتم بصلاة ، يرج بعصاه البيضاء المفككة برفق رغام الأرض الأصفر المتشقق ،ورأسه في السماء، يتحسس ذاته المشطورة على نحو قلق ، يبحث عن أشياء تعيق خطواته المترددة الواثقة فلا يجدها ، تنزلق قدمه فجأة ، تطأ فراغا ، يجنح به جهة مجهولة ، رصيف عبور الدراجات وحده يسنده، ينحرف يمينا ، ثم الى زاوية 180 درجة ، يقطع الممر المحاذي لمبنى مولد الكهرباء المنطقة في حذر ، ينعطف شمالا ، ثم يستعجل الارتماء في ثقة الى الرصيف الآخر ، كل مرة تنزلق خطاه يعيد فيها نظارته السوداء الى موقع متقدم من أرنبة انفه ، حين يدفع بجسده الضامر حد المنعطف الأول من شارع المدينة الرئيس ، تفجعه أبواق السيارات وتفرغ أحشاءه بكسل ، فلا يكترث ، فقط يتحسس بقلبه ما يمور به الشارع ، وببديهته يقود روحه الهامدة المسكونة بعناد وسط عربات مخبولة ، وأجساد مسطولة تبحث لنفسها عن موطئ قدم وسط بحر من صخب بلا ضفاف.
اللحظة ، لا شي ء يربطه بالأرض سوى قدميه. قبل أسابيع قرر مجلس المدينة تهيئ الممرات وتوسيعها من غير تثبيت علامات تنظم السير والجولان للمبصرين، بله، غير المبصرين .
وتبعا لذلك ، ظلت الخطوات العشر التي تفصله عن هدفه المنشود محفوفة بالمخاطر ، فعمليات الحفر والردم متواصلة ، في ارتجال مقصود ، مما حول الممشى المحسوب بدقة الى معسكر تدريب بالذخيرة الحية. يتوقف لحظة ، يأخذ نفسا ، الشارع حمام تغتسل بطقسه الكائنات المزحومة افتراضيا. تصدمه عربة بائع خضراوات ، يلتفت الى مصدر الصدمة متضايقا ، يسمع كلاما مألوفا، الله يلعن الأعمى الذي أنجبه...... تربيته وأصوله، حتما، لا يكترث .
ارتفعت حرارة جسمه ، وغلى الدم الإنساني في عروقه، وتوجه ناحية الصوت ، منقبض الأسارير. وبسخاء ، منح مهلة للصمت كي ينوب عنه في ما يعتمل داخله.
المسافة بينه وبين هدفه بدأت تتحدد، منذ 14 سنة مرت ، وهو يرفع عينيه كي لا يرى شيئا من ألوانه وخطوطه وصوره الجميلة الفاتنة ، فقط يأتي كي يسمع رجولته تتمرغ في تراب، وإنسانيته في وحل وطين . الأصوات والضوضاء والصدمات تتكالب على حسه المتهالك المرهف ، تتواطأ ، تتآمر ، يقترب شيئا فشيئا من هدفه ، الذي أدمنه كل صباح ، هدف بات أمره اليومي ، وشغله الذي لا يعترف بالأيام دون حدوثه ، وبعينين مفتوحتين على نفق عميق يحدج ، ويكبر توقه ، تجتمع في أحاسيسه كل الكائنات، فجأة ، تحيق به لحظة للهرب ، الى أي مكان ، يركض حيث هو ، ينتفض، يتحسس أشياءه ، وأشلاءه ، صدمة ثم صرخة ، وسيارة إسعاف . لكن نغما رتيبا ينبعث من ساعته التي يتحسس ميناءها الناتئ كصخر محيط هامشي. آه الوقت يزحف ، والهدف بات على مرمى حجر.
الآن يقف قبالة الهدف ، يحدق فيه بعينين بلا أهداب وبلا صور ، كما دأب مذ وقعت الواقعة ، يحاول أن يعثر للأشياء على لون فلا يستطيع ، كل الأشياء والأصوات والأحداث والوقائع لها طعم واحد ، صخب وصخب.
كان نحيفا كريشة في مهب ريح ، ونظيفا كحمامة وديعة ، صوته اختنق بفعل الصراخ الدائر من حوله ”شوف قدامك”.. ابتعد وإلا كسرت عظامك ” أنت أيها الأبله”.. ،” أيها الأعمى.”.. لا يكترث، يفولذ أذنيه المتدليتان نحو المدى ، تصعد ثورة من الأعماق داخله تلعن نظام العالم بفوضاه .
فيكتمها . عاد يمضغ حسراته من غير أن يذكر تفاصيل الماضي ، حين كان يقصد الهدف ولا يستغرقه سوى خمس دقائق ، ثم يشفي غليله ، ويعود بسرعة البرق ، الآن يتذكر كان طفلا وكان مشاغبا ، لكن سائقا متهورا كان الأعمى .
أحب الجريدة التي علمته كيف يرضى بالقهر ويسميه سترا وواقعية. وتمسك بقراءة صفحاتها من الافتتاحية حتى الأخيرة . وحين ينتهي من قراءتها يسلمها الى رفيقه في النضال.
تأمل المشهد من جديد أمامه ، مآت العناوين الملونة ، عشرات الصور ذات الجودة العالية ... مسح عينيه من دموع لم تسقط أبدا ، وقال لصاحبه: جئت متأخرا ..أليس كذلك ؟ لا باس يا أستاذ ..رد صاحب الكشك.
ثم ترجل عتبة الكشك، وبعد أن اقتعد كرسيا من اللدائن . شرع الكشكي يقرا عناوين صحف الصباح المحلية والعربية ، الواحدة تلو الأخرى ، فيما جفناه مرتبكتان مفتوحتان على ظلام اصطناعي لا ينتهي قبل أن يغادر الهدف ، كانت ذاكرته لا تتسع ، وقد رشفت من بئر الكلام كمية كبيرة ، انتابته شكوك وأحاطت به هواجس ، وهو الذي لا يرى ويعرف ، ونادى على صديقه الكتبي ليهمس في أذنه : لا شيء جديد إذن صديقي ، عناوين الصحف كلها باتت متشابهة .
المراجع
maghress.com
التصانيف
أدب مجتمع الآداب قصة العلوم الاجتماعية