دنْدنة سلاسلٍ تترنّم... وبعضُ لحظات مشطورة على قطعة خبز يابس يتَلقّفها بجرعة ماء ويتنفس... يتّكأ من أتعاب يومه وكل الأيام على جدار خشنٍ ويَغفُو لحظة... يتملّكُه اليأس ولا يملِكه لبعض أوهانه... يصقلها بعذاب التّعب وجِدِّ العَرق ويَرْنو... أملُه في الأرض التي زرعها غير بعيد، وماذا غير الصّبر يُؤرقُه، ما أطول الأيام وما أشدّ بأس الليالي!! لو أن الذي أتعبَه الموتُ ما نال منه الشقاءُ ولكنْ أتعبَهُ الانتظار... وحشٌ يفترسه كلما وضع رأسه سندا إلى ركبتيْه ومن له إلا هُما سعيفًا... ومَن للحديث إذا ضاقت نفسُه إلا هي له أنيساً، يَبتُرها من ضَياعها برَمق البُصاق ثم يُعاوده الأنين فيُسكته بوَقف الحركة... يَحبِسها حينا وتحبَسُه دائما، إلا الاستسلامُ للراحة ماذا بقي؟
في صباح يوم أشرقتْ شمسُه من الغرب استيقظ وسكانُ المدن والقرى على يوم كلقاء المَحشر وفي بَسط لحظة انقبض الزمن وتوقفت السيارات والساعات وحتى حركة الناس بدَتْ كجَفوة في قلوب أهل بادية ولم يشتمل يوم على مثل هذا الفراق بين الروح والجسد...
في غير عالَمٍ أصبح أهلُ المدينة!! إلا من أجسادهم المُترامية على الطرقات، التائهةِ على شُرفات المباني العالية، أمّا أهل القرى فناقم ربهم منهم؛ لا يومهم بالزمان الذي يتلو أمسهم ولا مستقبلهم بالذي هو آت، الدّواب ضَمْآى في مَحاشِرها والأرض قد ابتلعت ما عليها من ماء مما فات على الشمس تجفيفه.... لأيام سبعٍ يبعث الخليفة رجلا بيْن رعيّته يسألهم عن السّبع العِجاف... لأبقار لم يُولدن إلا لقُربان يوم كهذا، ويَستشْري في الخَلْق شدّة ضيق فلا يجدون لأنفسهم شفيعا ولا مَخرجا...
بعد إذنِ لحظة لم تَتوقّت يفتح الحاجبُ الباب على رسول الخليفة ليدخل إلى سيّده المَغمور عذابا بمزيد من العِقال... يضعها على طاولة مكتبه المؤثّث خارج الزمان... وفي غيرما لحظة يشتدّ نواح الرّعية والعالة في هيْبة من أمرهم داخل المَعبد الوَهْم يتضرّعون إلى ظَليلهم ليفتح عليهم بخراج الغيْمة البِكر.
بين أسوار المدينة المظلمة وفي مداعبةٍ منه للأقدار يغادر الغريبُ أرضَ الوَحشة مستنجدا بربّ لم يره، عسى دعوة تُستجاب... يبدأ دربَه بركعتين في مسجد ظلّ ككهف سدّت عليه العنقاءُ بخيوط العنكبوت تمنع عنه برهبةٍ من قداستها جُموعَ الضائعين.
في نشوة خشوع يترآى للغريب فيما يُخيّل للنائم طقوسَ عزاءٍ على عجوز شمطاءَ تُوارى التّراب لحظة تجدّد شبابها، وكأني بها تدفع قابريها، وكلما خرجت أعادوها من حيث لا تدري فإذا هي امرأة من جيل الرجال المقاتلين تُغالبها الأنوثةُ فلا يقوى للرجولة عليها أثر.
يستفيق الغريب من غيبوبة خشوع ورؤى قاصدا يوسفَ الشيخ الهرم ليستفتيه في أمر رؤياه... وعلى عتبة الباب قُبيْل خطوة من مضجعه الحديدي يلتقط منديله ويدخل عليه... فإذا به أعمى قد ملء الشيبُ لحيتَه ووَهَن عظمُه... وكأنه يعجّل بالرحيل تِلقاء علمه بتوقف الزمن... فيسرق منه قراءة الحُلم ويغادر على عجلةٍ... عجلةَ لفظ يوسفَ أنفاسَه وهو يقذف آخر المصابيح على طرق الضّعفاء ليستنيروا بها قاصدا بيت الخليفة لينذر!! فيُأمر بالأبواب أن تفتح فتفتح وبالرجل أن يدخل، فيُحمل إلى مجلس الوزراء، وهناك يَعبُر للملء الرؤيا من أمر أمة بادَت في سبيل حقها أن تعيش بعد النّعيم في الظلم وأن أقواما كانوا رِدّة أصبحوا قادة الدّرب... يذودون الخلق عن حياضهم ويمنعونهم... لِيوم يُغتال فيه التاريخ والمبادئ.... لرجل يتخبط في شرَك المنافقين الذين يحاولون وأْدَه، كأنثى تَضعف كل مرّة على أن تكون وإن كانت.... "ويا قومي إني لكم ناصحٌ أمين".
يقولها الغريب ويخرج فارّا بدينه إلى جبل الدِّرع في مكان خال من الدنيا... خال من بشرها... يَطمع بلحظة هدوء يتعبّد فيها لرِجس الخطايا التي حمل لسانُه، وفي الطريق يلتقي ستة نفرٍ من المهاجرين من خِيرة أتراب الأرض وقد أضاعوا سبيلهم بعد أن نزلوا على سفح جبل من سفينة تجارية ولا يرون لهم إلا أن يفرّوا إلى عتبة دانية غير ذات قرارٍ، لا يطمع في دخولها إلا طالب هلاك توجّسا من عاقبة تحملها غمامات الانتقام إلى قوم يبيتون قياما للمعاصي... وفي الأفق تلوح علامات سحابة تجرّ الويلات... برق ورعد وسوادٌ يشيب له الوَليد وأمطار تقرع الصّخر كرصاص مدوٍ يزجر الأعداء، وإذا بمغارة تعلوا السّفح مُطلةً على ميناء في الجهة الأخرى مُشرقة على زُرقة من بعض السماء يلجأ إليها السّبعة حتى تمرّ سحابات المطر الكاسح.... ويَنتشلُ الأسى من حزن الضعفاء... "اليوم ياربُّ حقَّه"... يشنقه ويعلّقه مُتعةً وفرجةً في أيام ضياعه... ولا يسكتُ عن تسبيح البائسين إلا أنينُ الوداع، ولأيام سبع لم يتوقف المطر ولا هدأ للرّعد بال ولا انطفأ للبرق نورٌ على ساحل المدينة... يجرفها متعةً ويبني بحره الجديد لخصوبة أرض الجبل... حتى إذا نال التعبُ من الفتية ناموا على أكتاف بعضهم ولم يَصحُوا إلا ثامن يوم على شمس مشرقة وبحر عظيم على مرمى أبصارهم...
ولا أهلَ بعد اليوم إلا أهل الغُصن الرّطيب والجيل التّليد!! وما شربت أرض البارحةَ إلا ما سكبتْ اليوم!!.... ولم تمض عن هذه الأُمتوعة ساعات حتى ضُرب كتف النائم للصّحوة، فقد حان وقت تنفيذ الحكم... " أنت من فجّر ينابيع السهل بقنبلة يا وغْد، لقد أمر القاضي بالفصل في حكم قطع رأسك، سرْ والأغلال تُقيدك"، سار السجين ودنا إلى المقصلة وهو يتفقد وَعيَه؛ أكان نائما قبل قليل وما رآه كان حلما أم الحلمُ الذي يراه الآن؟!... هل كان يستعدّ لتلك الحياة بهذه الموت، من مات الباغي أم المظلوم؟... شرب الفتى نسيم آخر الحياة بأمر القاضي بتلاوة الشهادة وقبل أن يُتمّها سقط ميتا بعد أن توقف قلبه عند باب المقصلة تاركا أحلامه للبَوار.
ولا أهلَ لك اليومَ يا صاحُ فمن لك بالدّفن... من تبكي لأَساكَ وتَخيط لروحك الكفن... من يحفر لك القبر ويلحدُك... أهكذا تموت غريبا، تموت ميتة الأحلام، وأين تُدفن إلا محمّلا بالتراب، أتذكر أمك التي كانت تُدلّلُك صغيرا وتحلم لك بعروس من مرجان البحر... أتذكر أباك الذي حملك على ظهره... أفّ لك إذا من أحلامهما وآه من أحلامك.
اليوم تنعاك الغُرْب بنِعاقها ياغريب الدّهر، أُشيّعك منذ الآن على نعش كلماتي وأزفك لقبر الرحمة وأبكيك بصمتي، ولا أصلي عليك إلا صلاة ناسك دير، وما أعظمك!!... سيبكيك قلمي، سأخيط كفنك من لباس وسترة الكلام وزينته... جوهرةٌ أصواتي بين معشر الناثرين والناظمين بك، أيُّ مَأتمٍ أحتفل فيه بوداعِك... أأصلي لربّ يعرفك أم أكتب لعبد يجهلك، أأخلد فيك بذكرك أم أموت فيك بنسيانك... أيّ عرش وتاج وسَمتَ به قلمي وأي وطن غرسته في؟