"قال حامد:

- سأقص عليك حلماً رأيته في رحلتي إلى (برلين) شتاء عام1982.."

في ليلة من ليالي السمر القليلة آنذاك وصل الحديث إلى الأحلام. في الخارج كانت الريح تنفخ من قِرَبها الضخمة. وكان البرد والظلام يتجولان بحرية مطلقة. وكانت أغصان الأشجار العارية وسقائف الخشب والصفيح تصطك مع اصطفاق الريح مطقطقعة ونائحة. أمّا في الداخل - حيث نام معظم الساهرين ما عدا حامد عبد الواحد ومحمد أبا النصر - فكانت الغرفة علبة خشبية متكئة على هضبة عالية من بين الهضاب التي تحمل تلك الضاحية المنفردة. علبة أشبه بسفينة صغيرة تتلاعب بها الرياح والأمواج من كل جانب، فتميل وتتوجع بصوت مكبوت بين الحين والآخر. السقف منخفض. النوافذ واسعة. الجدران واهية. الشقوق الخفية تتسلل منها لسعات باردة. كل شيء تحوّل إلى مادة هلامية رجراجة شفافة، حتى الرجال الساهرون - وهم متمددون بين يقظى ونائمين - أشبه بأشباح أهل الكهف. كل منهم اتكأ أو استوى على حشية قطنية باللباس العربي، ورجلاه مرسلتان باسترخاء كامل، لا حركة تصدر منه إلاّ حركة عينية ولسانه إن كان ساهراً. أمّا خيال المجموعة كلها فكان نشطاً في قبض وانبساط.

تابع حامد قائلاً:

- تلك الليلة قد فرغت من جولة على مدن ألمانية الغربية، التقيت فيها الطلاب العرب وأبناء الجالية السورية، وحدثتهم عن القضية السورية. لم يبق لي غير زيارة (برلين) الغربية. قبل أن نأوي إلى الفراش في أقرب مدينة حدودية، قال مضيفنا الطبيب أحمد: إن سلطات ألمانية الشرقية تدقق كثيراً في جوازات السفر. ترفض ما يحتمل التزوير، وتتصرف بقسوة. تذكرت فجأة أن جوازاتنا - نحن الثلاثة - متباينة. جوازان سوريان مختلفان في لون الغلاف، وفي تفصيلات الصفحات الداخلية وأشياء أخرى. والجواز الثالث: ألماني بالتجنّس. أوجست خيفة. قلت للأخ المضيف وللمرافقين: ألا يمكن الاستدراك ومتابعة السفر بالطائرة؟ بعد حوار ومكالمات هاتفية أجابوا: »الأوان فات. الناس ينتظروننا صباح غد في صلاة الجمعة هناك على ميعاد«.

اختلجت علبة الخشب. أطلقت الريح صفاراتها من بعيد. استأنف حامد كلامه بعد أن جرع كأساً من الماء غير الرائق، فيه طعم كبريتي:

- لم أجد بداً من النوم على مضض. أثقال السفر تضغط على كتفيّ وعينيّ. الالتزام بالمواعيد يأخذ بالأعناق. مئات من الناس يجتمعون. كلهم قلق وترقب لسماع أخبار الوطن السجين. المتكلم الوحيد الذي يحمل رائحة الأهل والأحباب يتخلف. "لماذا؟!" "لأن جوازات السفر ليست على ما يرام"! "وهل كل شيء في هذا العالم على ما يرام؟!" "ثم هل يخاف الزائر المجاهد من مثل هذه العقبات؟!".

نمنا تلك الليلة - نحن الثلاثة وصاحب البيت - في غرفة ذات نافذة صغيرة. ضيوف أربعة آخرون ناموا في غرفة ثانية. زوجة صاحب البيت وأطفاله ناموا في غرفة ثالثة. كل غرفة من هذه الغرف لا تتسع لنزيل آخر. المساحة في المساكن الأوروبية محسوبة باقتصاد. الاكتظاط في السكن مرفوض هناك "إنهم يسألونك عن عدد أفراد أسرتك وأولادك قبل توقيع عقد الإيجار. إذا زاد العدد على ثلاثة أو أربعة لم تجد من يؤجرك".

في تلك الأيام الباردة رأيتني في سجن مظلم، يضم بين جدرانه العالية مجموعات كثيفة من إخواني الأعزاء. لم أعد أذكر منهم إلاّ رفيقي في تلك الرحلة عبد الرزاق أبا طارق، لأنَّه شاركني في عملية الهرب من السجن. تفاصيل ذلك السجن الرهيب ما تزال واضحة في ذاكرتي حتى الآن. إنه شبيه بـ (الخان الكبير) الذي كان في مدينتي جسر الشغور، لكن فناءه غير مكشوف للسماء والهواء كعهدي به في طفولتي المبكرة.

(الخان الكبير) في جسر الشغور يتوسط المدينة على شكل حصن مستطيل ضخم، جدرانه الخارجية العالية، يزيد طول الواحد منها على عشرين متراً. قبل جلاء الفرنسيين عن سورية اتخذت قواتهم من هذا (الخان) موقعاً حربياً، صبوا من على سطوحه ونوافذه حمماً روعت المدينة الآمنة. كنت طفلاً في الثامنة من عمري حين اقتربت مع أترابي من إحدى زواياه بعد استسلام حاميته. ضربنا بالعصي القصيرة المزراب المعدني المتدلي. فتدفقت منه بغزارة ظروف الرصاص الفارغة صدئة موحلة. ملأنا أذيال ثيابنا منها فرحين. استدرنا حول (الخان) راكضين. انتقلنا من واجهته الشرقية إلى جداره الشمالي الذي تتوسطه نافذة واحدة، تقترب من مستوى السقف ومن مستوى الطريق الخارجي في وقت واحد. حيث يرتفع الطريق في تلك الناحية حتى يستطيع الرجل العابر أن يدخل النافذة ذات الجدران السميكة جداً. نظرنا من تلك النافذة بقوة في الظلام فلم نبصر شيئاً. لكن رائحة العفن زكمت أنوفنا. تخيلنا السجناء يحملون روث الدواب بأكفهم، وينقلونها من داخل الزرائب المظلمة إلى فناء (الخان) المستنير بشمس قائظة، والسياط المجدولة من جلد الثيران وأذناب الفيلة - كما قيل لنا - تلعق دماءهم النافرة من وجوههم وظهورهم.

أصلح حامد متكأه، ففعل مثله أبو النصر. قال حامد:

- رأيتني في سجن حقيقي. الظلام شامل. الضوء شحيح بعيد. أنفاس السجناء وترددات شخيرهم والعفونة الرطبة تلفح الوجوه والأسماع. قررنا الهرب أنا وأخي عبد الرزاق. نجحنا في نزع أقفال زنزانتنا، تعاونّا مع إخواننا الآخرين في اعتقال السجانين، وفي تحطيم الأقفال. عدونا حفاة في الأروقة والباحات نلتمس الخروج إلى فضاء الأزقة والشوارع المظلمة، وهاجس الإحباط يحاصرنا من كل جانب. أخيراً وصلنا إلى برج يشبه المئذنة. تسلقنا درجاته بسرعة. توقفنا أمام نافذة تفضي إلى الخارج. النافذة مؤطرة ومقنَّعة بشبك من قضبان حديدية غليظة. تقدم عبد الرزاق، فعالج القضبان الأمامية. بعد جهد مضنٍ استطاع أن يلوي أحد القضبان، ويتملص من بينها. خرج. جاء دوري. قضيب الحديد الملتوي استوى كما كان. عالجته، فلم أفلح في ثنيه أوليّة. عالجت غيره فأخفقت. إنها العقبة الأخيرة، أصبح بعدها في فضاء الحرية.

تقلّب حامد على حشيته، يداه تعتصران شيئاً في الهواء. العرق يرشح من جبهته. قال:

- برغم كل المحاولات الحثيثة لم أفلح. ولشدة معاناتي وضيقي بإخفاقي صحوت فجأة، ووجدت نفسي في حلم كابوسي. نظرت إلى الساعة. كان الوقت مؤذناً بصلاة الصبح. أيقظت إخواني للصلاة وللسفر. لم أحدثهم بما رأيت في الحلم.

لما وصلنا إلى البوابة الأولى من المعبر الحدودي، وسلّمنا جوازات السفر أحسست بأنَّ قلبي يهم بالقفز، فوضعت كفي عليه، وأخذ لساني يتلو ما فتح اللّه عليَّ من آيات القرآن. جدار حجري عالٍ، تحيط به وتعلوه كتل مضاعفة من الأسلاك الشائكة وأسلاك الكهرباء والهاتف وآلات التصوير والإنذار. أبراج عالية للمراقبة. الوقت ضحى. السماء ملبدة بالغيوم ولا مطر. الأرض جافة ولا غبار. الأشجار ذات خضرة داكنة أو صفراء شاحبة، مكسوة بطبقة من دخان، لا سيما الجذوع والأغصان الغليظة. الاكتئاب والتربص يدمدمان في كل ناحية. بعد تسليمنا الجوازات، وتفتيش سيارتنا بدقة متناهية، مررنا في معبر مسقوف بخيمة معدنية عالية على شكل وادٍ مقلوب، طولها مئتا متر. أمّا الجوازات التي استلمها شرطي أصهب ضخم، فلم يعدها إلينا. وضعها بعد ساعة من الفحص الطويل في أنبوب جلدي على شكل نفق أفعواني، يمتد من البوابة الأولى للمعبر المغلق إلى البوابة الثانية، حيث يعاد التدقيق فيها وفي الأفراد العابرين وواسطة العبور. رجال الشرطة الحدودية يلبسون بزّات رمادية رثة، عليها أشرطة حمر، حول القبعات وعلى الأكتاف، وحول المعاصم والأزرار. أشكال الوجوه متشابهة، تجمع بين الواجهة الصينية المسطحة، وكثافة الحواجب والشوارب الجرمانية، وغلظة الشفاه الإفريقية. العيون الرمادية كابية متفرسة. الذعر فيها متوارث. الوعيد فيها راعب. قبضات الأيدي ثقيلة مشدودة. أظفارها ثخينة مصفرَّة. تتحرك أطرافها كالدمى الآلية، لكن معانيها الراشحة غير مريحة. تذكرت ساعتها شريطاً سينمائياً يحكي ثورة العبيد في العهود الرومانية السحيقة. الذي تذكرته من الشريط.. عملية تحويل الإنسان العبد إلى حيوان أعجم من خلال تعريض أنفه الأقنى لأشعة جوهرة حمراء نارية، تمطّ أنفه في النتيجة، فيصبح خطماً حيوانياً طويلاً، ويهجم الشعر الكثيف من كل أنحاء جسمه. يقوم على تنفيذ هذه العملية الخنزيرية علماء متخصصون في علوم النفس والتشريح. إنها قصة خرافية. لكن تخيلها كافٍ لإثارة الذعر والتقزز: الإنسان - الحيوان مصلوب أمام العالم المختص. العالم يدير بيده كرة حمراء على رأس قضيب نحاسي قصير، وقد نبت للإنسان الحيوان قرنان وشعر وحشي. على أنفه المحمر حدبة سوداء تأخذ بالتكور والتطاول مع مرور الزمن. يعبر قطيع من هؤلاء البشر الممسوخين، وهم يصهلون ويتراكضون متهارشين.

لم نكد نصدق لما استلمنا جوازات السفر أنه سمح لنا بالعبور.

حين خرجنا من تحت الخيمة المعدنية إلى هواء الفضاء أحسسنا كأن سقفاً معدنياً يغطي الأفق كله، وأن جدراناً عالية تحيط الأرض من كل أطرافها. تذكرت حلم الليلة الماضية، فاستنفرت هواجسي ومخاوفي، ومع ذلك كتمت مشاعري عن رفيقَيْ الرحلة. هكذا قدري، أمضغ آلامي وحيداً. تشاغلت بالمشاهد الحسية المتتابعة. كان طريق السيارة سيّء التعبيد. تستقبلك الحفر، وتسلمك للأخاديد والنتوءات، فأنت بين ارتجاج وارتطام، مما يذكرك بتهالك المواصلات في بلادنا. أما الأكواخ المتناثرة هنا وهناك، فتنقلك من ناطحات السحاب إلى بيوت الصفيح والقصب في أواسط آسية وأفريقية. بين حين وآخر تصادف دبابة أو عربة مصفحة تتوارى خلف شجرة ضخمة. توقف السيارات أو خروجها عن الطريق العام ممنوع.

زيارتنا إلى (برلين الغربية) كانت حافلة بالمحاضرات والزيارات والمقابلات الثنائية والجماعية. حلم الليلة الماضية كان سقفاً منخفضاً يسير معي حيثما سرت، أشبه بالغلاف الخارجي لجوزة ضخمة، يحيط بها من كل جانب، وتتجعَّد حَدَباته الملساء صاعدة هابطة. انفرد بي أحد الرجال الأشداء: قامة مديدة. كتفان عريضتان. جبين عال. كفان سميكتان. عينان صقريتان مُصمِّمتان. لسان ذرب: "دبّر لي بندقية قنّاصة ذات منظار. عندي صيد سمين. مجرم كبير سوف يمرّ بهذه البلاد قريباً". "ما وراء هذا العرض؟" - قلت لنفسي – "عمل متهور أم شَرَك؟." حلم الليلة الماضية أطلَّ برأسه. احلولكتْ سماء برلين الضبابية. قدحتْ شرارة حمراء خاطفة من جنوب غربي آسية إلى قلب أوروبة. ابتلعتُ السكين الجافة. ابتسمتُ ببلاهة. طلبتُ الاستمهال. تساءلتُ: "هل هناك تنسيق بين سلطات الأمن في بلادنا وسلطات ألمانية الشرقية؟ هل يخفى على سلطات هذه البلاد أخبار جولتنا السابقة والحالية؟ ثم متى تتدخَّل؟ وكيف؟«. شعرت بقشرة الجوزة الحديدية تضيق حولي، وتضغط تضاريسها الداخلية عليّ. مددتُ أطرافي. نفختُ صدري متململاً ناشداً الفسحة لجسمي ولرئتي المتشنجة. دخان المصانع ترسب في حلقي. جلجلة السلاسل الحديدية التي يحملها العمال على الأعناق أيقظت شريط العبيد الممسوخين حيوانات.

تململ محمد أبو النصر الذي كان يصغي طوال الوقت. فرك أصابعه وعينيه. لم يتمالك أن قال مبتسماً:

- أيّ حلم تقصّ عليَّ. ما رأيتَه ليلة السفر في بيت الطبيب أحمد، أم مشاهداتك في طريق (برلين)؟!.

كانت إحدى مداعبات أبي النصر المألوفة. إنه شيخ معمم، خريج الأزهر. وهو لا ينفك عن المزاح الودّي حين تسنح الفرصة. هو الآن أمير جماعة إسلامية، وأمين عام جبهة معارضة للسلطة، ولم يجاوز الثلاثينات من عمره. كان يوماً، طالباً لدى المدرس حامد. كان ذلك في نهاية المرحلة الثانوية. لأول وهلة ظنه حامد أحد الزملاء، أو أحد أعضاء الجهاز الإداري في الثانوية الشرعية، لما عليه من وقار وسمت حسن. يدخل الفصل آخر الطلاب، ويسهم في الانضباط والأنشطة غير الطلابية. أمّا الآن فهما ندَّان شريكان في مشروع سياسي ضخم. كل منهما يحمل للآخر ودّاً خاصاً. ويريان في شخصيهما نوعاً من التكامل: حامد خريج مناهج التعليم على النمط الحديث، وأبو النصر خريج المعاهد الشرعية ومناهج التعليم القديمة. حامد يتمنى لو أن دراسته الأولية كانت في المعاهد الشرعية حتى يجمع بين المنهجين. أمّا أبو النصر فيحرص على ألاَّ يفوته ما ينفع في المناهج الحديثة. زد على ذلك حب الطالب الجاد لِمُدَرِّسه. وحب المدرس لطالب نابه.. وهذا غير التشرّد عن الوطن والأهل، وغير القضية العامة التي تجمع بينهما. وما التقاؤهما تحت سقف هذه الغرفة المجنحة إلاّ محطة من رحلة طويلة.

ابتسم حامد. تألقت حدقتا عينيه السوداوين وراء أجفانه الذابلة قال:

- في الحقيقة لم أستطع في حديثي أن أفصل بين الحلم الذي رأيته في بيت الطبيب، وبين مشاهداتي في برلين والطريق إليها. فاعذرني.

قال أبو النصر متضاحكاً، متلطفاً في السخرية، وقد حنى رأسه قليلاً على صدره العريض:

- عذرتك! ليست هذه أول مرة أعذرك فيها.

قبل أن يستأنف حامد حديثه لفت انتباهه أثر جرح قديم مائل في جبين صاحبه الأسمر. أثر الجرح الطويل لا يشوّه الوجه البشوش المتهانف، لكنه يعكس ذكريات طفولة عارمة. إن حامداً يعجب بهذا اللون من العلماء. إنهم يجمعون بين العلم وبين الذكاء النشط الذي يتحرك بهذا العلم في دروب الحياة والمجتمع. تلك الدروب الحافلة بأنواع الالتواء والختل والمعوقات. أبو النصر ليس أكبر إخوته، بل لعله من أصغرهم، ومع ذلك أجمعوا على تقديمه خليفة لوالده الشيخ وأميراً للجماعة. هل يخطئ حامد في الميل إليه والإعجاب به؟ والده الشيخ أحمد استطاع بعلمه وورعه أن ينسج رأياً عاماً من حوله في المدينة، لكن الولد أبا النصر هو الذي استطاع أن ينشئ من هذا الرأي جماعة منظمة ذات برنامج ومؤسسات داخل المدينة وخارجها. ربما لا يكون هذا هو السبب الأول لإعجاب حامد به، لأن هناك أنماطاً من الجماعات المنظمة في الساحة، وبالإمكان استعارة أبنيتها وبرامجها.

إن أبا النصر استطاع أيضاً أن يكسر جدران الانغلاق والتعصب، أن يتجاوز الضغائن والعداوات، أن يجمع صفوف هذه الجماعات المتعددة، ويكسب ثقتها به وببعضها، وأن ينشئ منها جبهة واحدة ضد عدوّ واحد ولأهداف موحدة "نلتقي فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه". ما أحلى الوحدة في التنوع أو التنوع ضمن الوحدة. لا استبداد. لا إرهاب. لا جدران عالية أو سقوفاً منخفضة ونوافذ مغلقة. تعددت المذاهب الفقهية في الإسلام، وبقي الإسلام هو الإسلام، بل ازدهر". لم تكن هذه بالضبط عبارات أبي النصر، لكنه جسدها في سلوكه وأنشطته. تلك حكاية الجرح المائل في جبين أبي النصر. مثل تلك السطور يقرأها حامد في ملامح صاحبه كلما التقاه أو ضمهما جوار أو مجلس.

باختصار - قال حامد - أخذنا طريق العودة كمن يخرج من أعماق بئر، حتى انتهينا إلى البوابات ذات الخيمة المعدنية المحكمة بالجدران والأسلاك الشائكة، وأجهزة الرصد والتنصت والتصوير. مررنا بشرطة الحدود المتجهمين. تسللت جوازاتنا ضمن النفق الأفعواني الأسود. تمَّ فحص سيارتنا قطعة قطعة من الداخل والخارج، وأنا أتوقع الشرّ في أيّ لحظة: صفعة مفاجئة، أو قيد حديدي. ما دام لم يحصل لي مكروه طوال الرحلة فلا بُدَّ أن يكون تفسير الحلم الآن، هنا هنا. البوابة الأخيرة. النافذة الأخيرة. هل تصدق أن الخوف يتكاثف. وأن القلق يتكاثف بعد أن يبلغا حداً معيناً من التضاعف والجيشان، لدرجة تختلط فيها الحقائق والأوهام؟ لم يلحظ رفيقاي شيئاً من اضطرابي. كنا نتصرف جميعاً كالدمى: لا كلام. لا ابتسام. سرت إلينا عدوى الدمى العسكرية، وتلبستنا أجواء الخيمة المعدنية، فلم يفطن بعضنا لبعض. استلمنا جوازاتنا. ركبنا السيارة، وأنا أتوقع من يلحق بنا أو ينادينا في آخر لحظة. انعطفت بنا السيارة مرة، مرتين. ابتعدنا قليلاً عن الحواجز والأسلاك الشائكة. ابتعدت هي عنا. سألت رفيقيّ: "هل خرجنا من حدود ألمانية الشرقية؟" "نعم". اندفعت من نافذة السيارة اليمنى وهي منطلقة بسرعة، رأسي ويداي خارج النافذة. صرخت بأعلى صوتي: "تسقط الشيوعية - يسقط الإرهاب. يسقط الاستبداد". فوجئ رفيقاي بخروجي عن طوري. حكيت لهم الحلم الذي رأيت، ما عانيت من مشاعر كابوسية طوال الرحلة.

صمت حامد قليلاً. كرع بعض الماء من كأسه المكدّرة. جذب نفساً طويلا،ً كأنه وصل إلى قمة جبل. تطلع إلى أبي النصر، وقال:

- هذه قصة الحلم الذي رأيته.

لم يقصد حامد مجرد التسلية بحكاية الحلم. إن أبا النصر يُعنى بتفسير الأحلام، فضلاً عن علومه الشرعية التي تسدّد تفسيره، وفي ذلك متعة وفائدة في ليلة سمر شتوية طويلة.

اعتدل الشيخ أبو النصر في جلسته. قطّب حاجبيه الكثيفين. تخيله حامد واقفاً بزيه العلمي: جُبَّة طويلة رمادية. عمامة بيضاء، لهجة متأنية جادة. عينان تنظران نظرات ثابتة كأنهما تقرآن في كتاب مفتوح. الرياح العاوية في الخارج خرست. الدفء ملأ الغرفة، وتخلل الزوايا والفرج، أمّا النور الضئيل فقد أكسب المشاهد المحيطة مزيداً من الغموض والتجريد، فاختلط المكان بالزمان حتى لكأن الإنسان يحسّ بالمصائر البشرية معروضة بين يديه. قال أبو النصر باهتمام ورصانة:

- كان الأولى بك، بعد أن رأيت هذا الحلم، ألاّ تدخل (برلين). أما وقد نجوت هذه المرة، فإني أنصحك ألاّ تعيدها. لعلك تذكر الحديث الشريف "الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة".

ثم تهلل وجه أبي النصر فرحاً بنجاة أخيه وأستاذه حامد.

* * * *

كــان هـذا قبل تسعـة أعوام. الآن وقــد توفي الشيخ أبو النصر منـذ خمسة أعوام، وهـدم جـدار (برلين) فـي العـام الماضي، وما زال حامد فـي غربة وتشرد.. يتساءل حامـد: ماذا بقـي في تفسير الحلم؟!.

     


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة