لم يزل أبو أحمد مسترسلا في حديثِه مع ضيفِه ، عن سجايا وسِمات ذاك الرجل الذي أودعه ثلاثَ شِياه منذ أكثر من عشرين سنة . ويسأل الله تبارك وتعالى أن يتعرف على مكان وجوده في مدينة أو ريف . أو يتعرف على مَن يدلُّه على أحد من معارفه ليردَّ الأمانة ، ويبرئ الذِّمة ، فالأعمارُ بيد الله ... ويمسح الضيفُ عن عينيه غشاوة استدارت حول عينيه لطولِ نظره في الدور والخيام التي امتدت على يمين وشمال مسجد هذه المضارب ، أو قل هذه القرية التي استوطن أهلوها منذ قرن من الزمن . وجمعت أكثر أبناء القبيلة ، حيثُ المياه والكلأ ، والموقع القريب من المدينة . وربما تباهى أبو أحمد ومن حيثُ لايشعر ، وهو يتحدث عن هدوئها ، وصفاء الأجواء فيها ، وروعة إشراقة الشمس في أفقها الحالم ، وبابتسامات أيام الربيع الجميلة  ... 

اعتدل الضَّيفُ في جلسته ، وهو مازال يرشف الشاي ،وقال : ياسبحان الله ... منذ عشرين سنة وهذه الشِّياه على قيد الحياة ؟؟ تبسَّمَ أبو أحمد وكأنما علم مايدور في رأسِ ضيفِه . فأشار إلى ضيفه بيده : أن تمهَّلْ ، و وقف على باب الخيمة ، ونادى ابنَه هشاما ، لبَّاه الولد مسرعا ، و وضع الوالدُ فمه في أُذن ولده ... فانطلقَ إلى مكان خِباء النساء يذكرُهُنَّ بتجهيز طعام العشاء . ويعلو صوت أذان المغرب من مسجد القرية نديًّا صافيا كصفاء تلك الليالي المقمرات ... حيَّ على الصَّلاة ،، حيَّ على الصَّلاة . فهبَّ مَنْ في تلك الربوع إلى إسباغ الوضوء ، لأداءِ صلاةِ المغرب جماعةً في بيتِ الله .

كانت أمسيةً حالمةً ، النَّبتات المتناثرة هنا وهناك تحركها بهدوء نسائم الصحراء الرقيقة ، وثغاء الأغنام يختلط برغاء الجمال التي عادت من مراعيها للتَّو ، والقناديل تتلألأ أنوارُها في البيوت والخيام ، فالمكان يقترب من حضارة العمران ، وبدا القمر باسما يختال في رحاب السماء ، ويرسل نورَه ليطردَ وحشةَ الليل عن هذه المضارب . وكأنه يريد أن يشارك أبا أحمد وضيفَه في جلسة سمر وادعة متميزة . وينطلقُ أبو أحمد في حديثه مجيبا ضيفَه عن سؤاله حول عشرين سنة مرَّت على هذه الأغنام ذوات الصِّبفة الخضراء . ... فالشياه زاد عددها  ـ يا أخي ـ وما زلتُ أتحرَّى أخبارَ  صاحبِها ، وقصتها مع كل أولادي ، وكل مَن يسكن هذه المنطقة ، وأوصاف صاحبها لم تَعُدْ تخفى على أحد منهم ... كان الرجل سمح الوجه مشرقه ، طويل القامة ، خفيف شعر العارضين ، دائم الذكر لله ، وعدد أوصاف رجل يكاد يكون من أولياء الله الصَّالحين ، ينُادى : بأبي الخير . وكان أبو أحمد قد أشار لضيفه ضحى هذا اليوم إلى جهة الشرق حيثُ توجد ثلاث شُجيرات ، تبعد عن مكان جلوسهما بحدود مئتي متر ، قرب طريق ترابي يؤدي إلى مضارب القبيلة ... من هنا طلع علينا رجلٌ يركب حماره ، ونزل عندنا ضيفا لثلاثة أيام ، وسُررنا بوجوده بيننا ، كان دائم الذكر ، يحسن تلاوة القرآن الكريم ، وأمَّ الناس في هذا المسجد ، وقبل أن يرحل اشترى مني ثلاث شِياه ، ودفع إليَّ ثمنها ، و رجاني أن أُبقيها مع غنمي لحين عودته التي لن تطول ـ كما فهمتُ منه ـ  فقمتُ عندئذ وصبغتُ ظهور نعاجه باللون الأخضر ، كيلا تختلط مع بقية النعاج في القطيع .

قال الضَّيفُ : هذا أمرٌ  كريم ، يدلُّ على طيبِ نفسِكَ ، ومراعاتك لحقوق الناس وشهادة لأمانتك ... أتمَّ أبو أحمد حديثَه : ومرَّتْ أيام كنتُ أترقبُ طلعة الرجل مرة أخرى ، ولكن الأيام ثمَّ الأسابيع مرَّتْ ، ثمَّ مضى الحول وتتابعت السنون ، والشِّياه يزداد عددها ، وما زالت الصِّبغة الخضراء تميزُها عن غنمنا حتى يومنا هذا . ولقد جمعتُ أفراد أُسرتي وأخبرتُهم أنَّ هذه الأغنام هي ملك الرجل ، ولن نأخذ منها ( طليا ) واحدا مهما كثرت ، فهي أمانة حتى يأتيَ اللهُ بصاحبِها !! فاتركوها مع ( حلالِنا ) تأكل وتشرب من رزق الله في هذه البوادي ، وممَّا نشتري من علف ... وهكذا تمرُّ الأعوامُ ، وكلما حال الحول أخرجنا زكاتها منها ، مثلما نخرج زكاة أنعامنا .

كان أبو أحمد يتحدث بصدقٍ وانفعالٍ ، وضبفُه يصغي إليه بلهفة واهتمام ، وقد انطلقَ لسانُه بعبارات الحمد والثَّناء على الله عزَّ وجلَّ أن جعل في هذه الأمة مَنْ يحفظ الأمانة ويرعاها حقَّ رعايتِها مثل أبي أحمد . ثمَّ قال : والله ـ يا أباأحمد ـ ما أنزل اللهُ القطرَ من السَّماء ، ولا بارك بهذا ( الحلال ) إلا ببركة أداءِ الأمانات ، وإخراج الزكاة ، فما منع قومٌ الزكاة إلا مُنِعوا القطر من السماء . ولعلَّ اللهَ سبحانه وتعالى يقرُّ عينيك برؤية صاحبك إن كان في الأحياء ، أو تجد مساعيك الصَّادقة بعضَ أولاده أو أحفاده ، وما ذلك على الله بعزيز . قال أبو أحمد : أسأل الله ذلك . لقد حان وقتُ النوم ، فأستودعك الله ، وتصبح على خير إن شاء الله .

وجـرَّ أبو أحمد خُطاه إلى دارِه ، ليستسلم لفراشه ويقلب بقية أطراف الحديث لعشرين سنة خلت ، وترفض نفسُه المؤمنة أن يجعلها مجرد ذكريات اندثرت ، ولكنها مكابدة الذي يخشى اللهَ واليومَ الآخر ... وبشرق الصباح ، وتنهال أشعةُ الشمس على الممرِّ الترابي الذي شهد ذات يوم خطوات ذلك الضيف الكريم . وترتفع الشمس في الأفق ، ويأتي هشام كعادته بطعام الإفطار للضيف الذي صلَّى سُنَّة الضحى ، وراح يسبح الله ويصلي ويسلم على رسوله الكريم r . ويشارك أبو أحمد ضيفه الحديث والطعام ، ويلمح ابنه سعيدا قادما مع شاب آخر ، فيأخذه العجب ... لمَ قدم سعيدٌ في هذا اليوم وليس عنده إجازة من جامعته !! وليس من عادته ترك المحاضرات لأيِّ سبب كان !! ومَنْ ترى هذا الشاب الذي يرافقه !! أهو صديقٌ في الجامعة التي يدرسُ فيها ولدي ؟ أسئلة وخواطر ما كانت لتكونَ لولا عودة سعيد المفاجئة ... يلقي الشابان السلام ، ويقَُبِّل سعيدٌ يدَ والده ، ويسلم على الضيف ، ثمَّ قدمَ لأبيه ضيفَه الشابَ ، فرحَّبَ به أجمل ترحيب ، وحضر َ هشامٌ مسرعاً يحمل أطباقا من الجبن البلدي والتمر والقشدة والحليب مع خبز التَّنور الحار . فهذا من طعام أهل البادية المتميز  . كانت عينا أبي أحمد بعيني ولده سعيد تتحدثان ، وتكادُ تقرأُ كلُّ عينٍ ماتسطره الأخرى من إيماءات ، انتهوا من طعامهم اللذيذ ، وانطلق سعيدٌ يحدث أباه عن صديقه عبدِالسلام ، وليطلق البشارة التي طالما انتظرهاالوالد منذ زمن بعيد . بادره والده بالسؤال عن سبب مجيئه وعودته المفاجئة اليوم ، فقال  سعيد : أجل ياوالدي بعد انتهاء زمن المحاضرة أمس ، ذهبتُ مع صديقي حسن إلى دار صديقنا عبدالسلام ... ويشير إلى صاحبِه ، لزيارة والده الذين جاوز الثمانين من عُمرِه ، فهو مريض وملازم الفراش منذ بضعة سنوات ـ ونسأل الله له العافية ـ وكان عنده جمع من أقاربه وأصدقائه يعودونه ، وسمعتُهم ينادونه بأبي الخير ... عدَّل أبو أحمد جلسته ، وحملق في وجه ابنه سعيد ، وكأنه يقول له قل ماعندك بكلمة واحدة ... وكاد يقطع حديث ولده ، إلا أنَّ سعيدا رجاه أن ينتظر تمام القصة ، وخرج أكثرُ الناسِ ـ ياأبي ـ من عند مريضهم ، وبقيتُ مع صديقي حسن عند أبي الخير الذي هو والد صديقنا عبدالسلام ، ويشير إليه مرة أخرى ، وتحرك أبو أحمد في مكانه وكأنه يريد معانقة عبدالسلام ، إنه ابنُ صاحب الأمانة ، الشياه ذوات الصبغة الخضراء ... أتمَّ سعيدٌ حديثَه : فقلت لصديقي عبدالسلام : كَلِّمْ أباك ، وَسَلْهُ إن كان يذكر أنه اشترى ثلاث نعاج قبل عشرين سنة ، وتركها أمانة عند مَن اشتراها منه ليعود إليها ، ولكنه لم يعد حتى الآن . كان والده يسمع حديثي ، و والله قبل أن أُتمَّ كلامي بادرني بقوله : أنت ابنُ أبي أحمد ؟ قلتُ نعم ياعمِّ ... فأعاد الترحيب بي والسلام عليَّ ، وسألني عنك ياوالدي ون صحتك ، وعن القرية وأهلها . فقلتُ : إنهم جميعا بخير . وراح يحدثنا عن أجمل ثلاثة أيام قضاها في ربوع قريتنا ، ثمَّ حدَّثني عن قصة جرتْ معه بعد خروجه من القرية ، وبسببها نسي النعاج ، وانشغل بما هو أهم منها . ولعكما تلتقيان فيحدثك عنها ، وكأنها في الحقيقة من  عجائب الزمان .

أخبرتُه ـ ياوالدي ـ عن اهتمامك بالأمانة ، وكيف زادت النعاج حتى أصبحت قطيعا يعرفه أهل القرية بالنعاج ذوات الصِّبغة الخضراء ، وهي الآن في مراعينا تنتظر قدوم صاحبِها . دمعتْ عينا أبي أحمد ، وحمد الله ، وأدار وجهه إلى عبدالسلام وقال : هذا يوم عزيز عليَّ . أغنامكم لكم ، وما لي فيها من حاجة ، وإن كان لي من قول ، فهو الحمد لله الذي قدَّرني على حفظ الأمانة ، وإن كانت لي من حاجة ، فحاجتي أن أرى أباك في أقرب فرصة سانحة ، وأسلم عليه أولا ، وأسلمه ( حلالَه ) . وقف عبدالسلام واجما تختلط بين عينيه أطياف الفرحة بهذه القيم الأثيرة ، ومعاني  هذا الكرم ، وصفاء الفطرة التي فطر اللهُ الناس عليها . وأخذ لسانُه يردد عبارات الحمد والثناء على الله ، ويقدم الشكر الجزيل لأبي أحمد وأولاده على هذا الاستقبال والحفاوة التي طالما افتقدها أكثر الناس في هذا الزمان ... واستأذن للعودة إلى مدينته يرافقه سعيد حيثُ  الدراسة ، وإتمام المرحلة الجامعية فهو في عامها الأخير . والتقى  سعيد بأبي الخير مرة أخرى في داره ، ليبلغه تحيات والده ، ودعاءَه له بالعافية . وفي نهاية الأسبوع عاد سعيد إلى القرية ليجد أباه قد هيَّأَ قطيع الغنم ( ذوات الصبغة الخضراء ) ، وشيئا من الجبن البلدي والعسل والقشطة والتمر مع الخبز  لتكون هدية أبي أحمد لأخيه في الله أبي الخير بعد فراق طويل .

وفي بيت منيف يقع على طرف المدينة الشرقي ، كان اللقاء حارا مطرزا بالأشواق والأذواق ، ممزوجا بدموع الفرح والإخاء والوفاء ، وحيث امتلأت أسماعُهم بثغاء الأغنام ذوات الصبغة الخضراء ، التي أنزلوها من السيارات ، وأدخلوها إلى باحة خان كبير أعده أبو الخير لإطعام الأغنام والتجارة بها ، ولتختلط بأخواتها أغنامِ أبي الخيرِ ، ولتشكل قطيعا واحدا لهذا الرجل الصالح . وجلس أبو أحمد قرب أبي الخير عند فراشه ، يتجاذبان الحديث ، الحديث الذي أصبح حلو المذاق ، وشهيَّ الطعم ، بل ألذَّ من أطباق التمر والقشدة والجبن والخبز الحار الذي تناوله أبو الخير ذات يوم في دار أبي أحمد . وتساءل الناس الذين شدَّتْهم القصة ، وجذبتهم الجلبة التي مارأوها من قبل بهذا الحجم على باب خان أبي الخير . والتف الناس حول عبدالسلام وسعيد وهما يتناوبان في سرد قصة ( ذوات الصِّبغة الخضراء ) . فحمد الناسُ ربَّهم أن بقي في هذا الزمان أُناس وكأنهم أصحابُ نبيٍّ  ،فهم لايعرفون كهؤلاء  الذين خلت أفئدتهم من معنى الوفاء في هذا الجيل الذي ضيَّع قيم الأمانة ، واستخف بقانون الإخاء والمودة  وما ألفوا نفوسا فرَّارةً من الغدر والخيانة والحرام !!!

ويُغلق بابُ الخان الكبير ، وتجتمع الأغنام على اسم رجل واحد ، ويدخل عبدالسلام إلى داره وهو يمسك بيد سعيد ، ليجدا والديهما منسجمين في أحاديث عذبة ، وليعلنا لأولادهما ثمَّ للناس نبأ زواج سعيد بابنة أبي الخيرِ عاتكة على سُنَّة اللهِ ورسوله r ولتكتمل الفرحة بعد شهرين ـ إن شاء الله ـ حيثُ يُنهي الزوج دراسته الجامعية ، ويزف عروسه إلى مضارب واحات الفطر الصافية التي لم تدنسها قذارات حضارة القرن الذي تلا أخاه في انحلال الأخلاق ، وضياع الأمانة .


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة