"المحنة" و"المنحة".. "الأمل" و"الألم".. كثيرة هي الكلمات التي تتكون من نفس عدد الحروف في لغتنا العربية، لكن إعادة ترتيب تلك الحروف يعطي معنى معاكساً تماماً، كما بين المشرق والمغرب. لكن الذاكرة تحتفظ جيداً بذكريات الألم التي تعتصر الإنسان، ولا تخطئ ذات مرة في تفاصيل كل حادثة تركت أثراً مؤلماً لم تفلح الأيام في محو آثارها. ذاكرة الألم دائما قوية حاضرة شاخصة لمَ لها من وقع ثقيل أليم على النفس، ولمَ لها من آثار ممتدة في الحياة.
غير أن النافذة المشرعة دائماً لابد وأن تكون نافذة الأمل، تلك النافذة التي منحنا الله إياها لنستشعر لطفه وفضله علينا في تلك اللحظات الأليمة التي تبدلت وانزاحت، أو في تلك اللحظات العصيبة التي ما نزال نحياها ونكابدها ونواجهها صباح مساء. حين يأخذ المرء نفسا عميقاً مسنداً ظهره إلى مقعده ثم يغمض عينيه ويسترجع شريط الذكريات فإنه يتجسد أمامه فيلماً سينمائياً بنوافذ تتبدل وتتغير بين الألم والأمل قد تطول فترة نافذة على أخرى، لكن إلى حين.
إن الروح التي نحيا بها هي من الخالق اللطيف، الذي قال في كتابه "اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ"، وإذا ما أشرقت الروح بهذه الآية التي لم تكن حكراً على العباد المؤمنين فحسب، بل لعباد الله كافة. فأي فضل أعظم من هذا، وأي نفحة أفضل من تلك التي تجعلك توقن أن اللطف قانون سنّه مدبر الكون العظيم الذي لا تغيب عنه غائبة. نافذة الأمل لدى الأنبياء كانت مشرعة دائماً، لم تغلق يوماً، وكيف لا وهم صفوة الخلق وهداة الإنسانية، وروح الحياة.
|
فخليل الرحمن سيدنا إبراهيم ظلت نافذة الأمل في الذرية مشرعة، يقيناً وثباتاً وصبراً ودعاء ومناجاة لربه "رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ" فجاءته البشرى الإلهية (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ). على الدرب، مضى سيدنا زكريا في الاحتفاظ بنافذة الأمل وناجى خالقه: "قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا.. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا".. رجل بلغ من الكبر عتياً وأشد من ذلك زوجته عاقر، لكن من اللطيف جاءته البشرى "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا". حتى أنه تعجب فأورد القرآن قول سيدنا زكريا: "قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا".. فأوضح الخالق سبحانه: "قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا".. أي نعم نحن لسنا شيئاً في ملكوت ربنا، فما علينا إلا أن نستمسك بالأمل فيه وحده.
وغير بعيد عن هذا المشهد، نافذة الأمل الملهمة عند سيدنا يعقوب، فمنذ اللحظة الأولى لفراق يوسف قال: "بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ".. وظل متمسكا بالأمل حتى مع فراقه للابن الثاني قال: "عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا"، وأبصر بقلبه ما لم يبصره الآخرون بأعينهم وحث أبناءه قائلا: "يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ".. وظلت النافذة مشرعة حتى تحقق له ما أراد وجمع الله بينه وبين بنيه بعد أعوام عجاف من الفراق والألم.
أما رؤيا يوسف فهي نافذة الأمل بعينها، التي ظلت تتقلب بين الأيام.. فراق للأب وامتحان بقسوة من إخوته.. ورق في قصر العزيز، ثم سجن بتهمة لم يقترفها، إلى أن فتحت النافذة على مصراعيها فصاح مخاطباً أباه: "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ". استشعار لطف الله والأمل فيه جناحان لعبور محن هذه الحياة الكثيرة والتشبث بالمستقبل الذي لا يعلم مفاتحه سوى اللطيف الخبير.