ذكريات أليمة محفورة في الأعماق، لم يمحُها مرور الأيام، وتعاقب السنين..

ذكريات عروس شابة سعيدة بزوجها، تحلم أحلاماً وردية عن طفل سيأتي بعد ستة أشهر.. يملأ البيت حيوية وبهجة.. ما أجمل هذه الحياة: زوج محب حنون، وطفل جميل، وبيت صغير دافئ عامر بالحب..

حتى كان ذلك اليوم المشؤوم.. لو كان ذلك اليوم رجلاً أقوى على قتله لقتلته..

فيما كنت وزوجي نغطّ في نوم عميق، إذا بمسدس مصوَّب إلى رأسي، وآخر مصوّب إلى رأس زوجي.. ظننته كابوساً.. حركت شفتي بصعوبة أستعيذ بالله من هذا الكابوس.. ولكن فُوَّهة المسدس تحفر رأسي لتوقظني..

قفزت من سريري خائفة مرتعشة.. ألملم عليّ ثيابي حياءً.. ومن حولي مجموعة رجال، خمسة.. لا بل سبعة أو أكثر..

صرخت ولكن لساني انعقد من الخوف، من فظاعة ما أرى.

ترى.. لماذا يفعلون كلَّ هذا بزوجي؟

إنهم يجرّونه من سريره.. ممسكين بشعره.. واللكمات تتوالى على وجهه وصدره وأسفل بطنه.. وهو يتلوّى من الألم.. والسباب التي تنهال عليه بذيئة وقحة، أشدّ من لكماتهم اللئيمة. إنهم يسحبونه سحباً.. إنهم يسحلونه بلباس النوم، والدماء تسيل من أنفه وفمه.

حاولت أن أتكلم، أن أصرخ.. أستغيث.. ولكن صوتي لم يسعفني.. وعندما سمعت صوت ارتطام جسده على الدرج.. درجة درجة.. خرج صوتي مبحوحاً محشرجاً كحشرجة الموت:

- إلى أين؟ ماذا فعل؟ كرمى لمحمد كفّوا عن ضربه..

وإذا بوجه لئيم لا يمتّ إلى الآدمية بصلة، يردّ عليّ بصوت أجش أحمق:

- إنسي زوجك يا.. وانسي محمّدك الذي مات ومات معه كلّ ما جاء به.. مات.. مات.. هل تفهمين؟ محمّدك مات.

ثم اقترب الذئب مني بعينين جاحظتين وعوى:

- أتقبلين بي بدلاً عنه يا... ؟

تراجعت إلى الوراء.. فتعثرت بكرسي.. وقعت أرضاً وصرخت من الألم والخوف من هذا الوحش القائم على قائمتين بدلاً من أربع..

كشّر ضاحكاً كبغل يتشمّس.. نهق.. نبح.. رفس.. ثم هزّ منكبيه، وأدار ظهره ولحق بالذئاب، لعله يصيب من الفريسة..

وضعت يدي على بطني خوفاً على ابني الذي ما زال جنيناً في أحشائي ، مخافة أن يصيبه أذى.. واحتسبت زوجي عند الله، واستودعته عند من لا تضيع عنده الودائع.

- أمي.. لماذا تضعين يدك على بطنك؟ هل من ألم يا أمي؟

انتبهت من ذكرياتي على صوت ابني وهو يتلمس كتفي بحنان.. نظرت إلى وجهه الطاهر البريء، وأجبته بصوت كليم:

- آه يا ولدي.. لقد تذكرت تلك الليلة المشؤومة.. كنت خائفة عليك وأنت في بطني.. ولكن الله سلّم.. وأنت الآن أمامي شاب قوي، قد عوضتني عن أبيك الذي ذهب في تلك الليلة ولم أعرف عنه شيئاً.

أجابني ولدي والعبرات تخنقه:

- ولكنني يا أمي مشتاق لأبي، فأنا لست يتيماً حتى أصبّر نفسي. أبي حيّ يرزق، قلبي يحدثني بذلك. ولكن كيف الطريق إليه؟ كيف؟ كيف؟..

ضممت طفلي إليّ، والتقطتُ بضع دمعات نفرت من عينيّ، ثم قلت له:

- الله كريم يا ولدي سوف يعود أبوك يا خالد بإذن الله، وسوف تراه..

ألقى برأسه إلى صدري وهو يجهش ببكاء مخنوق على أبيه الذي لا  يعرف سوى صورته، ولو رآه الآن، وبعد اعتقاله منذ عشر سنين، لما عرفه.. لابدّ أنه كبر خلال هذه السنوات العشر، عشرين عاماً.. ثلاثين عاماً.. خمسين عاماً.. هذا إذا كان ما يزال على قيد الحياة، كما يظن خالد.

 

     


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة