* هي سلسلة من القصص الشائق تعمل على توضيح معاني القرآن الكريم بلغة مبسطة وصور معبّرة تجتذب إليها القارئ.

* وهي باب طريف في الأدب الإسلامي ولون جديد من التفسير العريق.

* وهي ثمرة خيرة طويلة وتجارب سابقة في مخاطبة الجيل الناشئ والتجاوب مع ذوقه، جزى الله مؤلفها أعظم الأجر.

* يحتاج إليها الجدّ الكبير والطفل الصغير، فالكل يستطيعون قراءتها وفهمها.

* تتناول تفسير سور القرآن بالترتيب ابتداء من نهاية الجزء الثلاثين".

 

لإيلاف قريش

وآمنهم من خوف

ما كانت (أمُّ مُرّة) تستطيع النوم، كان طفلها الوحيد (مُرّة) يتقلّب في فراشه، وجهه حار مثل الجمر، وجسمه يرتجف. كان مرضه خطيراً، وكانت أمه تبكي عليه، لقد ذهب أبوه إلى الغزو ولم يرجع.

كان الليل في منتصفه، والشهر في أوله، وظلام الليل شديد.. شديد.

ملأت (أمُّ مُرّة) كيلاً بالماء، وراحت تصبه في فم طفلها المريض. قالت لنفسها:

"سيذبحني زوجي أبو مُرّة إن مات ابننا مُرّة، لم أجد ربيع السعادة مدة عشر سنين حتى ولدت له طفلنا مُرّة، لقد ولدتُ له سبعاً من البنات قبل مُرّة فأصبح رأس أبي مُرّة بين قومه في التراب خجلاً، إنه شهم كريم، لكنه ما كان ليصبر على أكثر من ذلك لولا أن ولدتُ له ابننا مرّة، فهل يموت مُرّة؟!.. إن مات فلن أبقى في بيت زوجي يوماً واحداً".

سمعتْ حركة خارج الخيام، ثم نبحت الكلاب بعنف، فزغردت (أمُّ مُرّة) وقالت لنفسها:

"عاد الرجال من غزوهم، لابد أنهم قد غنموا مالاً كثيراً".

أسرعت خارجة من خيمتها، لكنها لم تر أحداً قادماً، عجبت لذلك، فصاحت:

- أين أنت يا أبا مُرّة؟ مرحباً بك.. يا مرحباً.. يا مرحباً.

حملتْ طفلها المريض وأسرعتْ به لتستقبل زوجها المحمَّل بالغنائم، وقفت بعيداً تنتظر قدومه لكنها رأت ما أفزعها، رأت الخيام تشتعل بالنيران، وسمعت الصرخات تملأ خيام القبيلة، عرفت أن القادمين هم من الأعداء، أتوا لغزو قبيلتها.

أسرعت إلى الخيام لتنقذ بناتها السبع، رأتهن يبكين وحولهن ثلاثة فرسان. صرخت:

- خذوا المال كله واتركوا لي بناتي.

كانت النيران تلتهم الخيام، والكلاب كلها مذبوحة، والعبيد والبنات والأطفال والأغنام والجمال في ساحة واحدة.

هجمتْ (أمُّ مُرّة) على بناتها تريد تخليصهن، فصرخ رئيس الغزاة: اتركوها..

ساقت بناتها السبع وحاولت الفرار، قهقه الرجال كلهم، اقترب رئيس الغزاة منها فرأت وجهه يلمع بالشر في ضوء النيران المشتعلة في الخيام، كان وجهه مشطوباً بضربة سيف قديمة، صرخ برجاله:

- أمسكوها.

فأمسكوها، مدَّ يده إلى أول طفلة من بناتها، فأمسكها من شعرها ثم رفعها بيده، صرخت من الألم فقطع عنقها وألقى برأسها أمام أمها وهو يتمتم:

- وماذا تستفيدين من البنات يا فاجرة؟

صرختْ أمُّ مُرّة وولولتْ، لكن بناتها السبع ذبحن في لحظات، فسقطت لا حركة فيها من الخوف والحزن.

أفاقت على صيحات عالية:

- أيها الجبناء، لا تفروا، أتاكم أبو مُرّة.

زغردت، فقد عاد زوجها مع فرسان القبيلة من غزوتهم، ذبحوا نساء وأطفال وشيوخ القبيلة المجاورة لأن رجالها كانوا غائبين عن الخيام، يغزون قبيلة أبي مُرّة، فلما عاد الغزاة وجدوا جيرانهم يغزونهم، واشتبك الفرسان، سمعتْ (أمُّ مُرّة) بعد فترة صيحة ألم عالية، إنها صوت زوجها، ثم سمعتْ خبطة على الأرض، ثم هدأ كل شيء. رأت الفرسان يسرعون مبتعدين، فقامت كالمجنونة تبحث عن زوجها، وأخيراً عثرت عليه ..

رأته قد اخترق أحد الرماح صدره، وخرج من ظهره. صرخت:

- يا ويلي، فداك نفسي يا أبا مُرّة.

التفت إليها وسألها: أين مُرّة؟..

قالت له: هو بخير.. بخير.. ومات البنات كلهن.

همس: الثأر يا أم مرة، قتلني الفارس المشطوب، اذهبوا إلى مكة فستجدون عندها الأمن من الخوف، إنها حرم الله الذي لا يغزوه أحد..

ثم همس: أعطني ماء..

ذهبت لتأتيه بالماء، فلما عادت وجدته قد مات..

أسرعت إلى ابنها (مُرّة) فحملته وأتت به إلى مكان جثة أبيه، فلما طلع النهار قالت لابنها:

- ولدي مُرّة، هذا أبوك قد قتله الفارس المشطوب.

صرخ الطفل مُرّة:

- لن أهدأ حتى أثأر لأبي وأخواتي وقبيلتي من الفارس المشطوب..

التفت إلى أمه وسألها: لكنني لا أعرفه يا أماه.

همست له:

- ستعرفه.. ستعرفه.. إننا لاشك سنراه، وسنأخذ رمحه هذا الذي قتل به أباك لتقتله به.

إلى مكة الآمنة

حملتْ (أمُّ مُرّة) طفلها على ظهرها، وراحت تبحث في المضارب عن شيء من مال تأخذه معها، فلم تجد شيئاً، رأت خنجراً وسيفاً فحملتهما، ولبست ثياب رجل، وراحت تسرع إلى مكة ماشية فوصلتها بعد شهر من السير الطويل.. كانت تنام في النهار تحت الرمال أو خلف الأحجار أو فوق الأشجار، وتسير في الليل حتى لا يقتلها اللصوص وقطاع الطرق..

كانت رحلتها رحلة عذاب وخوف، وأخيراً رأت من بعيد جبال مكة، فوصلتها عند منتصف الليل.

دخلت إليها فوجدت كل شيء آمناً، الناس آمنون والكلاب مطمئنة، والإبل والخيول مربوطة على أبواب الدور.

توجهت إلى الكعبة فجلست قربها، ونامت مع طفلها حتى طلع الفجر، فلما أفاقت رأت الرعاء يقودون قطعانهم خارجين وليس معهم سيف ولا رمح، إنهم لا يحملون إلا عصيّهم، همست لنفسها:

"ما أسعد القرشيين، إنهم يعيشون آمنين مطمئنين".

أفاق مُرّة، فهمس لأمه: متى سأرى الفارس المشطوب يا أماه؟

أجابته: لابد أن تراه، لابد أن تراه..

نبح كلب في مكة فامتلأ قلب (أمِّ مُرّة) بالمخاوف خشية أن يهاجم اللصوص بيتها.. لكنها عادت إلى طمأنينتها حين ذكرت أنها في مكة وأنها ليس لها بيت ولا دار. لم تستطع التخلص من مخاوفها إلا بعد عدة أعوام.

شعرتْ أمُّ مُرّة أن حياة القبائل خارج مكة جحيم لا يطاق، حياتهم كلها خوف ورعب وغزو وقتل وشعرت أن مكة آمنة مطمئنة لا خوف فيها ولا رعب ولا قتل، عرفت أن قريشاً هي أسعد قبيلة في جزيرة العرب يسودها الأمن والاطمئنان، فالعرب كلهم يقدسون الكعبة التي بناها إبراهيم في مكة، وقد حرّم عليهم دين إبراهيم الحرب في مكة، كما حرّم عليهم غزوها.

هل هو الفارس المشطوب؟

ألقى الشاب (مُرّّة) في حضن أمه أسورة ذهبية ثمينة وقال لها:

- هذه هديتي لك في هذا الموسم من الحج.

أمسكتها أمُّ مُرّة، ثم ولولت.

عجب لها، قفزت إلى ثيابها فلبستها، وصرخت بابنها:

- من أين لك هذا السوار؟..

أجابها: اشتريته من سوق عكاظ.

صرخت: إنه سوار أختك الكبرى يا مُرّة.. هيا لنبحث عن خصمنا في السوق.

همس مُرّة بلهفة: قد نرى الفارس المشطوب؟!!.

صرختْ به: اليوم يوم الثأر يا مُرّة.

اختطف سيفه، وسار مع أمه التي كانت تسرع كالمجنونة إلى سوق عكاظ، وأخيراً وقفت أمه تنظر من خلف نقابها نحو رجل طويل، إنه هو الذي قتل زوجها، وذبح بناتها، وأحرق رجاله خيام قبيلتهم كلها.

اقترب منه (مُرّة) وسلَّمَ عليه، نظر الفارس المشطوب إليه وهمس: مرحباً بك.

قال له مُرّة: وهل عندك من هذه الجواهر الكثير؟ إنني صائغ أتاجر بالمجوهرات.

أجابه الفارس: نعم.. عندي مثل هذا السوار ستة، وعندي مجوهرات وخلاخيل.

ابتسم (مُرّة) بمكر بينما كانت أمه تغلي من الحقد.

صاح: سأشتري منك كل ما عندك، فهيّا إلى بيتنا فأنت ضيفنا الكريم.

صاح الفارس:

- هيا.. هيا..

دخلوا بيتهم وأنزلوا فيه الأحمال، فلما استقروا أتاه (مُرّة) بالحليب البارد، فشرب المشطوب حتى ارتوى، وجلسا يتحادثان.

أحضرت (أمُّ مُرّة) الطعام فأكلا، تناولت أم مرة الرمح الذي سحبته من جثة زوجها وقالت لمُرّة:

- أعط هذا الرمح لضيفك.

لما رأى الفارس المشطوب رمحه اصفر وجهه، وهمس:

- رمح عجيب!

تناوله وراح يقلّبه، بينما كان (مُرّة) ينظر في وجهه.

سأله: من أين لكم هذا الرمح يا مُرّة؟

دخلتْ أمُّ مُرّة فجأة وصرخت:

- إنه الرمح الذي قتلت به زوجي أبا مُرّة، وهذا ابني سيثأر منك.

قفز الاثنان دفعة واحدة، مُرّة يحمل سيفه، والمشطوب بيده رمحه.

صرختْ أمُّ مُرّة:

- اليوم يوم الثأر يا مُرّة.

ثم التفتت إلى المشطوب وصرخت في وجهه:

- أتذكر يوم ذبحت بناتي السبع وهذه أساورهن.

صرخ المشطوب:

- أعرف.. أعرف.. لكنني الآن في بيت الله في مكة، لا أقاتل إلا إذا أجبرتموني، إننا الآن في الأشهر الحرم، فهل نسيتم؟.. وأنا ضيفكم فهل تغدرون؟!!.

همستْ أمُّ مُرّة، بعد أن وقعت على الأرض:

- هذا صحيح والله.

وسقط السيف من يد مُرّة، وجلس المشطوب بعد أن رمى رمحه، وبعد ساعة هدأت النفوس. همس المشطوب:

- ذهبتُ إلى خيام قبيلتي فوجدتُ أبا مُرَّة قد أحرق الخيام، وقتل الأرملة والأطفال والنساء، وسرق الخيول والأغنام.

همستْ أم مُرّة: كما فعلتَ أنت بقبيلتنا.

فهمس: واحدة بواحدة، وهذه أموالكم كلها.

ألقى بين يدي أمِّ مُرّة بالجواهر والأموال، فرحتْ أمُّ مُرّة.

همس: لقد سئمت حياة الغزو والقتل فجئت إلى مكة كي أستريح وأطمئن، لم أجد امرأة تقبلني زوجاً لأنني مشطوب الوجه.

احمرَّ وجه أمِّ مُرّة وتابع المشطوب:

- بناتك قد ذهبن ولا خير في البنات، ومُرّة قد كبر فنعم الرجل، وأنتِ يا أمَّ مُرّة قد مات زوجك وأنا لا زوجة لي، فما رأيك أن نعطي أموالنا كلها لمُرّة كي يتاجر بها، ونستريح أنا وأنت في بيت واحد، في مكة الآمنة؟..

ابتسم مُرّة وهمستْ أمه:

- ما ألطفك!!..

وزغردت النساء خارج البيت فرحاً بعرس أم مُرّة وعريسها المشطوب.

أطعمهم من جوع

كان زواج المشطوب كأنه كارثة نزلت بمكة فهي لم تعرف أعوام مَحْلٍ كالسنوات الست التي تلت زواج المشطوب بأم مُرّة.. هلكت المواشي، واحترقت الأشجار والحقول في جبال مكة.

كان عَتيكٌ اليهوديُّ هو الرابح الوحيد في مكة، فقوافله التجارية تأتي بالحبوب والأطعمة من الطائف يحرسها له قُطّاع الطرق أنفسهم الذين كان يمنحهم عتيك الأموال الوافرة ليحرسوا له قوافله، كان رجاله يقفون على أبواب مكة ليشتروا كل ما يأتي به القادمون إليها، ثم يبيع عتيك ما اشتراه بأضعاف ثمنه.

جاع أهل مكة كلهم، وحار ساداتهم ماذا يفعلون؟!!.

كاد المال كله يضيع من بين يدي مُرّة، علم أن القافلة محملة بالبضائع في طريقها إلى مكة من الطائف، فأسرع إليها فلما سأل رجالها:

- هل تبيعونها؟

أجابوه: إنها لعتيك.

فصرخ: أليس في مكة إلا عتيك؟

وعاد إلى بيته خائباً. رآه المشطوب فلما عرف ما به صاح:

- هيا.. قم معي إلى سادة قريش.

وفي الدار وقف المشطوب يقول:

- يا سادة قريش، أبناؤكم يكادون يموتون من الجوع بعد أن هلك الزرع والإبل والأغنام والأبقار، ولن تنقذكم إلا التجارة، وتجارتكم بيد هذا اليهودي!!

أجابوه: وماذا نفعل؟..

أجابهم: إنكم سادة البيت الآمن، والموسم موسم حج، وقبائل العرب كلها عندكم، قولوا لهم: نحن قريش، وبيت الله في بلدنا، وكلكم تحجون إليه، ونحن نكاد نموت من الفقر والجدب، ولن ندخلكم مكة إلا إذا تعهدتم بحماية قوافلنا التجارية حين تعبر في أراضيكم.

صعق سادة قريش، وهتفوا: هذا عظيم..

ولما فعل سادة قريش ذلك أجابهم سادة القبائل:

- أنتم سادتنا أهل البيت، سيروا آمنين، ونحن نحميكم كما نحمي بيت الله الموجود في بلدكم مكة.

وبعد أيام كان مُرّة في الطائف يشتري قمحاً ولبناً وأغناماً، ويعود إلى مكة ليبيع ما اشتراه لأهل مكة الجائعين.

عجب قادة قريش لفعله، وسرّهم ربحه وقالوا له:

- أموالنا كلها سنرسلها معك يا مُرّة لتشتري لنا بها ما تريد..

صاح به المشطوب لما حدثه بذلك:

- لماذا لا تسافر إلى بلاد الشام يا مُرّة؟ إن فيها الخيرات الهائلة، وأنا أعرف الطريق.

فلما أخبر قادة قريش بذلك قالوا له:

- لكن حرَّ الصيف قد يقتلكم. همس المشطوب: إن بلاد الشام جنة الله في الأرض، فلا حر فيها ولا برد، ونحن الآن في آخر الصيف، فلا تخافوا.

كم كان سرور المشطوب عظيماً عندما عاد مع مُرّة من (بُصْرَى)، وجماله محملة بخير الشام، فلما دخلوا مكة كان قادة قريش كلهم في استقبالهم وانتشر في مكة خبر المشطوب حين قال:

- إن رحلة الصيف إلى الشام قد ربحت ضعفين، أتيناكم بالطعام والربح معاً، فلا تخافوا من الجوع بعد اليوم، اشكروا الله الذي جعل بيته في قريتكم.

جمع عتيك اليهودي أمواله وغادر مكة إلى يثرب.

حينما رأى القرشيين يجهزون قافلة كبيرة سألهم:

- لم يأت الصيف -بعد- فماذا تفعلون؟!!

قهقه المشطوب عالياً وصاح به:

- إن شتاء اليمن رائع لطيف، وخيرها أعظم من خير الشام، ففي الصيف نذهب إلى الشام، وفي الشتاء نذهب إلى اليمن.

كان شباب قريش يتسابقون للذهاب مع القافلتين كل عام ليأتوا بالربح العظيم، لقد ألفوا السفر وأحبوه، كانت قبائل العرب كلها تستقبلهم وترحب بهم لأنهم أهل الكعبة، وهكذا أصبح القرشيون -بسبب بيت الله- قادة العرب وساداتهم.

غادر الجوع مكة إلى الأبد، وأصبح أهلها أغنى تجار العرب.

البيت.. البيت..

ذُعِرَ القرشيون كلهم حين سمعوا من يصرخ بهم:

- البيت.. البيت.. هدمَ السيلُ بيتَ الله.. هدمَ السيلُ الكعبةَ..

أسرع الرجال إلى الكعبة يحمون جدرانها بأجسامهم، إنها بيت الله الذي بسببه امتلأت حياتهم بالأمن والغنى، وغادرهم الخوف والجوع، كانت صدورهم تتمزق حين يفكرون أن الكعبة قد تذهب من مكة، فيذهب معها أمنهم وغناهم، ويعيشون بعدَ تَهَدُّمها في خوف دائم، ورعب قاتل وجوع شديد.. لكن السيل هدمها، فماذا يفعلون؟!!

وقفوا جميعاً أمام جدران الكعبة المتهدمة يتشاورون.

قال قادتهم: هيا إلى العمل لنعيد بناء بيت الله الذي يحقق لنا الغنى والأمن، وإلا شقينا..

وفي أيام قليلة كانت الكعبة مرفوعة يطوف حولها القرشيون مقدسين ومهللين، ومصفقين.

عادت الطمأنينة لقريش حين عادت الكعبة أقوى مما كانت، واطمأنَّ القادة إلى أن أمنهم لن يذهب، وأن أبناءهم لن يجوعوا، وأن أموالهم لن تزول، فبيت الله لا زال قائماً، وبركته لن تزول من بينهم.

لكن هل سيذكر القرشيون فضل الله عليهم حين أرسل الله إليهم نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم؟..

اعبدوا رب هذا البيت

كان قادة قريش يعذبون المسلمين في كل مكان، بينما كان القصاصون ينشدون أشعارهم حول الكعبة، ويحكون للناس قصة أبرهة المشروم، وفيله الضخم، وجنده الذين أتوا لهدم الكعبة فأرسل الله عليهم الطيور ترميهم بالحجارة القاتلة.

تمنى السامعون جميعاً أن يروا عبد المطلب الذي قال لأبرهة:

- إن لهذا البيت ربّاً يحميه!!.

لكن الناس نسوا قصة الفيل وأبرهة حين رأوا رجلاً يقترب منهم، صمتوا جميعاً. وقف أمام جموعهم وهتف:

- يا معشر قريش، مَنْ رَبُّ هذا البيت؟..

قالوا: هو الله.

سألهم: هل لربّ هذا البيت عليكم من فضل؟

أجابوا: نعم، لقد حمانا الله بالبيت من الخوف، وأنقذنا به من الجوع.

سألهم: وهل تكرهون الخروج في رحلتي الشتاء والصيف؟.

أجابوا: لا.. لا.. إننا نحبهما، لقد ألفنا السفر وأحببنا الربح.. ألفنا السفر في الرحلتين، ألفناه وأحببناه.

سألهم: ولماذا ألفتم السفر؟!.

أجابوه: طريقنا آمن، فكل القبائل تحمينا وتكرمنا، لأننا أهل هذا البيت. ولولا البيت لقاتلونا، ولما استطعنا السفر في رحلتي الشتاء والصيف.

صرخ الرجل:

- لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف.

همسوا جميعاً: ماذا يريدنا الله أن نفعل بعد أن جعلنا نألف رحلتي الشتاء والصيف؟!!

أكمل الصارخ:

- فليعبدوا رَبَّ هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف.

زادت صرخاته حدة وارتفاعاً قال:

- لماذا لا تعبدون الله فيما يأمركم به؟!! لماذا تعذِّبون أتباع دينه؟ لماذا تقفون في طريق ربِّ هذا البيت الذي أكرمكم به، وأعطاكم الأمن والغنى؟ اعبدوا الله وحده، أطيعوا قرآنه، آمنوا بمحمد، وإلا فإن الله سيهلككم كما أهلك أبرهة وجيشه وفيله.

تفرّق الناس كلهم، ولم يبق إلا ذلك الرجل المسلم مع سادة قريش يركلونه بأقدامهم ويرجمونه ويضربونه ويجلدونه، لكن هيهات أن يترك الله دينه وأتباع دينه، لقد نصر الله دينه، وأعزه وملأ الأرض به، فهل من معتبر؟؟!!

تفسير الكلمات:

لإيلاف: ليذكر القرشيون ما جعلهم الله يألفونه، وليطيعوا لله شكراً على ما أنعم الله عليهم.

رحلة الشتاء: إلى اليمن

رحلة الصيف: إلى الشام.

فليعبدوا: ليطيعوا ويأتمروا.

ربَّ هذا البيت: صاحبه، وهو الله، والبيت هو الكعبة.

أطعمهم من جوعٍ: حين جعل العرب كلهم يكرمون قوافل قريشٍ فأصبح القرشيون أغنى العرب.

وآمنهم من خوفٍ: حرم الله الحرب في مكة مدينة الكعبة، فعم فيها الأمن بذل الخوف.

مجمل تفسير السورة:

يذكّر الله القرشيين ويدعوهم إلى عبادته وطاعة دينه ورسوله، لما أنعم الله عليهم من ألفة السفر في الصيف إلى الشام، وفي الشتاء إلى اليمن، ليأتوا من هناك بالأرزاق، والبضائع والحاجات، كل ذلك بسبب بيت الله، الذي جعل عرب الجزيرة يحمون قوافل قريشٍ، التي يقع بيت الله –الكعبة- في بلدها مكة، إكراماً لهم لأنهم أهل البيت.

ولمّا أورثهم الله من أمنٍ وطمأنينة في مكة، حين حرّم الحرب فيها وخلال الأشهر الحرم، فليطيعوا رسوله، وليؤمنوا بقرآنه، فهو خيرٌ لهم إن كانوا يريدون استمرار نعمه عليهم.

         

* أديب سوري وكاتب باحث ومفسر معتقل في دمشق منذ عام 1980.


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة