(الجزء الأول)

في شأن الرُّحَلْ والشايب جقندي

إهداء
إلى روح جدتي لأمي جادينة جانو،

إلى روح جدتي لأبي العجوز خاطرة،

إلى عمي الأكبر أومي ضحية،

إلى أمي بنت منكرب،

وإلى أبي الأفريقي النبيل..

أنها ثمرة ذاكرتكم.

 

»وجعلنا ذريتهم هم الباقين»(77،الصافات)

صدق الله العظيم

I

تمددا على سطح الماء.. تمددا فوق بعضهما، تخفيهما "عشّبة معونة النيل"، عن أنظار "الشايب جقندي"، الذي كان يتابعهما من"قيف النهر" بقلق.. كانا عاريين إلا من عذابهما.. وحدتهما، وإحساسهما القاسي بالفقد!.. رويدا، رويدا.. كانت عشبة مياه النيل تدنو، وبلطف تداعب ساقي"ست البنات" العاريتين..

مويجة صغيرة تتجشأ زبدها في مكامن الألم والبوح والإلتياع.. كانت العشّبة تحفر عميقا.. عميقا تحفر العشّبة.. عابثة، شقية.. تحمل في رغوتها الإحساس البطيء.. العميق بالغرق.. إنزلقت شفتا ست البنات على شفتي عاشميق، تتحسس لزوجة الماء.. كانت رائحة عشبة معونة النيل النّدية، لحظتها تتسرّب خياشيمهما، وتبعث فيهما إحساسا مالحا بالخدر..

وعلى"القيف".. هناك.. ألقى "الشايب جقندي" برأسه إلى الخلف، يستعيد وقائع ما جرى، وصوت "ودالتويم" يدوي في فراغ ذاكرته المنهوبة:

"يقولون أنهم جربوا كل السبل، ولم يعد لديهم خيار سوى الانفصال"

ثم بلع أنفاسه اللاهثة وهو يضيف:

"ماذا نفعل؟"

كانت أزقة "وادي الذهب" المعتمّة، لحظتها تقذف من أحشائها، كل الروائح الحادة. العطنة، والهواء الممزوج برماد القلق والتوتر، ورائحة الرّوث الدّبقة، وأنفاس النهر المضمخة في رائحة السمك و"عشبة معونة النيل" و"أمبانقيقة"، وثرثرة الضفادع المختلطة بإيقاعات "الواز" الحزينة، يتخلل أغنيات أسيانة تأتي من بعيد، لا أحد يدري مصدرها.. حينها كان السلطان يتربع على عرشه، لا ليناقش هموم الناس والوادي المهدد بالعصف.. الوادي الآخذ في التآكل والتشظي!

كان متربعا لتقديم عروسته الجديدة لأعضاء مجلسه من "المطاليق" القدامى والجدد، الذين كانوا يصوِّرون له عن الوادي، صورة ليست موجودة سوى في أذهانهم!

كانوا يخططون لمزيد من الإجراءات، التي تهدف للحفاظ على سلطة السلطان. فقد كانت سلطتهم رهينة بإستمراره، وهو نفسه كان يعلم،أن زوال أحدهما يعني زوال الآخر.. وهكذا أختاروا لحل مشكلة بقائهم، وإستمرارهم في السلطة: القمع والإغراء.. فمضوا يغرّون بعض الأهالي للعمل معهم، بعد أن نجحوا في كسب كثيرون منهم، مثل: "ميجاوي الزّبال" و"بليمي الراعي" و "بنت ود أب عوا الحنّانة"، وآخرون وآخريات كثر، من أهالي "وادي الذهب."

كما أخذ "أبوشوتال" زعيم المطاليق، يذلل للمطاليق كافة العوائق والعقبات، بتصريح مباشر من السلطان، فأصبحت سلطتهم وسلطانهم على الناس، أكبر من ذي قبل، وهكذا لم يكن ثمة ما يشغل بال السلطان سوى التفرغ التام لزوجاته العديدات!

"المطاليق" الذين تكاثروا كالنبات الطفيلي، هم في الأصل تلك النّواة، التي قبل عشرات السنوات، أنشأها "بادي" الشقيق الأكبر للسلطان جبل الحديد - في (عصر) الشايب الجنزير التقيل- وتعهدها بالرِّعاية، في ذلك الزّمان البعيد، عندما كان يخطط للإستيلاء على السلطنة. لكن بمرور الوقت كان لإبنه "الدود أبو حجل" رأي مختلف.  فهو على عكس والده "بادي"، كان يرى في بقاء عمه السلطان جبل الحديد فائدة أكبر، إذا ما أستطاع التحكم فيه، فلاحاجة له بأن يكون سلطانا "رسميا" طالما أنه سلطانا فعليا، فيجني "هو" الثمرات ويتحمل "عمه" التبعات!

وبالفعل تمكن من نيل ثقة عمه السلطان جبل الحديد، الذي كان معجبا بمواهبه، فأطلق يده في البلاد والعباد.

و بعد عشرات السنوات ورِّث "أبوشوتال" عن أسلافه البائدين، هذه "النواة"، التي أسسها جده الأكبر "بادي" وتعهدها من بعده إبنه "الدود أبوحجل"  بالرِّعاية. إلى أن طُوِّرت على عهد "أبي شوتال"، لتصبح قوة ضاربة وبموافقة السلطان. وفي الوقت ذاته، الذي كان فيه مجلس السلطان يحتفي بالعروس الجديدة، كان أبوشوتال يجتمع بكبار قادة المطاليق، بينما كانت سوميت والمشردون وقتها، يراجعون خططهم الخاصة بالخطابة في جموع الأهالي، الذين كان قد فاض بهم الكيل.

لم يكن السلطان ولامطاليقه يأبهون لتعاليم "الروح العظيمة"، ولم تجد كل تلك المحاولات الدؤوبة، التي بذلها جقندي بمساعدة "ودالتويم" لإقناع السلطان بتغيير سياساته، وكف يد المطاليق عن الأهالي. لكن السلطان أبدا لم يُعِر "الشايب جقندي" أذنا صاغية، وهو لا يفتأ يكرر على مسامعه، تعاليم الروح العظيمة: "لقد أطلعتكم على حقوقكم وواجباتكم، فإذا أردتم أن تكونوا (عيالي) فعليكم ألا تستغلوا معرفتكم من أجل القتل والتدمير (..) محظور عليكم أن تستغلوا ما وهبتكم لأغراض شريرة، وإذا لم تتقيدوا بهذه القوانين، فسوف لن تكونوا (عيالي)..

وكان السلطان الذي أستولى أبوشوتال على عقله تماما، لا يخشى شيئا في التنكيل بجقندي، سوى خشيته قومه "الرُّحَلْ" لذلك إستجاب لنصح أبوشوتال، بتأجيل النظّر في أمر جقندي، إلى حين إستقرار أوضاع السلطنة، التي كانت حواضرها في "الصعيد" و"دار الريح" و"السافل الأقصى" و"دار صباح" قد بدأت تتململ وتضطرب..

لذا في تلك الصبيحة التي تفجرت فيها الشمس من وراء جُدر التاريخ، لتلقي بنفسها على الوادي البائس، الملتف على نفسه كشرنقّة مجهضة.. إرتخت الأعصاب التي تشد الدروب الضيقة، فأخذت تضيق، بينما هتافات المشردون تتعالى.. والناس "يتضايرون" داخلها ليفسحوا لجموعهم الهادرة، المدفوعة بآلاف الحسرات..

"لقد فات الوقت على فعل أي شيء يجنبنا ما سيحدث، ولكن لنحاول حتى اللحظة الأخيرة، فقد تحدث المعجزة"..

ألقى جقندي بعبارته الجازمة بوجه ود التويم، والتي لا تخلو من أمل ضئيل، وهو يستعيد وقائع الحروبات المفتعلة، التي ظل"المطاليق" يشنونها على "دار الريح" وأقصى "السافل" و"الصعيد" و"دار صباح البعيدة"، حيث أصبحت الشمس تشرق من هناك كل صباح منهكة.. ذاوية وأكثر حزنا من حمامات "قطع الشك"..

كان المطاليق يشنون هجماتهم بدعوى أنهم "أولاد بلد يقوموا ويقعدوا على كيفم.. فوق رقاب الناس مجرّب سيفم"، إذ أنهم أعادوا إحياء الأشعار القديمة البائسة، التي كتبها "بادي" قبل عشرات السنوات كي يغنيها "أبي نافلة والتنقار"، أشهر مغنِّيي الوادي الضّال، وتم العثور عليها مدّونة في الكهف المقدس لجبل"كارناسي" المهيب، عندما إكتشفه مصادفة ذات صبيحة نديانة صياد مغرم بصيد"الجقور".

لم تسترع إهتمام "أبوشوتال" أيٌّ من الأحفورات، على جدران الكهف.. كل ما إسترعى إهتمامه فقط، كان هو بقايا القصائد الركيكة لجدّه الأكبر"بادي"،التي كان قد قرر فيها ضرورة إلتزام كل الوادي مباديء طائفته المشبوهة، لعراقة أصلهم وفصلهم، دونا عن خلق أهالي الوادي الآخرين!..

وهكذا بدأت بطون الوادي وأفخاذه وعشائره تتململ، فما كان يشغلهم ليس قضية الأصل والفصل بحد ذاتها، ولكن إستغلال مثل هذا الأمر كرأسمال معنوي، لجنِّي مكاسب مادية، على حساب العشائر والبطون والأفخاذ الأخرى..

"لنجتمع بعقلاء الوادي، فلربما نجد عندهم حلاً سريعا"

"لا حل سوى إزالة السلطان والمطاليق. ثم أن العقلاء خائفون.. لقد رّوعهم المطاليق، خصوصا أن الشائعات تفيد، أن الفتيات اللائي يتم إختطافهن، جميعهن من بنات الذين يشك "أبوشوتال" ومطاليقه في أنهم من المعارضين!"..

"ماذا نفعل إذن؟"

"على أية حال سوميت والمشردون، يقومون بعمل جيد، نأمل أن يحقق ما نتمناه من نتائج"

قبل أن يتخذ جقندي قراره النهائي بالعمل على إسقاط السلطان، مضى يرافقه "ود التويم" ليقابله للمرّة الأخيرة. وجده متربعا على العرش، كنّمر، كان ثلاثتهم يعلمون أنه نمر من ورق!..

وكان المطاليق حوله يخدمون الضيوف، الذين لم يكونوا سوى أعضاء مجلس السلطان، وقادة المطاليق أنفسهم. تحدث جقندي إلى السلطان في كل شيء: الفقر والظلم.. تهريب ثروات الوادي من قبل بطانته.. العذراوات اللائي يختفين في غموض تام.. المعتقلات والتعذيب.. الجفاف والتصّحروالقلاقل في حواضر دار الريح والصعيد وأقصى السافل ودار صباح البعيدة، التي أصبحت شمسها تشرق منهكة. متعبة. وكئيبة.. شاحبة، كرمل الوادي المعلّول.. غزو تجار "القِبَلْ الأربعة" لأسواق الوادي بالبضائع، التي لا يحتاجها الأهالي، ولا تفيدهم في حياتهم اليومية.. توطين أضعاف سكان الوادي من أهالي الجوار في الأراضي أسفل النهر.. الحرّية والعدل.. لم يترك جقندي "فرضا ناقصا"، وكان المطاليق يقاطعونه يدحضّون كل شيء، ويعتبرون أن ما قاله لا يخرج عن دعاية المعارضين، والخارجين المدفوعين بالحقد والغبائن والأوهام المقيتة، وكان السلطان يتوارى خلف إبتسامة صفراء، لزجة. غضب جقندي، وحاول أن تكتم كلماته ما يشعر به من غيظ:

"جلالتك المطاليق يغتصبون نساء دار الريح ؟"

كان جقندي يظن أن السلطان سيغضب:

"المطاليق دمنا ولحمنا، وناس دار الريح "فروخ" و"فرخات"، وده شرف ليهن، فليه عايز تعملوا سُبّة؟ (كسر) البكر عندهم ما عيب، بل أنهم يكرمون الضيوف بنسائهم!.. ودحين لما المطاليق يحسنوا ليهم نسلهم يقولو أغتصبونا؟!"

أسقط في يد جقندي الذي أدرك تماما أن لا أمل. دارت الدنيا.. كل الدنيا برأسه.. همّ بقول شيء ما، قطعه عليه دخول أحد المطاليق، الذي مضى يهمس في أذن أبي شوتال، الذي سارع بدوره للهمس في أذن السلطان، الذي أنفرجت أساريره وهو يتوجه بالحديث إلى جقندي:

"سنحتفي بك الليلة. لدينا حفل راقص على شرفك"

أمعن فيه جقندي النظّر طويلا دون أن ينطق بحرف، وكان ود التويم لحظتها يتصبب عرقا، فالرجل الذي يعتبره المطاليق رجلهم المقرّب من جقندي، كان يحمل روحه على كفه، ويعيش توازنا دقيقا، ويخشى أن ينكشف أمره في أي لحظة.. لذا أفترقا عند بوابة الخروج واتجها في طريقين متعاكسين!..

توجه جقندي بعد سلسلة من المناورات التضليلية، إلى جبل "كارناسي" عبر دروب المدينة الضيقة والمتشابكة. وهناك وجد "سوميت" و"عاشميق" و"ست البنات" مجتمعون ببقية المشردين. أرادوا أن يقفوا لتحيته، فمنعهم بإشارة من يده، وجلس منشغل البال في أحد الأركان يراقب نقاشاتهم، التي كانت تحتد وتهدأ.. وتهدأ وتحتد..

طريق بعيد جدا في نفق الماضي المظلم، تقطعه ذاكرته المنهوبة دون هوادة.. طريق محفوف بصرخات الألم والدماء والخراب والدمار.

كانت سوميت بين فينة وأخرى تختلس إليه النظّر، بينما هو يخطط بأصبعه على الأرض طرقا متقاطعة ومتوازية، تعكس أفكاره في هذه اللحظة المشبعّة بالمخاوف والغموض. وكان المشردون حول سوميت لا يزالون في نقاشاتهم. إنتبه للنظرات المختلسة، التي كان عاشميق وست البنات يتبادلانها..

كان الكهف هادئا، والشمس خارجة تتسحب بإتجاه دار الريح، وصوت عاشميق في أذن ست البنات يتناهى سرِّياً.. لكن هامساً.. ربما كانا يتناقلان الشعارات الجديدة، التي يجب أن ترسمها مجموعتيهما، على جدر بندر الوادي.. بعد أن يغفل المطاليق قليلا!

أنهت سوميت إجتماعها بالمشردين، وهي توميء لجقندي برأسها أن يتقدم. زحف جقندي نحوهم. أطرق لبرهة ثم قال:"أننا هنا للتعبد والتكفير عن ذنوبنا، ولشكر الروح العظيمة على نعمها الكثيرة علينا (..) لقد بدأتم الآن في تغيير الوادي، ولهذا ستتعرضون لقمع مؤلم، وبإمكانكم تحمل هذا القمع، فتحمل الألم يتعلق بالدماغ وليس الجسد، لكن ذلك يعتمد على مدى إيمانكم بما تقومون به، وإستعدادكم للتضحية في سبيله(..) تذكروا أن الألم يجب أن يزرع فينا حب الخير للآخرين، فالرّوح العظيمة دعانا للتسامح والإبتسام في وجوه الناس، وإلقاء التحية عليهم، فقد يخفف ذلك عنهم الكثير مما يحملونه من أحزان..

يجب ألا نحقد على أحد، فقد غفر لنا "الروح العظيمة" الكثير من ذنوبنا، فلماذا لا نغفر لبعضنا البعض، القليل من الذنوب!..

ومضى جقندي في خطبته المؤثرة يحدثهم عن الإيمان والتطهر وتحمل الألم والشعور بآلام الناس،

ثم أبتسم وهو ينهي خطابه وقد خطرت على ذاكرته لحظة مشابهة، عاشها جده الأكبر "الجنزير التقيل" قبيل الدمار الثاني بقليل.. وقتها كان "الروح العظيمة"،  قد أنهى خلق كائنات دمار العالم، من ألوان الطيف السبعة التي كان قد مزجها في الحكمة والقوّة، بماء الأخلاق والإيمان. وعجنها في طين الرّحمة قبل أن يعرضها لنار الصّبر، و يغسلها بعد ذلك بأمطار الصدق والحزن والإخلاص، ثم يطلقها على العالم، تحمل بين كتفيها عناصر الطبيعة الأربعة.. تساءل جقندي: ترى ماذا يعد "الروح العظيمة" الآن لدمار هذا العالم؟.. دمار هذا الوادي الكئيب الغارق في البؤس والعذاب؟!..

أسر جقندي لنفسه، وهو يمعن النّظر في وجه سوميت البيضاوي النحيل، حاد الملامح: "أنها تشبه جَدّتها حجب النورتماما!"..

كانت تقاطيع وجه سوميت، كالمرسومة بعناية فائقة.. كالمنحوتة بإزميل عاشميق.. سوميت حفيدة حجب النور.. أول فتاة تقع عليها عينا جقندي ويحبها من أول نظرّة في مراهقته الباكر..

كانت حجب النور إبنة هذا الوادي، أحبت أحد "الرُّحَلْ" فغادرت معه، وظلّت طوال ترحالهم، تحن إلى العودة والبقاء في موطنها.. هذا الحنِّين الذي أرضعته لإبنتها "كاكا"، والتي عندما سنحت لها الفرصة هربت.. عادت إلى هنا.. إلى وادي الذهب، مسقط رأس والدتها حجب النور..

تزوجت كاكا وعاشت حياة هادئة مع زوجها وطفلتها أم كوراك، التي أنجبت سوميت، التي حملت ملامح وقسمات حجب النور وكاكا "الخالق الناطق"..

لم تكن حجب النور جدة سوميت، هي الوحيدة التي هربت من حياة "الرُّحَلْ" بتنقلهم المستمر، فكثيرات غيرها عبر تاريخ الوادي، ظللن إما يهربن ليتزوجن من "الرُّحَلْ"، أو يهربن من "الرُّحَلْ" ليتزوجن من أهالي الوادي!!..

عندما أخبر جقندي سوميت أول مرة، أن لها ذات ملامح نساء من قومه: "كاكا" و والدتها "حجب النور" و.. ضحكت سوميت كثيرا وأخبرته أنهن جداتها، فقد حكت لها أمها أم "كوراك" الكثير عنهن..

فأخذ جقندي يروي لها تاريخ القرابة بين قومه "الرُّحَلْ" وأهل الوادي.. حكى لها عن كيف هربت جدتها حجب النور، في تلك الليلة البعيدة، عندما حطّ قومه "الرُّحَلْ" برحلهم على وادي الذهب، فاشترى والد حجب النور، سبعة بقرات من أحد "الرُّحَلْ" ونقده ثمنها كاملا، وفي منتصف الليل جاء ذلك الرجل. وقف قبالة الزريبة، وأطلق عدة أسماء بتنغيم محدد، فقفزت البقرات خارج السّور، وتبعته إلى حيث لا يدري أحد. كان الرجل قد إختفى والرُّحَلْ قد إختفوا وحجب النور قد إختفت. لم يكن ثمّة أثر لها أو للبقرات أو للرُّحَلْ!..

II

لم تمض سوى أيام قلائل، حتى أنجز المشردون وسوميت مهامهم بنجاح تام.. جن جنون المطاليق وأخذوا يجدّون في البحث عن راسمي الشعارات.. لأول مرة يرون المطاليق مزعورين وهم يفتشون بيوت النااس عند الفجر.. كانت شعارات بسيطة، ثائرة ومعبرة تمكنت من النفاذ إلى قلوب الأهالي الذين كانت دواخلهم تمور بالغضب..

يتذكر الشايب جقندي الآن وقائع كل ما جرى، وهو يرى سنوات عمره تتبدد كزبد الماء، الذي يغطي جسدي ست البنات وعاشميق خلف عشبة معونة النِّيل، الطافية في دعة وحبور على سطح النّهر..

كان الألم لا يزال يعتصره إعتصارا لا يحتمل، حتى أنه عندما يفكر في الكلمات، التي تعبر عن الألم، يجدها تتقاصر دون أن تقوى على وصف هذا العذاب المقيم، الذي يحاصره من الجهات الأربعة. للحد الذي يشعر بنفسه ضعيفا، إلى أقصى حد وبحاجة للمواساة و"الطبطبة"..

يود لو أن كل مواساة الدنيا تتجمع الآن لإختراق آلامه، لتخفف عنه شعوره القاتل بالوحدة والبؤس، الذي يحاصره ويهد كيانه، الذي أصبح كالقلوع  والطوابي القديمة على ضفتي النهر..

لكنه يخشى فكرّة اللجوء لأي شخص كي يواسيه، أو يخفف عنه، فمجرد نظرة عابرة في هذه اللحظة، التي تتملكه بحزنها المقيم من عاشميق أو ست البنات، تكفي لتحطيم أسطورته تماما.. أسطورة"الرُّحَلْ"  وتعاليم الروح العظيمة.. و.. وكان إحساسا مزمنا ما يتنامى داخله: أن من قتل سوميت ليس المطاليق بل هو؟!..

عدّل من وضع رأسه على "قيف النّهر" وذاكرته تبتعد أكثر، ترحل إلى ذلك اليوم المطير..

عندما كان المطر قد بدأ يهطل في الخارج. "ضُبانة" خضراء كبيرة "رّكت"على ساقه"، التي أنحسر عنها جلبابه الفضفاض. إقشعّر جسمه وهو يشعر بخطاها بين الشعيرات المتفرقة، تشعل ذلك النداء القديم..

النداء ذاته الذي دفع به إلى المجيء إلى وادي الذهب والبقاء فيه.. يسمعه في حفيف خطى الذبابة على ساقه النحيل.. في زفيف الريح "القبلي والخماسين والهبباي والبرق العبادي".. في هتّاف الحنين الخفي في أفق حياته الغائمة، التي لا يفتأ يغوِّيها الرِّهاب.. رِّهاب الأيام، ربما.. رِّهاب العمر، ربما.. رِّهاب وجه كاكا التي لطالما حاول نسيانها.. تجاهل وجودها في مكان ما من هذا العالم الموحش.. لكنه الرِّهاب اللعوب يدفعه دفعا إليها.. يمضي يتبع وجهها المتلفع بالرِّهاب.. تتلاشى فيه، وتتوغل بعيدا، بعيدا..

أحب كاكا بجنون، وعندما أراد مصارحتها، كانت قد غادرت المضارب، إلى مكان لا تعلمه سوى أمها حجب النور، وظلت لسنوات طوال تطارده بطيفها، تتحكم في أحلامه، وكثيرا ما أنتزعته من طقوس الروح العظيمة، ليكتشف نفسه بشكل مباغت، يجري طقوس جدع النار و يصّلي لها وحدها.. حاضرا بين يديها هي، يتآكله القلق والتوق.. وهكذا إستجاب.. قرر البقاء في وادي الذهب..

وفي تلك الصبيحة "النعسانة" مضى منحدرا إلى الوادي.. عندما خرجت سوميت من بين سيقان "الدّخن"، كانت كاكا ذاتها الخالق الناطق، تخرج  من بين القناديل مخلفة وراءها الرِّهاب، الذي بدأ يتراجع بعيدا، بعيدا.. من بين شقوق الأرض برزت فجأة. وقفت قبالته.. إبتسما بوجه بعضهما.. تماسك، وسألها عن ود التويم..

لحظتها كانت عصافير الوادي تغنّي غناء اللهفة والأشواق، فأخذ يرتعش، وفي رأسه يدوي ألف خاطر.. هل كان كل ذلك وهما أم حقيقة؟.. هل عرف بالفعل يوما مراهقة بدوية جميلة بلون الكاكاو تدعى كاكا.. وهل أحبها حقا.. وهل غادرت مضارب الرُّحَلْ بليل، وأختفت كالفقاعة مخلفة وراءها طيفها الغامض، في قلب الرِّهاب؟!!..

طيفها الذي يطارده الرُّحَلْ في كل مكان.. إذن لماذا لم يصارح سوميت بهذا الحب من قبل؟.. هذا الحب الذي وئد قبل أن ينمو ويكبر، عندما قررت جدتها كاكا الهرب!.. لماذا لم يصارحها قبل أن تمضي في اللانهاية تلحق بجداتها؟!..

كان جقندي مهزوما ومنسحقا إلى أقصى حد، وعينا ست البنات وعاشميق المترعتان بالشك والأحزان، وكل مخاوف الوادي وآلامه الضّارية والضاربة في تاريخه عريق الهواجس والظنون، تفيض بأمواج هادرة تقمع داخله أي رغبة لطلب المواساة، التي أيضا كانا بحاجة ماسة لها، ربما أكثر منه.. إذ كانا وقتها يتحسسان جرحيهما، دون أن يريا هذه الطعنة التي أصابته في القلب تماما.. هذا الجرح الغائر المميت الذي يحمله ككفن يتغطى به ويندفن!..

في تلك السنوات البعيدة كان خارجا من خيمة جدته المدببة. كان أطفال الرُّحَلْ شبه العُراة بأجسامهم الناحلة، وملامحهم الغبشاء، يلعبون بين الخيام، لعبة السهم والرّمية، يحاولون إصابة أهداف متحركة، ربما تكون رجلاً أو إمرأة عابرين من الرحل.. طفل، بقرة، بعير أو أي شيء.. في تلك اللحظة رأى كاكا وهي تتهادى في مشيتها:عينان شقيتان موغلتان في الأسى تضجان بالفقد.. أي فقد كانت تعانيه؟ أنه الحنين.. فقد الوادي.. الحنين إلى الوادي الوادع، الذي رسمته حجب النور في خيالها، بكل ملامحه وقسماته وحياته.. بطيوره ووديانه ونهره وجبل كارناسي المهيب..

أشعلت فيها تلك الصّور المختزنة في ذاكرة حجب النّور، حنينا لا يوصف، ورغبة سرِّية عميقة للحياة هناك، حيث طيور الغارنوق وأشجار القمبيل وغناء الوازا النّدي..

وهكذا أصبح يتعمد رؤيتها كل يوم "من بعيد لبعيد".. يتأمل بشرتها الكاكاوية.. جسمها الناحل.. شفتيها الغليظتين وملامحها الحادة التي تبدو (غالبا) كالمنقطعة عن الدنيا: لا مبالية. لا تحفل بالألم. لا تتأثر بهموم الرُّحَلْ.. تتألق في نور النِّداء الخفي لعينيها الواسعتين، وهما ترِّفان في الظلام، الذي يكلكل قوافل الرُّحَلْ منذ مئات السنوات.. تتثبتان كجوهرتين، فيتزاحم القمر والشمس والنجوم، وترتخي قبة السماء لتلامس قمم القمبيل، وجبل كارناسي وماء النّهر.. تصبح الأرض أقرب من حبل الوريد!..

وهناك خلف قمة كارناسي، خلف السرّاب المتبدد، تزرع الألق والحنين الجارف.. فيتبعها جقندي خفيّة في كل مكان: وهي تضجع على الرمل تعبث فيه بأناملها.. وهي في الخيمّة مع أمها، حيث فتح "شقا" صغيرا يسمح لعينيه بمراقبتها خلسة، آمنا دون رقيب.. دون مواجهة مباشرة.. دون.. ومع ذلك كانت ملامح وجهها تنطوي على شيء من الحزن الغامض، الذي لا حدود له!..

لم يقترب منها أبدا أو يحاول تسرِّيب عواطفه المكبوتة.. المرّة الوحيدة التي ضبطته يسترق النظر إليها، تمعنت وجهه طويلا دون أن ترمش.. كانت كاكا لا ترمش!.. زرعت داخله قلقا رهيبا.. كل لوعة الترّحال وأساه.. كل قلق الرُّحَلْ وأحزانهم.. لحظتها كانت ترمش في قلبه، الذي كان يخفق بشدة وينتفض..

ترى هل أحب حفيدتها سوميت حقا؟ أم أحب فكرة كونها حفيدتها.. فكرة الحب القديم.. بقدر ما كانت عينا كاكا مترعتان بذلك الأسى الغامض، كانت عينا حفيدتها سوميت حانية، شقية كعالم المشردين الذى أدمنته، وهكذا في لحظة منهكة بسنوات الترحال والعذاب قرر البقاء. رحل القوم. تركوه خلفهم يواجه قدرا غامضا. يواجه وحده مأساته ومأساة الوادي الوجودية الكبرى، في إنتظار نهايات وشيكة!..

ما أن توقف المطر حتى خرج ثلاثتهم من الكهف، توجهوا إلى المقابر. كانوا يشعرون بأنها نظرة الوداع الأخيرة.. تراءى جبل كارناسي لحظتها بعيدا، وقمته غارقة في الغسق الحزين الوسنان.. غيمة عابرة حطت قبالة قبر سوميت بكت فلطمت أوراق القمبيل بكفها أرض الوادي، الذي بدى مهتزا وغارقا في المأساة..

قبلها بساعات كان الظلام قد خيّم على الوادي المسكون بالقلق والتوتر، ثم غيّم كل شيء.. كعين"قطع الشك" وهي تغالب دموعها، وجاء صوت الوازا من بعيد كئيبا، مهلهلا كنشيج الوادي الغارق في الكآبة والعتمّة والأحزان..

الآن فقط أصبحت رؤية وسماع كل شيء أكثر وضوحا، من أي وقت مضى.. زحف جقندي داخل خيمته. تأمل جسد سوميت المتمدد على تراب الخيمّة. كانت نصف عارية والدماء تغطي كل شبر فيها، ومع ذلك كانت بإبتسامتها الملائكية، تبدو كنائمة وليست ميتة.. كانت تبدو كالغارقة في نوم عميق، تحلم أحلامايانعة لطالما طمحت لتحقيقها..

أشعل جقندي حبات "القضيم" السبعة، الراقدة في قاع كدوسه الأبنوسي الطويل، وترك فمه مفتوحا يتسرب منه الدُّخان حاملا صلواته المجيدة، وسوميت تتراءى له من بين التموجات الدائرية، وغير المنتظمة للدُّخان كأنها تفتح عينيها بين آن وآخر، تنظر إليه في محبة، وربما تضحك ضحكتها المميزة، تلك التي كهمس ممزوج في أنغام "أم كيكي" المحبة الودود في حزنها النّقي..

كانت تتراءى له تحاول شد ثوبها الممزق، لتغطي جسمها نصف العاري دون جدوى، فدائما ثمّة نصف عارٍ، مكشوف!.. تخلل بأصابعه النحيلة شعرها الأجعد، وهمس وهو ينفث الدخان:

"رحلت إذن؟"

"رحلت؟"

ألقت ست البنات الزاحفة عند مدخل الخيمّة بسؤالها الدهش الموجوع، وهي تكرر بشكل آلي

"إغتصبها المجرمون. عذبوها. وفي القلب تماما غرسوا شوتالاتهم.. كانت جائعة وعطشى ومنهكة إلى حد فظيع.. لم يعطوها حتى جرعة ماء!"..

ثم ألتفتت إلى جقندي بصورة مباغتة:

"أولم يكن في مقدورك إنقاذها؟"

فرد بألم مرير:

"وهل أستطعت إنقاذ الوادي لأنقذها ؟"

على الرغم من أنه لم يشعر يوما بأنه تقدم في السن، إلا أنه لحظتها شعر بنفسه كم هو طاعن، ومنهك ومنتهك إلى أقصى حد. الآن فقط يشعر بأن كل شيء وشيك النهاية.. كان كئيبا ومتعبا.. محاصرا بالكوابيس ومشاعر الغضب والقلق والتوتر. وكان كل شيء للمرة الأولى في حياته يتجمع دفعة واحدة ليحاصره، ويجعل كل حواسه متحفزة.. مرهفة فيرى بعيدا خلف الأفق، ويسمع حتى "طرقعة" "طرقة" القمبيل على الأرض الرطبة، فيهمهم في دخيلته "دائما هناك مكان.. ودائما هناك دمار لهذا المكان"..

في تلك الصبيحة بعد أن تركته سوميت ومضت، شعر بخوف مفاجيء. حاول اللحاق بها، لكنها كانت قد إختفت.. مضى يحاول العثور عليها. إجتاز دروب وشوارع البندر المكتظة بالأهالي الثائرين، الذين كانوا يصطدمون ببعضهم البعض في الزحام، دون إعتذار.. دون إبتسامة، مدفوعين بغضب هادر

كان يتفرس في كل الملامح.. ولم تكن سوميت هناك.. كان المطاليق قد إعتقلوها حتى قبل أن تصل، لتختلط بالجموع الثائرة..

لم يفهم طوال ما مضى من وقت، حقيقة ما تعنيه له سوميت بالضبط إلا الآن فقط، يكتشفها تسكن داخله كشيء من السرمدية والأبدية، كالسِّر الطفولي الذي لا يعرفه أحد.. كان ينظر إلى جثمانها الممدد الهاديء، كملاك حزين على أرض الخيمة المتلفعة بدخان القضيم،والمتلهفة لطقوس الإنتقال الأخيرة

غابت ست البنات وعاشميق في صلاة طويلة أمام مقبرة سوميت المتمددة بهدوء تحت شجرة القمبيل العجوز.. التي نثر جقندي تحتها حبات القضيم وعشبات "السناسنا" و"المحريب"..

إنكفأت ست البنات على القبر بعينيها اللتان وسمتهما المأساة بحزن مقيم، وحاولت في إستماتة تجنب عينا جقندي الداكنتان الحزينتان، وهي تغالب نفسها للتملص من مشاهد تلك الليلة المظلمة، التي أبطل فيها المطاليق مفعول كل شيء يمكن أن يهدد بقائهم!..

كانتا وحدهما هي وسوميت فقط.. حاولت أن تصمد لكن لم تستطع أن تتمالك نفسها.. فأعترفت بكل شيء!.. قبلها كانت تجهش بالبكاء على أحضان سوميت المجروحة.. بدى جفنها المتسع في إنكفاءته كأنه يحتوي القبر، متغلغلا في طبقات الأرض كلها، وفي الفضاء الحزين الواسع الذي لا حدود له.. حيث تتناهى من كل مكان فيه أصوات كرابيج المطاليق، وهي تلهب ظهر سوميت، التي سال دمها سخيا يوشح أرض الكهف الصلدة..

إنكفأ جقندي على قبر سوميت، وأخذ ينتحب بشدة كطفل صغير فقد أمه.. لقد ماتت أمام عينيه دون أن يتمكن من فعل شيء!.. لحظتها كان طيف سوميت يخرج من القبر ينتصب أمامه وديعا، مبتسما و محاطا بهالة من النّور الشفاف. أخذت تمسح دموعه بحنو دون أن تنطق بكلمة، ثم أختفت فجأة، كما إنبثقت من القبر فجأة، فالتفت بسرعة إلى ست البنات وعاشميق:

"هل رأيتماها؟"

تبادلا النظرات بينهما ولم ينطق أحدهما بحرف، فسأل بصوت حاول أن يجعله هادئا، خاليا من التوتر:

"كيف كانت نهايتها؟"

أطرقت ست البنات برأسها وعيناها تسافران بعيدا، مع تلك السحابة الصغيرة، التي ظهرت بمحاذاة الشمس، فبدأت القبور كلها تزهر زهورا ملوّنة، مغمورة في ضوء شفيف يغسل كل شيء حولهم..

ستمر على الوادي آلاف الغيمّات الأخرى، التي تنبع من مصدر الزوبعة داخلهم، دون أن تغمر أرواحهم بالسلام.. دون أن تطوف إبتسامة سوميت الغامضة، التي تفتش في أعماق الوادي عن البلدة المدفونة بالحكايا والأحجيات التي داخلهم..

إنتفض عاشميق إنتفاضة مبهمة، كأنه يتحسس النّار، التي تتقد داخل جقندي، وتسآل في نفسه:"ترى لو لم يظهر جقندي في أفق حياتهم، هل كانت سوميت ستعيش؟.. وترى لو كانت سوميت عائشة هل سيحدث ذلك فرقا في الوادي أو في حياتهم؟.. وهل كان من الممكن أن تجنب حياتها الوادي نهايته الوشيكة، التي لطالما تحدث عنها جقندي محذرا.. كما تحدث عنها الجنزير من قبل؟ ما هي طبيعة الحلقة الجهنمية اللعينة هذه؟..

كانوا جميعهم مشوشين لهول الصدمة.. وكان عاشميق وست البنات.. كلاهما يدرك أن فقدههما لسوميت، يُتم ليس بعده يُتم.. يُتم لهو أشد وأقسى من ذلك الضياع الذي كانا يحسانه، عند فقدهما لأبويهما في غارات السلطان والمطاليق على دار الريح..

حدق عاشميق في عيني ست البنات كأنه يعزِّي نفسه:

"رحلت لكنها تركتك لي"

فأبتسمت ست البنات في حزن:

"وتركتك لي أيضا"

للمرّة الأولى يشعران بأنهما وحيدان في هذا الكون الواسع، ليس لهما سوى بعضهما البعض..

قبل أن يغادرا المقبرة إنتحت به ست البنات بعيدا عن جقندي، وأخبرته رغبتها في مغادرة الوادي..

"وأنا؟"

"يجب أن تغادر معي"

"إلى أين؟"

"بلاد الروح العظيمة واسعة"

"لكننا هكذا نبيع دماء سوميت..  دماء إخوتنا المشردين ودماء الأهالي الذين قضوا"

"أخشى أن نلحق بهم إن لم نغادر. لن يتغير شيء في هذا الوادي الملعون"

وهكذا عند السحر غادرا الوادي، وهما يمسكان بيدي بعضهما.. مشيا عبر طريق متعرِّج، يفضي إلى عوالم غامضة مجهولة، سيقبلان عليها بكل ما يحملانه من مخاوف وهواجس وظنون..

وقبيل مغادرتهما حدود الوادي،عرجا نحو النّهر يلقيان عليه نظرة الوداع الأخيرة. بدا لهما النّهر رقراقا ومستأنسا، لا يزال على شاطئه ما رسمه الأهالي بأقدامهم الحافية من حكاياغير مكتملة، لبشر يحاولون أن يجدوا موطيء قدم في حياة الوادي الموحش.

بشر يحاولون مقاومة الموت على طريقتهم.. بالنسيان ودفن القصص والحكايا في الرمال، التي تناثرت عليها قطع المحار السوداء و"القراقير" الصغيرة، التي يرمي بها الموج أثناء تدفق المد، في طريقه إلى المجاري المتفرعة، التي تربط الجروف ببعضها البعض..

تفتت التراب الهش تحت قدميهما. كانا يمشيان على حافة القيف المنسرح إلى جرف النهر، حيث تنعكس الشمس على صفحة الماء، كشعلة المعرفة، وهي تذوِّي في أتونها الأزلي..

على صفحة الماء الذي بدى كمرآة محفوفة الحواف، كانا يريان وجهيهما مظللين غامضين.. فيتدفق البريق الخابئ الحبيس في عينيهما في توتر قلق.. إستنشقا الهواء المكحل برماد فجر زاو.. وتجردا من ثيابهما..  تقدما يضعان قدميهما على الماء، وهما يمسكان بيدي بعضهما،  ثم ألقيا بنفسيهما في المياه ببطء، وعاشميق يتملى في عينيها، اللتان كانتا لا تزالان تتقدان بنيران ما جرى لسوميت، على مرأى ومسمع منها.. كانتا لا تزالان مجروحتان نازفتان بغضب مكتوم، وأسى لا حدود له. كان حزنه على سوميت أيضا كبيرا، يتراءى له طيفها الآن فتسيطر عليه مشاعر متضاربة، أشد من أن توصف بمجرد كلمة واحدة:"الحزن"..

مشاعر تفجر كل المخزون الأزلي لأسى الوادي ولوعته وعذابه.. كان كل ما يمور بداخله من مشاعر متضاربة متفجرة، ينعكس على عيني ست البنات، فتبدو قلقة متعبة وجسمها الممتليء يبدو ضئيلاوحزينا في الماء.. ووجهها أغبشا، رغم القطرات التي بللته علاه شحوب لا نهائي!.. كانت كمأساة متدفقة يسعى الماء للإمتزاج بها وغسلها، فتتدفق مع الموج على رمل الشاطيء بقوة، وتمضي إلى مجاري الجروف لتغمرها..

فيما مضى(قبل الإعتقال)، نعم سيبدأ عاشميق منذ الآن يؤرخ بالإعتقال لمرحلتين في حياته وست البنات.. فيما مضى كانا دائما يقضيان أوقاتا ممتعة. رائعة ورائقة، خلسة بعيدا عن عيون سوميت والمشردين والشايب جقندي.. كانا يتدفقان فيها على بعضهما دون هوادة.. يمنحان بعضهما ما حرموه من حنان ومحبة، وينسيان في غمرّة أحاسيسهما الفياضة، كل ماضي الحرمان. الذي ظلا يقتاتان منذ الطفولة على ذكرياته..

لم يعودا يعيشان في الماضي. كانت أحزانهما قد أخذت تتراجع شيئا فشيئا، بفعل طاقة الحب الفياضة..

الآن كل ما حاولا نسيانه من عذاب، تنبشه مشاعر الحزن من أعماق الذاكرة، كلعنة تضع مشاعرهما وأفكارهما تجاه كل شيء، على مفترق "دريبات" دار الريح..

كانت ست البنات من ركنها المنزوي في كهف جبل كارناسي.. الركن الذي لطالما عشقت من زاويته مراقبة عاشميق، أثناء إنهماكه بحرص شديد على إزالة النتؤات البارزة على جدران الكهف. كان يريد لصفحة الجدار أن تكون ملساء. خالية من النتؤات أو الثقوب أو الشقوق، التي كان عندما يكتشفها يملؤها بالطين الصّلصّال.. كان يفعل ذلك بمحبة شديدة، كأنه ينحت جسد محبوبته ست البنات، التي كان يشعر بها في ركنّها المنزوي، تتابع بعينيها كل ضرباته على الإزميل الصغير، وكانت هي تتخيل ضربات إزميله كالطير الكاسر، الذي ينقض على الطيور المرتاعة أسفل "جنقل السلطان"..

لطالما حلمت ست البنات بمغادرة وحشة التشرد وكآبته، إلى بيت يجمعهما وحدهما: هي وعاشميق. يعيشان فيه حياتهما الطبيعية، دون إحساس بالحرمان أو الغبن أو الخوف أو الجوع..

تلك الظهيرة الغائظة، كانت هي المرّة الأولى التي يختلي فيها بست البنات.. كان قد ذهب إلى الكهف مبكرا لينهي ما بدأه من تدوينات أُحفورية على الجدار. في تلك اللحظة جاءت ست البنات، تحمل صُرّة من القضيم، عندما وقعت عيناها على عينيه.. إرتبكت وتعثرت قدماها بقدمه في الفضاء الواسع للكهف!..

كان الكهف فجأة قد بدى ضيقا كحضن.. لكن حميما ودافئا وحنون.. سحبت قدمها بسرعة ووجهها يعلوه شبح إبتسامة خجول، ثم استدارت لتفلت خارجة.. في اليوم التالي جاءا في التوقيت نفسه، دون إتفاق مسبق.

كانا وحيدين. خائفين. حالمين، وثعبان أبو الدّفان الذي بداخلهما يزحف على قلبيهما، كالزاحف على الرمضاء، لكن ببطء شديد.. يعاني لهفة الزحف الأزلية، على جسد مزغب عار.. وهكذا بدى لهما الوادي لأول مرة: جميلا ومكانا يصلح للحياة.. فقد عثر كلاهما على ما يريد في هذا المنفى، الذي صار وطنا حميما..

لم يشعرا بالأرض تحتهما، ولا بالمياه التي كانت دافئة كالدمع.. دفء غريب!.. كما لو أنهما ليسا هما.. خفيفين كنباتات المعونة الطافية في دعة وحبور.. إستلقيا على سطح الماء كالمعونة.. كأنهما يستلقيان على أرض الكهف الصلبة. الجافة، وغابا في إغفاءة هادئة، غير آبهين للمويجات الصّغيرة، التي تداعب جسديهما في شقاوة ولطف.. إختبأا خلف عشبة المعونة.. كانت الوحدة التي ظلت تحاصرهما منذ مقتل سوميت، قد بدأت تغرق، والمياه تغسل أحزانهما بحنو،  دون أن يلحظا عينا جقندي، التي كانت تراقبهما من بعيد..

كانت أعصاب جقندي المشدودة في موضعه على قيف الشاطيء، لحظتها قد بدأت تخفف من إنقباضاتها.. إنتظمت أنفاسه وبدأت أطرافه تسترخى، وكل جسمه يرتخي، في أفق الشاطيء الذي بدت تلوح على مداه، أشباح الحوريات، فتبدو أشجار القمبيل على الضفة الأخرى، كالرُّحَلْ وهم داخل خيامهم المدببة، يقيمون طقوسهم الروحانية الغامضة.. لحظتها كان حنينه إلى قومه يشتد.. بالأحرى حنينه إلى الرحيل والتنقل، الذي أصبح هدفا بحد ذاته، دون رسالة يحملونها هنا أو هناك!. فقد تعب الرحل كثيرا لترتيب هذا العالم العجيب، منذ الجنزير وصولا إلى جقندي..

لوّح لهما جقندي بيديه، قبل أن يتواريا خلف عشبة معونة النيل، عاريان إلا من حبهما لبعضهما.. إنتظرهما جقندي طويلا بقلق، ورعشة مباغتة تهز كيانه هزا.. هو الذي منذ قتل المطاليق سوميت فارق النوم عينيه..

كان مجهدا وحزينا، وكانت شمس الصباح قد بدأت تلسع فيه الوجه والقفا.. وأصوات الأسلاف المتداخلة داخله، تتراجع شيئا فشيئا، فتتركه يعاني وحدة وغربة هذا الوادي شديد البؤس واللوعة..

توغلت عشبة معونة النيل بعيدا.. طافية وحدها على سطح الماء، ولم يكن عاشميق وست البنات هناك.. حيث أختبأا خلفها!؟!..

III

توجه "الشايب جقندي" نحو الخيمة الصغيرة، التي لا يتجاوز قطرها ثلاث أمتار، وإرتفاعها متر ونصف.. زحف على الأرض عند مدخلها الضيق، عاريا إلا من مئزره القصير. إتخذ موقع جلوسه على تراب الخيمة، بينما كان آخرون من "الرُّحلْ"،  قد أنهوا لحظتها صنع الدائرة الترابية الكبيرة، أمام مدخل الخيمة، ووضعوا عليها رأس الجاموس و"الكدوس" والسهم الطويل، الذي ربطت أطرافه "بصرتين" من "القُضِيمْ"..

وبعيدا قليلا من الخيمة الصغيرة المدببة، وضع أحد "الرُّحَلْ" على النار"المشعللة"، أحجارا صغيرة ملساء، ومن ثم بدأ أفراد "الرُّحَلْ" يزحفون إلى داخل الخيمة، عراة إلا من مئازرهم القصيرة، ليتخذوا مواقعهم في شكل دائري، بحيث لم يبق فراغ، سوى دائرة صغيرة في الوسط، الذي وضعوا فيه أربعة إحجاراً صغيرة بإتجاه"القِبَلْ الأربعة"، ثم أخذوا يتمتمون بصلوات طويلة.

بعدها أخذوا يشمون ثمار "القُضِيْمْ"، قبل أن يعبئوا بها "الكدوس"، الذي أخذوا يتبادلون تدخينه، ويرسلون مع تموجات دخانه، صلواتهم  إلى "الروح العظيمة"، وهم يهزّون "نشاشيبهم" وسهامهم بخشوع، ومن ثم أخذ الأربعة الذين بإتجاهات"القِبَلْ الأربعة"،  يتحدثون في وقت واحد عن العدل والخير والإحساس بآلام الآخرين، وعندما أنهوا أحاديثهم، رفع "الشايب جقندي" عقيرته بغناء حزين، تجاوبت معه  طبول "الرُّحَلْ"، التي بدأت ضرباتها القوِّية، حالما سمعت صوت غناء جقندي الحزين، تتبعها "الوازا"، لتزيد من أحزان السهل الفسيح المنسرح، خارج وادي الذهب، و الذي حط عليه"الرُّحَلْ" رحالهم.. ومن ثم تبع الجميع "الشايب جقندي" زاحفين إلى خارج الخيمة، ليتوسطوا حلقة الغناء والرقص، التي تكونت أثناء أداءهم طقوسهم المقدسة.

شعب الرُّحَلْ" الذي أقام دائما في مساكن مدببة. مؤقتة. بعيدا عن عيون الناس، في الأماكن غير المطروقة. ظلت حياته على الدوام، تكتنفها الكثير من الأسرار والقصص المبهرة، التي تناقلها المغنون والرواة، عبر الأجيال، من أقاصي الدنيا ودوانيها، وحيث تنشغل الحكايات في جنوحها بحثا عن أصل و"فصل" "الرُّحَلْ"، ترتد راجعة مرة أخرى، إلى نقطة بدايتها.. في الغموض الذي يلفها، عندما قرر "الرُّحَلْ" نهائيا إثر الدمار الثالث، أن يتحولوا من شعب مقيم إلى شعب مرتحل.. كل بلاد الدنيا بلاده..

كانت نساء الرُّحَلْ الجميلات "بالشلوخ" التي رسمت على وجناتهن و "شلاليفهن"  السفلى "المدقوقة"، يكاد لا يحس بوجودهن أحد، فقد كن يتشابهن، حتى لكأنهن إمرأة واحدة، مستنسخة..  بعباءاتهن التي تغطي أجسامهن الفارعة، بحيث لا يبين منهن سوى عيونهن الواسعة، كعيون المها. وربما ذاك هو ما دفع أمهات قطع (الشك وسوميت و الدود أبو حجل وأبو شوتال) وآخريات كثر، أن يهربن من مضارب "الرُّحَلْ" عبر مختلف الأجيال، جانحات لحياة البندر والإستقرار، يحلمن بحب متجدد في مكان ثابت، مألوف وأليف.

وعلى عكسهن تماما  كان الرجال"الرُّحَلْ" بوجوههم الموشومة وثيابهم المزركشة، عديدة الألوان، التي زينت بقطع المرايا والخرز و"الترتر" وقصاصات الجلد الصقيل الصغيرة، الملأى بالأوشام والنقوش، التي تشكل الخرتيت والعنقاء والتنين. فتزيد أشكالهم غموضا ورهبة.

شعب "الرُّحَلْ" على الرغم من كونه ليس شعبا من المحاربين، إلا أنهم كانوا يجيدون إستخدام"النشاب"، الذي يصيدون به الحيوانات في مهارة فائقة، حتى لو كانت متحركة، ودون أن ينظروا إليها، وربما أن ذلك يعود إلى براعتهم المدهشة في تقدير المسافات، التي تضاهي براعتهم في قراءة الطالع وسبر أغوار النفس.

منذ الدمار الثالث و"الرُّحَلْ" لا يمكثون في مكان واحد، فعندما قرر"الروح العظيمة" قبل مئات السنوات إغراق وطن الرُّحَلْ، بسبب طغيانهم وإستبدادهم وتجبرهم، وإستخدامهم ل"شعلة المعرفة" التي منحهم إياها في أعمال الشر والقتل والخراب والدمار. أختفى من الوجود عالمهم الذي لطالما ألفوه، وأبدعوا فيه كل ما هو ضروري لحياتهم، بل كانوا وقتها قد تمكنوا من الوصول إلى النجوم القريبة، بعد أن عرفوا المغناطيس والمعادن، وجنح بهم الخيال فأخترعوا وسائل التعذيب وأدوات الدمار،كانوا قد بدأو يقتربون كثيرا من أسرار الروح العظيمة، وهكذا لم يتركوا له أي خيار سوى إهلاكهم، وإغراقهم بمياه البحر الملون، التي فاضت إلى أن إلتحمت بمياه النهر، وشكلّت مع الأمطار الغزيرة، فيضانا غطت مياهه كل شيء.

قبلها  كان بعض العقلاء والصالحين، قد هربوا على متن الدروع الطائرة، وأجنحة العنقاء، والقوارب.. وعندما أنحسر الماء ووطأت أقدامهم اليابسة، أخذوا يتنقلون من مكان لآخر، دون أن يقيموا فيه

وكانوا في حلهم وترحالهم، يقيمون مع نساء البلدان التي يمرون بها علاقات غامضة، لكنها تتمخض على أية حال، عن أطفال شديدي الذكاء والجمال، ف"حبوبات" سوميت وقطع الشك والدود أبوحجل وأبو شوتال  وغيرهن، كن ثمرة مثل هذه العلاقات الغامضة، التي زرعت فيهن حنينا غامضا لمواطنهن، التي هجرنها منذ تركن ديارهن وتبعن الرُّحَلْ، فأرضعن هذا الحنين أطفالهن، الذين تمكنوا من الهروب بعد ذلك، ليبدأوا حياة جديدة في وادي الذهب، الذي كان يشعر الرُّحَلْ بإنتماء غامض له.. هذا الشعور الذي وقف خلف قرار الشايب جقندي للبقاء.

منذ خطى الرُّحَلْ على اليابسة، كانت قد إستقرت في نفوسهم، قناعة أن يستمروا في التنقل عبر واحات الصحراء والوديان، لينقلوا أخبار الكارثة التي حلّت بشعبهم، إلى الأجيال المختلفة في كل مكان، وهكذا مضوا يقطعون الفيافي والغفار، دون أن يقيموا هنا أو هناك، إلا قليلا ريثما يواصلون الرحيل مرة أخرى.

الآن حيث يقيمون في السهول، التي عند أطراف حاضرة الوادي، يشعرون.. جميعهم يشعرون بنزر الكارثة الوشيكة التي ستعصف به، والتي يعتقدون أنها مقدمة للدمار الرابع. بحيث لا يتبقى للبشر.. كل البشر سوى ثلاث مراحل أخرى، لينتهى العالم بعدها تماما، وتطوّى صفحته إلى الأبد، فلا ناجون يعمرون الأرض بعدها.

على تراب الخيمة وضع جقندي سبعة دمي صغيرة، تمثل الجنزير التقيل و الأسلاف الذين قضوا في دمار العوالم الثلاث، والأحفاد الذين لم يأتوا بعد في العوالم الثلاثة المقبلة.. كانوا أحياء في هذه الدّمي الصغيرة الملوّنة..

غاب جقندي في صلاة عميقة..

إنشقت الدّمي عن طيوف ساكنيها، الذين تحلقوا في دائرة حول الخيمة، توسطتهم قطع الشك ترقص عارِّية، وعيناها اللتان كبحيرتين واسعتين، إستحالتا لبحرين من الغضب والنار..

رقصت قطع الشك على أنغام الوازا والطبول، التي تناهت من الخارج كأنها تأتي من البعيد.. من أعماق الأسرار الخفية والغامضة للرُّحَلْ.. رقصت كحوريات وادي الغزلان، والطيوف السبعة تغوص عميقا.. عميقا في فضاء الخيمة الدائري.. تحلق في الفضاء المتمدد، إذ أخذت الخيمّة لحظتها تتسع وتطول. ثم تبددت قطع الشك في الفراغ، وعادت الخيمّة إلى حجمها الصغير وسكن كل شيء، فلم يعد جقندي يسمع سوى زفيف ريح الخماسين في الخارج، ممزوجة في أنفاس قطع الشك، التي خلفتها وراءها..

تنحنحت الطيوف السبعة، تنتزع جقندي من إسغراقته العميقة. أخبرهم جقندي برغبته في المكوث بوادي الذهب.. إبتسموا  وهم يديرون رؤوسهم نحو بعضهم البعض، وهزوا رؤوسهم وتلاشوا في فراغ الخيمة الصّغيرة، يتبعون طيف قطع الشك الذي تبدد..

وعلى"هدب الدَّغَشْ"عندما شد "الرُّحَلْ" رحالهم، ودعهم جقندي، ومضى متوجها  إلى بندر الوادي، عبر "حواشات" الذّرة والدُّخن، حيث رأى "البِنَيَّة" الجميلة سوميت فخفق قلبه بشدة وأنتفض.

بعد أن هيأ جقندي في كهف جبل كارناسي سكنا له، مضى يلتقي السلطان. فشلت مفاوضات جقندي مع السلطان، الذي رفض كل ما أسداه جقندي من نصح. ولم تمض سوى أيام قليلة، حتى بدأت علاقته تتوطد بسوميت، التي جمعت المشردين ليبنوا له دارا، في أطراف "دبة أم قنيطير"، التي تتوسط "فجيجة ودالتويم". فبعد أن فشلت مفاوضات جقندي مع السلطان، وفشل السلطان في إغراء جقندي بالإقامة في أي دار من الدور السلطانية، تمكن ود التويم من إقناع جقندي بإقامة دار له في "الفجيجة" التي يملكها، بل وأهداه هذه "الفجيجة" التي تتجاوز مساحتها الألف عود. وفي الحقيقة أن ود التويم لم يتمكن من إقناع جقندي، فهذا ما كان جقندي يريده بالضبط؟!..

أنهى المشردون تشييد دار جقندي، الذي حرص تساعده سوميت وعاشميق، أن ينصب بنفسه في الطرف الشرقي منها.. قبالة "وادي الغزلان"، خيمّة مدببة كخيام قومه الرُّحَلْ..

IV

موجة شقية تنتشر على قيف الشاطيء، ترش وجهه بالرزاز، تهدد وسنه الأسيان. ينكفيء بوجهه بعيدا حيث تلوح سوميت غارقة في خدر ست البنات وعاشميق. وقطع الشك قبالتهما تلوِّح بيديها، وهي تتماهى في زبد الموج المتبدد خلف عشبة معونة النيل، وترحل..

إختفت قطع الشك.. إختفت وما عادت تظهر إلا في الليالي شديدة الحلكة، تعترض السابلة وتخيفهم، وتستدرج المطاليق، برقصها الساحر على أنغام مزامير خفية، لا يدري أحد مصدرها. يشعرون بالخدر لدى سماعها، ويصبحون كالمنومين مغناطيسيا، فلا يفيقون إلا بعد أن يشعروا بآلام حادة في أنوفهم المدماة.

ولدت "قطع الشك" لأبوين مجهولين! لا أحد يعرف عن نسبهما وحسبهما أي شيء. فقد وجدهم الناس هكذا.. فجأة.. يسكنون بينهم في منتهى الزقاق المفضي إلى الساحة، التي تتوسط بندر وادي الذهب. كانا مألوفان بشكل غامض، ويبدوان كجزء من الذاكرة المنهوبة للوادي!..

حين ولدت "قطع الشك"، في البدء لم يشعر بوجودها أحد.. وعندما شعروا بوجودها، كانت سطوة عيناها الواسعتان، قد ملأت "قِبَل الأرض الأربعة". فقد كانت دائما مغطاة بعباءة لا تكشف منها شيئا، سوى عينيها الدعجاوين. وكان الآخرون يشعرون بوجودها بمجرد سماعهم وقع خطواتها الهامسة، ونكهة "المحريب"  التي تسبق الرّنات المميزة  لحجولها، التي تعلن عن مرور طاغ لسحر لا يقاوم!..

كانت "قطع الشك" بقوامها اللدن، تتثنى في مشيتها الهادئة كالهفيف، وأنفاسها المبثوثة في نكهة المحريب، تكاد تحرق كل من تمر بقربه، مخلفة وراءها "هبود" الدّنف والإثارة القاتلين!.. كانت أشبه بلعنة خالصة، لا تحتك بها إلا وتملؤك رهبة تدك أعتى القلوع المشيدّة، من أحجار جبل كارناسي المقدس..

في ذلك المساء البعيد.. قبل عشرات السنوات، سد عليها "المطلوق الدود أبوحجل" الزقاق الضيق، مستعينا بمطاليق الصحراء.. حاول أخذها عنوّة. تمنعت. قاومته.. تمكنوا منها. قيدوها. وأخذ الدود يعرِّيها وهي تبكي، والمطاليق قد تسمروا أمام سطوة جسمها العاري.. كانوا كالذين صعقهم تيار "البرق العبادي"، وصواعقه الرهيبة في "سنة نجع الناس لديار سافل"..

تملصت قطع الشك من زراعي الدود، وأخذت تركض عارية، وعيناها اللتان كبحيرتان واسعتان، إستحالتا لبحيرتين من الغضب والنار.. لحظتها كان الدود قد لحق بها. إرتميا على الأرض يتصارعان، تحاول الإفلات، ويحاول السيطرة. كانت روحها وقتها تحلق بعيدا نحو السماوات البعيدة، لتعود مرة أخرى بعد عشرات السنوات، لتولد في البنية الجميلة "سوميت"، التي ستغادر في لحظة كارثية، وتترك "الشايب جقندي" متمددا على الأرض القردود، أوقيف شاطيء الوادي الحزين.. تركته لوحدته المجيدة، بعد أن أخبرها عن مداولاته مع ود التويم حول كل شيء في وادي الذهب، الذي كان "المطاليق" يوشكون على فصل صعيده..

تركت"سوميت" "جقندي" في عزلته البديعة، يتمدد على الأرض "القردود" المخددة "بالشقوق"، دون أن تدري لحظتها أنها تمضي إلى قدرها المحتوم! فوقتها كان "المطاليق" يقودهم"أبوشوتال" قد إحتلوا دارها. قيدوا والدتها أم كوراك إلى "شِعَب التُكُلْ"، وربطوا والدها في "الراكوبة" الملحقة.. بينما الشايب جقندي،لا يزال متمددا على الأرض الطينية الجافة.

أغمض جقندي عينيه، يستعيد أنفاسه اللاهثة. لم يكن قد نام لعدة أيام، وعلى الرغم من التعب الذي سكن مفاصله، كان عقله يتقد كأتون أزلي، وخواطره تلتهب. تنفث شررها أفكارا وامضة، حول عالم وادي الذهب المأساوي الرهيب، ولا تلبث أن تنطفيء "كالهباب"!..

فمنذ عقود طويلة لم تعد سماء وادي الذهب، ذاتها تلك السماء الصافية، التي تلمع فيها النجوم البراقة.. هناك في الأفق الرحيب، حيث تتقاطع حزمات الضوء الهاديء، تشعل مواجد المحبين، وتعين سُرّاة الليل على رؤية الصّوى وعلامات الطريق، في ترحالهم الأبدي، لإشعال نار المعرفة المقدسة، في كل المدن النائية البعيدة، التي يمرون بها.

إذن كان الشايب جقندي يحاول بأفكاره، إختراق عوالم من الماضي السحيق، الذي تراكمت عليه أغبرة الزمن، لقرون من فوضى الرمضاء و"القبلي" و"عجاج الهبباي" ورياح الخماسين العاتية. فمنذ قرر البقاء قليلا بوادي الذهب.. في حاضرة أجداده العتيقة، أخذت مخاوفه تمضي إلى نهاياتها الدائرية، مسحوبة بالنداءات العميقة، غائرة الجرح. هذه النداءات التي تباغته كموجة هادرة، تحاول أن تسحبه إلى لجتها. وإزاء إصراره العنيد، لا تلبث أن تتبدد، كزبد على رمل الساحل الأبدي للوادي المأساوي.. الموحش. الذي تزيده تأملاته وحشة ورهبة.

نهض الشايب جقندي وجلس على ركبتيه. مدّ كلتا يديه، أسفل جدار الكوخ الحجرِّي. سحب حجرا"مخلخلا"، بان خلفه صندوق أبنوسي قديم، تزينت جنباته بنقوش ملوّنة.. رسوم للعنقاء والخرتيت والتنين. وهو يسحب الصندوق الأبنوسي، الذي ورثه عن أسلافه، الذين توارثوه بدورهم لعشرات السنوات، إلى أن وصل إليه، خرج أبو الدفان من قاع الفتحة، التي كان يخبيء فيها الصندوق، وزحف تجاهه. فبصق فيه جقندي "فيبس" أبو الدفان في الحال، وجاء صوت "الجنزير التقيل" متناهيا من بعيد في صرختين متقطعتين:

جقند..ييي.. جقند.. ييي..

مع صيحة الجنزير الأولى كان جقندي قد عبر دار صباح، وفي الصيحة الثانية كان يقف بين يدي الجنزير، الذي تبسم بوجهه في حنو وهو يمسح على رأسه، ثم تبدد في الفراغ، والسماء خلفه "تهرج" وتقول: كع كرع كع ككع..

فتح جقندي الصندوق الأبنوسي الصغير  بحرص. أخرج الأيقونات الملونة، ذات النقوش والرسوم البديعة. إنتقى إحداها.. كانت نقشا لخريطة توضح موضع المعبد العتيق، في جبل "كارناسي" الذي شيده  الشايب"الجنزير التقيل"والمشردون من دموعهم و أحزانهم على "قطع الشك" الجميلة. كانت رسوم الخريطة ونقوشها الدقيقة، التي على الأيقونة، تنطوي على شيء غريب يصعب تحديده!.. شيء غامض يلِّح عليه "كنقحي" الجرح..

أحس ببرد مفاجيء، وشعر بقشعريرة تجتاح كيانه كله. أعاد الأيقونة إلى الصندوق، وأعادالصندوق إلى مكانه الخفي، أسفل الجدار،وحمل معه جثة أبو الدفان الهامد، وخرج لا يلوي على شيء..

إبتعد. توغل بعيدا في أطراف حاضرة وادي الذهب. وصل إلى جرف صخري، فجلس القرفصاء على أرضه"القردود"، ومضى في تأمل عميق، لم تنتزعه منه سوى موجة البرد، التي دهمته مرة أخرى على نحو مفاجيء.

كوّم حجارة صغيرة أمامه، وضع بينها بعض"عيدان الأندراب" و"القش" وأعشاب"النّال"، وأوقدها بقدح حجرين من أحجار جبل "كارناسي" المقدس، المتناثرة في كل مكان، لتدفئه من رعشات المخاوف وقشعريرات الهواجس والظنون، التي إنتابته، وهيجت فيه الأشجان القديمة. وشيئا فشيئا مع  الدفء الذي سربته النار، أخذ نوع من الخدر الغامض يتسلل عظامه.. يهدءه قليلا  ويغيبه في "غيبوبة" مضطرِّبة.

في غيبوبته كان يسمع الوديان والنهر و"الحفاير" و"الترع" و"الرهود" يصرخون.. الشجر وعشبة "معونة النيل".. السماء.. وكل شيء حتى صخور جبل كارناسي.. كانوا يصرخون.. هذه الصرخات التي ستظل داوية في الوادي لمئات السنوات القادمة!..

طوال مراحل إزدهاره وإنهياره المتكرر، كان وادي الذهب يعج"بالمطاليق"، الذين يستعين بهم السلطان ومجلسه لإلجام العوام وغير العوام عن الإعتراض أوالكلام !.. فالمطاليق أتباع "الدود أبوحجل" الذين تسببوا في الخراب والدمار الأول، أحفادهم هم من تسبب في الدمار الثاني، وأحفاد هؤلاء تسببوا في الخراب والدمار الثالث، و.. وهكذا.. المطاليق الذين يقودهم "أبوشوتال"و يعاصرهم الآن الشايب "جقندي"، سيتسببون  في دمار الوادي مرة أخرى، وربما نهائيا وإلى الأبد هذه المرة. فالأمر نفسه الذي كان يحدث في المرات الثلاث الماضية، يحدث الآن: إحتكار السلطان ومطاليقه للسلطة المطلقة، بحيث لا يستطيع أحد أن يقول أن"إبنة السلطان عزباء- مع أنه عاقر-  أو تلت التلاتة كم؟!" وإلا تم قتله في الحال وقطعه المطاليق إلى أوصال..

على حين غرّة بدأ المطر يهطل بغزارة، في السهول الطينية الواسعة. إنطفأت النار الصغيرة، التي أوقدها جقندي، الذي كان يشعر لحظتها بدفء أكبر، فوقف "على حيلّه" يتأمل العالم.. عالم وادي الذهب.. لكن بشعور ومذاق مختلف.. ليس كما أعتاد في الماضي: تأمل كل شيء في إنتشاء ولذّة كبيرين!..

تأمل السماء وهي تغسل وجهه، وشرب من ماء المطر. إلتقط سبع قطع من الحجارة الصغيرة، ذات الإحتراق المنطفيء.. دسها في "مخلاته القوقو"، ومضى بإتجاه الساحة الكبيرة، التي تتوسط حاضرة وادي الذهب. نادى في الناس.. كل الناس، الذين جاءوا مهرولين.. إلتفوا حوله.. خطب فيهم..

كانت كل الوقائع والأحداث، التي مرّت على وادي الذهب، منذ أنشأه "الروح العظيمة" تتدفق من فمه، كالمطر الذي يغسله الآن، ويغرِّق أهالي الوادي في الأسئلة، التي لا أول ولا آخر لها..

كان واضحا أن زمنا آخر سيبدأ بعد توقف المطر..

الآن وكل شيء ينصرم، تتزاحم الصور والأخيلة والوقائع والأحداث على رأسه المنهك، الذي هيمنت على فضاء ذاكرته "سوميت" الجميلة، التي ترقد هناك في قبرها الصخري، المحلّى بالنقوش وأيقونات الحياة الأخرى، التي حفر عليها الأطفال المشردون، رسومات تمثل: التنين، العنقاء والخرتيت.. فوق إسمها، الذي منحوه لونا مبهرا..

تراءت له "سوميت" مقيدة في العتمة. تتململ. تحاول الإفلات، وقد علقت من معصميها، إلى سقف الكهف الضيق. فلم يعد يتبق من حضورها الطاغ الآن، سوى هذه المقبرة المقدسة، التي ستحفظ أرماثها لآلاف السنوات القادمة..

تراءت له سوميت في ذلك اليوم البعيد، وهي تمضي مع عاشميق وست البنات لجمع المشردين، وتوزيع الشعارات التي تنقش على الجدران عليهم.. كان ثلاثتهم يتراقصون ويتمايلون كالسكارى، عندما إنبرى عاشميق:

أنت من ينقل لجقندي أخبار كل شيء، فيتحدث كأنه كاشف لم يخبره أحد..

لحظتها غضبت سوميت وغضبت ست البنات لغضبها.. وعندما أنهوا مهمتهم ومضوا للقاء جقندي، الذي ما أن رآهم عند مدخل داره حتى هتف في سوميت:

ترقصي وتغني وست البنات وعاشميق "يبرجو فوقك" والمطاليق يتجسسوا على مفاتنك وعاشميق يقولك "كأنه كاشف"..  جقندي ما "بيخبر" شيء؟..

فأسقط في أيديهم جميعا وأنقطع عنهم كل شك..

أنهى الشايب جقندي خطبته الطويلة ومضى. وعند الفجر تماما غادر وعشيرته، التي كانت قوافلها قد وصلت للتو من مالحة عبر طريق الملح قاصدة دار صباح البعيدة..

غادروا بندر الوادي، يتبعهم المشردون وبعض الأهالي الذين سيصبحون منذ الآن"رُّحَلاً".. غادروا إلى حضن كارناسي، حيث المعبد العتيق. وقتها كان وادي الذهب خلفهم يحترق، وندى الفجر فيه يتحول إلى كتلة من البلور الملتهب..  كان الحريق يأتي على الناس، والأشياء والشجر والحجر والمطر!.. كان يأتي على كل شيء!..

V

في تلك الأمسية حالكة السواد، التي غاب فيها القمر، خلف سحب السماء البعيدة، حيث شفق المغيب يبدو كالضوء المنعدم، في إنعكاسه على صفحة مياه الرهود والوديان، بحيث يستحيل كل شيء على سطح الماء، إلى محض ظلال شبحية متمايلة، كأنها تعاكس بعضها بعضا في مكان مهجور لا أنيس ولا جليس فيه. فقط أطلال لا يسكنها أحد..

في تلك الأمسية التي غاب عنها القمر نهائيا، وإلى غير رجعة، وحجب الظلام كل شيء، كمن "الدود أبو حجل" والمطاليق ل"قطع الشك" الجميلة، التي كانت قد غادرت للتو، بعد أن ألقت نظرة أخيرة على حمائمها، كأنها تودعها الوداع الأخير..

شعور خفي، ذاك الذي جعل نظرتها تنطوي على كل ذلك الغموض، الذي أخترق نعاس الحمائم، الغارقة في وسن "المِغِيْرِّب!.."

مضت "قطع الشك" بخطى حذرة في الزقاق الضيق، الذي يفضي إلى الساحة الكبيرة، لبندر وادي الذهب، ورغم خطواتها الحذرة ومخاوفها العميقة، لم تلحظ خطى المطاليق الخفيفة، التي كانت تتبعها بحذر الفهود..

سمعت فجأة "طقطقة" مكتومة  "لعود" يتكسر تحت وطء أقدام ثقيلة، فالتفتت وإذا ب"الدود أبوحجل" ومطاليقه يحاصرونها. بدوا لها ككائنات غريبة، تلوح في عتمّة السواد الحالك، الذي يغلِّف المكان، فأرتعش كيانها كله، وتسمرّت قدميها على الأرض "القردود المشققة"، التي كانت لا تزال تنفث "بوخ" ظهيرة الصيف "القيطوني" الحارقة..

حاولت"قطع الشك" أن تستدير لتفر راجعة، لكن كانت الحلقة التي كوّنها "الدود أبوحجل" ومطاليقه، تضيق أكثر فأكثر.. غنّاها الدود مواجده وتوجداته. حاولت أن تتماسك.. صدته.. وكانت الحلقة تزداد ضيقا، وظلمة الليل توغل في السواد الحالك، الذي لم يكن ثمة أي نور، بقادر على تبديده أو الإنعكاس عليه، سوى نورعينيها الواسعتان كبحيرتان لا غرار لهما..

في هذه الظلمة الحالكة رأى الدود أهداب "قطع الشك" المرتعشة، وجفونها التي أخذت تنبض، كقلب متعب لطفل صغير. لحظتها  كان على بعد خطوة واحدة منها.. مدّ والمطاليق أياديهم المرتعشة.. عرّوها تماما.. و..

وفي مثل هذا الوقت قبل عشرات السنوات، كان "الشايب الجنزير التقيل" يختبيء خلف إحدى أشجار القمبيل، التي سكنت حركته خلفها تماما. كان كالمسمّر على الأرض، وكانت رئته تضيق، وهو يحاول ببطء وصمت، "شفط" الهواء المشبع برماد حرائق مرتقبة.. تسلل "الجنزير التقيل" ببصره الأغصان المتشابكة حوله. رآهم يقتربون منها. كان يفكر أن عليه فعل شيء قبل فوات الآوان. وكانت لحظتها أصوات المطاليق العنيفة، والدود الذي كان يحاول بذل أقصى جهد، ليجعل صوته هامسا.. كانت كل هذه الأصوات المتداخلة، تثير في أوصاله قشعريرة كصعق البرق العبادي..

تقدم الدود أبوحجل يحاول أغواء "قطع الشك"، بصوته الذي كان كفحيح "أبو الدرق".. وبعينين مفتوحتين عن آخرهما كان "الشايب الجنزير التقيل" يراقب الموقف بفرائص ترتعد بين أعشاب "النّال"، التي تسلل بعضها جلابيته، وأخذ يداعب ساقيه العاريتين مباشرة..

جلس الجنزير التقيل القرفصاء، وكل جسمه المرتعد يتحول إلى عيون مشدوهة. لحظتها كان"الدود أبو حجل" ينكفيء على قطع الشك كشبح.. كان كما لو أنه يمتطي صهوة حمار "مكِّادِّي". وكان صوت قطع الشك يأتي خافتا. مهدودا ومنهدا في العتمّة. آسيا وباردا، وحزينا.. كان بكل مأساويته يتسرب مفاصل الجنزير التقيل مباشرة، فينكتم فيه كل شيء..

رأى الشايب الجنزير التقيل وسمع كل شيء، فاختل كيانه ولم يعد يشعر بشيء، سوى هذا المشهد الماثل أمامه، والذي سيظل مطبوعا في ذاكرته ووجدانه، ومحفورا بالنقوش والرسوم، على جدران المعبد المقدس لجبل كارناسي العظيم، الذي سيوثق فيه وقائع ماجرى..

بعد وقت ليس قصير، تماسك الجنزير التقيل، وأخذ يتسحب خلسة "كالكديس". لم يكن يعلم إلى أين ستقوده قدماه. كان فقط يتبع الضوء السرمدي داخله، الذي كان يقوده عبر دهاليز ماضي غابر، يتداخل في حاضر مرير، يقتفي أثره ليرمي به إلى حياة جديدة قادمة.. بعيدا عن هذا المكان الملعون، الذي لا محالة سينفجر ويتبدد كفقاعات شرار الأندراب..

و.. وفي ثمرة الفؤاد تماما كان "المطلوق أبو حجل" قد طعن قطع الشك.. غرس "شوتاله" الطويل دون رحمة. ومن الدّم الذي سال من أقصى أعماق قطع الشك، تشكلت حمائمها وحلّقت فوق رؤوسهم. تشكل كائنا عجيبا مرعبا كثيف السواد.. تراجع أبو حجل والمطاليق في رعب، والكائن المرعب يتشكل أكثر فأكثر، يغذي فيهم المخاوف والمشاعر المضطربة. وكانت قطع الشك قد إختفت، مخلفة أثرها على الأرض القردود: قبة من الحجر الكارناسي الأسود وحمائما كارناسية متحجرة، تجسد الحزن والأسى واللوعة، ومرارات الوادي الضّال..

في اللحظة التي غرّس فيها الدود "شوتاله"،  في ثمرة فؤاد قطع الشك، وقع طائر العنقاء من قلب شجرة القمبيل.. إشتعلت فيه النار وأحترق، ومن رماده خرجت دودة بيضاء كاللّبن، تحولت إلى شرّنقة، خرجت منها عنقاء جديدة، حلّقت في الفضاء الرحيب، تشق بجناحيها بحر الهواء نحو السماوات البعيدة، حيث يقيم "الروح العظيمة" في هدوء بديع، لا يعكِّر صفوه شيء سوى ضلالات وادي الذهب.

وبعد مئات السنوات تعود لتقيم هناك، بعيدا في وادي الذهب للمرة الثانية، حيث تنفتح بوابات السماء، وتسكب الشمس ضوءها المقدس، لتنبت شجيرة القضيم دائمة الحمُرّة، ويستحيل وادي الذهب إلى مكان جميل دافئ، لا تسكنه أمراض الشيخوخة والخوف والقمع والأحزان.. لا يسكنه الخراب والقتل والموت والدمار.. لا تسكنه أعمال المطاليق الذين"لا تالي ولا والي " لهم.. لحظتها فقط تستيقظ "العنقاء.. قطع الشك" كل صباح، لتردد أغنية جميلة عذبة عن الجمال المقدس..

VI

عندما خطب الشايب جقندي في الأهالي يحكي وقائع ما حدث، كان البعض يشعر بخوف وفزع شديدين، والبعض تنتابه روح السخرية والدعابة والأعمال السيئة. وقتها كانت أوراق الشجر الإبرية الرقيقة الشائكة، عبر الهواء الضبابي، تسقط على الأرض القردود المخددة بالشقوق، بعد أن توقفت "نقناقة" المطر الذي كان ما أن يتوقف قليلا حتى يعاود الهطول. ومع ذلك كان كل شيء يبدو ساكنا سكون الموتى.. كالذي تنعدم فيه الحركة، ولكنه في الحقيقة كان يغلي كأتون مكتوم..

لحظتها كانت "سوميت"  تستعيد أحاديث الشايب جقندي، الذي منذ حل بوادي الذهب، فتقت أحاديثه رؤاها ورؤيتها، وبدا لها كل شيءواضحالا لبس فيه. عندما أعتقلها المطاليق وقادوها إلى معتقلاتهم، في تلك الكهوف التي إرتبطت بسلسلة معقدة من السراديب الواطئة، التي لا يمكن السير داخلها إلا إنحناء أو إنكفاء. كان الجو شديد البرودة في نهاية السرداب، الذي أفضى بهم إلى عدد من الكهوف الضيقة، التي يسجن فيها المطاليق معتقليهم من المعارضين..

كانت الكهوف تواجه بعضها البعض، لا يفصل بينها سوى السرداب كممر.. وكانت ذاكرتها تستعيد كل شيء في سيرة الوادي، الذي أصبح يلفه الصمت وتحتويهالوحشة والخواء..

كان المطاليق يقودهم "أبوشوتال" قد أحرقوا دارها، وقتلوا والديها بشكل وحشي. كانت الدماء تغذلي في عروقها وعيناها لا تتوقفان عن الجريان، بدمع شديد الحزن والمرارة.. تخيلت والدتها التي شنقوها على "الشِعْبّة التي تتوسط التُكُلْ"،  وتراءى لها والدها وهو يسقط، تحت طعنات أبوشوتال مضرجا في دمه جثة هامدة.

هيمنت على ذاكرتها كل الوقائع والتفاصيل الدقيقة لنزعهما الأخير، وهما يمدّان أياديهما إليها، وهي تمضي بخطى متعثرة، مقيدة بحبال السعف. يدفعها المطاليق خارج الدار، التي بدأت تتحول إلى كتلة من اللهب تنشر ضوءها في بندر وادي الذّهب، من أقصاه إلى أدناه..

لم تكن الوحيدة التي تم إعتقالها. كان أهالي كثر: رجالا ونساء وصبيانا وصبايا، ومشردين ومشردات. كانوا جميعا مقيدين بحبال السعف، في الساحة التي تتوسط البندر، قبل أن يتم ترحيلهم إلى معتقلات الكهوف.

أخذت سوميت تزحف بصعوبة، على أرض الكهف الضيق. تتحسس في العتمّة الأجساد الملقاة على الأرض الرطبة، الجافة، القاسية. حاولت أن تنام في إحدى الزوايا، وهي تشعر أنه لم يتبق لديها عِرق ينبض بالحياة. شعرت في الظلام بيد واهنة، مرتعشة تتحسس ظهرها، وجسد ما يتعثر بجسد آخر. وصوت مكتوم لخطى تبتعد في الخارج..

في السرداب الضيق.. كانت تتلمس مكان تلك اليد الراعشة، التي تحسست ظهرها. يد المخلوق المعدم مثلها، الذي لا تعرف أهو رجل أم إمرأة، أو أيا كان أين سيؤول به المآل. طوّت يديها على حضنها، والخطى المكتوّمة في السرداب تقترب، ثم لا تلبث أن تبتعد، فيسود الصمت المظلم كل شيء.

تناهى إلى سمعها صوت ست البنات المألوف الخافت، كما لو أنه تعرض فجأة لخطر محدق:

"أنهم يقتلون الرجال؟"

قالت ست البنات وأردفت متساءلة:

"ولماذا يبقون علينا؟"

"سيغتصبوننا"

"ويقتلوننا بعد ذلك؟"

""لا، سيسترقوننا، فنحن ما ملكت إيمانهم

"جواري!.. سبايا!.. في وطننا؟.. وادي الذهب؟!"..

لم تكن ست البنات ترى سوى الظلام الغارق في "دواية القرع"، التي يغمس فيها الشايب جقندي قلمه البوص، ليكتب خواطره على الجلد أو لوح الخشب.. عن الوادي والناس والحرائق المزمنة،

فأخذت  تجهش ببكاء حار، وكل أحلامها مع عاشميق.. حبيب قلبها تتبدد.. فجأة.. شعرت بيد سوميت تربت على رأسها، وتحاول أن تصل بأصابعها إلى جفنيها، لتمسح عنهما الدمع المر، ثم جذبتها إليها. طوقتها بذراعيها وهي تضع رأسها على صدرها. وجسمها.. كل جسمها.. في حضنها المرتعش كريشة "غارنوق" تتلاعب بها "رياح الخماسين" العاتية.. كلتاهما كانتا تغوصان في الظلام والعتمّة، وتحاولان الخروج لمواساة بعضهما، في الأحزان التي غلفت الوادي، وأخذت وألتهمت كل شيء يحبانه.. كلتاهما كانتا تحاولان.. لكن، لاعزاء في هذا الكهف الغارق في الظلمات والبرودة المطلقة..

في هذه اللحظة اليائسة تراءى جقندي لسوميت، وهو يتكيء برأسه على صدرها لتمشطه له في جدائل كبيرة، بينما "طيرة" عابرة تطل من الكوة المقابلة.. "سكسكت" الطيرة، "فسكسك" لها جقندي.. سألته في دهشة:

"شن قالت؟"

"جابت رسالة من أهلي الرُّحَلْ"

إرتفع حاجباها الغزيران.. أردف جقندي:

"الما بجي من جبلك ما بيعرف رطانتك"

في هذه اللحظة اليائسة تتمنى سوميت أن تغمض عينيها ولا تفتحهما، إلا وتجد نفسها قد إنتقلت من هذا المكان الضيق. المتمزق، البائس، إلى أحضان جقندي العامرة بالحب. أولم يقل أنه كاشف؟

قطعت عليها ست البنات خواطرها وهي تتنهد:

""هل سيعذبوننا؟

""أسمعي سيحاولون الإيقاع بالآخرين والآخريات عبرك، فلا تنسي أنهم مجرد مطاليق

وتأوهت وهي تدس أصابعها في جدائل ست البنات المتجعدة.. غزيرة الظلمة..

VII

المرّة الثانية التي يتعرض فيها الوادي، وللأسباب نفسها للخراب والدمار، عندما نقل السلطان مقر عاصمته المحصنة بالجبال، إلى ما بين النهرين، اللذان ينفتح  النهر الغربي منهما، على حدود دار الريح اليابسة.. ثم عاد ونقلها إلى سهول النخيل، المفتوحة على السافل. وقتها هجمت مفرزة من جيش السافل على الحدود، كانت تطارد مجموعة من المطاليق، يقودهم الدود أبوحجل. لحقوا بها وقضوا عليها، وتمكن الدود من الهرب بأعجوبة.. بعدها أعد السافل عدته وهجم على وادي الذهب. خربوا حاضرته وعسكروا في كل مكان، إلى أن جمعت الحواضر المحتمية  بالجبال جيوشها وطردت الغزاة، وأستردت سلطة سلطانها جبل الحديد، الذي كان قد ورث الملك من والده السلطان الكرباج للتو، فإنتقلت بذلك العاصمة إلى موقعها القديم: بين الجبال الحصينة، التي يشرف عليها جبل كارناسي المقدس بمهابة وشموخ..

دائما غزاة وادي الذهب يأتون من السافل. ودائما تعلن نهاية غزوهم عن بداية الأسئلة المكرورة المحيرّة، التي لم يستطع أحد الإجابة عنها، والمتمثلة في نسب وحسب وأصل وفصل سكان الوادي، إلى أن إكتشف أحد الصيادين، في إحدى الصبيحات الهادئة، وأثناء حفره عند جذع جبل كارناسي يتبع أثر أحد "جقور" البرِّية  كان يطارده بإصرار. عندما إصطدم "شوتاله" بجسم صقيل، فأخذ يفج عنه الصخور الترابية، إلى أن لاح له مايشبه الباب المقوس. فمضى مسرعا إلى قلب البندر، ونادى الأهالي الذين تبعوه.. وأخذوا يزيحون التراب طيلة نهارين ونصف، إلى أن تكشف لهم عن بناء سباعي الشكل، تعتليه قُبَة مزّينة بأيقونات بديعة النقوش والألوان..

وقفوا مزهولين! كان معبدا كاملا لأسلافهم، زُين بالأيقونات الملوّنة، التي حفظت الأرض القردود وهواء الجبال والسهول الجاف بهائها، فبدى المعبد برسوماته البديعة، كأنه شيد للتو واللحظة!..

كانت النقوش والرسوم التي على جدران المعبد، تحكي قصصا كثيرة، عن المطلوق الدود أبو حجل والجميلة قطع الشك، وكيف جرّد ورثة العرش المطاليق حملات لغزو الجوار، وكيف قضى عليهم الغزاة الباحثون عن الذهب والعبيد، الذين تحالفوا مع الغزاة البيض، الذين بدورهم كانوا يزعمون أنهم وحدهم الذين خصهم "الروح العظيمة"، بشعلة المعرفة المقدسة دونا عن كل الناس؟..

كان الوادي قد إرتج في تلك الليلة كالحة السواد، على وقع حوافر الجيوش الغازية، وهي تدك خصوصا المباني السلطانية، حيث مقر قيادة السلطان وداره. إنتشر الغزاة على صهوات جيادهم في كل مكان، داخل البندر.

عاثوا دمارا شاملا في الممتلكات والمزارع، ولم تسلم منهم حتى المواشي والزواحفوالبرمائيات. بعدها إنطلقت الشائعات حول هروب السلطان "التور الجرق"، وكامل أفراد أسرته وبعض أعضاء مجلسه، ولم يعثر أحد للمطلوق "شوك الظلمات" على أثر، وإنطلقت شائعات تفيد بأنه أختفى في مجاهيل صحراء "دار الريح" القاحلة..

لم تكن أضرار الأهالي بأقل من الأضرار التي أصابت السلطان والأسرة المالكة. كان المناخ العام مضطربا، والأهالي يحاولون تضميد جراحاتهم بصمت، متجنبين أي نوع من الأحاديث التي قد تثير حفيظة الغزاة..

وكان الغزاة الذين نهبوا ثروات الوادي، ونقلوها إلى بلدانهم البعيدة. قد أسروا الشيوخ والعمد والعقلاء، وعاملوا الأسرى بقسوة شديدة. إذ إغتصبوا النساء في حملات إنتقامية، وقطعوا أوصال أعضاء مجلس السلطان بعد شطرهم شطرين، من قمة الرأس حتى ما بين الفخذين، بعد أن خرقوهم "بالخازوق"، ولم يتم إسترداد وادي الذهب مرة أخرى إلا بعد وقت طويل، بعد أن نجح سلطان الوادي المهزوم، في عقد إتفاق مع غزاة السافل وحلفائهم البيض، قضى بأن يقدم وادي الذهب في كل عام مائة زكيبة من الذهب، ومثلها من العاج وريش النعام و800 عبد و6 أفيال، ومثلها زرافات. وعشرة نمور ومائتين ثور وبقرة، مناصفة. ودينارين لكل فرد.. من منفاه وافق السلطان.. وهكذا إنسحب الغزاة..

أطلق بعض الأهالي الخبثاء على يوم عقد الإتفاق إسم "الإستقلال"، وتبجح بعض أعضاء مجلس السلطان بفخر، أنهم هم من عقد الإتفاق ورفعوا راية وادي الذهب لترفرف"عالية خفاقة!"..

في ذلك اليوم.. يوم فرض الجزية المشؤوم تبادل الأهالي التحايا والأمنيات، وشربوا كثيرا من "البقو" و"عرقي البلح البكري". كانوا فرحين ومزهووين بما حدث لهم من خزي وعار، بإنتصار مهزوم، أنساهم قتلاهم ونساءهم المغتصبات وويلات الدمار الكبير، الذي شهده الوادي. الذي كان قد تغير كثيرا إلى حد رهيب ومفزع..

إذن إنسحب الغزاة، بعد أن خلفوا وراءهم قيود "الجزية" السنوية، التي قادت إلى الإنقسامات والحروبات الداخلية، بين عشائر و"خشوم بيوت" وادي الذهب، التي أخذت تسرق و تسترق بعضها البعض، لتفي بمستحقات جزية الغزاة السنوية، وهكذا إستشرت الخصومات، وعم الفساد والفقر والجهل والمرض، فكان كل ذلك بمثابة بداية النهاية في الإنهيار الثاني..

كانت النقوش التي على جبل "كارناسي" المقدس  تحكي أيضا عن شعلة المعرفة المقدسة، التي أعطاها "الروح العظيمة" للشايب "الجنزير التقيل"، ليحميها ويوقدها. لتضيء كل أنحاء الوادي، دون أن يطفئها أبدا.. هذه الشعلة التي سرقها المطلوق الدود أبوحجل، ليحرم الأهالي الإبداع، فمنذ أضاءت شعلة المعرفة الوادي، تمكن الأهالي من إكتشاف الحديد وتعدينه،وإختراع أدوات الصيد والزراعة والنجارة. كما عرفوا الوقت والألوان، وتفتقت مواهبهم في نقش الحجر، والرّسم على الجدران، رسومات بديعة تعبر عن حياتهم الروحية والإجتماعية..

كان الجنزير التقيل يرى أن المعرفة لا ينبغي حصرها فيه"كحام لها" وفي السلطان وعشيرته وأعضاء مجلسه"كطبقة حاكمة"،  بل يجب أن تشمل الأهالي وتتمدد لتصل كل العالم. وكان المطلوق "الدود أبوحجل" كأحد أفراد العائلة المالكة، يرى العكس تماما.  وبقدر ما كتب الشايب الجنزير التقيل القصائد الطوال، التي تمجد الأهالي وإبداعاتهم، وتدين عزلة العشيرّة المالكة عنهم وترفعهم عليهم وإحتقارهم لهم، بقدر ما رد المطلوق أبو حجل بقصائد ركيكة بذيئة،إنطوت على نزوعه العنصري وفجاجته الفظيعة، لاحقا.. وبعد عشرات السنوات سيعتمد أبوشوتال على هذه القصائد للتأكيد على عراقته!.. كانت قصائد "ثقيلة الدم" وبائسة تفتقر لسلاسة ورصانة قصائد الجنزير التقيل.. تدخل "الروح العظيمة" مخترقا أحلامهما مرارا وتكرارا.. حاول إثناء الدود عن أفكاره الشريرة المدمرة، ومحذرا الجنزير التقيل من غدر الدود ونواياه المبيتة لسرقة الشعلة وإحتكارها..

وعندما  تمكن الدود بالفعل من سرقة الشعلة المقدسة، وأضاءها في بيته المظلم، الذي تحاصر رائحة العطن كل أركانه، تفجر كل شيء وأحترق البيت، وتمكن الدود من الفرار بأعجوبة، حيث ظل يقيم في كهف أشدّ ظُلمّة من ليالي الخوف الطويلة، لا يبعد كثيرا عن جبل كارناسي المقدس، الذي لم يكن أحد يعلم أن به كهفا-وقتها- أو أن هذا الكهف هو "الوكر" السِّرِّي الآمن للشايب الجنزير التقيل وأعوانه من المشردين..

شيئا فشيئا بدأ مطاليق الدود يتجمعون ويخططون مع بعضهم البعض للإنقلاب على العرش، بعد أن دبت الفتنة في مجلس السلطان وعصفت به فانقسم مطاليقه، بعد أن لفظتهم خشوم بيوتهم.. وشيئا فشيئا بدأوا ينسحبون من مجلس السلطان ومقرات خدمة المملكة،  ليلتفون حول الدود كقائد مطلق لنزواتهم وجرائمهم وجرائرهم، يتبعهم مطاليق الوادي الذين جاءوا من قِبَلْ الوادي الأربعة..

في تلك الظهيرة الغائظة، التي أعلن فيها المطاليق، ولائهم التام للدود أبوحجل خصوصا المطلوق أبو الدرداق، خرج الشايب الجنزير التقيل من داره. لم يسلك الطريق المؤدي إلى الساحة، التي تتوسط بندر الوادي، بل مضى بإتجاه درب معوّج،  رصف بالحجارة الصغيرة، تراصت على جانبيه أشجار القمبيل، وعلى مبعدة منه كانت تبدأ سلسلة بيوت أعضاء مجلس السلطان الحجرية العالية. المحاطة بالأسوار، حتى لتبدو كقلعة واحدة ممتدة وكبيرة..

ثمة أبقار على الجانب الآخر ترعى "العنكوليب" و"العدار" بهدوء ودعة، خَلّيَة البال من الغموض والحذر، الذي يلف الوادي.. ووراء الأفق كان جبل كارناسي يلوح شامخا، كطود يقاوم تلاعب موجات الزّمان.

تسرب الجنزير التقيل شعور مبهم، فهزّ رأسه وواصل مسيره. كان راعش النظرات.. واجف القلب وساهم العقل. إلى أن وصل إلى جبل كارناسي، وعبر إلى حيث الكهف القُبابي الملتصق بجذوع الجبل، حيث يعمل المشردون الذين يعتني بهم وقطع الشك،على نحت معبد في الصخر..

كان المشردون وقتها قد أنهوا نحت المعبد، فبدى جبل كارناسي من الخارج، كأنه جبلان، ينفصلان عند الجزع ويلتقيان عند قُبة الكهف، الذي قاموا بتوسعته من الداخل على نحو سباعي.. لم يكن قد تبقى سوى نحت مدخله المتقوِّس الصغِّير، ليبدأ الجنزير التقيل بعدها، في رسوماته ونقوشه، يعاونه الأطفال المشردون. تفحص الجنزير جدران المعبد، وتحسسها بيديه.

كان المشردون ملتفون حوله، يتأملونه في دهشة، فللمرّة الأولى ينتبهون أنه أصبح أكثر ضآلة، وظهره أصبح أكثر تقوسا وإنحناء. كان الجنزير قد تقدم في السن فجأة، على نحو باغتهم جميعا. لأول مرة يلحظون الشيب الكثيف  الذي غزا شعره بلا هوادة.

كان الطريق المفضي إلى المعبد، محاط بالكثير من شوك "الضريسة والحسكنيت" والجروف الصّخرية، التي إشتملت على كهوف صغيرة وجحور، نسج العنكبوت على مداخلها خيوطه، وأقامت فيها "القمارِّي" أعشاشها..

خلف هذه الجروف تمدد السهل الواسع الخصب، الذي شكلّت فيه أشجار القمبيل، دغلا يلقي بظلاله على مدخل المعبد من بعيد. كان الجنزير ينتبه لكل ذلك للمرّة الأولى. كأنه يرى لأول مرّة هذه الطبيعة الغريبة، حول جبل كارناسي، بما تضفيه على الجبل من رهبة وغموض. كان الجو حول جبل كارناسي إذن غامضا غموض الأحاسيس، التي ظلت تهيمن عليه منذِّرَّة بقرب النهاية الوشيكة للوادي الحزين.

كان الجنزير منذ الرحيل المأساوي لقطع الشك، وسرقة الدود لشعلة المعرفة المقدسة، قد فقد الأمل تماما حول الماضي والحاضر.. فقد ظل يحلم كل ليلة منذ عشرات السنوات، وظل الحاضرعلى الدوام يكذِّب أحلامه الوديعة، فالطيبين والصالحين في وادي الذهب، ظلوا يغادرون هكذا فجأة، دون تهيئة أو مقدمات.. دون مواعيد. فقط يختفون على نحو مباغت، دون سابق إنذار، أو يعثر الأهالي على جثثهم طافية على سطح ماء النهر!.. أخذت عيناه تترقرقان بدموع هي مزيج من  المرارة والحموضة اللاسعة..

مسح الجنزير على جدار المعبد برفق، ووضع "منقاشه"  لينقش أولى الحكايا عن المطاليق، الذين كانوا يسممون الحفاير والآبار والترع، ويسرقون الأبقار ويجامعون بعضهم البعض، وينشرون المؤامرات والدسائس، ويبثون الشائعات ويختطفون فتيات الوادي العذراوات ليتعاقبون على إغتصابهن، بعد أن يغتصبهن  الدود أبوحجل أولاً..

VIII

عند قوز الدُّخن في تلك الأمسية الهادئة، إلتقت الجميلة سوميت، الشايب جقندي للمرّة الأولى. كان قد قدم للتو في قوافل قومه "المرَّاحِيْلْ" الذين لم يلبثوا سوى يوما أو بعض يوم، تركوه بعدها خلفهم ومضوا في رحلتهم الأبدية.

شعرت "سوميت" بقوّة خفيَّة تدفعها دفعا إليه، حاولت مقاومتها للحظات ففشلت، وأخذت تدنو منه في بطء شديد، أخذت تسير تجاهه كالتي يأخذها "حمار النوم"، بينما كان هو يتفحصها بعينين هادئتين، خابيتين كعينا صقر عجوز. بدت له في ملامحها المرتخية، دافئة القلب، بشعرها الأجعد القصير، الذي مشطته في جدائل كبيرة إلى الخلف، وجلابيتها القصيرة كجلابيب الأطفال، حتى ليكاد يرى طرف "كنفوسها"..

كانت سوميت ذات عينان بنيتان، شاحبتان، أما بطة ساقها أو الجزء ما بين الكعب وتجويف الركبة من الخلف، فقد بدى أبنوسيا صقيلا ولامعا وقويا وجميلا جدا..

الشايب جقندي خلال عمره المديد، لم يشعر يوما بقلبه يخفق لإمرأة قط، سوى "البِنَيَة" الجميلة كاكا، فمنذ طفولته الباكرة كان دائما يشعر بنفسه مختلفا عن الآخرين، ومع ذلك ترك الأمور تجري على عواهنها. تعرّف على كثيرات خلال ترحاله المستمر: ريفيات، بائعات في أسواق "أم دورور" أو طرق القوافل والدواب، حضريات عاملات في دواوين السلاطين. نساء متزوجات أو لم يسبق لهن الزواج. فتيات جدد ربما يلتقيهن مصادفة، وربما تقصدن لقاءه. لكنه لم يسعى أبدا للتعرف عليهن، إلى أن ألقى رحاله بوادي الذهب، وتعرف على "سوميت"، التي في سن أحفاده لو كان متزوجا. كانت تجيئه في العصارّى تدهم عزلته. تجلس بمواجهته، لتسمع تعاليم "الروح العظيمة" وحكايا الأسلاف الغابرين.. فلا تشعر بالزّمن، عندما يعلن مساء الوادي الموحش مقدمه الكئيب.

كانا يتحدثان حول مواضيع مختلفة، وهما يدخنان "الكدوس" و"يسفان التمباك" وربما يشربان قليلا من "البقو".. لم تكن سوميت من ذلك النوع من الفتيات المغرمات بالأحاديث الأنثوية الناعمة، كانت في داخلها تتفجر بطاقة عظيمة، تطمح لتغيير الوادي والناس والأشياء. تحاول هدم كل شيء لتبنيه من جديد..

 كانت دائما منشغلة بأحوال الوادي، تلهمها رسالة الشايب جقندي، وتغذي فيها إرادة التغيير. وكان أن تفتق ذهنها عن الإعتناء بالمشردين، فقد أوحى لها جقندي بما أوحى عن المشردين وبنت ود المنا والشايب الجنزر التقل، فالتقطت القفاز، وأخذت توظف طاقاتهم لما يخدمهم ويخدم الأهالي البسطاء، تماما كما فعل الجنزير وقطع الشك وبنت ود المنا وعمسيب قبل عشرات السنوات..

إلتف الأهالي حول سوميت والمشردين، الذين كانوا قد شيدوا بمساعدة سوميت وجقندي دارا كبيرة من صخور جبل كارناسي. وأخذوا يمضون في الصباحات الباكرة لمساعدة الأهالي في "نفير" الحصاد، ليأتوا بعدها.. يجلسون في "خلوّة" جقندي، يتلقون علوم الأولين والآخرين. وكانت أفكار سوميت وجقندي تجاههم تكبر، وكانت أفكارهم هم ذاتهم تكبر، إلى أن عبرت عن نفسها في تلك الشعارات الثورية الأنيقة، التي نحتوها على الجدر الخارجية لبيوت أهالي البندر، تعارض  السلطان ومطاليقه.

كانوا يحلمون بوادي آخر غير هذا الوادي الغارق في مأساته الوجودية المحيرّة.. وادي وادع كالذي أبدعه "الروح العظيمة" في البدء. فوادي الذهب بالنسبة لهم كان هو المكان الأليف، الذي إختاره الخالق "لعِيَاِلِهِ" بسهوله الممتدة التي يتوسطها جبل كارناسي بمهابة وشموخ، حيث القمارِّي تشنف مسام الفضاء الرحيب، وحيث تنتقل الأغنيات وأصداؤها إلى السماء البعيدة، موطن "الروح العظيمة".

الجبال المتفرِّقة تحيط وادي الذهب كأسورة على جانبي النهر، الذي يشق الوادي إلى نصفين. هذا النٍّهر الذي يتغذَّى من الأمطار الغزِّيرة، التي تحملها وديان "قلول" و"خيران ساورا" إلى سهول "قبانيت" وغابات مارتجلو الواسعة، إلى أقصى دار الرِّيح والسافل ودار صباح، متخللة أشجار الحرَّاز والأراك، وكذلك النخيل والدوم والتبلدي والدليب والسِّدِرْ والهِجْلِيْجْ والعرديب، والأشجار الأخرى غير المثمرة، التي راجت بسببها تجارة الأخشاب والأثاثات والأدوية ومستحضرات التجميل، إذ ليس الأشجار وحدها ك"القرض" ما يميز وادي الذهب، بل أعشاب السناسنا والمحرِّيب واليانسون، وجذور السِّعْدَّة الجرفية. والأعشاب والجذّور الأخرى النادرة، التي تنتشر في كل مكان: "قَيْفْ" النّهر، ضفاف الوديان والخيران والحفائر والتُرّع، والسهول ماوراء النّهر في صعوده..

إختار "الروح العظيمة" هذا المكان ل"عِيَاِلِهِ" بعناية فائقة، أراد لهم هذه الغّابَة الكثيفة من الشجر، الذي تختبيء خلفه حتى الجبال الشاهقة، أن تكون ملاذا وحضنا دافئا، تلجأ إليه حتى الطيور الهاربة من جور الطبيعة، وغضب الطقس.. تلجأ إليه من مشارق الأرض ومغاربها، بألوانها وأشكالها وأحجامها المختلفة، لتوحد أنغامها في نغم واحد يخلخل فضاء "الوازا" العريض، ويقض مضجع "الربابات والدلاليك وأم كيكي"..

نغم واحد، متوحد ووحيد، تطرب له كواسر الغابات والجبال، والزواحف والقرود والغزلان و"جِدَادْ" الخلا، فيتحول كل ما هو كاسر وقاتل، إلى أليف ووديع، مسحورا بهذه الموسيقى المحملّة بروح السماوات البعيدة..

هكذا كان المشردون يتصوّرون وادي الذهب، الذي تضخمت مياه نهره، بفعل الأمطار الغزيرة في "أقصى الصعيد ودار صباح" حيث المنابع الإلهية الغامضة، التي تتدفق من أعالي الهضاب، إلى الوديان العميقة، وحيث الشلالات الهادرة، التي تتوحد مياهها في مجرى النّهر، الذي يتفرع ليتوحد. ويتوحد ليتفرع، فيسمع المزارعين والرعاة "جَلبغة" الماء الذي يحمل "عُشبة معونة النيل" ونباتات المستنقعات الضحلة، في إحتكاكها بالزّبد والرّغوة كنغمٍ مهيب.

ففي وادي الذهب تنتهي الحياة.. لتبدأ مرة أخرى من جديد.. في طمِّي النّهر وفيضاناته، التي تطفيء حرائق كل لعنات التاريخ القديمة والجديدة، حيث تنطبع صورة الطبيعة على جدار الذاكرة، سرمدية كالأزل..

ربما يختفي وادي الذهب حينا من الدهر، ولكن النّهر الذي يشقه نصفين دائما يبقى خالدا، إلى أبد الآبدين، ليلهم الأقوام الجدد الذين يتعاقبون على وراثة الوادي، الحكايات الأزلية، التي تتضمن تفاصيل ما كان وما سيكون، فوادي الذهب كالعنقاء يخرج من الموت ليحيا من جديد، أشد فتوة وصبا.. يتجدد في رماد الحرائق التي دائما يشعلها المطاليق عبر التاريخ..

فالأهالي الذين قضى عليهم التنين والخرتيت والعنقاء في الدمار الثاني، قبل عشرات السنوات، إثر سرقة الدود أبوحجل لشعلة المعرفة، وإغتصاب وقتل البِنَيَة الجميلة قطع الشك. تهيمن على أحفاد الناجين منهم عقيدة قوية، تتمثل في أن "هذا المكان خلق للتجدد الدائم الذي لا ينتهي، فهو ليس وعاء لوحدة أهالي الوادي فحسب، بل هو نواة لوحدة الجنس البشري مرة أخرى، كما أراد "الروح العظيمة" في البدء" وهو ما ظل التاريخ يثبته عبر حيله وطرقه الغامضة، فبعد عشرات السنوات من كل خراب، يعود أحفاد الناجون مرة أخرى لتعمير الوادي، بكل ما أكتسبوه من خبرات ومعارف في ترحالهم الأبدي، تعينهم ذاكرة الأسلاف المتناقلة عبر الأجيال، للبداية من جديد.

على وادي الذهب تعاقب أقوام وأقوام، بدءً بسكان أطلانتيس الذين أدمنو عشق العلوم، فالأغاريق الذين تتيموا بالتجارة.. وإنتهاء بالألبان والمصريين والمستعربين من سكان الشرق السعيد، الذين تفتقت مواهبهم عن تجارة الرقيق. دائما يتوافد الناس من كل مكان إلى وادي الذهب، حينا كتجار وحينا كمبشرين بالديانات والعقائد والمعتقدات، وحينا آخر كغزاة ومحتلين أو مطاليق من سدّنة السلطان..

ولطالما عشق أهالي الوادي موسيقى "الوازا" و"الربابة" و"أم كيكي" و"الدلوكة"، في مناسباتهم المختلفة، سواء التي ترتبط بالحصاد أو الأفراح الإجتماعية والمناسبات السعيدة، أوحتى في أحزانهم المنسية، وطقوسهم الروحية التي "يجدعون فيها النّار"..

في وادي الذهب تصدح الموسيقى في كل الأوقات والأماكن، تؤجج حلقات الرقص الجماعي، في كرنفالات غائرة في قلب طفولة الإنسان وجراحاته الأزلية. فالموسيقى التي في الدروب والطرقات والشوارع، تمتزج في خرير الجداول وحفيف النّال والنباتات الشائكة المزهرة وغير المزهرة، التي تلونها بمذاق خاص، يتوحد مع موسيقى الطيور، التي يطرب لها حتى الحجر والشجر، والأرض القردود المخددة بالشقوق.

أهالي الوادي ورثوا عن أسلافهم زراعة "أم بحتي"، في المغمورات والمنخفضات في "جرتتي وتمبسكو"، فهم يزرعون قريبا من مساكنهم"جبراكات" وبعيدا عنها "حواشات".  لكن الحبوب والبذور والموالح و"القُوّارْ" والمحاصيل النّادرة الأخرى، في عالم تهدده المجاعات، فتحت شهية الشركات المصرية والصينية والماليزية وغيرها. أصبحت كاللعنة على الوادي بسبب التقاطر عليه من كل فجاج الأرض، وتحميله فوق طاقته، كوادي رغم ثراءه منهار تنمويا! فالأهالي بحكم ريفيتهم لا يستطيعون حصاد محاصيلهم الغنية كلها، لذا يتركون معظمها طعاما للطيور والمواشي، التي هي حيوانات مقدسة "خصوصا الأبقار"، التي لا يستثمرونها لإرتباطها بمواقعهم في المجتمع. وأوضاعهم الإعتبارية في تراتبية السلطنة!..

ومثلما أعطى وادي الذهب سكانه الخيرات، التي على سطحه.  لم يبخل عليهم بما في باطنه من إحتياطيات جوفية، بدء بالماء وإنتهاء بالمعادن والغازات، التي لم يستفيدوا من أي منها، فهم لا يعدنون سوى الذهب بوسائلهم البدائية.

IX

منذ تناهت إلى مسامع الشايب "الجنزير التقيل"، أغنيات المطلوق الدود أبوحجل، وقصائده الطوال، التي جسدت تلك اللحظات الدامية، المخيفة لمقتل قطع الشك.. مضى ينذر الأهالي من الخراب والدمار القادم، عقابا لهم لأنهم صموا آذانهم عن الخطايا والفساد وصمتوا، وقتها كان "الروح العظيمة" قد أنهى خلق التنين والخرتيت والعنقاء..

وفي المحاولات الدؤوبة للجنزير التقيل، في إيجاد تفسير لسلوك الدود أبو حجل والمطاليق، ظلت أفكاره تلف وتدور حول فكرة محددة، تتمثل في أن السلطان وبطانته، يفتقرون لذلك التوازن الدقيق، في كيمياء أجسامهم وإحساساهم بالآخرين والطبيعة حولهم، ما يجعلهم ليسوا ثقلاء لا دم لهم فحسب، بل ومضادين لفكرة المجتمع الموحد.. حول فكرة وادي الذهب كوطن يسع الجميع..

ومع ذلك كان قلقا بشأنهم، إذ كانوا بنظره مخلوقات ضعيفة، بائسة ويائسة من رحمة "الروح العظيمة"وسعة صدره، التي بإمكانها أن تحتمل كل شيء. وفي الواقع كانت هذه الفكرة لا تهيمن عليه فقط، بل تزيد من حجم الشكوك داخله، في قدرة هؤلاء البؤساء اليائسين، الذين لا أمل لهم على الصمود، إذا ما تمت تعريتهم ومواجهتهم بأمراضهم غير الطبيعية المستفحلة، التي لا يمكن لأي محاليل أو أعشاب أو "محايات أو بخرات أو حجبات" من تخفيف أدوائها أو أعراضها، بحيث ليس من ثمة حل، سوى التخلص منهم نهائيا، وإلى الأبد ليرقدوا في نيران الحياة الآخرة دون سلام أو سكينة، تؤرقهم اللعنات الأبدية.

لكنه يخشى في هذه الحالة، تحولهم إلى ذكريات؟! فالذكريات طبيعتها الصمود بوجه عوامل تعرية أو تبديد الذاكرة، ومقاومة النسيان، بالتالي ربما يلهمون آخرين لديهم القابلية لنفس الأدواء البائدة، التي قد تؤدي إلى سلسلة من التغييرات تعتري مواقفهم ممن يعارضونهم، ومن فكرة وحدة وادي الذهب كموطن للجميع.. خصوصا الأهالي الذين رغم بساطة غالبيتهم، بإمكانهم أن يروا بوضوح: كم الألم والعذاب والشقاء، الذي يغلف الوادي، بسبب سياسات السلطان ومطاليقه. وبسبب أرواحهم العليلة البائسة، التي يمكن لأي كان إكتشافها بنظرة عابرة، مهما تضاءلت قدراته أو كان في عجلة من أمره، والتي لا يمكن شفائها!..

أنهم يمارسون ويعانون شقاءهم الأبدي.. كوابيسهم الوجودية، لأنهم يفتقرون للأمل، ويعوزهم بالتالي الإحساس بالتفاؤل والحرية.. بالتالي إرادة الحياة الطبيعية، بعد أن تمكن منهم الإنحراف والفساد والجنون المزمن، الذي حوّل أي شيء جميل يمكن أن يولد داخلهم، إلى "هبود" أو "سكن" أو "هباب"، كهباب شرار "الأندراب"..

والآن عندما يختلي الشايب جقندي بنفسه، بعد عشرات السنوات، ليستعيد تأملات جده الأكبر الشايب الجنزير التقيل، ويتأمل سيرته وسيرة ما مضى، لا يملك سوى أن يقول أن: التاريخ يعيد نفسه بطرق وحيل ملتوية! فمثلما أغتصب المطاليق قطع الشك وقتلوها، ها هم أحفادهم الآن يغتصبون سوميت ويقتلونها!..

X

فبعد أن خطب الشايب جقندي في الأهالي، يحرضهم ويعبئهم ويحذرهم، وقام المشردون بتهريبه وتأمينه بعيدا عن عيون المطاليق، تمكنوا بعدها في صبيحة اليوم التالي، الذي سلم فيه المطاليق جثمان سوميت للأهالي، من حشد الأهالي الذين تجمهروا بشكل مفاجيء وغير مسبوق، أمام قلعة السلطان، التي كانت موصدة الأبواب، ومحاطة من كل الجهات بالمتاريس، التي صنعت من أشجار الطلح والكِتِرْ والهشاب والسِّدِّرْ الشوكية..

كانت أصوات الأهالي المسلحين بالحجارة و "السفاريك"، تتعالى مستنكرة ما حدث، وهم يحاولون إختراق المتاريس، التي إنتشر المطاليق خلفها "بشوتالاتهم" وحرابهم و"نشاباتهم" وسيوفهم المعقوفة.  في البدء تراجعوا أمام حجارة وسفاريك الأهالي التي أخذت تهطل من كل مكان. ثم بدأو بعد ذلك يطلقون الحراب والسهام، فأخذ الأهالي يتراجعون، بعد أن وقعت إصابات قاتلة عديدة في صفوفهم.

في اليوم التالي كانت حالة الهرج والمرج، التي سادت بندر الوادي، قد إنقشعت وتبددت تماما، كأن شيئا لم يكن. وكان المطاليق وقتها قد إنتشروا في الشوارع والدروب، يداهمون بيوت الأهالي العزل، حتى لم يعد ثمة كهف أو سرداب في بندر الوادي، لم يمتليء عن آخره بالمعتقلين الواقعين تحت تأثير التعذيب. الذين لأيام عديدة ظلت صرخاتهم تخترق الكهوف والسراديب المعتمة، لتملأ بأنينها الملتاع فضاء الوادي، الذي توشح بالوحشة والكآبة. لقد كان الشايب الجنزير التقيل ومن بعده جقندي محقان تماما في إعتقاداتهما حول المطاليق، ذوي الرؤوس المتعفنة التي تمتليء بصديد الكراهية والأحقاد والضغائن..

وليس من المصادفة أن يكون من بعض الأهالي العاديين مطاليق، يعذبون ربما جيرانهم في "الحلة" أو يقتلونهم.. ليس من المصادفة أن يجند المطاليق بعض الخونة من أوساط الأهالي، الذين بالإمكان أن تجدهم في أي مكان "لشدة عاديتهم"، فدائما ما يبدو عليهم أن "لا ناقة ولا جمل لهم فيما يجري"، بينما هم الناقة والجمل ذات نفسيهما!..

إختراق المطاليق للأهالي بتجنيد بعض الناس العاديين والبسطاء، ساهم في نشر أفكارهم العنصرية الهدّامة التي يعتقد فيها السلطان وبطانته، هذه الأفكار المستمدة من قصائد الدود التي عُثر عليها في معبد كهف كارناسي المقدس.. أخذت هذه الأفكار البغيضة تنتشر في الوادي إنتشار النار في الهشيم، إلى الحد الذي قررت فيه حاضرة الصعيد ودار الريح  ودار صباح، وحواضر أخرى،الإنفصال تماما عن وادي الذهب، وبناء سلطناتهم المستقلة؟!..

فالبسطاء الذين جندهم المطاليق، كانوا أشد خطرا من المطاليق أنفسهم، فالمطاليق معروفون ولكن هؤلاء يعملون لحساب المطاليق خفية؟!. يقومون بما يطلبه منهم المطاليق. يرشدون عن أماكن تواجد المشردين، الذين كانت تقودهم سوميت، والتي كانت تعمل في سرية تامة، وياتون بأخبار الشايب جقندي وكل من يلتقيه من الأهالي. بل كانوا يزورون المعتقلات ملثمين ليصنفوا مدى خطورة هذا أو ذاك. أو يشاركون في التعذيب والإغتصاب والقتل إذا لزم الأمر. يفعلون كل ذلك دون أن يفهموا حقيقة نفوسهم المتهرئة، التي تفتقر للضمير، ودون أن يفهموا حقيقة ما يجري حولهم في الوادي، فقد تركوا لأكاذيب السلطان وبطانته من المطاليق، أن "تعشعش" في رؤوسهم المتعفنة ووجداناتهم الخربة، دون أن يتريثوا ليدركوا حقيقة كون أن كل ما لُقنوه، لا علاقة له بالعِرق أو القداسة أو رسائل السماء، فما لقنوه لا يتعدى كونه محض أكاذيب وهراءات وأوهام بغيضة!..

لذلك عندما يختلي الشايب جقندي بنفسه، أول ما "يطفر" إلى سطح ذاكرته هو تلك الليلة البعيدة، شديدة الحلكة، من ليال صيف غابر، فيشعر بقشعريرة تسري في جسده كله، فينتفض كفرخ طائر بللته مياه المطر، وتنتابه حالة من الهذيان والإرتعاش، فيهتز كالمقرور الذي يقف على أهداب"صرعة" تعصف بأوصاله الناحلة، التي هدّتها سنوات الترحال والتجوال، فيتصبب جسمه بعرق غزير يروي الأرض القردود، التي أنهكتها ظهيرات الصيف "القيطوني" الحارقة، بحرّها السموم.. أنه الصيف إذن ما يشعل في النفس الذكريات البعيدة..

ففي أمسيات الصيف المتقلبة، عادة ما يختلي جقندي آخر أحفاد الجنزير التقيل، الناجين من الدّمار الأول بنفسه، فتستعيد ذاكرته وقائع وأحداث منصرمة، بحساسية المشردون الذين نقشوا على جدران معبد جبل كارناسي، أياقينهم المضادة للنسيان والتلّف..

ظل جقندي طوال عمره يحلم بوادي آخر للذهب. وادي أجمل، يعشق ناسه الحياة.. وادي بإستطاعته نسيان الحروب والإنقسامات والتشظي وحكاية الدود أبوحجل وقطع الشك. وتكرار قصة الناجين من الحروبات، التي تدمر المكان والناس والأشياء والذاكرة، وكل العواطف والمشاعر الإنسانية النبيلة.

ظلت ذاكرة جقندي المتقدّة نفسها تقاوم النسيان بعد مقتل سوميت.. نسيان الأحقاد والضغائن والصلف والغرور، الذي لطالما جابه به المطاليق الأهالي البسطاء، الذين لا حيلة ولا حول ولا قوة لهم!هذه الصفات التي لطالما توقعوا عبر تاريخ أسلافهم المديد، منذ أطلقوا على يوم الهزيمةإسم"الإستقلال" إندثارها.. فلم تندثر بل تولدت عنها صفات أخرى أشد مقتا وسوءاً..

والآن، وبعد كل هذه السنوات.. تم إغتيال بذرة الحلم، وروح والتفاؤل والأمل نهائيا، بل تم تقطيع أوصالها والتمثيل بجسدها، حتى لا تقوم لها قائمة مرة أخرى، فإستحال وادي الذهب إلى مكان لا يصلح للعيش البشري.. مكان مشبع بالخوف والقمع والدّم والدموع.. مكان ثرواته المتنوعة محض ريع للسلطان وبطانته.. للمطاليق.. الذين يديرونه على هواهم..

كم يلزمهم من الوقت ليعرفوا كيف يحبون بعضهم البعض ويعشقون الحياة. كم يلزمهم من وقت ليكفوا عن إيذاء بعضهم وإيذاء الأهالي. أنهم يغتالون"هُوِّيتهم".. ذكرياتهم.. ذّاكرة أسلافهم..

XI

مسح الشايب جقندي من على وجهه حبات العرق المتفصد. كان الماضي كل الماضي يتقدم لينغرس في ملامح وجهه، فتنكفيء عيناه المتعبتان على طيوف التاريخ، لتغسله من خطاياه الرهيبة.. تفتحه على قلوب الأهالي الطيبين: راعشا كنبض الحب، ودافئا كطقس "جدع النار".. مؤرقا كالحنين.. وغزيرا كمطر "العِيْنّة" في تلك الليلة البعيدة، التي إحترق فيها وادي الذهب، وتحوّل لكتلة من اللهب الكلي، الذي يتغذّى من دماء قطع الشك. كانت ألسنة اللهب ترفرف عالية، وأشجار القمبيل والقنا و"قش النَّال" تتحول إلى "هَبود" دامي..

نعم، غزيرا كمطر"العينة" في تلك الليلة التي في رحم الغيب، التي لا محالة ستأتي لتغسل عار المطاليق وهم يدسون مزيدا من السم للأطفال المشردين:

""لكنهم لم يموتوا!

أسر الشايب جقندي لنفسه.

كان الأطفال المشردون قد فقدوا عائلاتهم في حروب العشيرة الملكية، ضد بطون وأفخاذ  وعشائر الوادي، ففقدو دفء الأسرة والمأوى، وأفترشوا الطرقات الكئيبة، الخارجة لتوها من الحروبات والإنقسامات الداخلية، لتتهيأ لحروبات وإنقسامات جديدة. كانوا يعانون الجوع والحرمان، وبكل الإنهاك الذي إعتراهم، دفعهم يقين خفي،غامض لإعتقاد كاذب بأنهم يوما ما سيحصلون على طعام شهي، عندما جاءهم المطاليق في غمرة هذا اليقين المضلل، ودعوهم لوليمة فاخرة، في تلك الأمسية المتفردة بظلمتها المبكرة، وبعد أن غادروا الوليمة بوقت ليس قصير، بدأوا يتساقطون موتى واحدا تلو الآخر، على الممرات الطينية الضيقة، التي تشق  وادي الذهب طولا وعرضا..

همهم الشايب جقندي وهو يسر لنفسه:

"يظنون أنها الوسيلة المثلى للتخلص منهم!، في الحقيقة  التخلص من سؤتهم هم، لكنهم لم يقتلوهم.. لم يموتوا فقد كسروا حاجز الصمت.. قتلهم: كسر ضهر السلطان ومطاليقه كسرا لا ينجبر"..

وبالفعل كان الوادي وقتها يتململ.. بكل غموض جراحاته، نازفا في خوفه وهلعه، مرتاعا من فكرة"التفتيش"في دواخل سكانه المنهوبين، الذين لطالما صموا آذانهم وأغلقوا عليهم أبواب بيوتهم، بعد أن أغلقوا عيونهم وأفواههم، وفتحوا كل الغرف المغلقة لكوابيس المطاليق.. قبلها كان جقندي مشبعا بالخيبة، وهو يحمل رسالة "الجنزير التقيل"، التي لا يريد أحد سماعها.. كان يحملها كتهمة أو لعنة أزلية.. حملها وحده وقرر المغادرة إلى السهل الفسيح، في أطراف الوادي. لم يكن ثمة خيار أمامه سوى الرحيل، فمنذ تعرض الأهالي لكل ذاك القمع والتقتيل، الذي سبق وتلى مقتل "سوميت" أغلقت كل الأبواب بوجهه.

مضى دون أن يأبه للأهالي الذين جعلهم الخوف من بطش المطاليق، يتراجعون عن فتح أبوابهم المغلقة كي تضيء النار المقدسة بيوتهم.. كانوا يخشون "شعلة المعرفة"، وربما يتصورون"محقين" أنها قد تحرقهم  وتحرق بيوتهم، كما فعلت ببيت الدود أبو حجل قبل عشرات السنوات..

كان الدود أبو حجل الجد الأكبر لأبو شوتال، المغرّم بتقطيع الأوصال، عندما يخلد للنوم يظل يفكر في"قطع الشك" وما بين فخذيه ينتفخ، حتى ليكاد يتفجر مع تصاعد النبضات المتسارعة، في كل عروق جسمه، لكنه كان يجهل تماما ما عليه القيام به. بعد ذلك يغوص في نوم عميق، فتدهم قطع الشك أحلامه: يرى نفسه يحاول رؤيتها.. تخرج إليه متلفعة بشفق المغيب، تتبعثر الكلمات في فمه. تدهشه هالة الضوء التي تكلل رأسها، تنعكس على وجهه، تبدد قتامة المكان والعباءة السوداء، فيلوح جسدها خلف ستار رقيق شفاف يرى خلاله كل شيء، حتى الأرض الموحشة المقفرة، خلف دارها المتدثرة في صمت وعزلة الوادي، فلا يجد شيئا ليقوله لها، فينسحب، وعندما يفيق يجد نفسه مبتلا بللا غزيرا. منذها قرر سرقة شعلة المعرفة. ليهرب فيما بعد إلى السهول الواسعة.

هذه السهول التي يهرب إليها جقندي الآن، مختليا بنفسه عندما تتناهشه الهموم.. حيث لا تصل إلى مسامعه في السهل الممتد الأصوات العالية للأطفال، وهم يلعبون "الشليل" على ضوء القمر، أو يركضون خلف "المرافعين" عندما تغطي سحابة هاربة، كتلك السحب التي أغتصبت قطع الشك في ظلمتها، بعيدا عن البدر المنير وحفيف سبيط النخل، أو أنين السواقي التي كانت لا تزال تجهش بالبكاء الحار، الذي يثير أشجان الأرض، ويشعل فيها اللهفة بكل ظمأ الجفاف والقحط الأزليين للحنان الدفاق. أرض "الروح العظيمة" الواسعة، التي خلقها لِعِيَاِلِهِ الرُّحَلْ، الذين خلفوا الشايب جقندي وراءهم لعدةمواسم تلبية لرغبته في إيصال رسالة "الجنزير التقيل"، إلى هذا العالم الكئيب والحزين حد الفوضى

والجنون..

الروح العظيمة الآن غاضب جدا على عِيَالِهِ، غضبا أشد من غضبه في ذلك الوقت السحيق، إثر إغتصاب الدود لقطع الشك. كان غاضبا من النزاعات حول أرض الذهب، وإنقسام الناس دون سبب. وكان جقندي لكل ذلك حزينا جدا.. كان مرتاعا ومروعا، يشعر بأن ثمة كارثة تلوح في أفق الوادي الحزين، فقرر الرحيل لا يمنعه شيء، سوى إنتظار عودة قومه المراحيل، الذين كانوا وقتها يعبرون شوك القتاد، لا يأبهون لزفيف رياح الخماسين.. أو عجاج القبلي، ولا يتجنبون في مسيرهم مسارات الرعي، و"هبوب العِيْنَة" البعيدة، وهي تبشرهم بخرائف مثمرة، ومطر يغسل غباش الأرض.. والريح.. ريح "الهبباي" الرطبة التي تلسع الوجه والقفا.. لم يكن ثمة شيء بإمكانه إيقافهم.. يثنيهم أو يعوق مسيرهم: لا البرق "العبادي" ولا أعاصير الشيطان..

مضوا في رحلتهم الأبدية، من أقصى السافل إلى أقصى الصعيد، ومن أقصى الصعيد إلى أقصى دار الريح. وهاهم الآن في طريقهم إلى دارصباح، يغذّون المسير بإتجاه النّهر، الذي لطالما عبروا إلى منبعه، وهم يحيوّن أسراب الأوز والعصافير البريئة..

هكذا يعاودون ترحالهم الأبدي، من أقصى دار صباح إلى أقصى دار الريح، حيث لا نهر يعومون فيه سوى تلك الوديان، التي يغتسلون من "مشيشها وجمامها"، كما تغتسل غزالات وادي الذهب والصبايا العذراوات..

يظلون يتغنون ب"القش والسعية" وخرير "السباليق" في المدن القديمة المنسية، ببيوتها الواطئة التي يمرون بها في طريقهم. فلا يخلو غنائهم العذب الأسيان، من حزن مقيم على ضياع الوادي، الذي تجيء بأخباره المراسيل، التي تؤكد أنه يوشك على نهايته الفظيعة والمريعة..

وقتها كانت مسارات الرعي، والطرقات والدروب المؤدية إلى وادي الذهب، ملفوفة في الضباب الذي غلّف حتى الأبواب والشبابيك والأشجار، التي أمام البيوت. ووسم "وجويج" الطير و"قوقاي الحمام والقماري" بالألم، إذ تتسربه أغنية الدود وقطع الشك، في مناحة ملؤها الحزن والأسى واللوعة.. يتخللها طيف الجنزير التقيل، في كل شطر بكل عنفوان الجرح الأزلي، وهو يُودع حشرجاته الأخيرة: روح ريح الخماسين الضّارِية، التي تسكن الوادي. في محاولاتها الدؤوبة للإنعتاق والإفلات، إلى طريق يفضي إلى بلاد أخرى لا تعرف الخوف، ولا تشوبها شوائب الماضي الحزين، وفي محاولة أخيرة لبعثرة أسرار ظلال الحاضر، الذي تراكم عليه غبار الجشع والجبن والأحقاد، لتذروه في الفراغ اللانهائي. مسقط رأسه الأول، حيث الرّحم اليابس كغيمة عقيمة، لا تمطر سوى "العجاج والكتاحة" وعصار الشيطان والبروق الكاذبة.

لماذا هكذا هو وادي الذهب؟! كلما رغبت ريح الخماسين في تحريره، زاد تجبرا وجحودا ونكرانا.. كأنه لم يكن يوما تلك الفكرة الوادعة، التي كانت في خاطر "الروح العظيمة" يوما!

إذن إختلى جقندي بنفسه دون أن يأبه لتقلبات أمسيات الصيف، وهو يستعيد ذكرى خراب قديم: عندما رأى المطلوق الدود أبو حجل، الجميلة قطع الشك للمرة الأولى، عندما كانت تملأ "قِربتها" من الغدير..

لم يخطر على بال الدود قبلها أن"الروح العظيمة" من الممكن أن يخلق من هو أجمل منه، هو الذي لطالما أدمن تمعن صورة وجهه المنعكسة على سطح الماء، يتأمل جمال صورته ويتغنى بها، في القصائد التي يحملها العابرون إلى "مالحة" حيث وادي الملح في أقاصي دار الريح، لتعود عابرة حدود دنقلا العجوز وتمضي عبر حدود السافل، وتعود لتصعد مع النهر، تتخلل جبل "موية"، متجهة إلى حيث الهضاب العالية، حيث أودع الخالق الجبال والكهوف أسرار الحياة..

لكن طيف عينا قطع الشك الفاتنتان، يقمع الآن إفتتانه بنفسه. يلوح على سطح النهر مموجا وجهه، الذي يتبدد في الدوامات الصغيرة لعينيها. فيغضب الدود. يحاول إقتلاع عيني قطع الشك من صفحة الماء، الذي ما أن تتبدد دواماته المتموجة، حتى تعاود مرة أخرى تبديد صورته، فيشتد غضبه أكثر فأكثر..

وقطع الشك مولودة الحمام، التي تأكل لبن الطير من مناقير الحمام، كانت لا تمضي في الظهيرات الغائظة إلى أي مكان، إلا والحمام يتقدمها ويحفها بأجنحته، من حر الصيف "القيطوني والعجاج وشكشاكة" المطر، ولا يفارقها إلا عندما تتسحب الشمس، خلف الأفق الغربي البعيد، لتلفظ آخر أنفاسها وتتهشم في مقبرة الأتون الأزلي.

عندما كمن لها الدود في المرة الأولى،عند إحدى منعرجات الوادي، ذات ظهيرة غائظة، سارع الحمام لإخفائها عن عيون الدود المنحرفة.. لم يكن الدود يرى سوى الحمام.. حاول إختراق أسرابه.. حملها الحمام على أجنحته وطار بها بعيدا.. بعيدا طار بها الحمام.. إلى قلب بندر الوادي المحاصر بالجبال والسهول، وقتها كانت قطع الشك "بِنَيّة" صغيرة لم تكتمل أنوثتها بعد، فظل الدود أبوحجل يخطط ويدبر، والأيام والشهور تمضي ببطء، كأن كل شيء في الوادي قد توقف، دون أن تلوح له بارقة أمل للإنفراد بقطع الشك، إلى أن كانت تلك الليلة المظلمة، عندما خرجت قطع الشك دون أن يتبعها الحمام الغارق في الوسن..

عندما تستعيد سوميت الآن حكاية جدتها حجب النور، التي هربت في ذلك الزمان البعيد مع أحد الرُّحَلْ، عندما كان الوادي وقتها خارجا للتو من الجفاف والتصحر، الذي أهلك الزرع والضرع، ولم ينج فيه من الأهالي سوى القليلون،ممن تشبثوا في إستماتة بالحياة.. عندما تستعيد ذلك تترى على ذاكرتها صورة "حبوبتها" كاكا ووالدتها أم كوراك.. فتهيمن على خواطرها تلك العشّيات، التي كانت وأطفال الوادي يلتفون فيها حولهما لسماع الأحجيات..

كانت كاكا تتكيء في عنقريبها في قلب "الحوش"، بينما أم كوراك تجلس متحكرة على "البنبر" وحولهما الأطفال يفترشون "البرش" على الأرض، بعد أن تكون أم كوراك قد أوقدت النار بين "اللدايات"، وهي تتشبث بعباءتها السوداء، التي لا تظهر منها سوى عينيها الواسعتين.. وتبدأ "حبوبتها"  كاكا تحكي عن الرُّحل الذين تحن إليهم وعن الوادي العذاب وعن والدتها حجب النور، ثم تبكي كأنها تتذكر حبيبا بعيدا. لم تكن تحاول إخفاء دموعها أو تحاول مسحها بأصابعها المعروقة أبدا..

كانت سوميت فتاة مرحة وحيوية، قضت كل حياتها في الوادي. تعلمت من حياته القاسية الصبر، وأكتسبت مناعة ضد شقاوة الصبيان.. كانت كاكا تضفر لها شعرها الأجعد في جدائل كبيرة تشبكها إلى الخلف. لم تكن تخشى طيلة حياتها سوى شيئا واحدا: أن يختطفها المطاليق خفية، فلا يعرف مكانها أحد، فقد كانت فتيات كثيرات في مثل سنها  قد إختفين بطريقة غامضة، دون أن يعثر عليهن على أثر، فمن قائل أن المطاليق هم من إختطفوهن، ومن قائل أنهن هربن يتبعن رجلا من الرحل أحببنه، كما كانت جداتهن تفعلن.

كانت سوميت تختلف عن جدتها حجب النور، إختلافها عن قريناتها فيما يخص شأن القلب، إذ لم تحلم أبدا مثلهن بفارس يأتي على ظهر فرس أبيض، أو بعير من سلالة النوق العصافير، ليختطفها ويتنقل بها في مضارب الرُّحَلْ، من مكان إلى مكان. ولم يخطر على بالها أبدا أن تحط رحالها مع حبيب يقذف إليها برسن بعيره، لتربطه في شباكها العالي، وتتدلى إلى ظهر البعير، الذي يخب بهما الصحارى والوديان، إلى أن يصلا إلى شاطيء البحر الكبير، فيركبا مركبا أو "طوف" أحد الصيادين ويبحران عميقا، حيث جزيرة نائية. يعيشان فيها وحدهما لا يؤانسهما سوى كائنات البر والماء والطير..

لم تكن تحلم مثل هذه الأحلام أبدا. ولذلك لم يكن لديها تصورا محددا لفارس حياتها، الذي لم تفكر فيه على الإطلاق.. فقد كان كل تفكيرها منشغل بهذا البؤس، الذي ينضح في وجوه أهالي الوادي..

كان المشردون الذين أصبح جقندي وسوميت وست البنات وعاشميق يرعونهم، لا يقيمون في مكان واحد، فعاشميق الذي كان قد تجاوز سن المراهقة،وبإعتباره أكبر المشردون سنا، كان يقيم وحده، في طلل لبقايا دار قديمة، قرب "كِتراية أم مواكح"، التي توسطت "قوز المطيرق"، بإتجاه الطرف الغربي لبندر الوادي. بينما ست البنات المراهقة الصغيرة أقامت مع سوميت، وأقام أقرانها وقريناتها من الأطفال المشردين والمشردات، في مكانان:"حفاير المطاليق وأرض "المطمورة" المتجاورتان، قريبا من المدخل الجنوبي لبندر الوادي، حيث تنهض شجرة "التومات العجوز"..

في ذلك المساء البعيد وبعد أن أنهى المشردون بناء دارهم الكبيرة، التي سيعيشون فيها لأول مرة جميعا كأسرة واحدة، أشعل إكتمال بناءها خواطر عاشميق الدافئة، التي إنطلق عنانها  لا يلوي على شيء، وهو يرسم صورة زاهية لحياته المقبلة مع ست البنات، التي تدنف بها عشقا.. فأخذ يتخيل ذلك اليوم الذي، سيحصد فيه حواشته الكبيرة –التي لم يمتلكها بعد- والتي تتجاوز مساحتها الألف عود.. ويتزوج من ست البنات نوارة مشردات بندر الوادي.. التي يراها الآن تجلس على "البرش" وإخوتها المشردون"يكجرون" لها "الفركة"، بعد أن يزوجه جقندي إياها، ويسيرهما المشردون إلى النيل، ليغتسلان إتقاء لشر قطع الشك، التي تسكن قاعه، ليدخلان بعد "السيرة" إلى دارهما.. وقبل أن يخطيان بقدميهما اليمنتين باب دارهما، يلطخ المشردون بابها وجدرانها، بأكفهم التي غمسوها في دم الذبائح..

دارهما وحدهما التي سيملآنها بالأطفال.. أطفال يأخذونهم إلى النهر في "السبوع"، بعدها يعرجان على جقندي لينالوا بركته. قال لست البنات ذات مرة:

سأشتري لك أرضا كبيرة ، أكبر من "سهلة أم بطيخ ووادي الكليوة أم قجة".. نزرعها معا، وسأبني لك فيها دارا كبيرة.. أكبر من "جنقل" السلطان، يأوي إليها أطفالنا الذين سندفن كل "سررهم" في قلب الدار حتى لا يفارقوننا أبدا.. وبالطبع لن نختن البنات.. سنتركهن غلف، فهذا أفضل لهن.. وعندما أجيء متعبا من الزرع، أجدك قد أنهيت طحن الذرة في "المرحاكة"، وما أن تريني حتى تبدأين في "الشكوية" اليومية المعتادة: "حطب النار كمل.. وجع الضهر.. العواسة.."..

وكانت ست البنات تضحك بخجل طفولي.

كان عاشميق على الرغم من أنه للوهلة الأولى يبدو "كمطرطش"،  إلا أنه كان ذكيا واسع الأحلام والخيال.. ومع ذلك لم يكن يخطر على باله أبدا، ما تخبئه لهما الأيام..

ومثلما كانت قطع الشك هي إبنة الحمام، كان الدود هو إبن دماء العذراوات، فقد كان والده "بادي" الشقيق الأكبر للسلطان جبل الحديد مطلوقا غريب الأطوار، إذ كان يتغذى على دماء العذراوات، ويحوِّل ما تبقى من دمائهن إلى سبائك ذهب.

بينما كان متوجها إلى داره عند أطراف حاضرة الوادي، في إحدى الأمسيات، عائدا من إحدى سفراته إلى دار الريح، رأى "البنية" الجميلة "ست الدار"وهي تحمل حزمة حطب.. كانت في البدء تمشي بتكاسل تغذيه رغبتها في الإستمتاع بنسائم ذلك الصيف الحميم، الذي أشعل في خواطرها منذ مقدمه، أغنيات الحب الهامسة بلمسات تتخيلها، تتشكل أمامها كطيف.. تحاول الإمساك بها فتتبدد في فراغ الوادي..كانت "البنية" ست الدار في أوج مراهقتها، التي يقلقها حتى مجرد خرير الجدول، أو حفيف الأشجار، أو ذلك اللحن الموحد، الذي تعزفه طيور الوادي، فيجعل كل التكورات البارزة في جسمها تنتفض بشدة.. حاولت الإسراع في الخطى وسماء الوادي تتلبد بالغيوم على حين غرّة.

كانت السماء على وشك الإمطار. سقطت منها حزمة الحطب. إنحنت لترفعها، لكن كانت يد "بادي" أسرع. هكذا إنتصب أمامها فجأة على نحو مباغت، دون أن تشعر بخطواته، التي كانت تتبعها، وكانا قريبين من داره المحاطة بالأسوارالعالية. فدعاها للإحتماء،على أن يأخذها إلى دارها بعد أن يتوقف المطر عن الهطول. تمنعت في البدء، ثم وافقت بعد تردد ليس قصير، مدفوعة بأحاسيس غامضة. وعندما توقف المطر، أرادت أن تغادر، فرفض. منعها من الخروج وحبسها بين جدران داره الحصينة. أدركت أنها تورطت. كان شعورها مزيج من الخوف والهلع والحزن، حاول تهدئة خواطرها لأيام وأسابيع، إلى أن تمكن منها اليأس فلاذت بالصمت، وأصبحت فقط تنفذ رغباته دون إحتجاج.. دون إستنكار.. دون كلام.. بصمت تام. إلى أن شعرت بأعراض الحمل، الأمر الذي أسعده كثيرا وشجعها على التخطيط للهرب.

عندما أصاب الوادي القحط والجفاف، لجأ الأهالي إلى السلطان جبل الحديد، الذي حولهم بدوره إلى بادي شقيقه الأكبرورئيس مجلسه السلطاني، الذي كان وقتها قد تقدم للزواج من بنت وراق جدة ودالتويم التي كان والدها التويم الأكبر(سراج البيت) ذا حظوة عند السلطان، فرفضت بنت وراق الزواج من بادي لما كان يحيط بحياته من غموض وشائعات، فوجدها فرصة مواتية للحصول على بنت وراق أو قتلها، فأخبر الأهالي أن هذا الأمر لن يفتي فيه سوى "معراقيي" دار الريح، وبالفعل جلب بعض مطاليقه هناك، والذين كانوا قد تنكروا بهيئة المعراقيين، فأخبروا السلطان والأهالي أن المطر لن يهطل والنهر لن يفيض، مالم يعطى النهر قربانا: أجمل فتيات الوادي اللائي يتوجب أن تكون من علية القوم.. وكانت هذه المواصفات تنطبق على البِنَيَة بنت وراق صديقة العصافير والحراز..

بعد تردد وافق الجميع على هذه الفتوى. وقتها كان بادي قد تمكن من لقاء بنت وراق فجدد عرضه لها بالقبول به زوجا كي يتمكن من إنقاذها، لكنها فضلت أن تقدم قربانا للنّهر على الزواج منه. وفي اليوم الذي سيروها فيه إلى النّهر ليبتلعها في أعماقه السحيقة.. أمطرت السماء مطرا مالحا كالدمع، وفاض النيل بطمي أحمر قان كالدم وخرجت حورياته يبكين في حزن شديد، ويبست أشجار الحراز المخضرّة يباسا شديدا.. وكانت دموع بنت وراق التي زرفتها على الشاطيء قبل أن يبتلعها الموج في أحضانه، قد أنبتت زهورا بيضاء أكثر بياضا من الحليب.  وكان بادي مكسور الخاطر.. حزينا وغاضبا. إمتلأت دواخله بالحقد والشرور، فأخذ يختطف عذراوات الوادي في خفية من أهلهن ويحبسهن في قصره الذي لا يستطيع أحد الإقتراب منه..

عرف بادي في حياته نساء وفتيات كثيرات، لكن لم تمنحه أيا منهن الولد، الذي يمكن أن يعينه في مؤامراته ضد أخيه الأصغر السلطان جبل الحديد، الذي إنفرد بسلطة أبيهما وحده دون شريك. كان بادي من النوع الذي لا يقبل هامش أو فتات السلطة، التي يجود بها أخيه عليه. كان يريد السلطة كلها..

وهكذا تبدلت ست الدار قليلا، فهي من ستمنحه أخيرا الولد الذي يحلم به. هجرت الصمت وأخذت تحاول نيل ثقته. بدت له كأنها قبلت بحالها وأستكانت، وكأن ما يجري لها هو "قدر مكتوب" يجب القبول به!. وكان هو قد إنشغل بحملها، الذي كرس له كل وقته، متناسيا مشاغله الأخرى، إلى أن دهمه ذات فجر شاحب متلفع بغسق صحراء دار الريح المغموسة في عجاج القبلي الساخن، "مرسال" من مطاليقه، الذين كان قد أهملهم في غمرّة إنشغاله بحمل ست الدار.

أسر له المرسال بكثير من التطورات وسط المطاليق، الذين كان يعتني بهم منتظرا اللحظة المناسبة للإنقضاض على الوادي، والإستيلاءعلى السلطة. وهكذا ترك "المرسال" للإعتناء بها في غيابه و قرر المضي إلى دار الريح، حيث مطاليقه، الذين لأول مرة يغيب عنهم كل هذه المدة.

أعطى بادي لست الدار مفاتيح الغرف جميعها، وأبقى مفاتيح بوابات الدار الحصينة معه، وأوصاها أنها حرّة في أن تفعل ما تشاء، عدا شيء واحد هو الدخول إلى غرفته المغلقة.

وقتها كانت ست الدار في آخريات أيام حملها بالدود أبو حجل. وهكذا في غياب بادي ولد الدود أبو حجل، الذي لم يحصل مثل أقرانه المواليد على "مضغة البلح" من فم "شياب" الوادي الصالحين لينشأ حسن الأخلاق، ولم يأخذه أبويه إلى النهر في "السبوع"، كما ولم ترسم له ست الدار علامة "الأيقونة" على جبينه ب"الكحل"  لتحميه من الشرور، وكما لم تجد هي نفسها من يأخذها إلى النّهر في "أربعين النفاس" للتطهر ملوحة بجريد النخل..

حدثتها نفسها ذات يوم أن تفتح تلك الغرفة، التي حظرها عليها بادي، لترى ما بداخلها، وفي خفية من المرسال ذات فجر مزق عذريته صياح الديكة المعتاد، فتحت الغرفة.. و..

وتسمرت قدماها على عتبة الباب لهول ما رأت.. كانت جثث لفتيات علقن من أياديهن إلى سقف الغرفة، والدماء التي سالت منهن، حملتها مجاري رفيعة، إلى أوعية كبيرة إرتبطت بدورها بشبكة من المواسير الحجرية الرفيعة، التي تؤدي إلى إناء فخاري في فرن صغير، شيد ملتصقا بجدار الغرفة، تناثرت على سطحه سبائك الذهب!..

صرخت ست الدار صرخة مروعة، إنتزعت المرسال من أعماق كوابيسه المرعبة.

في ذلك الفجر كان قلب بادي قد إنقبض على نحو مباغت، فترك مطاليقه في الحليلة شوحططت، ومضى يغذ المسير نحو الوادي، وعندما وصل أخبره المرسال بكل شيء. فدخل على ست الدار غرفتها. أخذ الدود من حضنها وأعطاه للمرسال، الذي كان يقف بخنوع عند عتبة الغرفة، منتظرا أوامر سيده. أخرج بادي شوتاله من جفيره وهوّى على ثمرة فؤاد ست الدار بطعنة واحدة. فعل كل ذلك في هدوء تام وبدم بارد، كأنه لا يفعل شيئا.صاحت فيه ست الدار في نزعها الأخير:

"تكتلني يا عبد السافل.. أكال الضبابة.. يوم كتال السافل ما إتغتيت بشملة أمك، وإتدسيت تحت السدرات، وهربت لي دار الريح"..

صرصر" بادي سنونه وطالت أنفه وأذنيه وأخذ"يقنِت".. فأردفت بصوت واهن متحشرج:

"سويتها فيني يا أبوسيقان..يا قراش سنونك.. يا أبو ركبين"

فعاجلها بطعنة أخرى في القلب تماما، فصمتت إلى الأبد.. وبعد أن هدأ قليلا، مسح دمها على جلبابها، وأعاد الشوتال إلى الجفير. ثم أخذ الدود بين زراعيه وأخذ يقبله بلهفة.

هذه الحياة المأساوية، ربما هي ما جعلت الدود بهذه القسوة، التي لا مثيل لها. إذ كان لا يرى سوى نفسه، ولا يرغب في أن يكون هناك على وجه الأرض، من يفوقه جمالا، حتى لو كان أنثى. خصوصا أنه لم يكن يتوقع أن يتعرض للرفض من أي كان، سواء كان ذكرا أو أنثى. لذا أزعجته سيرة قطع الشك التي سار بصيتها الركبان، فوصلت أركان القبل الأربعة.

فقد كان الجميع مفتونون بجمالها الذي لم يروه. جمالها الملائكي الساحر الذي تشي به عيناها الدعجاوان. فقد كان جسمها دائما مكسوا بعباءة فضفاضة، لا تظهر منه سوى تلكما العينان الساحرتان.الواسعتان كبحيرتان صافيتان. هاتان العينان ألهمتا الشعراء، وأطلقتا في أخيلتهم ملايين الطيوف الساحرة،التي تغني أعذب الكلمات وأصدقها في الحب والجمال..

وبالقدر نفسه أشعلتا في الدود نيرانا لا أول لها ولا آخر، كنيران التنين الذي أرسله"الروح العظيمة"فيما بعد لدمار عالم الوادي،موغل البؤس والوحشة والعذاب.. لم يستطع  الدود مقاومة رغبته العارمة، في رؤية صاحبة هاتين العينين، فكمن لها للمرّة الثانية في ذلك المساء الذي ألقى بظلاله مبكرا. هجم عليها ومطاليقه.

لحظتها كان الأهالي قد تقاطروا على الجنزير التقيل، ليتوسل لهم "الروح العظيمة" كي ينزل المطر. فالجفاف كان يهدد حياتهم وحياة أبقارهم،ويستعيد إلى ذاكرتهم "سنة النيل الَّلَّمّ الناس من نجعة أم لحم"،عندما أنفض الأهالي من حوله ودخل داره، أخذته سنة من النوم، إنتقلت خلالها روحه إلى السماء البعيدة، حيث وجد المطر محتجزا خلف سد جليدي ضخم، وفجأة ظهرت أمامه قطع الشك تتبعها حماماتها، التي تقدمت نحو السد الجليدي، تنقره برفق إلى أن أحدثت فيه ثقبا، أخذ شيئا فشيئا يتسع إلى أن إنهار السد تماما. وتدفقت المياه. لحظتها أفاق الجنزير من غفوته على وقع حبيبات المطر، التي تتساقط في الخارج، فنهض وخرج إلى قلب الساحة التي تتوسط الوادي، فوجد الأهالي يرقصون "الكمبلا" تحت المطر، وعلى رؤوسهم قرون الثيران الذبيحة. كان إحساسا خفيا يهيمن عليه ويقلقه. شعور غامض بأنها بداية النهاية للوادي، كان يتحكم فيه..

ومنذ حلقت روح قطع الشك إلى السماوات البعيدة، أصبح الدود كالمجذوب. هائما في البرِّية يتغنى بجمالها الفريد، وظلت روح قطع الشك الهائمة تعترض طريقه، وطريق المطاليق والسابلة، لتزيد جنونهم وجنون العالم جنون، إلى أن إنتشر غمام كثيف في إحدى الليالي المظلمة، التي تشبعت "بعجاج الهبباي" وهدر الرعد وأخذ البرق العبادي يحاول في إستماتة، تبديد الظلمة الكثيفة بين آن وآخر

ليلتها نزل مطر كثيف "حزم البيوت" وهدمها، وبعد أن توقف "فجّ" طيف قطع الشك السماء ونزل. كانت قطع الشك حبلى، فولدت طفلا جميلا. وضعته على مهد من جريد النخل، وأخبرت الجميع أنه يحمل رسالة يريد أن يبلغها لهم، فالتفوا حوله تتآكلهم الدهشة البالغة!..

كانت رسالة إبن قطع الشك، هي الرسالة نفسها التي لطالما حدثهم عنها الجنزير التقيل، الذي ما أن صمت الطفل، حتى لملم أطراف جلبابه ومضى بإتجاه داره. أخذ عياله وأقاربه ومضى إلى جبل كارناسي، مخلفا وادي الذهب وراءه. وقتها كان الأهالي المتحلقين حول قطع الشك، قد غابوا في سجدة طويلة، لم يرفعوا عنها إلا بعد وقت طويل.

XII

الأهالي الذين لم تفارق الدهشة وجوههم منذها، لم يذبحو الثيران البيضاء ليقدموها قرابينا للفقراء والمشردين، كما أوصاهم طفل قطع الشك. لم يضعوا قرون الثيران على رؤوسهم ليغنوا ويرقصوا(الكمبلا) كما أعتادوا في المناسبات الخارقة، ليبلغ صوت غنائهم وضربات  أقدامهم على الأرض،عنان السماء البعيدة، ولم يغرسوا قرون الثيران على أبواب بيوتهم لطرد الأرواح الشريرة، فقد كان المطاليق قد إنتشروا بينهم مكذبين كل شيء، ملوحين بالويل والثبور وعظائم الأمور.

كان شعور الأهالي إذن مزيج من الدهشة، التي زرعها الطفل في عيونهم، والخوف والرعب الذي زرعه المطاليق في قلوبهم. وعلى الرغم من أن المطاليق أمروهم بإخلاء المكان، لم يفعلو فقد كانت أقدامهم وأقدام المطاليق، قدتسمرت على الأرض لساعات طويلة، كان المطر خلالها يتوقف ليهطل مرة أخرى.. توقف المطر تماما وظهر البدر منيرا لوهلة بكامل بهاءه وجماله.. ناشرا ضوءه على الوادي شديد الحزن واللوعة، ثم لم يلبث أن غاب في ثقب أسود لاح في قبة السماء، وأخذ يدنو منه في سرعة خاطفة. أخذ القمر يتضاءل شيئا فشيئا، إلى أن أطبق عليه الثقب وغاب تماما..

وقتها كان الدود قد تمكن من إنتزاع قدميه، فأخذ يركض هائما تجاه البرِّية يتبعه المطاليق. كان قد إنجذب تماما. فأخذ يركض بسرعة خرافية، فلم يتمكن أحد من المطاليق من اللحاق به.. ركض وركض حتى توغل في مجاهيل دار الريح، ولم يتوقف إلا بعد أن نال منه الأعياء والتعب، والإحساس الشديد بالجوع والعطش. لمح شجيرة قضيم فأراد أن يقطف من ثمارها البيضاء ما يتقوت به. أخذ يلتهم ثمار القضيم البيضاء كاللبن، إلتهام من لم يذق طعاما لسنوات طويلة. وكان يتمتم  بين الفينّة والأخرى، بكلام غير مفهوم حول قطع الشك، كأنه يخاطب طيفا لها يختفي ويبين. طيفا لا يراه أحد سواه.. إلى أن غاب في غيبوبة طويلة قرب شجيرة القضيم، في اللحظة ذاتها كانت العنقاء تحلق فوقه..

كانت العنقاء كأن السماء إنشقت عنها ورمت بها تجاهه لتنهشه نهشا.. إنقضت عليه.. سالت دماءه تحت شجرة القضيم، تروي عروقها الظمأى، فأخذت ثمار القضيم تتحول شيئا فشيئا إلى اللون الأحمر..

وهناك في اللحظة ذاتها، حيث الأهالي الملتفين حول قطع الشك وطفلها، اللذان بدأا يرتفعان  ويسبحان في بحر الهواء، إلى أن إختفيا تماما عن أنظار الأهالي، ليطلان على جبل كارناسي،الذي فرغت فيه العنقاء لتوها، من تعليق جثة الدود عاريا، وأخذت تنهش كبده، الذي كانت ما أن تفرغ من إلتهامه، حتى يخلق له "الروح العظيمة" كبد آخر.. حتى يدوم عذابه مع معاودتها النهش.. وهو يصرخ صرخات أليمة، فزعة ترتج لها أركان الوادي، بل إخترقت حتى جدران جبل كارناسي، الذي إختبأ فيه لحظتها الجنزير التقيل وأهله مع الأطفال المشردين وبعض الأهالي.

بعدها كانت مخلوقات "الروح العظيمة": التنين  والخرتيت في طريقهما إلى الوادي، يلحقان بالعنقاء التي كانت ما أن تنهي نهش أحد أكباد الدود المتجددة، حتى تمضي لتنهش الأهالي.. الذين كانوا يحاولون الهرب من طعنات الخرتيت.. كان الأهالي بين قتيل ومحتضرعندما نفث التنين من أحشاءه الفسفور، ثم تبعه بغاز الميثان، فاشتعلت النيران في كل أنحاء وادي الذهب..

وقتها كان الأهالي الناجين والمشردين، متقرفصين حول الجنزير في معبد كهف جبل كارناسي المقدس، والخوف يلتهمهم إلتهاما. كانوا يدركون أن العالم، الذي لطالما ألفوه يحترق في هذه اللحظة بالذات.

 

الوادي والبندر

(الجزء الثاني)

 

في شأن الوادي والحب والأسلاف
إذا هزنا الشوق اضطربنا لهزه
على شعب الرحل اضطراد الأراقم
فمن صبوات تستقيم بمائل
ومن أريحيات تهب بنائم
الخفاجي

I

على قيف الشاطيء الوحيد، المتوحد في عزلته المجيدة، كان "جقندي" لا يزال مستلق يتقلب ذات اليمين وذات الشمال، كأنه يقضي ما تبقى من حياته بتقليب نفسه على جمر الذكرى الحارق. وعندما يلامس طشاش ماء النّهر جسمه النحيل، يرتجف لبرهة تكفي لإستعادة حياته مع "سوميت" والمشردين وجلساتهم في الكهف السِّرِّي لجبل "كارناسي" المهيب، فتتخلل خياشيمه المجهدة رائحة "سوميت" الدافئة، وهي تجلس على ركبتيها في قلب الكهف تشعل نارا صغيرة.

الآن فقط ينتبه لرائحتها ودفئها. علمها الكثير من الأشياء. حدثها عن "العوالم(العصور) السبعة".. الدمار الأول.. و"كارناسي" الشاب العاشق اليانع الجميل، الذي قتله "الخازوق" بسم أبو الدرق القاتل، فأنتقلت روحه لتسكن الجبل وتحمل إسمه.. عرفت منه حدود النهر، ومن أين ينبع، ولماذا القبلي بهذه القسوّة والجبروت.. يلسع وجوه الناس وأقفيتهم، بذرات التراب الساخنة، وكم هي سموم نيران الغيرّة، التي نهشت وجدان "الخازوق".. وكان وجهها يستحيل إلى شديد السمرة، كالأرض القردود، فينتبه للمرّة الأولى أيضا لتلك الوردة الحمراء المرشوقة بأناقة، في جديلتها الكبيرة. تحدثا عن الأزهار والورود السامة، التي يستخرج منهاصيادي دار الريح السُّم..

""يعالجونه بطريقة معينة، ويغمسون فيه رأس الكوكاب أو النشاب أو الحربة

""لكن عندما يصطادون فريسة ألا يكون لحمها مسموما؟

"النار.. النار تعالج كل شيء"

كانت تعيد على مسامعه كل ما يقوله، كأنها تقرأ أمامها على لوح محفوظ، وجقندي الذي تتأرجح أفكاره الآن، منحدرة من ينابيع التاريخ العكرة، دون وعي يطهره النسيان، يتذكر أدق تفاصيل حياتهم المشتركة.. فتتأرجح هي الأخرى على مهل، فيبدو كل شيء حوله مهتزاً: الشجيرات على الضفة الأخرى من النّهر.. المراكب الراسية على شفة النهر.. نباتات عشبّة معونّة النيل الكسولة.. عصفور "ودأبرق" وعشيقاته "المشاطات وقدوم صفيرة"، وكل زرازير وزرزورات الحيشان الغارِّقة في إهتزازات الصّمت.. حتى ضوء الشمس الكابي، في آخر منعطفات الأفق خلف كارناسي، وهو يتسحب خلف غمامة عابرة، مهتزّة، سرعان ما ستتبدد وتفنى هي الأخرى.. وإلى الأبد، عندما ينفتق رتق السماء إلى قسمين، ويبدأ المطر في الهطول بغزارة..

كان المطر يشتد أكثر.. يشتد شيئا فشيئا..

ترك جقندي الجميع وخرج من الكهف وحده.. تأمل بندر الوادي المحترق في أسىً عميق.. تأمل الغيوم الكثيفة خلف خيوط المطر المنهمر. التي بدت كستار كثيف.. غطى الماء كاحليه.. شرب من ماء المطر حتى إرتوى.. خلع جلبابه.. ترك المطر يغسل جسمه العارِّي.. وصل الماء ركبتيه.. شعر بجدر الدور المحترقة تتهدم مع صواعق "البرق العبادي".. أخذ يتنفس بإنتظام وقلبه مفتوح على المطر.. غطى الماء صدره.. تهدّم قصر السلطان.. تهدّمت كل بيوت الوادي.. وبدأت الأشجار المهددة بالإقتلاع من الجذور تهتز بشدة.. أخذت أصوات الأهالي المرتاعين، تختلط بأصوات بهائمهم وهدير السيل المنحدر من أعلى "جبل كارناسي"، وتمتزج في أصوات الطيور الهاربة من الأشجار، التي أخذت تتلاعب بها الرِّيح.. طارت بعيدا حاملة معها حفيف أوراق الشجر.. ندى الفجر.. وشمس صباحات الوادي الباكرة، ورائحة النباتات البرِّية وحتى الدعاش والغيمات العابرة، ورائحة الجروح المعطرة بالمخاوف والأسى الأبدي..

لملمت كل شيء وأطلقته في صرخة واحدة، إخترقت حجب الفضاء البعيد، لتلامس كرسي الروح العظيمة وهو مستوٍ في مهابة، يراقب أحوال "عياله الضالين والمغضوب عليهم".. توحدت الصرخة في صرخات الأهالي الحادة كصرخة طفل لحظة الولادة.. طفّت الأشجار التي إقتلعها المطر والسيل من جذورها، وأصبح الوادي كله طافيا في الطوفان.. أصبح إمتدادا للنهر والبحر الملوّن.. غطى الماء عنق جقندي.. رأسه.. ومن أعماق النهر سبحت قطع الشك. وضعته على ظهرها، وسبحت به بعيدا إلى مدن لا يهددها الفناء..

كيف بدأت الحكاية؟

كان جقندي قد جمع عددا من الأهالي بمساعدة من تبقوا أحياء من المشردين، ومضى قاصدا بهم المخابيء السرِّية أعلى كارناسي. إكتظت كهوف كارناسي بالأهالي والمشردين الذين تبعوه، ولاذ الجميع بالصمت المطبق. وضع الشايب جقندي الصندوق الأبنوسي الموروث من جده الجنزير التقيل على الأرض.. وضع "قربة المرِّيسة" من على كتفه.. وتمدد على الأرض القردود. أغمض عينيه وحاول إسترداد لهاثه من الهواء، الذي أخذ يتموج أمامه. كان متعبا ومنهكا لأقصى حد. تحسس بنظره أرجاء الكهف المكتظ.. تتراءى له الآن بوضوح كل الأقنعة، التي تغلف الوادي وهي تسقط واحدة تلو الأخرى، فيجرح سقوطها الصّمت الحزين..

لعشرات السنوات ظل الوادي "متقنعا". يعيش خلف هذه الأقنعة مخاوفه الخاصة. هواجسه وظنّونه ورعبه المزمن. كانت كل ظلال القتلى والمغتصبات والمغدورين، تخرج من سراب الحياة: لاهثة ظمأى يحرقها جمر إنتظار القصاص. ثنى جقندي ركبتيه شعر بها منملة، مخدرة. فردها. ثناها.. فردها.. وأتكأ على مرفقه الأيسر، وهو يتناول من ود التويم الإزميل.. ومضت يده اليمنى تحفر في جدار الكهف، يحاول تدوين آخر الوقائع والأحداث ونبوءات النهايات الوشيكة، فيما مضى ود التويم يحاول فتح كوة في جدار الكهف، لربطه بسلسلة الكهوف الأخرى أعلا جبل كارناسي..

إستوى جقندي على الأرض القردود، محاصرا بالصمت الذي تمدد ليلف كل شيء داخل شرنقته الكئيبة. الصمت الذي كان يتبدد بصورة متقطعة تحت ضربات الإزميل على الجدار الصلد. كان جقندي يسعى جاهدا في فتح ثُغرّة في ذاكرة الوادي.. الأهالي.. المطاليق.. الشجر.. الطّير والمطر وريح القبلي. بدى له لحظتها أن كل شيء يفكر على النحو نفسه، الفرق فقط – ربما – في إختلاف الشّكل، لكن جوهر أفكارهم كان واحدا. حاول ترتيب ذاكرته، وجاحدا نعمة النسيان مضى أقصى تلافيف الوعي، حيث تكمن التفاصيل الخفيّة، منزوية بعيدا بقلق شقي في قاع الذاكرة، تراوغ الأسئلة السِّرية المسكوت عنها وغير المفكر فيها..

 الأسئلة التي يطرحها الإزميل بضرباته المنتظمة، التي تشتد حينا وتنطفيء حينا آخر، مدفونة في الصّمت، مفسحة للرماد والغبار الذي يخلفه الطرق دائرة غير مرئية، يقتفي في تؤدة أثرها الحراري

توقف عن الطرق عندما تناهى إلى سمعه صوت "أم كيكي" من بعيد، يعزف مزيجا من أغنيات عن "طير الرّهو" والعنقاء وسواقي الوادي والعصافير المهاجرة، من بلدات بعيدة إلى بنادر لا تعرف الشمس.. فقط العتمّة ما يغلفها، كرّحم كبير يضم جنّين غير مكتمل النمو.. لفظ أنفاسه في منتصف المسافة..

جقندي الآن يواجه سؤال عزلته الداخلية، ليكتشف في عزلة الوادي العامة آخيرا أن ليس ثمة ما يميزه – كما ظل يعتقد دوما- ليستحق عليه الإحتفاء، فغّفى كالميت لتخترق أحلامه جدار العزلة.. قشرّة الصّمت الذي لم ينجح الإزميل في ثقبه..

""ليس ثمّة شيء خلف الجدار سوى المتاهة

قال ود التويم.

 تملى جقندي وجهه، وخياله يبحر في متاهة الوادي.. الشجر.. الطير.. الأهالي وريح القبلي السموم شقيق الصحراء..ريح القبلي الذي يجري في عروقه مجرى الدّم.. صوت "أم كيكي" التي تتلوى على زراع راعٍ متعب موبوء بالحنين، يملأ فراغات الحلم، فتتردد أصداؤه بين جدران الكهف، دفقة من بوح كارناسي الشاب العاشق لحبيبته "القندول".. دفقة من بوح سوميت.. بوح قطع الشك وكل العشاق والعاشقات الذين تمر ظلالهم الآن لتتخلل كل شيء: الأزاميل.. الجدار.. عشبّة معونة النِّيل وهي تتهادى على سطح الماء المعكر بالطمِّي ونباتات المستنقعات المتطفلة.. معزوفات أم كيكي المدفونة في رمل الوادي وجذور القمبيل، تخرج إلى السطح. تبحر في النّهر. تنادي صيادين السمك والمراكبية المسطولين عند الفجر. تتهادى على الماء كمراكبهم وتستسلم لأحضان عاشقها الموج، وهو يقذف بعشبّة المعونة بعيدا إلى رمل الشاطيء، ليختفي خلفها عاشميق وست البنات إلى الأبد..

وتنقذف العشبة بعيدا على رمل الشاطيء، تعيدها أنغام "أم كيكي" إلى مستقرها الأخير: الرّحم الذي خرجت منه لتسمد الأرض، وتنمو في ثمار القمبيل، وتعطي "القضيم" لونه الأحمر القان.. لون قلب كارناسي النازف.. تنكسر "أم كيكي" على زراع الراعي، إثر ضرباته القوِّية على الوتر، وتتفجر كفقاعات تنتشر في الفضاء الفسيح، يستنشقه الأهالي المحاصرين بالمياه في الكهف أعلا كارناسي، فيستبد بهم الحنين والشجن، ويظل الجدار صلدا دون كوّة.. دون ثُغرّة.. دون تاريخ.. دون ذاكرة..

على إيقاعات "أم كيكي الحزينة"، أثث "بندر الوادي" حضوره الطاغ في وادي الذهب.. في البلاد الكبيرة.. وعلى إيقاعاتها إستقبل الدمار الأول.. و.. والثالث وهاهو يشرع الآن نافذة أخرى لدمار وشيك، دون أن تعلن "أم كيكي" عن أسرار الخراب الدائري المستمر كحلقة شريرة، في مجرى الزمن، تنطوي على كوابيس الوادي المرعبة..

إذن عندما صعد المشردون والأهالي خلف جقندي قمة كارناسي، كان كل شيء في الوادي بائس. رَّث. ينطوي على كوابيسه الذاتية المرعبة، فقد فقد كل شيء طراوته ونداوته على نحو مباغت، وأصبح فزعا من أن تبعث الحياة في هذا الفضاء الكئيب.. أن يتخلق من جديد وتنمو فيه وتعيش أوبئة الكوليرا، الملاريا، والجدري..

وضع جقندي الإزميل على الأرض الصخرية. فتح الصندوق الأبنوسي العتيق. سحب مخطوطا من جلد الماعز تم حفظه منذ عشرات السنوات بطريقة مجهولة، وأخذ يقرأ الرموز التي خطت عليه.. ثمة شيء مفزع يصعب تصوره.. تآكل تام يجعل كل الموانع في ذاكرته تتهاوى، كطوابي النّهر القديمة.. يهيمن عليه يقين بأن كل ما كان يوما هينا قريبا يصبح الآن صعبا بعيد المنال.. كانت الحقائق تهرب من بين الرموز، مفسحة لعشرات الأساطير الصغّيرة والكبيرّة في عالم ينمحي من الوجود.. فينمحي من الوادي الذي لم يكن يوما مهيئا كفاية، كبندر للبلاد الكبيرة ولذلك بدأ سلاطينه على الدوام، كالذين يسرقون البكارات خلسة من الفتيات المسكونات بالطفولة والخوف والخيبات.. يسرقون حتى دمعات اليتامى ويحاصرون الوادي بجبروت الصّمت والعزلة والحروبات الخفيّة والمعلنة، التي لا تنتهي سوى بالخسارات العظيمة.

منذ أصبح الوادي وطنا "للمطاليق" شذاذ الآفاق ومعتقلات الكهوف والمنبوذين.. منذها يهرب من مواجهة ذاته بسؤاتها، فغرِّق النّاس في الخوف من الكلام.. الخوف من القول والصراخ بصوت جهير وعنيد ضد المظالم.. ضد إنسداد الأفق وإنهيار الأحلام.. ضد الحماقات والجرائم في دار الريح..

منذها والوادي يستحيل شيئا فشيئا إلى مكان موحش، مبتذل وكئيب تتعطل فيه المواهب الطبيعية والحواس.. مكان لا يصلح سوى للنحيب، فقد إمتلأ بالغربان وغادرته الحياة.. فبدى شاردا في شمسه الغاربة، المتهاوِّية.. الهاربة.. معزولا على شاطيء النهر المهجور، وعشبة معونة النيل تغزل في موجه، آخر رسائلها للمراكب التي لن تعود إلى مرافيئها..

 كان كل شيء يعلن بداية النهاية الوشيكة، لأطول تاريخ من الأحقاد والضغائن والعداوات والإحن.. الأنانية والإستعلاء والتهميش وقلة الذوق والأدب.. كل شيء تم إعداده بدقة: مخلوقات دمار العالم.. العزلة.. النّار.. الليل.. المطر والسيل.. فأنهارت في البدء كل الأبواب المغلقة تحت وطء زعر الأهالي.. إنهار قصر السلطان بكامله.. كان كل شيء قد أختزل في برق العبادي الخاطف بصواعقه الرهيبة، التي أحرقت كل شيء، ليرى الأهالي أنفسهم للمرّة الأولى: نساءَ ورجالاً.. أطفالا وشيوخاً.. كانوا جميعا عُراة "يتدافرون" في أمواج الزحام القاصدة الساحة التي تتوسط بندر الوادي، بينما مخلوقات دمار العالم تتناهشهم..

لحظتها صعد من أعماق التاريخ السحيق، إلى سطح حياتهم في رمقها الأخير. إحساسهم للمرّة الأولى بالهشاشة، على أنقاض الكبرياء الموهوم والإستعلاء الزائف.. تحرروا بموتهم من عقدة الذنب الخفيّة.. الدفينة التي لم تخذهم يوما.

إستمر ود التويم في محاولة فتح كوّة في الجدار، كان كالمغمّى عليه في غيبوبة التاريخ.. غيبوبة الجغرافيا.. خارج الزّمن.. إنزلق الإزميل على سطح الجدار، مثلما أنزلق هو في غفوته، حيث لا مسارب للضوء.. فقط الغبّار والذكريات والحنين.. تساءل من بين أحلامه الوسنانة:(هل يتوجب الآن حدوث الدمار الرابع.. تمزيق التاريخ المشترك والجغرافيا الأم.. تبديد الأقنعة والأساطير، كيما يتمكن الناجون من الحياة بسلام بعيدا عن إلحاقهم الأذى ببعضهم البعض، كما ظلو يفعلون دائما دون مبرر مقبول..)..

كيف بدات الحكاية إذن؟!

بندر الوادي ظل طوال تاريخه يتصور دار الريح والصعيد، على النحو الذي "يريح ضميره" ليبرر غاراته على القرّى و"الفرقان والحلالات"، فأهالي دار الريح والصعيد بنظره ليس ثمة ما يجمع بينهم ويماسكهم في كيان واحد قوي، فضلا عن تدنيهم العرقي والثقافي والعقدي، ولذلك عمد إلى ضرب ستار كثيف حول حياتهم، مكنّه من إستنزاف ثرواتهم ومواردهم، وبينما كان هو يزدهر، كان الصعيد ودار الريح يغرقان في ظلام كثيف من القهر والفقر والجهل والمرض والحروب الدائرية كحلقة جهنمية لا تنتهي.. فهذه سنة الكوليرا وحرب سهل القضيم، وتلك سنة الملاريا وغارات وادي القمبيل، وبينهما سنة الجدري ومعارك الحرازة أم قد.. هكذا كانت الحروبات والأمراض المنقرضة تاريخيا، تنهش أجساد أهالي الصعيد ودار الريح ودارصباح البعيدة الفقراء المتعبين..

لم يحاول البندر إذن تطوير فهم نبيل، يساعد على إزدهار الصعيد ودار الريح، بجعل أهاليهما شركاءً في هذه الأرض الواسعة وليسوا عبيدا عليها، ما جعل الأصوات التي كانت خافتة تتعالى شيئا فشيئا طلبا للتغيير وتقرير المصير.

"دار الريح في طريقها للإنفصال"

قال ود التويم.. رفع جقندي بصره إليه وقال بصوت بطيء لكنه واضح:

"كيف يمكن للسلطان والمطاليق أن يرغبوا في بقاء دار الريح جزء من البلاد الكبيرة، في الوقت الذي ينظرون فيه إلى أهلها "كدون" ذوي عقائد وسحنات مشبوهة، ولا تجري في عروقهم دماء مقدسة أو نبيلة كالدماء التي تجري في عروق أهل دارصباح.. الأفضل أن يمضي كل في طريقه بسلام.."..

وقبل ذلك بوقت ليس قليل، كان بعض المغنون والمشردون وعقلاء كثر قد إستشعروا الخطر المحدق بالبلاد الكبيرة، فرفعوا أصواتهم. وعندما طالتهم يد المطاليق الباطشة، هربوا إلى مملكة الجوار أقصى السافل، وتتالت موجات الهرب من الصعيد ودار الريح وبندر الوادي، ثم تداعت الأحداث بإنفصال الصعيد..

 وفي خضم هذه الظروف تآمر المطاليق على ود التويم ودسوا له عند السلطان، وزعموا أنه وراء تهريب الأهالي إلى مملكة الجوار في السافل الأقصى، ليقودوا ثورتهم على البندر من هناك، فأصدر السلطان أمرا بإعتقاله ومصادرة كل ممتلكاته، وعندما إلتقى ود التويم جقندي بعد إطلاق سراحه مباشرة أخذ يبكي ويقول:

"الما عندو جماعة ولا مال هل يبكي عمره عمال على بطال؟"

فهدأ جقندي من روعه قائلا:

"الجماعة ما بتنزل على رأيك والمال ما بيدوم والما عندو ذكر للروح العظيمة يموت مغموم"

فرد ود التويم:

"إنما أبكي على الوادي.. هل يستحق الوادي كل هذه الأحزان والإحساس بالضياع؟ هل يستحق أن تغتال ذاكرته ويترك للموت وحيدا؟!"

"لكنه صنع هذه النهاية لنفسه.. نسجها بعناية ودقة.. كان كل شيء متوقعا.. كان يعلم أنه يمضي إلى حتفه بإصرارر"

رمى جقندي كلماته بوجه ود التويم ومضى.

صعد والأهالي والمشردون خلفه إلى شرفات جبل كارناسي، وأخذ الوادي المنسي من بعيد ومن أعلى يتضاءل شيئا فشيئا، والنيران تشتعل في كل شبر فيه، فتستيقظ الأرواح الضالة والظلال المعذبة وتحترق..

فيتبدى درب يفضي إلى نقطة البدء في الرحيل والتنقل المستمر.. يختبرون يقينا لا يفتر بعد أن شيدوا من الرماد النّقي ذاكرة، وغزلوا عزلتهم من غبار الشهب.. كانوا عزلا إلا من ذكرى عتيقة وحنين قديم ثاو في أعماق الذاكرة المنهوبة، التي تعيدهم الآن في حياتهم الأخرى إلى جراحاتهم الغائرة التي لا تندمل.. جراحات بلاد غادرت نهرها.. واديها.. قمبيلها.. طيورها.. بلادا إحتجبت في الحضور الوهمي لأكاذيب النقاء العرقي والسلالات المقدسة للشرق السعيد، وبقايا أقاصيصه القديمة ك"أنا" ليس بعدها في الخلق أنا!.. الذكرى التي لا تستحق أن يحزن لأجلها أحد..

الآن يشرع الناجون الذين يشقون بعصيهم في نهر النار دربا للضفة الأخرى، يشرعون أنفسهم على الفراغ العريض للخلاء الواسع.. تضع خطواتهم على تراب الطريق، أولى الخرافات الجديدة، التي تأثثت بمخلوقات دمار العالم والريح والحرائق.. يضعون بصماتهم على سطح الماء ليحملها، وبعد أن ينحسر السيل، يرمي بها إلى شواطيء بعيدة.. يدفنها بالرمل. ليجدها العشاق والمغنين ورواد الأندايات، بعد عشرات السنوات، محبوسة في قمقم يفتحونه على آلاف الحكايا، عن وطن تم تشييده في المنفى وأنين أم كيكي؟!..

لكن الحكاية لم تبدأ لتنتهي هكذا.. بدأت بالحب وفي الحب؟

من أكثر الأمور التي لفتت إنتباه جقندي في هذا الوادي، هي علاقة الناس بالحب، فسكانه الذين يعتقد أي منهم بسخاء مريب، في أنه أفضل من الآخرين، ويبدو كريما وشجاعا وودودا لأقصى حد. في أغلب الأحيان هو ذاته من يتسرّب كل صديد الأرض وديدانها من نفسه الخرِّبة المتهرئة، وبينما يتحدث عن الفضيلة ياتي بكل أنواع الرزائل والشرور وهو يلوك بلسانه السلام والمحبة حتى لتخاله الجنزير التقيل؟!..

كان أهالي الوادي إذن على الدوام، حتى في مشاجراتهم العائلية، يسعون لمضاعفة إحساس بعضهم البعض بالذنب والإيلام، بالمبالغة في تصوير الأخطاء الصغيرة والجرائر العابرة، وذلك لم يكن يؤدي سوى إلى إحياء المرارات والأحزان والآلام القديمة بقوة، مرة أخرى ومن جديد. حتى أن الوادي يبدو كمكان عتيق لرعاية الأحقاد المتجددة.. لذلك توقف جقندي أمام فيما يعنيه الحب لهؤلاء الناس؟!..

 وفي الحقيقة كان الحب الذي يمارسونه نوعا غريبا من الحب.. إذ يبدو أحيانا كشمس ساطعة هادئة الحرارة، في خميلة تضوع فيها كل الروائح العطرة، وتجري فيها الجداول الصغيرة، التي تروي أزهارها وأشجارها وورودها.. خميلة مسكونة بعصافير الجنّة الملوّنة، التي لا تكف عن الغناء.. ويبدو له في أحيان أخرى كعاطفة ملعونة تتسرّب نيران الهجر والأحزان فجواتها التي تتسع ببطء مرعب، يُغذي المخاوف وإنفلاتات البلوغ، التي تصنع بقعا صغيرة متعفنة بين الأفخاذ الجائعة..

كان إذن و غالبا يبدو أسوأ من "أنداية" كبيرة يشقها النّهر قسمين، مثلما يبدو أحيانا المكان الغامض نفسه الذي ألفه الرحل وأدركوه كما أراد لهم الروح العظيمة تماما! رغم الإنحطاط الأسطوري الذي يزرع أسئلة حائرة في الأدمغة، التي تنتمي لكل سلالات الأزمنة الغابرة، الغارِّقة في أسرار المادة والروح، المجردة من أي نزوع ألوهي تطمئن له النفس!..

أنه الوادي إذن كما تكون في التشظي، وتمزق عالم يؤول للإنهيار.. عالم تنهض فيه القبل الأربعة لبندره، مغموسة في النقع والغبار، حيث تبدو ملامح الأهالي والمطاليق شبحية، كشخوص مجهولين، جاءوا من كل مكان يحملون أحزانهم.. حرمانهم وهزائمهم.. إحباطاتهم وخذلاناتهم العميقة..

فالمطاليق الغرباء لم يأتون كالمغنين الجوالة، المرتحلين بغنائهم الرومانسي المعذّب حتى في اللانهاية، كأبونافلة المغني الأسطورة..

فأبو نافلة ما أن بلغ الثالثة من العمر توفي أبوه، فتربى عند "خواله" في دار الرِّيح، ثم ألتحق بالرُّحَلْ ولم ينل من علومهم شيء!، ولذلك لقب بأبي نافلة، فقد كان شغوفا بالغناء والمسادير والدوبيت والجراري والمردوم والشاشاي.. ولهذا السبب وجد معارضة شديدة من أهله، فهرب إلى بندر الوادي..

هكذا مثل الآخرين جاء عابرا بخياله "طابقا على ظهره القوقو"، يحمل وعثاء الطريق داخله. ليعبر المدى الواسع، الذي تعبأ بكل ما توهمه الأهالي والمطاليق من حب وراحة بال.. كان غريبا مثلهم. إتكأ على صدر البندر ينفض عنهم وعن نفسه العذابات، لينهار وجدانهم مثلما نهض في الإنهيار بفعل الغربة والحنين.. غربتهم عن الشرق السعيد.. وغربته عن الصعيد ودار الريح..

وجدان الأهالي هو بندر الوادي نفسه لحظة الميلاد، في قلب سوق العناقريب أو سوق السراويل. حيث يستمرأ الجميع تعاطي الأحاجي وحواديت البلاد الكبيرة، عن الذي يأتي ولا يأتي، وميلاد عصر جديد تفتتحه "الأندايات براياتها الحمر" المميزة، ليتغلغل التواصل بين الجزر المعزولة في الوجدان بعيدا عن الجغرافيا، فيخرج الأسلاف المزعومين ألسنتهم ويهزون أذونهم!..

الأسئلة في بندر الوادي عادة مضرجة بالدماء والنزيف، كالنزيف على جبل كارناسي.. هذا النزيف الذي لم يشيد شيئا وهدم كل شيئ..

كيف لهم أن يفهموا أن جبل كارناسي خارج إطار الفيزياء، وأنه مهما نزف –مع ذلك-  سيظل أخضرا في فضاء البندر الملتاع بأحجيات المهاجرين القدامى والجدد.. مبتدأ التمزقات والمطاليق والفوضى.. ربما ينفي كارناسي نفسه كأبونافلة.. يزحف عميقا في طبقات اللاوعي القصوى، ليحرر الناس والطير وبندر الوادي وأشجار القمبيل.

حافرا في مزيد من الأسئلة الحرجة والحارقة، حيث يمر الرُّحَلْ في ثيابهم الجديدة عبر ثقوب الآيديولوجيا، ليحتدم سؤال الهوية ويلف ويدور حول نفسه.. وحول ما إذا كانت ونيسة الحنانة أجمل أم جليسة المشاطة أجمل.. أو أن ما قتل المغني أبونافلة هو الحب وليس سم أبوالدرق.. و كل المدلين بدلائهم والدلاء ذات نفسها تتدلى في الفراغ!..

إلى بندر الوادي يأتي القلقون والموتورون، الذين لا يستطيعون التخلص من حساسيتهم المفرطة، التي تجعلهم يبدون كمشئومين مهددين بالغربة والإغتراب حيث هم وأينما حلوا!.. وربما توهم بعضهم المنافي بعيدا عن الوادي.. كانوا مصابين بأدواء الغربة والحنين، يغمدون تأوهاتهم في مزيد من الجراحات، أقصى تفاصيل الفجيعة والدمار.. الواحد منهم  على الدوام يمضي بإحساس محارب منقرض!..

أنه وادي المطاليق.. وفي الوقت نفسه هو وادي المشردين والأهالي، الذين يبدون كقوم بسطاء.. وادي الباحثين عن وطن دفء.. يفيقون الآن من سكر دام لعقود طويلة على وقع الدمار الرابع.. عندما تتسع مديات الألم والرعب إلى حدودها القصوى وتبلغ منتهاها في العيون الخبيئة الكابية.

ففي فراغ البندر تمر الصور.. الذكريات والأخيلة التي عاشوها متمزقة بالأسى والحرمان، فيما روح كارناسي الشاب تحفر على جدار الكهف المقدس، أحداث ووقائع العذابات اليومية، بوحدتها ووحشتها وأساها، في الخط الفاصل بين عالمين، ينطوي كلاهما على نبؤة المأساة..

شعب الوادي الذي يتكون في التمزق الشامل للناس والحياة والوادي ذاته.. الوادي بطبيعته وناسه وإحساساته الغامضة.. الوادي الشاهد على إندثار الأجيال الملاحقة بأسئلة الوجود الكبرى عن المصير والمصير؟!..

حياة الوادي المتبدلة هي حياة الأسئلة الحارقة نفسها، منذ كان السؤال هاجسا في خاطر الكون، في لحظة دقيقة تفصل بين عالمين، ينهض على ركامهما وادي آخر، كشاهد على عواصف الدمار الرابع.. لحظة الخروج من ظلمات الوادي، بزوابع التاريخ. إلى نور الطوفان الذي أغرق الوادي في الأسى..

و.. و.. وبعد أن مضت على جقندي عدة أيام منذ آخر لقاء له بالسلطان، جاءه ود التويم وقال له

"زوج أختي مات وتركها صغيرة وغنية وجميلة، لكن رجال الوادي لا يحبون المطلقات، أمشاك معاي.. نزوجها ليك، وتعطيها وتعطي كل أهل الوادي علمك.. هذا هو مهرها"..

فرفض جقندي العرض وأخبره أن على أهل الوادي طلب العلم من المشردين، الذين كانت حلقات بعضهم، ممن إتخذوا "العصا أو القرف" أو.. شعارا.. قد بدأت في العمار، إذ إجتمع عليها "خلق" كثيرون، إذ كانت "نار سوميت" موقدة طوال الوقت، والمشردون قائمون على خدمتها، وبعض الأهالي قد تنامى فيهم "عشّم".. خصوصا ود التويم، الذي كان منذ طفولته الباكرة يشعر بقوة خفيّة، تشده بقوة لإعتلاء قمة جبل كارناسي. فكان يتسلل-وقتها- خفيّة من عيون الأقران والأهل والعشيرّة.

يشق طريقه عبر جنقل السلطان، ويمضي دون أن يوقفه شيء: لا المخاوق التي تملأ الوادي فيما يحكي الأهالي عن الجن الذي يسكن الجبل، ولا شياطين الظلام.. ولا الأرواح الشريرة ولا المطاليق.

يبدأ ود التويم رحلته متشبثا بالحجارة الناتئة، مرتكزا بقدميه على شقوق الجبل وبروزاته الحادة. يصعد.. يصعد مدفوعا برغبة بلوغ القمة، وإكتشاف أسرار الجبل في ذروته، التي تلامس السحاب، حيث تبدو أشجار القمبيل والوادي من هناك، كظلال تختبيء خلف ضباب رطوبة الوادي المتلفع بعتمة التاريخ.

في عروق ود التويم تجري دماء بلوغ القمة! المنحدرة من الجد الكبير "سراج البيت"، الذي عاصر المطلوق بادي، في ذلك الزمان البعيد من ضلالات الوادي.

كان "سراج البيت" قد تزوج بإمرأة من الرُّحَلْ، أنجبت له"حرّاس العقاب" و"ست الدار" التي إختطفها بادي وأنجب منها المطلوق الدود أبوحجل.

من دماء حرّاس العقاب جاء ود التويم بعد عشرات السنوات، مثلما جاء أبو شوتال من دماء الدود أبوحجل من بعد.

في تلك الظهيرة البعيدة. الملأى بأسراب الجراد، التي حجبت قرص الشمس، مما عمق الخوف في فضاء الوادي، ولد حرّاس العقاب، ولما كان والده "سراج البيت" شيخ أحد عشائر الوادي ذات الشوكة، والتي تحتكم على الكثير من العبيد والجواري والقطعان، ومشاريع الزراعة والأراضي، فضلا عن نفوذها التاريخي الذي جعل أفرادها دائما وفي كل العهود، أعضاء في مجلس العشائر والأسر، الذي هو مجلس السلطان نفسه!..

إهتم سراج البيت كثيرا، بأن يتلقى إبنه حراس العقاب، كل ما يمكن أن يحصل عليه من علوم، تفيده في وراثة موقعه في مجلس السلطان بعده، فبعث به إلى دار الريح، ليعرف لغات القبائل هناك. وكان حرّاس العقاب بذكاءه الوقاد، قد إستطاع تعلم أربعة من لغات دار الريح، وعندما عاد إلى الوادي لم يلبث إلا قليلا حتى بعثه والده إلى الصعيد، وهناك تعلم ثلاتة لغات أخرى.

فكان حراس العقاب من دون كل أقرانه ورغم صغر سنه، الوحيد الذي يتحدث سبعة لغات حيّة؟! من لغات الوادي؟!، وعندما توفي والده سراج البيت، الذي كان يجمع في عشيرته بين الزعامتين: الروحية اللازمنية والدنيوية الزمنية، حرص حرّاس العقاب دونا عن اشقاءه وأعمامه، على وراثة كل شيء، فقد كان يتصور أنه الأفضل، دون أن يطلع على ما يفضله أهالي الوادي في حياتهم اليومية.. وورث الزعامتين!..

 ورغم كل الإعتراضات الكثيرة داخل عشيرته. لم يأبه لأحد. وتمكن من فرض نفسه على الجميع، كزعيم روحي لا يأتيه الباطل من شنآن وكزعيم مادي مفوّه!..

إذن تمكن من فرض نفسه عبر سلسلة معقدة من الإجراءات والمناورات الماكرة، التي مكنته من أن يتجرأ على معارضيه داخل الأسرة، بتنحي شقيقه الأكبر عن مكانه داخل الأسرة ومجلس السلطان وكل شيء.. وإنزواءه بعيدا في إرشيف الوادي البائس.. وهكذا ملأ حرّاس العقاب الأمكنة التي أشرف بنفسه على شغرها. بعد أن قام بترتيبات عديدة مع السلطان والمطاليق، وبعض أعضاء مجلس السلطان الذين كان قد أغرى بعضهم بتزويجه من شقيقته الصغيرة "ست الدار" لتكون حلقة الوصل بين بين.. وفي ذلك الوقت، وعند موت السلطان "الكرباج"، إنقسمت العشيرة الملكية، وأستولى بادي الأخ الأكبر للسلطان "جبل الحديد" على الملك، فقاد "حرّاس العقاب" بمساعدة المطاليق وعشيرته، معارضة جسورة لإسقاط بادي وإعادة أخيه  الأصغر "جبل الحديد" الملك المخلوع..

في سنوات مراهقته، لازم حرّاس العقاب الشايب الجنزير التقيل ردحا من الزمن. وقتها كان الشايب الجنزير التقيل قد وطن نفسه على البقاء في الوادي، فقد كان الناس عندما يعرفون في ذلك الزمان، أن قوافل الرُّحَلْ تمر ببلدانهم الآن، يتقاطرون عليها من كل مكان لزيارة الجنزير التقيل..

 يأتون دافرين منهم من يحمل العسل ومنهم من يحمل السمن، ومنهم من يحمل القماش ومنهم من جاء برقيقه:

"كل واحد يقع قدر قدرتو.. الجمل بشيلو والحمار بشيلو"..

جميعهم يأتون لزيارته، فيستقبلهم لابسا "شملته الرباعية". ناره موقدة طوال الوقت وقداحته ستون قدحا، والكسرة مديدة تسوطها نساء الرحل في البرام، شادات وسطهن بالمناطق.. ووصفة الكسرة دقاقة. نجيضة. وخميرة الماء عليها مثل الفلفل، تارة تكون بالملاح وتارة تكون بالماء(ثخينة).

وكان الجنزير يتقبل هداياهم ثم يعود فيعطيها "للعُشام" بعد أن يقضي غرض كل الزوار بمطالبهم المختلفة، ففيهم من يطلب المال وفيهم من يطلب الولد وفيهم من يطلب الصحة والعافية أو تقريب البعيد، لكن أكثرهم كانوا ممن يريدون أن تكف أيادي المطاليق عنهم..

لكن علاقة حرّاس العقاب بالجنزير التقيل لم تبدأ هنا في هذه اللحظة التي قرر فيها البقاء في الوادي، فقد قضى حرّاس العقاب من قبل ردحا من الزمن في مضارب الرُّحَلْ، لينهل من علومهم وأسرارهم، حتى عدوه واحداً منهم،  وزوجوه من إحدى بناتهم..

حياته في مضارب الرُّحَلْ فتحت ذهنه على الكثير من الأمور الغامضة، في تاريخ الوادي والحياة والناس وأسرار الروح العظيمة، ما حفز ذكاءه الوقاد وأرتقى بمهاراته، التي تبدت بوضوح في قدرته على حسم الصراع على الزعامة الروحية والدنيوية، داخل أسرته لمصلحته بعد وفاة والده بقليل، وبدأت تلك المهارات تعلن عن نفسها بوضوح أكثر عند إستيلاء بادي على الملك ومقاومة حرّاس العقاب لهذا الإنقلاب ونجاحه في إعادة السلطان جبل الحديد مرة أخرى.

تفتح وعي حرّاس العقاب على الصراعات، التي تجري في الوادي في مرحلة معقدة وحرجة من تاريخه، إذ وقتها كان الصراع محتدما بين تيارات عدة: فهناك من يمثل أفكار الرّحَلْ بقيادة "العنتيل".. وهناك من يمثل أفكارا قريبة الشبه من أفكار حرّاس العقاب، في جوهرها لكنها تختلف عنها شكلا، وهذا التيار كان يقوده "أب زنقلة"الذي كان ينادي بوحدة الوادي مع مملكة الجوار في السافل الأقصى، بينما كان حرّاس العقاب يرى ضرورة بقاء وادي الذهب مستقلا.

هذا الإنقسام في التوجهات، كان متمكنا أيضا من الأهالي الذين كان عقلاؤهم بقيادة العنتيل، يسخرون من أب زنقلة وحراس العقاب معا، فبينما يعتبرون الأول جاهلا جهلاً تاما! يعتبرون الثاني زائف الوعي، بصورة لا حدود لها، وأنه لم يأخذ من أفكار الرحل سوى القشور. وفي الوقت نفسه كانت العلاقة بين عشيرة حرّاس العقاب وعشيرة أب زنقلة، التي لا تقل عن عشيرة حراس العقاب نفوذا على الوادي.. كانت علاقة مضطربة، تسودها المنافسة والمكايدات، رغم صلات المصاهرة والنسب والعقائد الطائفية العميقة التي تجمع كليهما..

و.. إذن رغم ذكائه إلا أن حراس العقاب، كان طموحه يفوق حدود قدراته ومواهبه الطبيعية، كما أن أب زنقلة كان بطبعه ميالا للخلافات والإنقسامات منذ وقت مبكر في سنوات عمره، فقد إنقسم على أسرته وهو صغير، وعندما كبر قسم الأسرة التي كونها، وعلى الرغم من حرصه على أن يبدو دائما كمنشغل بهموم الوادي، إلا أن معظم النظريات الخطيرة، التي عصفت بالوادي كان هو من يقف خلفها. لذلك كان مطاليق كثر يعتبرونه كخادم متطوع لأجندتهم الخفيّة، بل مضى بعضهم لإعتباره زعيما روحيا سريا لهم، رغم كراهيتهم المضمرة العميقة له..

وبينما كان أب زنقلة يدعو لفرض تعاليم الروح العظيمة، كان في الواقع يستغل هذه التعاليم، لإحداث الإنقسامات والإنشقاقات في الوادي، بما كان يلبسه لها من لبوس عنصرية، أسبغت على عشيرته صفة النبالة والملوكية، لكونها نقية العرق كما يزعم!.. الأمر الذي جعل جماعة العنتيل يعتبرونه مفسدا ومشوها لتعاليم الروح العظيمة، ومصابا بجنون العظمة ضمن أدواء مزمنة أخرى لاحصر ولا عد لها!..

فأب زنقلة لم يكن يتورع من نسب نفسه لشعوب الشرق السعيد، التي هيأ له خياله العجيب أنها أرقى؟! وهكذا أمعن في التعالي على الإنتساب لشعوب وادي الذهب، وأهاليه. وهو الأمر الأساسي في تفكير أب زنقلة الذي جعله مقربا من سلاطين كثر حكموا الوادي، وعاصرهم على عهد سطوة المطاليق. حتى أنه عندما قام بادي بذلك الإنقلاب الشهير، كان أب زنقلة أول من دعمه سرا فهو الوحيد الذي لم يتم إعتقاله عند نجاح الإنقلاب، بل وبعد أن تم إطلاق سراح حراس العقاب والعنتيل والسلطان جبل الحديد، وتمكنوا من الهرب إلى مملكة الجوار في السافل، كان هو عراب مفاوضات المطاليق السرية معهم وكان هو من أول العائدين إلى الوادي، لمشاركة المطاليق في فتات السلطة!

ورغم محاولاته الظهور بمظهر الداعية، إلا أن كلا من العنتيل وحرّاس العقاب، كانا يريان فيه شخصا مخادعا عاشقا للسلطة ولا أمان له. صاحب طموح لا يحد وخبرة لا توصف في حياكة الدسائس والمؤامرات. أفصحت هذه الخبرة عن نفسها، في علاقته المريبة "بلاكو أتو" أحد أعيان الصعيد..

في الوقت ذاته الذي ولد فيه "لاكو" كان الوادي قد تغير كثيرا. أصبح سكانه عندما ينامون ويستيقظون في الصبيحات الباكرة، يجدون على فراشهم حيث ناموا رائحة غريبة وبقايا بلل، كأنهم يعودون لطفولاتهم المفقودة في غمرة الفجائع والأحزان.

في غمرة مثل هذه الأحاسيس الشائعة نشأ لاكو في إحدى كبرى قبائل الصعيد، الذي كان منذ طفولته الباكرة مغرما بالتأمل، ووعندما كبر قليلا تلقى علوما ومعارفا محلية كثيرة خلال تجوال أسرته لسنوات عديدة بين قبائل الصعيد، كما تلقى العديد من المعارف عندما بعثه والده إلى الجوار، ما وراء منابع النهر الذي يتوحد ليشق بندر الوادي إلى قسمين.

هذه المعارف العديدة، جعلته يرى بوضوح: أن أهل الوادي على إمتداده لا يعرفون بعضهم البعض جيدا، لكنهم بلغاتهم وعقائدهم المختلفة، يصلون للإله نفسه: الروح العظيمة، الذي يعرفهم ويفهمهم جميعا، مهما إختلفت لغاتهم والأماكن التي يعيشون فيها.. يعرفهم واحدا واحدا.. لكن فجأة تغير كل شيء، فكان من السهل عليه أن يرى الآثار التي خلفها فساد السلطان والمطاليق مرسومة بوضوح في كل شيء في أركان الوادي الأربعة، فالوادي أصبح كالمستنقع. يطفح بالوحل والروائح النتة والزنخة.

خلال سنوات تجواله الطويلة إكتسب لاكو الكثير من المعارف والخبرات، وأثبت كفاءة عالية وبعد نظر في الخلافات القبلية في الصعيد، والخلافات بين الصعيد وبندر الوادي، والتي قادت في نهاية المطاف إلى إصرار أهل الصعيد على الإنفصال، يقودهم لاكو أتو نفسه.. فمواهبه كمحارب جسور أيضا كانت قد بدأت في التفتق، وأخذ أهل الصعيد يعتبرونه زعيما قوميا، بل أن الكثيرون من أهل دار الريح ودار صباح البعيدة كانوا يستلهمونه، وكذلك ناس السافل الأقصى أعتبروه زعيما قوميا..

وهكذا كان لاكو ملهما لشعوب الصعيد ودار الريح والسافل الأقصى ودار صباح البعيدة حيث تبدأ الشمس رحلة الشروق. إلى أن نجحت سلسلة من المؤامرات المعقدة، التي حاكها أب زنقلة والمطاليق والسلطان جبل الحديد، بمهارة في القضاء عليه مسموما بسم "أبوالدّرق" وغريقا في المركب التي كانت تقله من بندرالوادي إلى حاضرة الصعيد. "حتل به الجاسر" في منتصف المسافة وهو يحاول بلوغ الضفة الأخرى للنهر.. كان السُّم قد تمكن منه ولم يمهله.

هؤلاء الرجال: العنتيل، أب زنقلة، حراس العقاب،جبل الحديد و ، و.. من دمائهم بعد عشرات السنوات، سيأتي أحفادهم ومريديهم الذين يجلبون المزيد من الدمار لوادي الذهب.. ويتسببون بسياساتهم المختلة في الدمار الرابع بعيد إنفصال الصعيد بقليل.

المفارقة هنا أن هؤلاء الرجال مثلما ولدوا هم واجدادهم وأحفادهم وتابعيهم كقادة، ظلوا يصرون على الموت كقادة، ولن ينجح أحد داخل طوائفهم في زحزحتهم من مواقعهم القيادية أبدا طيلة حياتهم الطويلة، إذ يلاحظ أنهم لا يموتون سريعا كبقية الكائنات.. وجميعهم بمختلف إتجاهاتهم كانوا مخادعين، وفي الحقيقة لا يختلفون عن بعضهم البعض كثيرا، مهما إدعوا التمايز عن بعضهم البعض أو حاولوا تمييز أنفسهم.

حاضرة الوادي، التي إعتاد الرُّحل منذ عشرات السنوات أن تكون إحدى محطاتهم الأساسية، في مختلف عهود هؤلاء الرجال وأحفادهم، كانت أشبه بأوهام التاريخ المريرة، فقد كانت أكبر سوق رقيق في الوادي، ولهذا السبب بالذات كان إزدهارها لا تطفئه إلا موجات الجفاف والتصحر والأوبئة الكارثية، التي يكون دائما أغلب ضحاياها من العبيد والغلمان والجواري.

كان هناك ما يشبه التحالف السِّري غير المعلن بين هؤلاء الرجال- بإستثناء العنتيل- والمطاليق، الذين ظلوا عبر تاريخ الوادي يؤثرون في إستمرار هذا المكان (بندر الوادي) كحاضرة لكل وادي الذهب، فهذا البندر الرّهيب كان على الدوام مقرا للحكم وقاعدة للإنطلاق نحو الحدود الواسعة للبلاد الكبيرة، التي يتكون منها وادي الذهب في إتجاهات القبل الأربعة.

الحوادث والكوارث دائما مركزها هنا: بندر الوادي. حتى المركب التي أقلت لاكو وغرقت به، وكل المراكب الأخرى التي أقلت كثر عبر تاريخ الوادي، وغرقت بهم. كانت دائما تقلهم من هنا. فتنتشر الشائعات بعد كل حادثة غرق، أن المطاليق والسلطان هم من يقف خلف مثل هذه الحوادث المريعة.

وعندما يتأمل جقندي الآن سيرة حياة هؤلاء الزعماء وأحفادهم، يجد أنهم كانوا يعانون إحساسا غامضا بعدم الإنتماء، فجميعهم كانوا يعانون الإنتماء إلى أماكن غامضة خارج حدود البلاد الكبيرة.. ما قاد الوادي إلى نهايته الوشيكة. التي لا جدال حولها، وهو ما لا يستطيع فهمه على الإطلاق!..

ورغم تحضيره لروح جده الجنزير التقيل مرارا وتكرارا، لفهم هذا الأمر إلا أن الجنزير التقيل  ذات نفسه لم يعطه "عُقادا" نافعا!.. فأخذ يجتهد ليدرك أن هذا الوادي ما هو إلا مكان ملتهب بالمخاوف، والهواجس والظنون، يعتصره نوع غريب من الألم البطيء العذاب والعِرّى الفاضح، حيث تحاصر الروائح الزنخة والنتنة بكل أنواعها، كل شيء فيه، وحيث تجيء الأصوات المتناقضة من الأندايات لتحاصر فضاءه الشاحب.

ومن بين كل هذه الأصوات يتعالى صوت أبو نافلة، الذي منذ حل ببندر الوادي ظل متمسكا بالغناء. و رغم قساوة ظروفه وعنت حياته أستطاع تعلم العزف على الربابة وأم كيكي والوازا، واتصل بالتنقار مغني الوادي الأشهر، فوجد فيه الأخير موهبة كبيرة فاق بها فيما بعد مغنين زمانه، حتى أن التنقار شعر نحوه بحسد شديد، أفضى به فيما بعد إلى الموت بصورة درامية، إذ وجد ميتا وأم كيكي المتكئة على صدره، تعزف لوحدها!.

ووفقا للأحفورات على جبل كارناسي، أنه هدد أبونافلة أما أن يخرج عن البندر، أو يسلط عليه المطاليق فيغتالونه. ففضل أبونافلة الخروج عن بندر الوادي، قاصدا مملكة الجوار على حدود السافل، حيث تعلم هناك الكثير من فنون الغناء وطرائقه وألوانه، حتى ماهو غريب عن وادي الذهب. وأصبح بذلك من أمهر وأشهر المغنين والملحنين..

وعندما تآكله الحنين إلى الوادي إتصل بالسلطان الكرباج، يستأذنه ويطلب حمايته. وهكذا عاد فجعله السلطان من خلصائه وندماءه. فحاول إعادة صلته بالتنقار، الذي كان لا يزال من أنصار الغناء القديم على عكسه، فقد كان مهموما بتجديد أغنيات الوادي القديمة، بما أكتسبه من معارف موسيقية ثرِّية.

شيد أبو نافلة بعد عودته إلى الوادي دارا كبيرة، جعل حديقتها أشبه بحديقة قلعة بادي، التي تشبه الحديقة السماوية السرمدية. كما قام بنقل الكثير من الأشياء من مملكة الجوار إلى بندر الوادي، كالأقمشة الزاهية والمزركشة والشيشة والكشري، وهو صاحب أول مقهى ببندر الوادي. كما تفنن في وصف الأطعمة والحلويات، وأحب العطور. بل وكان هو أول من إستخدم الصابون المعطر ومزيلات العرق، وزيوت الشعر المعطرة بزيوت كان يستخرجها من الريحان والسعدة، بدلا عن الودك والكركار وزيت السمسم أبوالولد. حتى أن الأحفورات تؤكد في كثير من المواضع، أنه إرتقى بالذوق العام، عندما تصف الطريقة التي كان يأكل أو يشرب بها، فقد كان يمضغ الطعام على مهل وفمه مغلق.. ويتحدث بأناقة. وكان جملة يلفت الأنظار بسلوكه الرفيع. ومع ذلك كان بهيميا جدا عندما يسكر وتغدر به المريسة أو العرقي..

وتذكر الأحفورات هنا، أنه أول من لفت نظر نساء البندر، إلى إستخدام المناديل كهدايا للعشاق وألف في ذلك أغنية سار بصيتها الركبان.. كما وأخبرهن أنه يتوجب عليهن أن يطرزن على هذه المناديل قلوب مطعونة بسهام ورماح، أو زهور محطمة، أو ورود منكفئة على الحرف الأول من إسمي الحبيب والمحبوبة، وأن تكون مختلفة الشكل واللون والطول والحجم.

إقترح أبو نافلة على السلطان أن يتركه يعقد حلقة لتعليم الغناءوالرقص والعزف على أم كيكي والزمبارة  والوازا والربابة، فكان له بذلك الفضل في تعليم جواري الوادي هذه الفنون، فبرعن في العزف على أم كيكي وعشقن الزمبارة كثيرا و أحببنها أكثر من كل الآلات الأخرى، وبرعت في تعلم العزف عليها كل من جليسة المشاطة وونيسة الحنانة، والإثنتين كان قد أهداهما له السلطان الكرباج، عندما أبدى إعجابه بجمالهما في حضرته في إحدى حفلات القصر الخاصة، وكان يكن محبة خاصة للمشاطة المغنية، التي كانت من أجمل النساء وأكملهن، وقد قال فيها من الشعر والغناء العذب، ما جعل إسمها على كل لسان. فهي حينا ملكة النهر وهي حينا إبنة التمساح العشاري و أسد البراري أو تمساح الدميرة.. وهي حينا آخر إبنة عشا البايتات كحل السراري..

 وتذكر الأحفورات في هذا السياق أن المشاطة دعته يوما.. وهو في طريقه إليها إعترضته الحنانة، فأقام عندها. فشق ذلك على المشاطة، وشكلّت هذه الحادثة، منعطفا خطيرا في حياتها معه، إذ أصبحت لا تغني سوى غناء الحزن والحسرة والأسف لتنقص على كل العشاق حياتهم، الأمر الذي أدى إلى أن يبيعها في سوق دار الريح بأقل من ثمنها بكثير، لكن عندما طال به الحنين وفاض به الشجن، مضى يبحث عنها وإشتراها بأعلا من ثمنها بكثير، وعندما عاد بها -وفقا للأحفورات- أنه أقام معها في حديقة داره لا يفارقانها، يلهوان ويأكلان ثمار القضيم، حتى "شرقت" المشاطة بحبة قضيم فلفظت أنفاسها بين يديه.. فجن جنونه على موتها بهذه الصورة الدرامية، فأبقاها ثلاثة أيام يشمها ويقبلها ويذرف الدمع الثخين على فراقها، حتى عاب عليه معجبيه وندماءه ذلك.

 وبعدها بثلاثة أيام مات هو الآخر مقتولا بسم أبو الدفان، ولم تنتهي بموته حلقة تعليم الغناء، إذ إستمرت تثمر مغنيين ومغنيات غالبيتهم العظمى يخلون من الموهبة تماما!. لكنهم على أية حال لديهم معرفة عامة عن العرضة والصقرية والكمبلاوالمردوم والجراري والشاشاي، كفنون إخترعها أبو نافلة أثناء تدخينه الحشيش، إذ كان عندما يجري الدُّخان في دماغه يشعر بنفسه ضخما كالفيل، وهكذا أنتج هذا الضرب من الفنون الفيلية، التي يرقصها ويغنيها الأهالي.

كان سلوكه اليومي تماما كشعره وغناءه ورقصه، فقد كان سباقا إلى العديد من المعاني والصور، وكان أصفياؤه يدعونه "بصعلوق آخر الزمان" نظرا لتهتكه أحيانا في سرد قصصه الغرامية، فهو أول من أدخل الغناء والرقص عناقريب النساء في بندر الوادي، كما كان في أوقات فراغه يحب التسكع بين الأندايات، وسمي وادي الغزلان بهذا الإسم نظرا لأنه كان يتسكع فيه لأيام طوال، فيولم ويشرب الخمر والحشيش، ويسقي ندمانه ويأمر جاريتيه المشاطة والحنانة بالغناء والرقص، ولا زال متسكعا بهذا الوادي حتى هجرّه "الوزين" والغزلان، وجفت غدائره وأشجاره، لكنه ظل يحمل إسمه القديم.

وكان أحيانا يغير مع المطاليق على القرى والفرقان في دار الريح، وفي الواقع حياته كانت قصيرة لكنها طويلة بسبب ما تراكم فيها من وقائع، وما عاصره من حادثات. وبسبب كثافة إنتاجه ونوعيته. فوفقا للأحفورات على جبل كارناسي أنه ألف ولحن وغنى أكثر من ثلاثة آلاف أغنية؟ صنفها في ثلاثة مراتب، الأولى: بديعة ، والثانية: وديعةو والثالثة: رائعة.. وحاول إبنه الخزين من بعده، إعادة تقييم هذا الإنتاج الكثيف، تحت وطء الثرثرات والسجالات والنميمة في الأندايات، ولذلك حفاظا على المقام الذكي لوالده، تفرّغ لهذا الأمر تماما، فلم يجد شيئا جديرا بنسبته لهذا المقام، سوى ثلاثة قصائد بائسة، ولحنين فظيعين، وأغنية مريعة!. لكن ولإحقاق الحق أن أبونافلة تمكن من إدخال تحسينات كثيرة على الغناء وآلاته، حتى أن البعض كان لديه إعتقادا جازما، أن الروح العظيمة شملته بعناية شخصية مباشرة وفائقة وخاصة جدا.

تشير الأحفورات على جبل كارناسي، أن من وضع ابوالدّفان بين ثقوب "عنقريب القٍّدْ"، الذي ينام عليه أبونافلة هو التنقار، لكن معجبيه يؤكدون أنه مات "حبا" فسم أبو الدفان.. وفقا لمزاعم الأحفورات، أهون من أن يؤثر في جسده الذي إصطفاه الروح العظيمة بالحيوية.. دليلهم على ذلك أنه كان مع المشاطة حتى الرّمق الأخير من أنفاسها الفائحة برائحة القضيم. وعلى كل حال شيد له الأهالي مزارا على الضفة الأخرى من النهر، أصبح من أهم أضرحة ومزارات الوادي، الذي دان له بالوفاء عبر التاريخ، الذي سينقضي بحلول الدمار الرابع..

 ولا يزال أهل الوادي حتى تلك اللحظة الفاصلة، يتوقفون عند غنائه ويجعلونه معيارا لنهضة الشعر والغناء والألحان أو تدهوره، خصوصا أن أولئك الذين يرتادون الأندايات، قد عنوا به وعظموا من محاسنه وأقبلوا على نشره في كل الأندايات..

II

فتاة الرُّحَلْ التي تزوجها سراج البيت، كان قد رآها عندما حط أهلها رحلهم على وادي الغزلان، قبالة "جنقل السلطان". أنجبت له حرّاس العقاب، الذي ما أن بلغ سن المراهقة، حتى أوفده سراج البيت إلى خيلانه الرُّحَلْ، لينهل من علومهم ومعارفهم، التي أشتهروا بها. وفي الحقيقة كانت تلك هي فكرة زوجته بنت "أب دفرة"، التي ظل يتآكلها الحنين لحياة قومها، فمنذ تزوجت سراج البيت وإلى أن أنجبت له ست الدار.. لم تخبو جذوة حنينها إلى تلك الحياة، التي تشعر فيها بكيانها المستقل، كنساء قومها اللائي لا تتأثر إستقلاليتهن حتى بالزواج. فالمرأة في مضارب الرُّحَلْ عالية المكانة، حتى أنها هي التي تسارع بتقديم وعاء اللبن للضيف، ترحيبا به. ونساء الرُّحَلْ لسن كنساء البندر، إذ ينسب أبنائهن إليهن وليس لآبائهم.. كان لديها الكثير من الخواطر التي تنتقل في مجرى الذكريات المرير، الذي تؤرق تدفقاته الحارقة إستقرارها وتقض مضجعها.

تغيرّت حياة بنت أب دفرة إذن.. ولم تعد حياتها في الوادي، هي حياتها ذاتها تلك الحياة التي ألفتها مع قومها الرُّحَلْ منذ نعومة أظفارها، وحتى تفتح جسدها ووعيها على الدنيا، فلم تجد لمداواة الحنين سوى أن تتعلم الغزل والنسج، فكانت تمسك "المترار" بيدها اليمنى، وباليسرى تبرم القطن، وتشده وهي تحرك مترارها في الوقت نفسه. كان الخيط المغزول يتحرك غدوة ورواحا، وشيئا فشيئا يتشكل القطن كرّة من الخيوط الجاهزة لصناعة ثوب أو غطاء ما.

عندما إختفت إبنتها ست الدار، ذلك الإختفاء الغامض. إشتد خوفها على حرّاس العقاب كثيرا، فأخذت تحدث سراج البيت، وتكرر على مسامعه الكلام دون كلل أو ملل، إلى أن إستطالت أذنيه، فاستجاب آخيرا لرغبتها، وبعث بحرّاس العقاب إلى خيلانه الرحل، وهكذا خطى حرّاس العقاب خطواته الأولى.

من سلالة حراس العقاب بعد عشرات السنوات سيأتي ود التويم، الذي كان والده التويم أيضا، قد أرسله إلى مضارب الرُّحَلْ، ليتلقى علوم الأولين والآخرين، إلى أن وقع بصره على الصّبية الفاتنة "بنت شيقوق" إبنة أخ جقندي. فيهيم بها حبا. يتزوجها. ويعود بها إلى الوادي ليقيم مع والده التويم ووالدته حميرّة.

 في هذا المناخ إذن إرتجف قلب "بنت شيقوق" عندما لفحه "سموم القبلي"، فعصر بنت شيقوق كان عصرا عجيبا، إذ كانت نساء زمانها عادة، يعتزلن بيوتهن في القيلولة. بعد أن يكن قد جئن من السوق الصغير، وقد جلبن إحتياجات الحياة المعيشية اليومية. وما أن ينتصف النّهار، حتى يتجمعن في قعدات القهوة، يدقن البن ويطلقن البخور، الذي تنطلق معه كل شياطينهن الخبيئة، تنقلن عدوى النّميمة والقطيعة، في سماء الوادي فاحش البذاءة.

تلك الحكايا التي تتناول سيرة الفتيات، اللائي يمارسن حبهن في صعوبة وسرِّية، لا تخفى على قعدات القهوة، التي تلوح فيها حياة الوادي، غارقة في الخواطر الملتهبة، والأخرى الباردة، التي تقاوم سموم القبلي، في ذروة إنعقاد جلسات القهوة، حتى أن أحد السلاطين شتمهن في أحد خطاباته، وأصدر قرارا رسميا، يمنع قعدات القهوة النهارِّية، وإستيراد البن. في هذا الوقت بالذات وفي الجانب الآخر من بندر الوادي، حيث حط الرحل مضاربهم، كانت بنت شيقوق في أوج فتنتها بقدها المارد، الذي إختبأ تحت دثار أسود، غطى جسمها كله، وضم داخله قدّها الملفوف وصدرها المتحفز، وتلك المأكمة التي لا مثيل لأناقتها. والتي أطلقت كل شياطين الجحيم في دماء ود التويم عندما رآها، عندما إنحنت لتدخل خيمة جقندي.

إتسعت عينا ود التويم وكادتا تقفزان من محجريهما، عندما تمرد صدرها وتمادى في شقاوته العابثة الملهمة من المأكمة، التي ضاق بها فضاء الخيمة. إنتبهت بت شيقوق لنظراته، التي جردت جسمها من عباءتها الفضفاضة، فسطع وجهها بغموض العذارى الخفي، وبرقت عيناها بجمر المواجد.

كانت تلك هي المرة الأولى التي يراها فيها، فطلبها من جقندي في الحال. ولم يمض عليه سوى أيام قلائل، حتى كان مع بت شيقوق يتجولان داخل بعضهما البعض في الوادي. كانت قصتهما أقصر وأعمق قصة حب تشهدها مضارب الرحل، أو بندر الوادي الضائع في دهشة التاريخ، من مثل هذا النوع من المواجد.

والده التويم ذات نفسه، لم يمر بهكذا قصة حب سريعة وحاسمة كالبرق العبادي، عندما تزوج من والدته حميرّة، التي كانت قد جمعته بها عادة التسكع في الوادي في الأمسيات. إذ تصادف أن حل الرحل وقتها بالوادي وكان يزورهم من وقت لآخر، ثم يمضي في تسكعاته، التي يبدأها من أرض الفجيجة، مرورا "بدبيبة سيف العشر" و"قردود الدليب" و"السهلة أم كركاع" و"دغل الحردان" والقوز "هراد اللهاه" حتى يصل "سندالة الحداد" و"خروعة المجانين" على مشارف جبل كارناسي، ثم يعود ليخلد إلى النوم.

لم يكن يدري أن ثمة عينان متوجدتان، كانتا تتسكعان في مراقبته.. تخترقان حجب الظلام والعجاج، لتصلان حتى داره في "ضهرة الحسكنيت" كلما حل بمضارب الرحل.. كانت تلكما العينان هما عينا حميرّة، التي كانت عندما تنعس في آخر الليل، ترى التويم يتسكع في أحلامها، مضيئا كل الفراغات المظلمة، فتحيا الحكايا القديمة وتزدهر.. تلك الحكايا التي لطالما حكتها لها جدتها. ترى شخوصها. عشاقها. عاشقاتها.. تراهم جميعا يتسكعون في الضوء الشاحب، وربما يهوون هناك حيث مركز الوسن، في غفواتها المؤجلة. وقتها كان قلب التويم ينتفض ولا يدري سببا لذلك، "فيحنس" النّوم. ثم لا يلبث أن يستيقظ مع صياح الديكة، فيتوجه إلى منتهى الوادي، حيث جبل كارناسي يبدأ في إلقاء ضل الضحى الشاحب.

في المرّة الأولى وجدها هناك في أحراش القمبيل والقنا، تراقب طلوع الشمس من خلف جبل كارناسي المهيب بذات المهارة التي يتقصى بها الرحل الأثر. وبذات الدقة التي يكتبون بها لغتهم شديدة الشبه باللغة "المروية الحديثة"، فالرحل لا يجمعون بالواو والنون، وليس لديهم واو جماعة، فهم يجمعون بالألف والباء. فالأب هو أصل الحياة، حتى أن المرأة نفسها خرجت منه، لذا هو ليس فردا فهو أيضا أغلبية، إذ أن الرحل كانوا يعتنون كثيرا بإعطاء كل ذي حق حقه سواء كان أنثى أو ذكر..

هذا النوع من الجمع الفريد والبديع، تجده حتى في بعض المواضع التي تمر بها قوافلهم من مالحة على طريق الملح، إلى بندر الوادي ك"قوز الكتراب" الذي يقيمون فيه ليوم أو بعض يوم قبل أن يواصلوا ترحالهم..

ولا يتزوج في الرحل إبن العم من بنات عمومته، أو خواله أو قريبته، فهم أمينون على عاداتهم القديمة.. و.. ولم يكن التويم لحظتها يدري أنها تنتظره هو..

كانت جالسة على الصخور حائلة اللون، وحولها الطبيعة بإيقاعات كائناتها المختلفة، تعزف لحن الخلود. المتوحد في إيقاعات أم كيكي الشجية في تهديدها الأزلي لأحزان الوازا المتوترة القلقة.

كان كلما نظر إليها في تلصصاته من بعيد، يشعر بأنها تقف على حافة شيء ما. ويداهمه شعور كالخارج عن سيطرته، سيطرتهما، سيطرتها.. شعور أشبه بزوبعة أو عاصفة تجذبهما إلى مركزها.. و.. وحثيثا.. حثيثا يحاول مناداتها، كما تحاول هي الأخرى. لكن صوت كليهما كان يخرج مشلولا.. مكتوما.. يغلي، منحبسا في قوقعته الصلدة. يجاهد الخروج دون جدوى. لكن بعد ذلك حدث كل شيء بسرعة مذهلة.. كان الطريق تجاه بعضهما البعض يقصر ويشارف على نهايته.. طريق يعرفانه جيدا فطيفاهما في كل جزء منه.

كانت ما أن تراه حتى تأخذ أنفاسها تعلو وتهبط. جلس قربها، توترت. دفن يدها في كفه، فارتخت أعصابها المشدودة، وتسرّب الخدر خرير الجدول، وبدت البرِّية.. كل البرية خافقة كقلبها البكر.

منذها أصبحا يلتقيان هناك. يقتربان ويبتعدان.. يبتعدان ويقتربان، وفي صمت ودون أن ينبث أحدهما بحرف كانا، يقولان كل شيء. تنفجر الزوبعة داخلهما، ويحيطهما العشق بسياج أبيض من النّور النّقي، فيشعان مثل ضوء شفاف، ممزوج في دعاش البحر الذي يداعبه القبلي، وروائح وأزهار البرِّية العطرة، دون أن يشعرا بأوراق الشجر الإبرية الشائكة، وهي تسقط. تخز الأرض. تحفزهما معا على العبور إلى الضفة الأخرى من الغدير.

عندما تغيب حميرّة يمضي متسكعا –كالعادة- في مضارب الرحل، عله يراها هنا أو هناك. وغالبا يجدها تجلس قرب الموقد في مدخل خيمتها، تحاول إشعال النار الخابية، وهي تردد تعاويذ الرحل فتشتعل كل نيران الأرض داخله دفعة واحدة. ثم يمضي ينتظرها تخرج في الليالي المقمرّة، إلى وادي الغزلان.. تجلس قبالة جنقل السلطان. تدس يديها وقدميها في التراب البارد، وتصيخ السمع لشاعر خفي ينشد ذات القصيدة، التي سمعتها طوال حياتها المتنقلة من مكان إلى مكان.. ذات القصيدة التي كانت تنسج خيوط خيمتها المدببة، أينما حل الرحل. تسمعها الآن في وادي الغزلان المشبع برائحة السُّعَات البري.

فيالصبيحة الباردة التي قرر فيها أن يتقدم ليطلبها للزواج، وجدها تنتظره على الغدير. كانت راكعة بركبتيها تداعب الماء المنحدر من ينابيع كارناسي الخفيّة.. وكان الماء يحفر تحت ركبتيها الأرض المبتلة بالشجن والمواجد. يتسلل ثيابها. كنفوسها. يدغدغ حواسها الرابية، ويتطاول في شقاوته فيمضي بعيدا ولطيفا.. دافئا وحميما.. محملا بأشواق آلاف السنوات الذائبة في حضن المدى.

 شعرت حميرة لحظتها بالدوار والخدر. فتحت عينيها وبكت. لم يسألها. كان يعرف أنه "لا يعرف" وأنها لا تعرف لماذا تبكي!

إنتظرته إذن في تلك الصبيحة الباكرة عند الغدير، بعد أن تسلل خفية من خيمتها في مضارب الرحل.. سحبها من يدها وأنطلقا نحو النهر. كان نداء المياه الرائعة والرائقة عند الفجر، يشدهما عميقا. جذابا. يحاصرهما برائحة الطّمي وعشبة معونة النيل. سبحا معا قريبا من القيف. ولم يتعمقا كثيرا..

في تلك اللحظات النبوّية الخالدة من الفجر الناعس، كان الشاطيء هادئا وساكنا. لا شيء سوى الثرثرات الهامسة بين المعونة والطمي والماء. كانا كما لو هما شخصان آخران وليس بذاتيهما المالوفتان.

عادا أدراجهما بعد أن شرعت خيوط الفجر الأولى، تهدد الأفق الضبابي الفسيح بالتبدد. جلسا على القيف يستقبلان خيوط الشمس، تجففهما بهدوء وإتئاد. وضع أنفه في تجويف صدرها يتنسم رائحتها. أغلقت عينيها وأصابعه تتسلل ظهرها، "تدعكه" في رفق. شعرا برجفة شعاع الشمس تدغدغ كيانيهما المتوحدان. فأهتزا كالمجاذيب.

كانت الشمس لحظتها قد بدأت تدفيء كل شيء. وكانا ساخنين جدا، ك"رميضاء دار الريح" في الظهيرات الجافة القاسية اللعينة. أفاقا من حضورهما القوي في الطبيعة البرِّية حولهما، على خطى رجل عجوز. إقترب منهما. وقف قبالتهما. تهشم تراب القيف الهش تحت وطء قدميه. وأخذ يعزف لهما على "أم كيكي" أنغاما" مميزة.. عنهما وعن الطبيعة وعن الناس وعن الأشياء والحب والجمال..

 عن الوادي والنهر وخيوط الشمس، تتراقص فيما هما يثرثران لبعضيهما حول ما جرى في تلك الصبيحة النادرة. نظرا إلى بعضهما دون أن يأبها للنّهر والوادي النّمامين.

وفي الليلة الأولى لزواجهما، تذكرا ذلك. وعندما بكت كانت تعرف هذه المرّة لماذا تبكي، فأجابته أنها في المرتين كانت تبكي حبيبا طال إنتظارها له، تتآكلها مخاوف العنوسة، في سنوات التململ بحياء العذارى الرهيب. وكلما هبت رياح القبلي أو الخماسين أو برق البرق العبادي ترسل نداءاتها إليه!..

كان التويم هو الحبيب المنتظر، الذي ترسل إليه نداءاتها، خلل أنفاسها اللاهثة مع عصافير آخر الخريف، أو الطيور المهاجرة عبر الواحات والوديان والصحارى، التي يقطعها الرحل، فتنتشي أنفاس الخماسين وعشبات الوديان وشجيرات الصحارى، عندما يلامس لفحها الغدران والجداول. ويستيقظ مارد الطبيعة الخفي. وتهطل أمطار العِينّة الغزيرة. التي لا يدري سّرها أحد. فيفيض النيل، وتحيض النساء، ولا يدري أحد شيئا عن السر المخبأ في جوف الريح والصدى.

أطرق التويم في إرتباك، كعذراء يحاصرها خفر مقيم من غرباء شديدي الجرأة والوقاحة. ثم تماسك. تخلل بأصابعه النحيلة جدائل شعر"حميرّة" الممشط في ضفائر كبيرة وتنهد:

"يا لكل هذا الحب!"

الغدير الذي كانا يلتقيان عنده قبل الزواج، أصبح هو والنّهر قبلتهما المفضلة بعد الزواج.

كانا يتسكعان في الوادي كعادتهما. يمضيان إلى النهر أو الغدير. يجلسان على شفته والمياه تحفر تحتهما، فيجن جنون الجدول المجاور. فيرسل خريره المحتج بقوة. ثم يحتد أكثر.. تحمل الريح صوته. تبعثه حيا. مهذبا في أغنيات الشجن والجنون.. تحمله الخماسين إلى مجاهيل دار الريح التي يكون الرحل لحظتها على مشارفها. فتلتفت القافلة.. كل القافلة تلتفت، ومع القبلي الذي يفيق لتوه من رقدته العميقة، يرسل جقندي تحياته التي تشق الفراغ العريض، في جسارة القبلي عاشق المسافات.

كانا كأنهما يستعيدان قصص الحب العظيمة، التي مرت على الوادي عبر تاريخه ضارب القدم. قصص الحب التي عاشها الأسلاف الذين كانوا يهيمنون بوجودهم الطاغ، على كل مكان يتسكعان فيه، ففي كل شبر من الوادي خطت خطى الأسلاف وتركت أثرها خفية غير مرئية، لكنها حيّة في ذاكرة الماء والفراغ والزمن والطبيعة.. المكان والشجر.. الناس والحياة..

هذه الذاكرة المتجددة في الحنين.. هذه الذاكرة..

طائر الغرنوق الذي يسترق إليهما النظر الآن، هو حفيد الطائر نفسه الذي كان يختلس النظر بعشق، إلى جمال جدته ست الدار. كأنه يحدق في أفق رحيب من النسائم العليلة.

هو حفيد الطائر نفسه الذي أخذ يبكي ويولول فوق رأس قطع الشك، وهو يرى المطاليق يحاصرونها.. هو حفيد الطائر نفسه الذي كان في الصبيحات النديانة يراقب ست البنات وسوميت، عندما "يفزعان" للحطب لإحياء حلقة تعليم المشردين والأهالي، وعندما ينال منهما التعب ترقدان مستلقيتان على ظهريهما تحت شجرة قمبيل، وقد حسر الهواء الشقي طرف جلبابيهما، عن ساقين بديعتين..

كان يراقبهما كما راقب أجداده جداتهم من بين أغصان القمبيل الكثيفة، وهو يصيخ السمع لأصوات أسلافه.. ولأصوات الشعراء والمغنِّين. الذين يخرجون لحظتها من مجاهيل جبل كارناسي، ويتحلقون حوله، ليضيفو إلى ماضيهم ذكرى جديدة عن المستقبل..

أنه حفيد الطائر نفسه الذي شهد ولادة الشايب الجنزير التقيل تحت "ضل الحرازة أم قد"، في ذلك الغسق البعيد، عندما دهم "الطلق" أمه على نحو مباغت في تلك اللحظة، التي غردت فيها العنقاء على نحو غير مألوف، فاجتمع كل الناس دهشين لكل هذا الجمال، الذي لا تنطفيء جذوته ولا تخبو نيرانه..

سبب زواج "أبوبردة" من "مطايب" والدة الجنزير التقيل أن جده "الكشيف" رأى مطايب والدة الجنزير وهي حشيمة.. إن دخلت أو خرجتمتقنعة. فجاء إلى إبنه أبي بردة وقال له:

"رأيت في قومنا الرحل فتاة لم أرى من هي أكثر حشمة وجمالا منها"

فأخبره أبو بردة أن ليس به أدنى رغبة في الزواج. لكن عندما طالت عزوبيته وخشي عليه والده الكشيف من إنقطاع الذكر. حدثه مرة أخرى. وهكذا تزوجها وحملت منه، فلما ولدت جاءوه ووجدوه راقدا في ضرا شجرة عند دبة حفير كدنكوة.. مغتى  بقفة من السعف"، والمشردون من حوله يبعدون الناس عنه ويقولون أنه "مورود". وعند إصرارهم نهض وتحدث معهم، فأخبروه. فركب لتوه "ماسكاً الدرب"، وكانت النساء وقتها قد نقلنها من تحت الحرازة إلى خيمتها..

خرجت النساء. فدخل عليها وأدخل أصبعه في فمه، فنبع منه اللبن بعد أن "ملص جلبابه وتحزم بالفركة القرمصيص وعصر ثدييه حتى درا اللبن، فريقه" منه ومكث حتى السبوع وسماه: الجنزير التقيل، وذلك أن أحدا لم يستطع حمله سوى والديه وجده الكشيف!..

وعندما كان الجنزير طفلا سأل  أبي بردة:

"يا أبي لم أصل إلى حدود العلم، وقد رأيت رؤيا.. أن عندي دلو أنشل به الماء من أعماق التبلدية حدا القوز الوراني وأفرغه في حيضان رملية كثيرة فتشربه.."..

فتبسم أبو بردة قائلا:

"أبشر بالخير.. إتسكنت وإتمكنت.. الناس تشيل من علمك وتفضل"

وهكذا قام الجنزير في قومه الرحل مقام جده الكشيف، الذي سمى بالكشيف نظرا لأنه يخبر الناس بما في ضمائرهم، وما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم، والذي عندما دنت وفاته وهو في خيمته الفوقانية قال

"أنا راحل من هذه الدار"

فظن قومه الرحل أنه رحيل كرحيلهم المعتاد، لكن إذا بمنادي ينادي فيهم:

"الكشيف إنتقل"

أنه رحيل كالإقامة، فللكشيف كانت تشد الرحال، وتضرب آباط الإبل وأكبادها، فقد أعطى الروح العظيمة للكشيف القبول التام عند الخاص والعام.

يحكي عنه الشايب جقندي فيما تواتر إليه: أنه كان جسيما فرآه رجل فقال:

"جسامة بلا أكل أو شراب"

فرد عليه الكشيف:

"صنع الروح العظيمة الذي أتقن كل شيء"

كان الكشيف إخيا هديا ورضيا.. يصر سبعة أحجار في طرف جلبابه. يحصي بها كلام الدنيا الذي ينطق به في يومه، وكلما نطق رمى حجرا. في حياته لم تحدث للوادي أو الرحل أي عوجة. كان إذا تبين له أن تيراب بلاد أحد الناس مخلوطا بتيراب ليس لصاحبها لا يأكل من زرعه.

III

كان السلطان "جبل الحديد" الشقيق الأصغر ل"بادي" رجلا فاضلا في باديء أمره يتبع خطى والده السلطان الكرباج، وكانت والدته هي الزوجة الثانية لوالده، الذي كان قد تزوج من قبل من "بت أبوسكيكين" والدة بادي الشقيق الأكبر للسلطان "جبل الحديد" والتي توفيت بمرض مجهول بعد ولادة بادي مباشرة.

ذات مساء بينما كان الكرباج يتفقد بندر الوادي رأى قوافل الرحل تحط رحالها قريبا من جنقله. إقترب من مضاربهم، ورأى "بت أبي سكيكين"، فخفق لها قلبه. فتزوجها. وأقامت في قصره دون أن يفارقها الحنين إلى قومها الرحل، بل إشتد حنينها أكثر بعد ولادة "جبل الحديد" الذي نصبه السلطان "الكرباج" ملكا على الوادي في حياته، فقد كان يحبه كثيرا، ويخشى عليه من غدر أخيه الأكبر بادي، الذي كان منذ طفولته غريب الأطوار.. وكان يرى أنه أحق بالملك لا لأنه البكر فحسب، بل ولكون أن أمه هي الزوجة الكبرى للسلطان، وهي على عكس والدة جبل الحديد، من أهل هذا الوادي وليست من الرحل، الذين كان بادي يرى أنهم أقل شأنا من أهل الوادي من جهة الحسب والنسب، وكتب في ذلك الكثير من الأشعار، التي تهجو الرحل وتمجد شعب الوادي النقي، الذي لم يختلط بأقوام أخرى!..

سيعثر أبوشوتال على هذه الأشعار الركيكة، بعد عشرات السنوات، مدونة على جُدُر كهف كارناسي، بعد أن تتراجع كل الأصوات حوله: صوت القماري.. حفيف أوراق القمبيل.. خرير الجدول الثرثار.. دمدمة النهر المتواطيء.. وهدير شلالات كارناسي المقدس.. و.. ويصبح الصمت كقشرة رقيقة من السكون، تخدشها الأصوات الهاربة من أغوار تاريخ الرِّق والعبودية، إلى جوف الوادي المتلفع بغباش الفجر، فيشعر  بادي لحظتها أنه قد عثر على كنزه الضائع.

كانت غرابة أطوار بادي، لا تتوقف عند حد، يقوده طموحه الأعمى وذكاءه الإجرامي الحاد، إلى فعل أشياء غريبة، ستظل تحكم مسيرة حياة الوادي وشعبه لعشرات السنوات، فهو الذي أحيا إحدى الطوائف السرِّية القديمة، وكوّنها من جديد. والتي خرج من رحمها المطاليق.

كانت طائفة لم يشهد تاريخ الوادي القريب والبعيد مثلها. فقد تأسست وفقا لأفكار بادي الإباحية الشرِّيرة، التي لا تأبه لهتك الأعراض الجماعي، أمام أعين محارمهم. كما مارست أعمال الدّجل والشعوذّة، وفي الحقيقة كانت من الداخل تنقض عُرّى أفكار الرحل، التي بدأت وقتها. تنمو بين أهالي الوادي. خصوصا بعد أن إستقر الجنزير التقيل وأوقد "تقابة" لا تنطفيء.

وقتها كانت أم السلطان الكرباج قد مرضت مرضا شديدا، فعزم لها الجنزير التقيل، ولم تشفى فقال له السلطان:

"إن كان ما عافيت أمي قتلتك وقتلت الرحل.. وإن عافيتها زوجتك إبنتي حوشة، فهي لك تفعل بها ما تشاء"..

فعزم لها الجنزير مرة أخرى فعوفيت، ولكنه رفض الزواج من إبنة السلطان، وطلب منه أن يزوجها "الإسيد" نوارة المشردين، فوافق السلطان بعد تردد بارا بوعده الذي وعد.. وبعد أن تزوجها الأسيد، أخذ يمشي إليها بعد الفراغ من حلقة التعليم التي أنشأها المشردون. فمنعته حوشة من ذلك وقالت له:

"إرحل بقراءتك إلى دارنا. القراية التبقى هنا عندنا"

لكن المشردون إمتنعوا وقالوا له:

"عندها الخدّم الحسان.. يمرقن ويدخلن.. يفسدن علينا عقائدنا،نحن لا نضمن أن نهم بهن أو يهمن بنا.. كيوسف وزليخة، لذا الأفضل أن تظل النار بعيدة عن الحطب"..

وهكذا تولت قطع الشك وبنت المنا أمر حلقة التعليم. وعندما علم الجنزير التقيل بالأمر ذهب لمقابلة السلطان وسأله:

"يا طويل العمر العندو سراج يوقدو في بيت غيرو يرضى؟"

فأجابه السلطان:

"لا"

فقال الجنزير:

"الإسيد والمشردين سراج الوادي، فليه حوشة عايزة تعوج دربهم، عشان يوقدو أماكن تانية، ويتركو البندر في الضلام؟!"..

ولم ينتظر رد السلطان. فلحظتها كان قد طار في الهواء وأختفى والسلطان ذاهل..

كان بادي والمطاليق الذين أختارهم بعناية، يقيمون تحت راية "الإسيد" الذي صار منهم تعاليم الروح العظيمة خلف الجنزير، ويقتاتون على مائدة السلطان. بل أنهم حاولوا في بعض الأحيان، إلصاق صفة الروح العظيمة على بعض شياب الرحل لتضليل أهالي الوادي..

عندما إكتشف السلطان الكرباج للمرّة الأولى، وجود هذه الطائفة، التي لم يكن يدري شيئا عمن بعثها ونفخ فيها الحياة. جد في البحث عن مريديها، وأحرق بمساعدة الجنزير التقيلمن إستطاع العثور عليه. منذها أخذ المطاليق يدعمون طائفتهم بمزيد من السرِّية.. يكمنون حينا ويظهرون للعلن حينا آخر.. وفقا لتضاؤل نفوذهم، أو مدى سطوتهم، ومتى ما بان لهم ضعف في السلطنة، ينشطون لتفكيك عراها.

عندما أسس بادي في أول عهده هذه الطائفة، بعد أن بلغ الحلم مباشرة. أختار لها دار الريح مركزا، حيث شيد هناك قلعة حصينة، أطلق عليها إسم "الحليلة شوحططت"، ثم بدأ بإرسال دعاته من الخواص، الذين إنتقاهم بدقة لنشر دعوته بين عامة الناس في سرِّية تامة، وكان هؤلاء الدعاة يخفون (قناعاتهم الحقيقية) حتى إذا وثقوا في تابعيهم أطلعوهم على الخفايا من أفكارهم، كتساوي الناس في النساء والأموال، وإباحة نكاح المحارم والغلمان وإشاعة اللواط. ولطالما تعرض بعض قادة المطاليق للقتل بسبب هذه الأمور.

بل تذكر إحدى الأحفورات، على جدر كهوف جبل كارناسي، أن أحد قادة المطاليق ، يدعى "السخيل" قتل على يد غلامه، الذي كان يدعى "أبو عقيرب". فالسخيل كان قد أسر هذا الغلام في إحدى الغزوات وأستخلصه لنفسه، وجعله على طعامه. وكان أبوعقيرب لا يزال على معتقدات الرحل. يكتمها عن السخيل. فلما رأى الغلام مضايقة السخيل المستمرّة له، بأن يفعل به كما يفعل الغلام بأنثى، أكمن في نفسه قتله والتخلص منه، وحانت له الفرصة عندما دخل والسخيل الحمام. وما أن "فنقس" السخيل حتى طعنه أبوعقيرب بسكين-كان يخبئها- في عنقه وأجهز عليه، ثم خرج ليخبر أحد قادة المطاليق، يدعى سوار. أن السخيل يريده في الحمام، فلما دخل سوار قتله أبو عقيرب أيضا، وفعل الشيء نفسه مع خمسة من قادة المطاليق، قبل أن يكتشفوا أمره ويقرضوا لحم جسمه بالمقاريض. فقد كان المطاليق في عصورهم المتأخرة، قد أوجبوا قتل الغلام الذي يمتنع عن أن يفعل بسيده ما يفعله بالنساء!.

وبهلاك السخيل على يد الغلام أبو عقيرب، وإنقسام السلطة بين أبنائه. خفت قوة المطاليق وتهديدهم للحياة الإجتماعية في وادي الذهب، وأقتصرت أعمالهم على قطع الطريق، وبعض الهجمات الخفيفة لتأمين مصدر عيشهم، إلى أن قام بادي ببعث مجدهم من جديد، وجعل منهم النّواة للمطاليق الجدد، الذين يعيثون فسادا الآن!..

وفيما حملت ألواح وأحفورات جبل كارناسي، أن المطاليق كانوا طوال تاريخهم، ينقسمون إلى فرق وجماعات، على الرغم من توزع ولاءاتها فيما بعد، على أبناء بادي. من نساءه العديدات، بعد ست الدار. ومن بعد أحفاد هؤلاء الأبناء، وأحفاد أحفاد أحفاد أحفادهم.

إلا أن طائفة المطاليق  في النهاية تبقى موحدة، كمطاليق ينتسبون إلى (عرق نبيل مقدس) هو عرق بادي خلقة وأخلاق! حتى أنه في عهد السلطان "التور الجرِّق" عندما تنامت سلطاتهم وطغيانهم وأكاذيبهم، على الأهالي البسطاء، جرد عليهم "التور الجرق" حملة فانتصروا عليها وحاصروا بندر الوادي، وردموا مجرى العيون التي تغذي النهر عند إلتقاءها به.

لم يتركوا حجرا أو شيئا لم يضعوه في مجرى النهر، ومع ذلك ظل النهر على جريانه ينحدر إليه الماء من منابعه البعيدة، فعمدوا إلى حيلة أخرى، بأن حفروا إلى جوار النهر، نهرا آخر لتغيير مجراه. تتحدر إليه مياه النهر، الذي يشق الوادي إلى قسمين. فبذلك يعطش الأهالي المحاصرين بالجوع.. الذين عندما لاح لهم أن النهر سيجف وأن حياتهم قد ضاقت، فر منهم من تمكن من الفرار، وأنضم للمطاليق.. ومن لم يستطع أو من أبى تم قتله بطريقة بشعة. ولولا أن تداعت حواضر الصعيد ودار الريح والسافل ودار صباح البعيدة، لنجدة بندر الوادي. لسقط تماما في يد المطاليق، ولربما دانت لهم السلطة المطلقة إلى الأبد.

وتشير الأحفورات –وقتها- أن قائد المطاليق السخيل الذي قتله الغلام أبوعقيرب، كان قد أخبر أتباعه قبل مقتله، بأنه سيصعد إلى السماء. وأنه سيبقى فيها أربعين يوما، وأن أخويه المطلوقين "أبوقصيصة" وسوار الدهب سيحلان محله في قيادتهم وعليهم بطاعتهما..

بث المطاليق أحقادهم في كل منطقة وصلوا إليها. قتلوا أهلها وأستحلوا نساءها، وعاثوا فسادا ليس بعده أو قبله فساد. وحتى الآن لايزال المطاليق ينتظرون عودة السخيل، رغم إنقضاء عشرات السنوات على الموعد المضروب؟!

كان نظام الإقتصاد في "الحليلة شوحططت"، التي أقام فيها بادي قلعته الرهيبة، نظاما عجيبا في بعض أوجهه، إن صح ما نقلته أحفورات كارناسي.. إذ كان المطاليق ينظمون البيع والشراء والأخذ والعطاء، الذي يتم فقط داخل حدود الحليلة شوحططت، بواسطة رصاص في زبيل. حيث تباع لحوم الحيوانات  كلها من كلاب وقطط وحمير وبقر وخراف، وغيرها.. ويوضع رأس الحيوان وجلده قرب لحمه. وينسجون هناك "فوطا" جميلة يصدرونها خارج حدود الحليلة شوحططت. ولإهتمامهم الفائق بإقتصادهم بلغ بهم الأمر، تفقد الشاة إذا ذبحت فيسلمون "الضباحين" اللحم، ليفرقوه على من رسم لهم من أعوانهم، ويدفع بالرأس والأكارع و"الكمونية"، إلى العبيد والإماء. ويجز الصوف والشعر من الغنم، ليتم تفريقه على من يغزلونه، ثم يدفع به إلى من ينسجونه عباءات وأكسية.

 كذلك تفتل منه القرب والروايا والمزاود، وما كان في الجلود يصلح نعالا أو مركوبا، يستخدم لهذا الغرض. ثم يجمع كل ذلك في خزائن داخل قلعة بادي الحصينة. كما جمع المطاليق –وقتها- الصبيان في دور أقاموا عليها من يرعاها، ووشموهم حتى لا يختلطون بغيرهم، ونصبوا لهم من يدربهم على ركوب الخيل وفنون الحرب والطعان، فنشأوا لا يعرفون شيئا غير ذلك.

وعندما كانت السلطة في مركز السلطنة، تقوى. كان المطاليق يكثفون من عملياتهم الإنتحارية، والإغتيالات للناشطين في معارضتهم، تحت تأثير تعاطي الحشيش، الذي كانوا يظنون أنه يعطيهم مقدما جرعات من ما ينتظرهم من مباهج في العالم السرمدي الذي ينتظرهم.

كان مركز قيادة المطاليق الذي شيده بادي، بين الجبال الحصينة، التي تحيط بالحليلة شوحططت. في منحنى حدود دار الريح مع الصحراء الكبرى والغابات.

وهو عبارة عن قلعة حصينة من الأحجار، فيها حديقة كبيرة ملأى بأشجار الفاكهة، وفيها قصور وجداول تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء، وبنات جميلات يغنين ويرقصن ويعزفن كل آلات الموسيقى عدا أم كيكي!؟!.

عندما أكمل بادي تشييد هذه القلعة، على هذا النحو. منع دخول أي شخص إليها، فكان دخولها مقصورا فقط على من تقرر أنهم في أعلا مراتب المطاليق، وكان بادي يشرف على هذا الأمر بنفسه، إذ يدخلهم في مجموعات، ثم "يشربهم" الحشيش ثم يتركهم نياما! ثم بعد ذلك كان يأمر بأن يحملوا ويوضعوا في الحديقة، وعندما يستيقظون فإنهم سوف يعتقدون أنهم في تلك الحديقة السرمدية، التي لم يرها أحد وحفلت بها حكايا الجنزير التقيل، وبعد أن يشبعون شهواتهم من المباهج المؤقتة، كان يتم تخديرهم مرة أخرى، فينامون.. عندها يأمر بحملهم وإخراجهم من الحديقة.. ثم يرسلون إليه، فيركعون عند قدميه ويسألهم:

"أين كنتم؟"

فيجيبون:

"في الحديقة السرمدية، التي حفلت بها حكايا الرحل، ولم يرها أحد"

بعدها يرسلهم لإغتيال أعداءه.. فمن نجا منهم يعيده مرة أخرى بنفس الطريقة، إلى الحديقة ومن قتل أثناء أداءه لمهمته، تأتي مخلوقات الروح العظيمة النورانية بقيادة الغارنوق، وتحمله إلى الحديقة السرمدية، ليستمتع بمباهجها-كما يعتقد- ومن فشل يقتله بادي بنفسه.. كما فعل مع أولئك المطاليق الذين فشلوا في إغتيال سلطان مملكة الجوار في السافل عند منحدر النهر.

ربما أن بادي، جاء بكل هذا الشر من ذكريات طفولته المريضة، التي لطالما سفك فيها دماء الحيوانات الأليفة، وأعتدى فيها حتى على شقيقه وأقرانه، حتى سال منهم "الدّم ركب".

عشق بادي السحر، والبحث في المعتقدات البائدة، التي كان يسافر طلبا لها إلى دار الريح، وما وراء الصحراء الكبرى. ولا يتوقف عند حدود تمبكتو أو كانم. يغذ المسير شهورا وربما ينفق ما يزيد عن العام، حتى يعود محملا بالمخطوطات وألواح الخشب، في أحمال قافلة أو قافلتين. في كل مرة.

كما ربطته علاقات عميقة "بمعراقيي" دار الريح "المطاميس" الذين برعوا في أعمال "الدغمسة" و"اللغوسة الغميسة". وعندما توفي والده السلطان الكرباج وفكر في الإنقلاب على أخيه الأصغر جبل الحديد، لم يكن ثمة شيء بقادر على إيقافه سوى إدراكه أن الرحل الأقوياء.. "العارفين" بالأسرار الخفية، يحمون إبن أختهم من كل شر، لذا قرر أن يجهز نفسه جيدا قبل الإنقلاب من جديد على جبل الحديد، خاصة بعد أن فشل إنقلابه الأول فشلا زريعا. وهكذا أخذ يجمع الشباب الذين لفظتهم "خشوم بيوتهم" وأصبحوا مطاليقا "لا تالي ولا والي لهم". وأخذ يدربهم في سرِّية تامة، ويعدهم لليوم الموعود. وبالفعل تحول المطاليق إلى قوّة ضاربة.

كثيرا ما حدثته نفسه أن وقت الحاجة إليها في مواجهة مباشرة ليس ببعيد.

وفي ذلك اليوم البعيد، الذي إلتقى فيه ست الدار، عندما كان قادما من إحدى رحلاته إلى دار الريح، حيث تكمن قوته الأساسية هناك. كانت ست الدار بت سراج البيت، تعشق الفتى عمسيب، الذي كان لا يكبرها كثيرا كبادي، الذي إختطفها في ذلك اليوم المشؤوم.. وقتها كان الشايب الجنزير التقيل، قد أخذ يعمل بمساعدة بت ود المنا على مساعدة السلطان جبل الحديد والعنتيل، على إعادة الأمن والهدوء والسكينة إلى الوادي، بعدما إنطلقت عصابات المطاليق تنهب الناس بقوة السلاح، وتحرق القرى والفرقان والزروع، وتقطع الطريق حتى على الناس الهاربين.

آخر مرة رأى فيها عمسيب ست الدار قبل أن تختفي إلى الأبد، دون أن يعلم أحد عنها شيئا. كان لقاء سريعا في وادي الغزلان. قبلها كانت قد مرت عدة أيام، لم يرها فيها. فتناهبه القلق والخوف. وعندما جاءت، أخذ يتكلم وحده طوال الوقت، وهي تبتسم في صمت دون أن تقول شيئا، فتآكلته الدهشة.

سألها عن حالها المتبدل فأخبرته عن ذلك اليوم، عندما إفترقا آخر مرة، ومضت. وعندما رقدت رأته في أحلامها كالعادة، لكن كان حلما مختلفا هذه المرّة. ليس ككل أحلامها الماضية. كانت قد رقدت وهي تشعر بتعب "ودوخة" وتقلصات خفيفة في أحشائها، عندما رأته يمسح على بطنها -في الحلم-

"كان وجهك معكرا. ودمعة كبيرة تتلألأ على جفنيك"

""هذا نزير شؤم

إرتفع حاجباها في دهشة وواصلت:

"فوجئت في الصباح، بقطرات من الدّم على فراشي. كانت القطرات تنقط كماء (القربة).. (كنقاع)الزير، عندماقطعتجدتيخلوتي..                                                            ."وماذا قالت لك ؟"

"في البدء لم تقل شيئا. مضت تتحسسني بريبة، تحاول إكتشاف ما يجري في المنابع البعيدة، ثم أرتفع حاجباها في فزع":

"أنت حامل؟من هو؟"

.."قطرات الدم الدافئة تأتي من هناك.. من الطبقات الداخلية للرّحم، تنقط تروي الأرض الجدباء"

"هذا يحدث أحيانا في حالات الخصب"

قالت جدتي مغلوبة على أمرها..

"لذلك غبت عني؟!"

"كنت بحاجة لأن أخلو بنفسي"

"ولم تحدثي جدتك عن ذلك الحلم"

"أي حلم؟"

."عندما كنت أتحسس بطنك والدمعة.."..

"لا"

""يجب أن تحدثيها فالجدات يعرفن الكثير من الأمور الغامضة

كان جمال ست الدار كما ظل عمسيب يشعر به دائما، من جمال الوادي. وجمال الوادي من جمالها. كلاهما كانا يتماهيان في لوحة الجمال البكر، للطبيعة الساحرة.. في شذى الورد والزّهر البري ورائحة السعات والسِّعدة، وكلاهما يبعث تأملهما على الخدر اللذيذ، والغياب في الوجد اللا نهائي. فست الدار هي إبنة الطبيعة.. طبيعة الوادي، كلما رأت غديرا يشدها الماء للركوع..

تتركه يتسربها هادئا ومجنونا، إلى أن إختطفها بادي في ذلك المساء الحزين، وظلت لأيام تنام ملتفة على نفسها، مكوّمة. تسند رأسها الصغير بمعصم، وتجفف دموعها بالمعصم الآخر. تحلم في الأسر.. بين جدران قصر بادي.. تحلم بدفقة الضوء تتسلل دارها، وتنعكس على أجفانها نصف المفتوحة، وهي بين النعاس والوسن.. تحلم بعمسيب يأخذهاعلى صهوة جواد أبيض، بعيدا عن هذا القصر.. بعيدا عن هذا الوادي، إلى أن تحسس بادي يوما بطنها، بعد أن لحظ إنتفاخها.

ظلت ست الدار تزور عمسيب في أحلامه كل ليلة. تجلس في مدخل وادي الغزلان، من جهة تلة "شقيق الفار" حيث ظل ينتظرها لأيام، قبل أن يقرر البحث عنها في كل مكان. كان طيفها يلازمه. وجهها الشاحب يتورد عند رؤيته. ترتفع حرارة جسمها، وفي صدره هو الآخر، يعتلج شعور متواصل بالتهيج. دائما يشعل طيفها كل النيران والحرائق الخبيئة، التي لا تنطفيء، فيود لو يركض، ويدخل بيوت الوادي بيتا بيتا، ويقبل كل العذّارى.. طيفها يقوده إلى مكانهما المفضل:

الغدير عند وادي الغزلان..

يرخي زراعيه على كتفها فتتساءل داخلها: (ترى هل غشي عمسيب أنداية تام زينو؟) إذ يبدو كالمخمور وهو بين آن وآخر يتحسس عصاه التي إنغرست على شفة الجدول ذو العشب الندي..

طيفها يطارده محمولا على أصداء الأغنيات الحزينة.. الآتية من بعيد بمواويل الشجن. المحملة بالأسى والضياع.. ضياعها.. ضياعه.. ضياع الوادي الغارق في المواجد والتوجدات المجهضة.. الضياع كقدر أزلي لمن لا يعرفون قيمة الحياة..

وعندما غرس بادي في تلك الظهيرة شوتاله في قلبها تماما، كان عمسيب قد شعر بطعنة في قلبه ومرض مرضا شديدا، وعندما تماثل للشفاء وسمح له أهله بالبحث عنها، يمم وجهه شطر دار الريح، دون جدوى. وعندما عاد. كان يخرج في العشيات إلى وادي الغزلان.. يبكي إلى أن ينال منه التعب. وبمرور الوقت كف عن البحث عنها وأنضم للمشردين..

لكنها ظلت في الليالي المقمرة تخرج من بين أعماق الوادي.. تعزف على وتر الأشجان أناشيدها الحزينة، فيبكي عمسيب وجده وعذاباته، ويتعرّى تحت ضوء القمر.. يتنفس بعمق، ويزفر عن صدره الشجن والحنين.. زفرات الأسى والعذاب، الذي سكنه منذ إختفائها الغامض..

يزفر حتى لا يتبق فيه سوى نفس ضئيل كالرمق، يدّخره لأيام قادمات خاليات من كل غوّاية. أيام تجيء فيها ست الدار من غياهب المجهول.. تمشي على رمل الوادي.. تركع على الغدير العكر فيصفو، وحين تغني تصيخ عصافير الجنّة الملوّنة السمع.

ويمر بعض الوقت قبل أن يشعر المشردون جميعهم، بالخدر يتسلل رؤوسهم.. ويزحف بطيئا ليغرقهم في حلم منسي، فيشعرون بنفسهم كحمامات قطع الشك.. لحظتها فقط يضمون أحزنهم إلى بعضها البعض.. وفراقهم إلى بعضه البعض، ووجدهم يرتعش إرتعاشة واحدة.

IV

من على قمة جبل كارناسي يمكنك أن ترى السحب المنخفضة، وهي تتعلق بالأفق. وينابيع المياه العذّبة وهي "تنز" من تحت الأرض، وتجري بعيدا، لتمتزج بالبحر الملوّن أقصى دار صباح.

من قمة جبل كارناسي، تتبدى السماء والأرض والبحر الملوّن والنّهر، في فوضى عاصفة.. يتخلق فيها الوادي في الأزل.

يقال أن سبب عظمة الشاب الجميل كارناسي، دعوة صالحة من أمه "صُبح الهنّا"، وذلك أن عندها قدحا فيه دهنا مقرفا، فرقه كارناسي في الأرض. وعندما جاءت "صُبح" ووجدت دهنها يجري على الأرض جداولا، قالت:

"أللهم أجعل وليدي كارناسي وتدا من أوتاد الأرض"

فسمعت قائلا في الهواء يقول:

"آمين"

أو.. لأن والده "مضوي" حفيد الشايب أبو قرين البارك، وجده منشغلا بجمع التراب، لسد جداول إنكسرت، فقال له:

"كلنا إنشغلنا بالدنيا"

ودعا له بقريحة صادقة فجعل الروح العظيمة البركة فيه،  وخلّده. وأنتقلت هذه البركة إلى الجبل، الذي حلّت به روحه.

على قمة جبل كارناسي في ذلك الزمان البعيد، ظهرت البيضة التي صنعها الروح العظيمة من مزيج الريح والشهوة. عندما "فقعت" هذه البيضة، خرج منها طائر الغارنوق، الذي أطلق صيحة، رددت أصداءها فضاءات الوادي الرازح في العتمّة، فأحالت ليله إلى نهار. تبدد الظلام، الذي نشأ الوادي في أكنافه لعشرات السنوات. منذها بدأت تظهر واضحة للعيان، تلك الشلالات التي تتدفق من عيون خفية، لا أحد يعرف "مبتداها من منتهاها"، والتي تمضي في أخاديد عبر الشقوق "تجلبغ" حينا وحينا آخر "تخر" متحدرة، حتى تصل مجاري الوديان والسهول، التي تحيط بوادي الذهب، وتتدفق بعيدا بعيدا.. إلى حدود دار الريح وتتخطاها إلى الجوار، حيث بقايا محيط المياه الواسع، الذي دفنته رمال الصحراء الكبرى، في زمان سحيق. عندما غضب الروح العظيمة على الرحل.

جبل كارناسي ظل شامخا وغامضا وصامدا كالطود، عبر الأزمان السحيقة. لم تهزمه ريح ولا أنواء. لم يهزمه مطر ولا حرارة شمس، ولا برودة شتاء.. حتى تلك البرودة، التي تحرق العشب والشجر!..

فيضانات النّهر، والسيول العظيمة المنحدرة من إمتدادات الصحراء الكبرى، في دار الريح، حتى سهول دار صباح. تلك السيول التي كانت تجرف في طريقها كل شيء، وهي تهدر في جريانها الحثيث، للإلتقاء بفيضانات النهر وأمطار الوادي الغزيرة، لم تكن تجد ما يتصدى لها سوى جبل كارناسي المهيب، الذي لم يهزمه شيء البتة. وظل أمينا كحارس وفي على بوابة الوادي، أشبه ببوابة الجنزير التقيل وطوابيه على شفاه النهر.

إذ لطالما إختبأ في كهوفه السرِّية الأهالي عندما يحل بهم غضب المطاليق أو غضب الطبيعة. ومن ينابيعه الخفيّة لم تتوقف المياه عن الجريان لتحفظ حياتهم، في موجات الجفاف والتصحر. تروي الوديان اليابسة لتخضر الزروع. كان كارناسي حامي حمى الوادي، الذي لا تقوم له قائمة بدونه.

جبل كارناسي الذي لم يكن ثمة شيء يؤرقه، سوى إدعاء البعض، أن في عروقهم تجري دماء نبيلة مقدسة، كانت تدور حوله العديد من الحكايات الغريبة، كقصة الشاب العاشق الجميل كارناسي ذات نفسه، والذي حلّت روحه بالجبل بعد الدمار الأول للوادي.

وقتها لم يكن ثمة شيء سوى الفوضى، التي جعلت كارناسي يدرك: أن الموت  هو العدو الأول للحياة، فأراد لنفسه الإنتقال أو الخلود فابتهل للروح العظيمة، أن يحوله إلى جبل، أو ينقل روحه لتسكن الجبل، وهكذا ولد كارناسي من جديد.. في رّحم الطبيعة الأم، دون أي آلام مخاض!.

هذه الحكاية ضمن حكايات عديدة أخرى، حفظتها المدونات التي وجدت في معبد الكهف المقدس لجبل كارناسي. كما تحيط بجبل كارناسي العديد من القبور المجهولة، التي لا يعرف لها أحد صاحبا أو تاريخا.

كانت قبور حيّة.. كأنها تمتص الحياة من الطبيعة حولها، منذ عشرات السنوات، إذ عندما أنكشف لأحد الرعاة أحد القبور.. رأى جثة صاحبه لا تزال في كامل هيئتها، التي مات عليها: جسمه "الأخدر" نديان و"مفرهد"..

كان بدينا ولامعا ومبتسما، فكفنه الرّاعي من جديد وأعاد دفنه. البعض يعتقد أنها قبور قتلى المطاليق في ذلك الحصار الرهيب الذي عرف بسنة "أم شانق" لكثرة الذين شنقهم المطاليق. بينما يصر آخرون أنها قبور ضحايا المطاليق عبر التاريخ، ويعتقد البعض من القلّة أنها قبور الناجون من الدمار الأول، أو أهل بيت كارناسي "ذات نفسو". الذين قضوا بينما كانوا يؤدون طقوس"جدع النار" على إيقاع الطبول الخفيّة.

أكثر الروايات إنتشارا من بين كل الروايات حول جبل كارناسي، هي تلك الرواية عن كارناسي الشاب العاشق ذاتو. إذ تفيد الرواية بجمال كارناسي الشاب العاشق، الذي إنحدر من سلالة الشايب الصالح أبوقرين البارك، الذي ألهمته الروح العظيمة أن يصنع الفلك، لينقذ قومه من الطوفان.

في فجر إنتقال روحه لتسكن الجبل، لاح كارناسي في غباش ذلك الفجر للرعاة، الذين كانوا يتحلقون لحظتها حول نار صغيرة. كان قادما من الفراغ.. في عباءة سوداء ووجه شاحب. شيئا أشبه بالظل.. راعش الأصابع، ووجهه ينضح بالحزن والعذاب. تطلع في وجوههم بأسى.. عرفوا في هذا الأسى الرهيب بوجهه كارناسي العاشق، وأدركوا جميعا دون شك أنه لا محالة ميت، فقد كان كل شيء حولهم صامتا صمت القبور، ويحمل نذير الموت الذي لا تخطئه أحاسيسهم الرّعوية الخالدة، التي أصبحت أشبه ببندر إستعماري عتيق.. مهجور.. كبقايا الطوابي غربي النّهر..

كان الشاب الجميل الأمرد، ذو الخصلة الطويلة كارناسي. قد بلغ من الحكمة والقوّة، ما جعله مهابا.. محسودا من جميع أقرانه. فقد علمه والده الفيلسوف "الشايب مضوي" العلوم والفنون وتخطيط المدن، ومباديء القانون وحسن الجوار، حتى أن المدونات التي على سفح جبل كارناسي، تؤكد مرارا وتكرارا أنه ألف كتابا في الحضارة(كتاب دالي المفقود في دار الريح) الذي لم يعثر عليه أحد، حتى الآن! بعد أن جاء الرحل ليلملمون آثار هذا الدمار.

أحب الشاب كارناسي الفاتنة "القندول"، الإبنة الوحيدة للسلطان "الحرّات"، والتي كان يتنافس على نيل ودها الكثيرون، خصوصا الشاب ذو العاهة المستديمة المطلوق "الخازوق"، ذلك الشاب الذي إمتلأت نفسه بالضغينة، وفاضت بالأحقاد والحسد، والذي كان قد إستقرت في دخيلته، قناعة بأن القندول لن ترضى بسوى كارناسي، طالما ظل كارناسي على قيد الحياة.

وكان قد أشيع حينها حول القندول وكارناسي الكثير من الحكايا العذرية المجيدة. ولذلك قرر الخازوق القضاء عليه، ليخلو له الجو مع القندول.

وقتها كان حب القندول قد ملأ أعماق كارناسي بالحيوية، التي جعلته في فعالية دائمة وحركة دائبة، تدفقت خارجه وإنعكست على حياة الوادي الساكن، فأزّهرت الزّهور وأخضرت الأشجار، وأمتلأ الوادي بالطيور. في الوقت نفسه، كانت خطة الخازوق لإختطاف القندول قد إكتملت، بعد أن لجأ لبعض أصدقاءه المطاليق.

كانت القندول تتنزه على مقربة من دارها.. أختطفوها، فجن جنون السلطان وإمتلأت المملكة عن آخرها بالجند. ومضى العاشق كارناسي، يقتفي الأثر دون أن يعثر عليها. في البدء. لكن لم يكن ثمة شيء بقادر على إيقافه. بحث عنها في كل مكان، إلى أن علم أن خاطفيها، قد عرجوا بها على أنداية "تام زين".. المكان الذي لا يمكن للسلطان أو جنده توقعه على الإطلاق!، حيث كان طلاب الخمر والمتعة يجلسون على بنابرهم وعناقريبهم يشربون المريسة مربوطة الزبدة، بكاسات القرع من "دلالنق وبرام" الفخار.

كان الخازوق قد خبأ القندول عند شيخة الأنداية، وجلس متحفزا.. أمامه برمة مريسة.. على سطحها"طفحّت" ذبابة خضراء كبيرة على زبدتها الطافية.. بينما كان هو يتلفت من حين لآخر، يتوقع وصول كارناسي، إذ كان يعلم أن "قلبه دليله". وما أن خطت خطوات كارناسي مدخل الأنداية، حتى نهض الخازوق يعزم عليه، ويطلب منه العفو والأمان.. ويخبره أنه نادم على ما فعله أصدقاءه ندما شديدا.. وأنه سيعاقبهم على فعلتهم.. وأنه عندما علم بما فعلوه قرر أن يعيدها لولا مجيئه، فقد عزم على فعل ذلك حالما ينهي شرابه، وأنه لن يخبره عن مكانها، مالم يقبل عزومته.

لم يصدقه كارناسي –بالطبع- ولكنه قبل العفو عنه عندما رأى تذله، وقبل عزومته على مضض، فقد كان كل ما يهمه: هو الإطمئنان على "القندول" أولا..

طلب الخازوق برمة أخرى، وأمر تام زين أن تولم ل"صديقه" وضيفه كارناسي.

كان الخازوق قد وضع في اللحم الذي يأكل منه كارناسي، سم أبوالدّرق خفيّة حتى من تام زين، ولم يمض وقت طويل حتى شعر كارناسي بالصداع يجتاح نصف رأسه، ويزحف حثيثا ليزرع في خلايا دماغه ألما رهيبا، وشيئا فشيئا كانت الدنيا تستحيل أمامه إلى ظلام دامس، بينما الأرض تدور به..

كان السم قد بدأ يسري في جسمه كله، فأدرك أن نهايته وشيكة. فأخذ يبتهل إلى الروح العظيمة طلبا للخلود، وبينما المطاليق منشغلون بالمأدبة، كانت القندول قد تمكنت من الهرب بعد أن أخبرتها تام زين، بما لحظته على كارناسي..

كانت القندول منذ البداية، تشعر بأن نهايتها وكارناسي وشيكة، لكنها لم تتصور أن ينتهي كل شيء بمثل هذه السرعة.. هربت تبحث عن نبتة الحياة الخالدة، التي قيل لها أنها موجودة في جزيرة نائية، حيث يقيم ذلك الشايب الصالح أبو قرين البارك، الذي أنقذ قومه قبل عشرات السنوات، من الجليد والطوفان..

ظلت القندول تبحث عنه، إلى أن وجدته في مسكن صغير داخل دغل قمبيل كثيف، فدلها على مكان النبتة لإنقاذ حفيده.

خرجت القندول من أبي قرين البارك، ومضت لأيام لا تلوي على شيء، دون أن تعلم أن المطاليق يجدون في أثرها ب"لا كلل أو ملل"..

وقتها كان كارناسي يحتضر.. كان يلفظ أنفاسه الأخيرة عند الجبل، الذي سيحمل إسمه. كان واقفا هناك متحاملا على نفسه، مثل موجة مد. ثم إنهار كطابية من طوابي النّهر الذي يشق الوادي إلى قسمين.. كان كل شيء حوله ساكنا، ويديه متصالبتين على صدره، كشجرة قمبيل هرمة، تتكيء على القنا العجوز، في عناق ودود. لحظتها تجمعت كل كوارث التاريخ، لتتزاحم على رأسه.. كل بقايا الحضارات الغابرة، وبقايا الثقافات المنقرضة، يتجمع الآن اسوأ مافيها: المناطق المظلمة في حياة البشر..

تجمع كل شيء، ليتبدد حلم وحيد لعاشقين إلتقيا مصادفة في جنقل السلطان ذات مساء بعيد. لحظتها لم يفكر سوى في الخلود في الزمن.. في الماضي.. في الحاضر والمستقبل البعيد، الذي سيحسمه الدمار الثاني.. لحظتها كان قد تحوّل إلى محض ذاكرة للحنين والشجن..

تحوّل إلى جبل كارناسي المهيب..

مثلما هي الوديان والصحارى، حيث يلتقي الضائعون في سباسبها ووهادها، ليعيشون مزيدا من الضياع. كانت ذاكرة كارناسي.. إذن، تحلم بلقاء القندول في الخلود الأخير للضياع..

حزن عليه أهله حزنا شديدا. رقدوا على الأرض أربعين ليلة، وأفواههم معبأة بالتمباك. ذبحوا كل دجاج المملكة ليُلفظ الدود من قبر كارناسي، وحملوا نعشه على أكتافهم بدلا عن الدواب إكراما له. و.. وصمتت نساء أسرته وكل المملكة تراقب حزنهن وتواسينهن..

لم تتركهن نساء المملكة أبدا. وبعد إنقضاء مدة "الفراش"، ظللن يواسينهن لأكثر من خمسة أقمار، وفيما كن يفعلن ذلك، كان هو قد تخلص نهائيا من عذابات الإبتلاء بالحب، وإلى الأبد. تاركا الوادي للغرق في الذكريات الكئيبة لعلاقات الحب غير المتوجة، والحداد الكثيف.

على قمة جبل كارناسي، وعند سفحه، نمت أشجار ونباتات عديدة. نسج حولها الأهالي العديد من الأساطير، كحكاية "حرب الحراز والمطر"..

فشجرة الحراز، التي كان أهل دار الريح يستخرجون منها العسل الأبيض، والتي "َتِحتْ" أوراقها في الخريف، لتكون سمادا طبيعيا للأرض المزروعة تحتها وحولها. شجرة الحراز هذه التي ليس لها ظل خريفا، ليمنع النباتات من حاجتها للغذاء، كانت تنمو وتخضر وتزهر شتاء وصيفا. فترمي بظلالها الكثيفة ليسكن الأهالي تحت كنفها: لاجئين من حر صيف دار الريح "القيطوني" اللافح. في ذلك الوقت، وفيما كان النحل يتنقل بين أزهارها، كانت هي تفكر في ترتيبات ختان أطفالها، من الحراز الصغير.

خرجت عن صمتها ودعت الجميع: النحل.. الزنبور.. الأهالي.. الطيور.. الحيوانات.. أرادته إحتفالا رائعا لا يعكر صفوّه شيء. دعت الجميع بلا إستثناء، سوى المطرة صديقتها المقربة. لخشيتها أن تفسد حفل الختان؟!، وعلمت المطرة من الوطواط "القوال" والغراب النمام ما أزمعت عليه الحرازة.

كانت المطرة تحب الحرازة كثيرا، ولذلك قررت أن تغض الطرف، عما أعتبرته إساءة لعلاقتهما العميقة، التي يجب ألا يهزها شيء مهما كان. وقررت أن تذهب لمجاملة ومؤازرة صديقتها الحرازة، وتعبيرا عن صدق محبتها للحرازة، أخذت معها أبناءها: البرق العبادي والرعد والقبلي، وإبنتيها العاصفة والصاعقة، بل وإمعانا في المحبة دعت صديقتيها الخماسين والنّوة، من تلك الديار البعيدة.. وبمجيء المطرة وأبناءها وأصدقاءها، فسد كل شيء وأنفض المدعوون. فغضبت الحرازة غضبا شديدا من المطرة، وقررت مقاطعتها إلى الأبد. لذا لم تعد تحتفي بها كبقية الأشجار في الخريف.

وحدها الحرازة ظلت لا تخضر إلا في الصيف والشتاء.

وفيما يحكي الأهالي أيضا أن حربا، إندلعت بين طيور جبل كارناسي وحيواناته، وكان الخفاش متنازعا: لا يدري إلى أي المعسكرين ينتمي؟! وعندما أعياه الأمر تفتق ذهنه عن فكرة جهنمية: قرر أن يقف مع الطرفين؟! وهكذا ذهب إلى الطيور وقال لهم: "أنا مثلكم.. أطير.. أنا معكم..".. ثم عاد للحيوانات وقال: "أنا حيوان مثلكم.. أنا منكم وفيكم..".. وعندما إكتشف الطرفان لعبته، إتهمه كلاهما بالتجسس لصالح الآخر، وأن في عروقه تجري دماء مطاليق..!

منذها والخفاش لم يعد يخرج إلا في الظلام، بعد أن تنام الحيوانات، وتهجع الطيور إلى وكناتها.

كذلك من الحكايات التي يطيب لأهل الوادي تداولها، نكاية في المطاليق والسلطان: أن الروح العظيمة بعد أن بعث الحياة من جديد في وادي الذهب إثر الدمار الثالث، أمر النحلة بالنزول إلى الأرض. بعد أن دربها على الصبر، وعلمها كيف تصنع العسل، وكانت النحلة تلميذة نجيبة ومطيعة لتعاليم الروح العظيمة.

ثم أمر الروح العظيمة الزنبور، الذي كان نافد الصبر. فلم يستطع الإستماع سوى إلى نصف ما أراد الروح العظيمة تعليمه إياه، فأنطلق متوجها إلى الأرض وهو يقول لنفسه:"لقد عرفت كل شيء"، لكنه عندما وصل الأرض وحاول صنع العسل أكثر من مرة وفشل، ورأى ما تفعله النحلة.. حينها فقط أدرك أنه لم يتعلم سوى النزر اليسير.

في ذلك الزمان البعيد، أحب أهل الوادي النحلة وكرهوا الزنبور كثيرا.

مثل هذه الحكايا لا تجدها إلا على قمة جبل كارناسي وحوله، فكارناسي معبد الكهف المقدس، حزم الوادي الملتف بالأسى والوحشة. بحكايات كثيرة.

على جدر كهوف كارناسي نحت الشعراء والمغنين غزلياتهم، وسكبوا مشاعرهم وعواطفهم تجاه الناس والأشياء والعالم حولهم، وحفر الشياب الصالحين تاريخ الأهالي، وما مر بهم من كوارث ولعنات.

في قمة جبل كارناسي حطّت العنقاء وحلقت بعيدا نحو السماوات البعيدة، وكان الجبل.. جبل كارناسي قبلة الناجون في كل عصور الكوارث العاصفة، ومن كهوفه و"كراكيره" السرِّية إنطلقوا يحملون أخبار ما حل بشعوبهم إلى العالم والأجيال، عبر التاريخ.

جبل كارناسي جبل غريب! إذ لست بحاجة لأن تقرأ الأحفورات على جدره، يكفي أن تطأ بقدميك أرض كهوفه لتشعر بكل هذه الرّهبة عميقة الغور، التي تُسرِّب إليك حياة الأسلاف، من الحجر والنقش، بكل وقائعها وأحداثها وكل شيء. بإمكانك أن تشعر بكل الحيوات المنصرمة، تتخلل كيانك الراعش وأنت مغمض العينين، غائبا عن الوعي، في تأمل عميق، تدفعك إليه روح الجبل دفعا.

جغرافيا الوادي غريبة.. إذ تتدرج من الرمال على ساحل النهر، لتنتهي بالأرض القردود، بإتجاه دار الريح. حيث تتخلل هذه الأرض، القيزان وكثبان الرمال. قبل أن تعود قردودا مرة أخرى، ينتهي بطبقات الحصى الرقيقة والأرض الصخرية، فالقردود والرمال المتاخمة للصحراء الكبرى.

وبسبب هذه الجغرافيا المعقدة بالذات، لم يكن لأي كان، أن يفهم لماذا أختار الوادي -بحر إرادته- أن يضاعف من طوق عزلته بهذه الصورة، التي تفوق ما حددته له الطبيعة سلفا. لا أحد يمكنه الجزم: لماذا ظل سكان الوادي يصرون على البقاء في هذا الوادي المعزول، الذي يقع موقعا هامشيا، حددته العزلة من كل جغرافيا العالم حوله.. هل لأنهم يحبون العزلة أم لانهم يحبونه؟.. أو هم مجبرون على البقاء في عزلتهم؟!.. فكثيرون كانوا يتشبثون بأهداب النوم، حتى لا يفاجئهم الصّحو بكوارث جديدة من صنع السلاطين أو المطاليق.

بعض الأهالي الحكماء يقولون: أن الوادي ليس معزولا في الطبيعة، ولكن العزلة تعشش داخل الناس، لذلك يرون كل ما هو خارجهم معزولا مثلهم.

عن هذه العزلة عبر أبونافلة والتنقار ومغنين كثر، بالعديد من المرثيات البائسة.

التنقار ولد في إحدى أصقاع الصعيد. نشأ وترعرع في وسط الجبال والغابات الإستوائية والأمطار الغزيرة طوال العام. ولد لأب مهاجر من السافل وأم مهاجرة من دار الريح، وفي كنف حياة الناس البسطاء نمّت مدركاته وتشرب بالهدوء والإعتزاز بالنفس والحساسية المفرطة. كان لهذه الطبيعة الخلاقة وبساطة الناس وجمالهم، أبلغ الأثر في تكوينه كمغن بديع.

ما أن شارف سن البلوغ حتى إرتحل مع أسرته، إلى بندر الوادي. حيث تنقل هناك في العمل بالحدادة وتجليد العناقريب والبنابر، وأصاب ثروة كبيرة. عندما أغار المطاليق على السافل وهرب الرجال تاركين نسائهم وبناتهم خلفهم، اللائي لم يكن لديهن الإستعداد لرمي أنفسهن في النهر. فأستحلهن المطاليق، ولم يبق ثمة عنقريب في السافل لم يتحطم تحت وطء "الرفسي والدفسي"، فازدهرت بذلك تجارة العناقريب، إذ أن كثيرون في مختلف أنحاء البلاد الكبيرة، غيروا صناعاتهم وتجاراتهم، وأصبحوا جميعا إما صنايعية عناقريب أو تجار عناقريب يتم تصديرها إلى السافل. بل أصبح حلم الأطفال الصغار، أن يصبحوا نجارين عناقريب عندما يكبرون. فإزدهار تجارة العناقريب غير من أوضاع الأهالي الإقتصادية في تراتبية المجتمع، فعندما يقول لك أحدهم بفم مليان:"أنا تاجر عناقريب" فهذا يعني أن "الكلام كمل"، فهو من أعيان البلد ووجهائها، حتى أن مغنين كثر على رأسهم التنقار وأبو نافلة غنوا لتجار العناقريب. وخلدوا العناقريب ذات نفسها في أغنية شهيرة حملت إسم "العنقريب" ظل الأهالي يتداولونها لعشرات السنوات، بمحبة وتقدير شديدين.

في ظل هذا المناخ الذي إزدهرت فيه تجارة العناقريب، أصاب التنقار ثروته. التي مكنته من التفرغ التام للغناء وتغشي الأندايات وإقامة أمسيات الطرب.

أعجب التنقار إعجابا خاصا بأم كيكي والربابة والوازا.. كان صوته جميلا ودوره بارزا في مزج الآلات الغنائية، لمختلف بيئات البلاد الكبيرة. لكنه مع ذلك ظل محافظا على أنغام وإيقاعات وألحان الغناء القديم، وخاض بهذا الخصوص صراعا شرسا ضد أبونافلة، الذي كان يبشر بالتجديد. وأخذت تجاربه التحديثية تنتشر، مما زاد في إيغار صدر التنقار ضده.

V

مثل كل مرة.. إثر كل دمار، تخرج حياة الوادي من النّهر كذكرى قديمة، في لا شعور أسلاف الأهالي، قبل أن يخرجوا إلى الوجود. عندما كانوا محاطون بالمياه في أرحام أمهاتهم.

وادي الذهب ككل الأماكن، التي تتعرض للخراب والدمار، يقع بين عالمين: عالم الروح العظيمة، ومملكة الأوهام وأضغاث الأحلام. فوادي الذهب كعالم أرضي متغير بتغير الزمن الكوني، معقدا في تعاقباته. التي ليس فيها سوى ثابت واحد هو "السلاطين" كمرادف "للمطاليق"..

هذه اللازمة الأزلية، نشأت في الصراع الأول، وأخذت تتكرر في وادي الذهب من آن لآخر، لتشي في كل مرة بدمار وشيك، وككل مرة لا يجد الناجون سوى بقايا خرائب، لما كان يطلق عليه يوما "وادي الذهب"، وربما بقايا ألواح فخارية، حفظت شيئا من حياة الوادي السابقة، أو أحفورات على كهوف جبل كارناسي، تحكي عن الفجيعة والحياة.

ومع ذلك في صباحات الصيف الرائعة، التي كانت تمر على الوادي يتنادى الأهالي.. كل الأهالي: الرعاة، الحرفيين، التجار، الباعة المتجولين. ينتشرون على طول الوادي.. في إمتداد شاطيء النّهر.. يستمتعون بنسائم الصيف الباردة، يحملها دعاش النيل ويلقيها رزازا على وجوههم المنهكة. كان الوادي حينها يبدو أشبه بالمهجور.. خاليا.. ساكنا لا حركة فيه، فكل النّاس وقتها على شاطيء النّهر، حيث يلتقي العشاق، ويمضون مبتعدين قليلا عن الزِّحام، ليتبادلوا همساتهم الحميمّة. وربما يختلسون قبلات سريعة، خفيفة. ويتعرّى الأطفال وهم يزحفون على بطونهم، بينما يرمي البعض بأنفسهم في النهر.. يسبحون ويمرحون كأنهم خليي البال، لا يشغلهم شاغل من هموم الوادي.

حياة الوادي عادة في كل الفصول، تبدأ في الصباحات الباكرة. حيث تعبر النساء "شارع الهوى" إلى سوق العطارين: المكان الذي يعكف فيه الأطباء البلديين، على صناعة العقاقير، التي تجعل النساء ممتلئات وملفوفات، وذواتمؤخرات وأوراك وصدور وسيقان، وربلات سيقان ممتلئة. وإذا فشلت هذه العقاقير في أداء ما يتعين عليها أداؤه، بإمكانهن في هذه الحالة، أن يقصدن "سوق الشباب" حيث صنايعية حشيات الجلد، الذين يلاحظ أنهم طاعنون في السن، ما يشي بخبراتهم الكبيرة والعريقة المتوارثة، في صناعة الأرداف والصدور المتقنة، التي يبذل الدباغون المهرّة مجهودات جبارة لتنعيمها بحنان فائق..

"شارع الهوى" يتفرع منه درب يفضي إلى سوق الليمون، والنعناع والفواكه. المكان الذي يفضله العشاق طلبة المتعة العابرة، الذين لا يأبهون للعلاقات المقيمة. وليس بعيدا عن هذا السوق، سوق البروش. حيث يصنع الرجال والنساء العجائز، البروش والنطوع التي تستخدم لأغراض مختلفة، بدء ب"دخان العروس وكبرتتها" مرورا بليلة الدخلة، وإنتهاء بالولادة والطهور.. عادة الفتيات العازبات، كن لا يرتدن هذا السوق، لكن لوحظ في الأيام الأخيرة التي سبقت الدمار الرابع بقليل، أنهن أصبحن يرتدنه بكثرة.

هذا السوق يجاور سوق الملجة و الحداحيد والجلادين، الذي تباع فيه الخضروات الطازجة والفراريج، والذي يصنع فيه الصناعيون السكاكين وأدوات الزراعة والحرب، والسروج ولبد الحمير والعناقريب والمراكيب، كما ينشط فيه عمال النسيج والسرماطة. وهو سوق متاخم لجزارات السمك والكمونية واللحمة ودكاكين الفسيخ والتوابل والبقول. من قلب هذا السوق تماما يخرج درب متعرج يفضي إلى العصاصير، حيث تعصر زيوت السمسم والفول وبذرة القطن. يجاور سوق العصاصير فراشين وفراشات المأكولات والمشروبات، وباعة السبح والطواقي والجزالين، لكن أكثر ما يميز هذا السوق، هو بائعات الفول المدمس والتسالي والطعمية، وأمجغوغة وأمجنقر، والأرز الذي بدأت زراعته تنتشر حديثا على جروف النّهر.

بعض الأهالي في الصبيحات الباكرة، عندما لا يقصدون السوق، كانوا يقطعون الساحة. التي تتوسط بندر الوادي، والتي لولا الأشجار، التي تحاصرها من الجانبين، لبدت كبيرة جدا  بالنسبة لبندر الوادي

كانوا يقطعونها بإتجاه النهر.. يعبرونه إلى الضّفة الأخرى، لزيارة سيدي الجنزير التقيل، وأضرحة شياب الرُّحل الآخرين، الذين يحكي عنهم أهل الودي في الصلاح - في الحقيقة - حكايات مفزعة تجعل الكوابيس تطارد سامعيها ليلاعندما ينامون.

آخرون يركبون المراكب، التي تربط ضفتي النّهر، للإتجار ببضائعهم على الضفة الأخرى. وسط غناء المراكبية المسطولين بالبنقو.. الذين يطلقون أشرعة أفكارهم ومراكبهم للرِّيح..

في الوقت نفسه من هذه الصبيحات الباكرة يتوجه بعض سكان الوادي المزارعين والرعاة، إلى مزارعهم أو يهشون مواشيهم ويعتنون بزروعهم.. ويمضي أطفالهم على مقربة منهم، لرعي الأغنام، بين المنحدرات خلف جبل كارناسي، بينما يمضي أصحاب المهن الأخرى لفتح دكاكينهم، التي على أطراف الساحة التي تتوسط بندر الوادي.

حتى النساء كن في بيوتهن يؤدين عملاما، فهن إما يطبخن أو يرتبن الدار، أو يشغلن فراغهن بالنّول و"المترار" يغزلن القطن، و ينسجن منه شيئا من إحتياجاتهن.. أو ربما يصنعن من السعف ما يحتاجنه من أغراض عديدة، تتعلق بالمطبخ أو حفرة الدّخان أو الحنّة أو المشاط.

الوحيدون الذين "لا شغلة ولا مشغلة" لهم في الوادي، سوى تعكير صفو الأهالي البسطاء كانوا هم المطاليق. حتى العجائز القاعدات(القواعد من النساء) كن يصنعن القواطين من القطن، لفوانيس "حبوبة ونسيني"، و"شملات الدّخان" من الشعر والصوف، وغيرها من أشياء لا غنى لحياة الوادي عنها..

ومن المعالم الأكثر بروزا في الوادي، تلك المعالم غير المحسوسة. التي حفظتها ذاكرة الأهالي عن الدمار الأول، عندما غضب الروح العظيمة من ذلك الشعب، الذي تصوره بقدرته وأتى به إلى الوجود بكلمته الآمرة، فجعل الثلوج والأمطار مدرارة من السماء لأربعين يوما وليلة، فحدث طوفان عظيم غمر الأرض وأهلك الناس. ولولا الرؤية التي رآها الشايب أبوقرين البارك، والتي ألهمه بها الروح العظيمة، بأن يبني فُلكا عظيما، يأوي إليه وأقرباؤه وأصحابه، وأن يختزن فيه زادا من اللحم والشراب، وأن يأخذ من كل كائن حي زوج، وأن يبحر متى ذاب الجليد وتوقفت الأمطار وأنحسر الماء.

أبحر أبوقرين البارك لأيام طوال، ثم أطلق سراح الطيور، التي عادت بعد أن فشلت في العثور على يابسة. ثم أخذ يعيد إطلاقها يوما بعد يوم، إلى أن طارت ولم تعود إلى الفلك، فعلم أنها وجدت اليابسة. فأبحر بالإتجاه الذي طارت فيه، إلى أن رسا عند شاطيء وادي الذهب. وفي الحقيقة كان الفلك يبحر على نحو دائري.. يعود للنقطة التي أبحر منها..

كان الماء قد إنحسر عن وطن أبوقرين الغارق. هبط أبوقرين على أرض الشاطيء، الذي ستسبح ست الدار وعاشميق فيه بعد عشرات السنوات، وسجد على يابسته شكرا للروح العظيمة، ثم مضى هو وأهله يتوغلون في ما كان وطنهم الأم قبل الطوفان، ومضى يرقم التاريخ.. تاريخ الدمار الأول، حيث توحد الجنس البشري و"تفرتق" شذر مذر.

بنى أبوقرين البارك مذبحا صغيرا، قدم فيه قرابين الشكر للروح العظيمة، ثم مضى وأهله يتوغلون أكثر في الوادي، وعند جبل كارناسي المهيب، كتب أبوقرين كل شيء يعرفه من المبتدأ إلى المنتهى. فقد نزل على أبوقرين لحظتها فيض الروح العظيمة وعلمها، فنقش على جدر كارناسي علوم الأولين والآخرين، وكل أخبار الأمم الماضية. من غير أن ينظر في كتاب. فالروح العظيمة منحته كاريزما، جعلت الناس يجلسون بين يديه كالأطفال.

ومما وجد على جدر كارناسي، أنه قبيل الطوفان بقليل جاءه أحد الأهالي، وكان قد قتل مطاليقا للسلطان وخاف إنتقام السلطان. شال أبوقرين "عكازه" وقال لمن معه من الأهالي: "أمشاكم معاي للسلطان وحرّم عفوه على الزول ده علي"..

فلما وصل ودخل حوش السلطان وولج عليه "الضرا" رأى فيه السلطان أول ما رأى أسدا أنيابه بارزة بشكل مخيف. فلم يستطع قول أي كلام "بطال".. بل رد على سلامه بأحسن منه، وعفا عن الرجل، رغم أنه كان غاضبا منه. كان العلم يمشي طلبا لأبوقرين البارك دخاخين دخاخين..

ألهمت هذه الحكاية رواد الأندايات، فكانوا يسكرون وتفوح من عرقهم رائحة المريسة الغاشمة، فيغنونها بالربابات وأم كيكي والدلاليك، فتجيبهم الوازا في تردد. فقد كانت الفوضى العارمة هي ما يخرج من موسيقاهم، التي تخرق فضاء البندر المغضوب الضّال. وعندما يسمع السكان هذا الأنين الملتاع، في فوضاه المعذبة ترتج أدمغتهم، ولا يستطيع أحد الوصول إلى داره. إذ يبدو مضعضعا ومترنحا ومدفوعا بالهجر والإغتراب، والنفي الأبدي في الذات والجغرافيا.

وقتها ظهر أشخاص غريبو الأطوار. عاطلين عن المواهب. لديهم آراء عجيبة في كل شيء. أدمنوا الحديث عن عيوب هذا الغناء ومحاسنه، وعيوب تلك الأغنيات وهذه. كانوا حيارى بائسين يبحثون عن موطيء قدم في مجتمع بندر الوادي الحزين!..

في هذا الوقت نفسه بدأ بعض الناس، الذين بلغ بهم الإستياء من كل شيء حولهم مبلغه، التسلل من وادي الذهب والرحيل بعيدا، إلى أقصى السافل حيث مملكة الجوار. هؤلاء الناس هم من لن يلبثوا إلا قليلا حتى يتحولون إلى معارضين للسلطان والمطاليق في وادي الذهب من على البعد. لقد تحوّل الكثيرون آخيرا إلى معارضين إفتراضيين ورُّحل ومهاجرين ومغتربين ومنفيين. كوّن البعض من هذا المزيج، جماعات مسلحة لخوض حروب رهيبة، ضد فكرة بندر الوادي من الساس للراس..

هؤلاء الناس هم أنفسهم من إختلفوا مع جقندي، حول تحريم أو تحليل التمباك والخمر والقهوة، وأباحوها لأنفسهم بفتوى متوارثة من "الإسيد"، الذي قال بطاعة السلطان. وبما أن السلطان يستعمل المكيفات ويرتكب الموبقات فلا ضرر ولا ضرار. "بالضرورة". وأفتروا على الجنزير التقيل أنه كان يشرب المكيفات، وسردوا في ذلك الحكايات والروايات. حتى أن أحد الأهالي، وجد جقندي واقفا أمام ضريح الجنزير ذات مرة، فسأله عن ذلك فأجابه الجنزير التقيل من داخل قبره أن "ليس له ناقة ولا جمل فيما يقال عنه وأنه لم يقل ولا شيتين"..

لكن المطاليق أصروا أن سؤال الميت لا يترتب عليه حكم، بينما المتحدثين في وحول محاسن الغناء ومساوئه في الأندايات، قالوا أن الفتوى في مثل هذا الأمر تنقسم إلى نوعين يعتمدان على زاوية نظر الشياب الرحل الصالحين: فمن شياب الرحل نوع ينظر في اللوح، فإنه لا يتغير ولا يتبدل كالشايب جقندي، ونوع ينظر في ألواح المحو والإثبات، التي عددها ثلاثمائة خمسة وستون -في طبقة أخرى ثلاثمائة ستة وستون- فإنها تتغير وتتبدل، فإذا أخبر بكلام ولم يقع "كنبؤة الطوفان" أو "الدمار الرابع"، فلا ينكر عليه، بأن يقال "كذب"، بل يحمل على أنه نظر في لوح المحو والإثبات. كما كان يحدث مع الجنزير، وبالتالي هذا شأن أمر القهوة والتمباك والخمر والشاي..

VI

دار الريح التي كانت تعيش رعبا دائما، من أهوال الطقس والفصول. وأحزانها وجراحاتها العميقة. بدلا عن التبدد كانت في حالة تجدد دائم. كانت دار الريح منهكة بفعل حروباتها الداخلية، بسبب الفتن. التي كان يشعلها المطاليق، خشية أن تنهض دار ريح أخرى، توجه الكثير من إمكاناتها لتنمية نفسها وتطوير قدراتها، فتكون بذلك قوِّية.. لذا كانت الإمكانات المهولة لدار الريح، تدخل في خزينة بندر الوادي، وهذه الإمكانات نفسها ظلت على الدوام، هي السبب المباشر لإستهداف سلاطين الوادي ومطاليقه لدار الريح، بالفتن. التي غالبا ما تؤدي إلى حروبات بين عشائرها المختلفة. ليس هذا فحسب، بل ظل سلاطين وادي الذهب، يطلقون يد المطاليق فيتحالفون مع القبائل والعشائر ضد بعضها البعض، وصل بهم الأمر أحيانا إلى الإستعانة بقبائل تائهة في الصحراء الكبرى.. لا موطن لها.. بعد أن فقدت موطنها في الجوار البعيد، منذ عشرات السنوات، ووعدوهم لوقاتلوا إلى جانبهم ضد شعوب دار الريح، بتوطينهم فيها ليغيروا من توازن خريطتها السكانية.. خصوصا أن دار الريح الشاسعة مترامية الأطراف..

المفارقة أن العشائر التي يستجلب السلطان والمطاليق، قبائلا بكاملها من مجاهيل الجوار ليقاتلون معه ضدها. ليس لهم وطن آخر سوى دار الريح، منذ خلقها الروح العظيمة، وأصبح هناك وطن إسمه دار الريح، فأين يذهب هؤلاء؟!..

 فهم لم يتعرضوا للإغتراب أو النفي عن بلادهم يوما، كما أنهم ليسوا مهاجرون من الشرق السعيد. وليس بالإمكان أن يعيشوا كفروخ وفرخات، فهم أصحاب أرض. ولديهم وطن أزلي هو "دار الريح" وليس مقبولا أن يستعلى الغرباء عليهم، "ويقلو أدبهم".. وهم في الواقع(تاريخيا)دخلاء ومهاجرين تنكروا لحسن الضيافة.. ما الذي يجري في هذا الوادي اللعين والمغضوب والضال. "مغلظة!".

السياسات التقسيمية التي تبناها المطاليق والسلاطين، هي السياسات نفسها التي طبقوها على السافل الأقصى، عند حدود مملكة الجوار ودارصباح البعيدة، حيث تشرق الشمس. والصعيد الأبنوسي الجميل.. فالأبنوس ملك الأشجار لونه هو ملك الألوان، فالألوان في إجتماعها الشهير الذي يعرفه القاصي والداني، "قدر ما فكرت" لم تجد لونا يتزعمها غير الأسود. كما أفتى التنقار من قبل وأبو نافلة من بعد، رغم إختلافهما في التحديث أو المضي على سيرة الأولين.

إذن أصبح وادي الذهب هو تلك البلاد الكبيرة "الملطشة للمطاليق" ولكل من هب ودب.. و الملطشة للسلاطين الفارغين، الذين يتعيشون من ذكريات أسلافهم البائسة، التي تبتدي بتجارة الرقيق ولا تنتهي بتجارة العناقريب. مما يجعل الروح العظيمة أكثر شفقة ورأفة بهؤلاء القوم البؤساء..

وادي الذهب الآن.. هو تلك البلاد الكبيرة،  التي لم تعد كما كانت، إذ أصبحت تسبح في نهر من الحروب والإنقسامات الداخلية، وبحر من الدماء. تمخض عن مشردين ومشردات لا عد لهم ولا حصر. ولم يكن هؤلاء المشردين من مركز السلطة في البندر، بل كانوا دائما من أطرافها في إتجاهات القبل الأربعة، حيث الحروب التي أشعلها السلاطين والمطاليق، وحيث المجاعات والأوبئة.. وهكذا من النظرة الأولى، كان لكل ذي بصيرة أن يرى بوضوح، أن وادي الذهب لم يعد له مستقبل على الإطلاق، وأنه بإنتظار نهايته الوشيكة، التي هي ليست سوى مسألة وقت ليس إلا..

كان بندر الوادي كما أعتاد دائما عبر تاريخه المديد، يبدو خادعا للذين يزورونه لأول مرة، بل ويبدو خادعا حتى لأهالي كثر، وذلك بسبب التغييب التام.. ذلك الستار السميك من الظلام، الذي نصبه المطاليق بين بندر الوادي وحقيقة ما يجري في دار الريح.

العقلاء الذين كانوا يحرصون على لقاء التجار، الذين يقصدون بندر الوادي، عابرين دار الريح في طريقهم من مالحة إلى دار صباح. هؤلاء كانوا يمدون عقلاء دار صباح بالأخبار، وما شهدوه بأنفسهم من وقائع وأحداث وجرائم، ترتكب ضد أهالي دار الريح البسطاء العزل المسالمين، من إغتصاب للنساء وقتل وتشريد وحرق للقرى والفرقان، وهو الأمر نفسه الذي لطالما فعله المطاليق في الصعيد من قبل، وأدى لإنفصاله التام عن الوادي.

وادي الذهب أصبح مكانا غريبا، فشيوخ مجلس السلطان الذين كانوا يفتون في كل ما يتعلق بالعقائد، كانوا يفعلون كل المنكرات جهارا نهارا، ويزعمون للناس أنهم يفعلون ذلك كيما يشعرون بالإضطهاد وإزلال النفس، فذلك يقربهم للروح العظيمة أكثر؟!..

كانوا يرقصون خلف التنقار وعندما يستبد بهم السكر والطرب، يأتون بالأمور العظام. لم يكن ثمة فرق بين مجلس السلطان والأندايات.

في البداية أنشأ المطاليق الأندايات، على أطراف الوادي. لكن سرعان ما زحفوا بها إلى قلب البندر، حتى لم يعد الأهالي يميزون، بين دورهم وبين الأندايات.

أصبحت أدق أخبار السلطنة وأسرارها، وصفقات التجار، وكل شيء يدار من الأندايات. وظهر نوع غريب من الغناء والشعر، برع في أداءه أبو نافلة. بل وفي تطور خطير، أخذ المطاليق أنفسهم يدعون الإعتقاد والتقيد بتعاليم الروح العظيمة أكثر من ذي قبل، بينما كانوا يمارسون كل موابقهم بإسم هذه التعاليم ذات نفسها. كل شيء كان يسبح في فوضى عارمة، فقد إمتلأ الوادي بالأندايات، التي أصبح الناس "يهايتون ويبايتون فيها"..

عندما ينظر أي مراقب إلى إيقاع الحياة، في بندر الوادي، ليس بإمكانه أن يتصور فداحة اللعنة، التي أصاب بها السلطان ومطاليقه دار الريح، البعيدة عن أسماع وأبصار الأهالي، الذين ينهضون كل صباح.. يفتحون أسواقهم ودكاكينهم، أو يمضون لممارسة الزراعة والرعي، في حياة تبدو طبيعية تماما. لكن في الحقيقة كان ذلك من أكثر الأمور خداعا، والتي برع فيها المطاليق بصورة كشفت عن مهاراتهم العالية في التقليل من شأن الكوارث المدمرة، والتغييب التام في وضح النهار والشمس في قبة السماء! فتح المطاليق أبواب بندر الوادي واسعة أمام تجار القبل الأربعة، بل وجاءوا من ممكلة الجوار في السافل، بملايين البشر لتوطينهم في السافل، وهؤلاء القادمون من مملكة الجوار، كثيرون جدا يفوق عددهم أضعاف المرات سكان السافل، حتى أنهم لن يحسنوا النسل في السافل فحسب، بل وربما ينعشون تجارة العناقريب من جديد.

إذن باع السلطان ومطاليقه أراضي السافل كلها للجوار، وأنتشر التجار الطفيليين والأطفال الطبيعيين، فنسوة كثر كن ينجبن أطفالا مشوهين لديهم أربعة أقدام أو ثلاثة أياد أو خمسة عيون وأذن واحدة، تجاوز سوء التوزيع حتى الأعضاء التناسلية والمؤخرات والصدور..

هذه الظواهر الغريبة الفريدة لم تشعل نيران الأسئلة في نفوس الأهالي الطيبين، الذين كان كثيرون منهم منشغلون بأمر الأغنيات التي يرقص السلطان عند سماعها، إلى أن أطلق عليه البعض لقب "السلطان الراقص". والصراع التاريخي بين التنقار وأبونافلة.

كان كثيرون منهم يشعرون بنشوة ما بعدها نشوة، وهم يغنون تلك الأغنيات الموروثة عن بادي، والتي يدعي فيها وعشيرته نبالة ونقاء عرقي غير مسبوقين دونا عن عشائر الوادي الأخرى.

VII

تأمل الشايب جقندي سيرته ومسيرته، هو الذي في بادي أمره أنكر عليه الناس، وأفتروا عليه الكذب والذور والبهتان، وفي آخر أمره يشهد الدمار الوشيك. سأله ود التويم:

"بم يموت المرء؟"

فقال:

"على ما عاش عليه"

"وبم يبعث؟"

فقال:

 "على ما مات عليه"،

وأضاف:

"أترضى أن تلاقي الروح العظيمة بمزمار من نار؟"

فأجاب ود التويم:

"لا"

"إذن جهز قومك للرحيل عن هذا الوادي الضّال"

نهض الشايب جقندي من على قيف النهر. "حت" بقايا التراب الهش والقش العالقين بثيابه. مد بصره على الأفق اللامتناهي، ومضى بإتجاه بندر الوادي مخلفا كل الذكريات وراءه.. هناك خلف عشبة المعونة الطافية على سطح الماء.

مضت خطواته تنطفيء وهو يبتعد شيئا فشيئا. كان بمظهره المخذول، يشعر بنفسه خاويا ومهجورا في عزلة النهر والوادي القفر. أخذ يتفحص كل الأماكن التي يمر بها: وادي الغزلان، الفجيجة، جنقل السلطان، الساحة التي تتوسط بندر الوادي، سوق العناقريب والجلود..

لا شيء سوى العزلة الغارقة في لفح الهواء لأوراق الشجر الجافة.. العصافير الوسنانة، الراغبة عن قيلولاتها.. في أعشاشها بين أغصان القمبيل الكثيفة على غير عادتها، ففي مثل هذا الوقت كانت عادة، تخفق بأجنحتها تحت شمس الصباح الساطعة، التي يكون أتونها حينها قد بدأ في الإشتعال..

كان إحساس جقندي إذن قد بدأ في الإنتقال، لا للأماكن التي خلفها وراءه فحسب، بل حتى بيوت "الجالوص" المتهرئة ومساكن القش والدروب الضيقة..

كان الهدوء التام إذن هو ما هيمن على بندر الوادي في تلك الصبيحة الفاجعة.

 

الرُّحَلْ

(الجزءالثالث)

 

في شأن الوقائع والأحداث

والنهايات الوشيكة

 

تعــال سلِ القبيلة والجــمالة

لأيــــــةِ غــايةٍ شدو الــــــرحالا

طيفور الدقوني

I

كان "الوتد" ما أن يشرب قهوته، ويضربه "الهمبريب" القادم من سوق السراويل، لافحا "كشاشة" كنتين ود أبوسنينة البصير، حتى يحكي للمتحلقين حوله ذات الحكاية سمعوها مرارا وتكرارا.. سمعوها آلاف المرات!.. تلك الحكاية ذاتها!.. الذكرى.. البعيدة.. لراكبة غامضة مجهولة، ذات مساء بعيد. أمضى معها في جنينة الجوافة، لحظات عامرة بالدفء.. لحظات كافية لأن تهيمن على كل "ونسات طق الحنك" في كنتين ود أبوسنينة البصير لعشرات السنوات، عندما ترد سيرة النساء والحب ومغامرات الصبا، وعندما تلفح السراويل بهبوبها الزنخ، كرائحة الأرض السبخة، الدكان العتيق

كان الوتد قد ركب المركب الذي حملّه ببضائعه، التي درج على بيعها في السوق الأسبوعي للضفة الأخرى للنهر، حيث شبه الجزيرة المتوشحة بعتمات جغرافيا منسية، سقطت من خرائط أحفورات كارناسي سهوا

وكانت هي تجلس قبالته، عندما وقعت عيناه على عينيها، فسرى تيار دافق من الحمى في عروقه.. كانت خلاسية نحيلة، وجميلة كالزنبور الملّون، الذي يرتشف رحيق شجيرات الحناء، في حيشان بيوت "الجالوص".

 كانت ذات عينين غائرتين.. متوحدتين في رموشهما الغزيرة، ونهدين مشدوهين وقامة فارعة.. كانت إمرأة قناية..

غرقا في صمتهما، وحديث عيونهما التي قالت كل شيء.. وعندما وصلا الضفة الأخرى للنهر، مضت به منحدرة من قيفه، عبر أكمات أشجار الليمون والمنقة والقريب والبرتكان، حتى تخطياها. وكان هو يتلفت حينا.. وحينا آخر يترك نظره يتعلق بالمرتفعات والسفوح خلف النهر، على سهل الوادي الواسع. بحواس ملتهبة وحلقوم مختنق، غير قادر على الكلام.

كان يفتش في دواخله عن إجابات لأسئلة لا يعرفها؟!.. فقد كان فقط.. محض شخص منقاد، لصبية مجهولة، ذات عينين غائرتين ومتوحدتين في العزلة.

قادته إلى دار تتوسط جنينة جوافة مسكونة بالأرواح. كانت الجنينة تعبق برائحة الدعاش، الذي يلفحه نسيم خفيف يهب من جهة النّهر.. وهما يعريان بعضهما، كانت رهبة غريبة تجعل كل حركات أصابعهما، التي تتحسس جسديهما، مشدودة ومتوترة.. كان الأمر أشبه بمغامرة مثيرة، لا تخلو من المخاوف والترقب.

كانا وحيدان وعاريان.

مسحت جسمه بالكركار.. ودلكته بالدلكة "الما خمج".. فركت شعره بزيت السمسم.. ووضعت عطر الخمرة النفاذ -الذي تخبئه تحت نهديها المشدوهين- تحت إبطيه وعلى صدره.. ثم دنت منه.. بحثت عنه.. تحسسته، وجدته منتفخا في إرتجافاته المتوترة، كانت القشعريرة تتخلل مواطن الألم والبوح، من أخمص قدميه إلى قمة رأسه.

كانا تائهين في صحارى البلاد الكبيرة وسباسبها ووهادها، على ظهر بعير حرون، يخب بهما المسافات دون توقف، وسموم القبلي توقظ في لهاثهما، تلك الريح الخفية المجنونة اللافحة، التي تثقب القلب والذاكرة، وتستنفد طاقتهما، بمثقاب نحلة مجنونة.

كانت دافئة وكان شرها جدا، وهما يقعان من العنقريب متصالبين، ويتدحرجان على أرض الدار، إلى فناء جنينة الجوافة، يبحثان عن بعضهما. والأرواح الهائمة والطيور الهاجعة بين الأغصان، تطلق تنهداتها التي بين بين.

فيستلقيان على أوراق الجوافة الجافة، التي تتهشم تحتهما، وهما منهدان دون أي ورقة توت أو قمبيل آخيرة. والبلدة التي تتوسط الجزيرة النهرية، المعزولة في وحشتها وأساها، وصمتها المسائي السرمدي تصيخ إليهما السمع، فلا تلتقط أذنها سوى شيئا كدبيب النمل، يخج الأشجار بإيقاع منتظم!.

كانت الشمس قد إحترقت خلف الأفق الرحيب، والنهر قد غاض.. وهما لا يزالان منهدان كالطوابي غربي النهر.. ولا شيء البتة سوى ذلك الدبيب، وحفيف الشجر، والتنهدات المكتومة للماء.

كانت النجوم قد بدأت تلوح في الأفق البعيد، خافتة كحبيبات أرز زاوية، ومن خلال أغصان الجوافة، كان القمر يلوح هو الآخر من بعيد، ليختفي خلف الغيمات العابرة. وكان النهر ساكنا، والقبلي هاجعا، وقد لفهما الصمت المقيم.

هبوب العينة التي لفحت أنفيهما معلنة إنكسار"التريا"، نبأتهما بمطر في الطريق. جعلتهما يستعيدان نفسيهما، ينفضان أوراق الجوافة العالقة بعريهما.. أخذت الغيوم تتكاثف، والبروق تلوح في الأفق البعيد، فمضيا يتعثران في مشيتهما. حاصرتهما أشواق غامضة -عما قريب ستصبح ذكريات مكروبة، بسبب بحث الوتد غير المجدي عنها، في كل شبرمن الضفة الأخرى للنهر- وعلى حين غرة، ودون مقدمات.. كان المطر قد بدأ في الهطول. إبتلا. لم يكن ثمة مكان جاف. تركته أمام القيف وأستدارت تركض راجعة، أو ربما لتختبيء في مكان ما.. لم يتبعها.. فقد تخلت عنه عند النهر ومضت.. تركته وحيدا للمطر.. مهجورا مع أشواقه التي لم يستوعبها بعد.. واختفت..

تركته وحيدا يتنفس خصب الدلتا داخله.. رائحة المطر وعشبة معونة النيل.. وبين الفينة والفينة، كانت تلوح عبر خيوط المطر، التي "تتلاصف" مع إلتماع البرق، كطيف يومض وينطفيء.

كان كل شيء حوله بدائيا جدا. وكما بدأ المطر في الهطول فجأة.. توقف فجأة، وأرتفع صوت الصراصير ونقيق الضفادع. غيمة عابرة كشفت عن وجه القمر لبرهة وأختفت. لم يخلف طيفها المتلاشي أي أثر، في سماء الوادي وأزقته في عتمّة الليل..

ظل واقفا لا يشعر بمرور الوقت. ساهما. "مخجوجا".. إلى أن بدأت خيوط الفجر تلوح في الأفق، عندما جاء صاحب أحد المراكب. و.. ولم يلتقيا بعدها أبدا. كانت كفص ملح وداب، لكن ظلت صورتها تلازم ذاكرته، وتتغور في وجدانه كل يوم أكثر عن اليوم الذي سبق.

تركته وحيدا بعد أن أخذت معها نعمة النسيان. إذ ظل لوقت طويل يبحث عنها.. يجوب أرض الجزيرة طولا وعرضا، دون جدوى. نسيته لكنها تحكرت داخله كذكرى خالدة، تتناهشه كلما هبت سراويل السوق، تلفح كشاشة الكنتين بهبوبها.

كثيرا ما سأل الوتد نفسه:
"ترى هل لو كان قد عثر عليها، هل كانا سيتزوجان؟"

وكان يعرف الإجابة سلفا، فأعراف الوادي تمنع الرجل الزواج، من فتاة منحته نفسها قبل الزواج، مهما كان حبهما لبعضهما البعض.. وربما كان هذا أحد أسرار هروب الكثيرات، إلى مضارب الرحل مرارا وتكرارا.

كثيرا ما حاول تذكر ملامح وجهها دون جدوى. كل ما كان يتذكره هو نوع غامض من الجمال الخلاسي، في جسد نحيل، ووجه أشبه بطيف في هالة من لون السحر. تشعل في النفس رهبة لا تنتهي. إذن، وعلى أية حال.. منذها كان الوتد قد حصل على مجد عظيم، سيظل يهدد غفواته المتقطعة، إلى أن يموت قُبيل الدمار الرابع بقليل، غريقا طافيا على سطح ماء النهر.

وعلى طول المسافة بين الضفتين، كان الوتد يفكر في هذه الأنثى الغامضة المجهولة، التي زرعت مواجدها في شجونه، والتي ربما تكون هي إحدى قرابين النهر -كما أشاع البعض- عن أن مثل هذه الأرواح، كثيرا ما تخرج من أعماق النهر. كان يفكر فيما جرى له معها، فيبدو له كل شيء، ضبابيا غامضا.

كان الوتد قد وقع وإلى الأبد، بين براثن حب عابر. غريب، ككمين لعين يهدد خمول شيخوخته بين حين وآخر.. فقد إرتبطت شيخوخته وبشكل حاسم وإلى الأبد، بذكريات علاقته العابرة، التي ظلت تخلف مرارات فقد أزلي.. فيهجره النوم المسترخي الهانيء، الذي يليق بسنه الطاعن، فلا يملك إزاءه سوى الحكي وتكرار الحكي، لشلة دكان ود أبوسنينة البصير.

والآن.. عندما يتأمل الوتد أصابعه الجافة، وتجعدات جلده بعروقه التي طالتها هي الأخرى تغضنات السن. يسأل نفسه:

"ترى هل كان هو الوتد نفسه.. ذلك الشاب العشريني، لحظة إلتقاها قبل أكثر من خمسين خريف، في تلك اللحظة العابرة".

كانا متهورين أكثر مما يمكن أن يخطر على بال الثعلب المكار أو الغراب النبيه!، والآن.. وبعد كل هذه السنوات الوتد الشيخ السبعيني، يتنهد في تعب ممض ككل الطاعنين في السن، ويهوي شيئا فشيئا خلال نهارات الشيخوخة الطويلة، في مستنقع ذكرياته الضبابية الغامضة، والبعيدة جدا.

كان مرتادي دكان ود أبوسنينة البصير، عندما يسمعون هذه الحكاية، تستطيل أنوفهم "الشمشارة" و أذونهم المشرعة دوما "للفارغة والمقدودة"، كأنهم يسمعونها للمرة الأولى، إذ يندمجون مثل كل مرة، في أحاسيس الوتد وأشجانه. فحنينه إليها كان قد تمكن منهم جميعا. لدرجة أن كل واحد منهم كان يشعر بنفسه "الوتد".

II

وادي الذهب بصحاريه ووديانه وسهوله وقيزانه ونهره، الذي يتفرع في مواضع مختلفة.. وجزره المعزولة عن بعضها البعض، والتي لا يوجد حولها أي مركب، أو طوف. يتواصل به الناس. كما لا توجد أي وسيلة أخرى للتواصل فيما بينهم.. كان هكذا أشبه بحالة نفسية غامضة، بما يبدو على حياة الناس، من جدب وتشوّه. وتبلد معطون في الأسى والكآبة والوحشة، التي كانت تتبدى في كل شيء.

ومع ذلك من آن لآخر، كان المشردون يحاولون إشاعة حيوية، وهم يمنون أنفسهم بكنس المتناقضات، التي طالت كل شيء في الوادي.. طالت حتى نباح الكلاب المتواصل في الليالي البهيمة.. الحياة الليلية للقطط في مواسم الخصب والجنس.. ذباب الخريف الأخضر، الذي لا يتورع عن التكاثر على أزرع الناس وسيقانهم..

هؤلاء الناس الشكايين البكايين، الذين يختمون شكاواهم دائما ب"الشكوية لغير الروح العظيمة مذلة"، بعد أن يكونوا قد شكوا حتى لطوب الأرض، ما ظل يزرع في الوادي، إحساسا مزمنا بخيبة الأمل، عندما لا تأتي هذه الشكاوى بأي مردود..

كان من الواضح أن الزمن، بدلا من أن يفعل فعله بمراكمة خبرات التاريخ في الوادي، حدث العكس تماما بسبب المشردين، فكلما مر الوقت كانت مشاعر الحيوانات، وأحاسيس الناس، تنفلت اكثر فأكثر من عقالها، ولا يعد بالإمكان السيطرة عليها.

هذا الطابع المأساوي، ربما هو ما دفع بالأهالي لتقاسم لقمة العيش، تيمنا بالرُّحَلْ الذين تقاسموا "النبقة". التي كان الوتد يصر دائما، أن "النبقة" المعنية هي إمرأة وليست ثمرة سدر!

إذن كان الوادي يوغل في إنحطاطه العام، على عهد سطوة المطاليق، فوجد الأهالي أنفسهم على قارعة التاريخ.. ومع ذلك ظل بعضهم يقتسمون كل شيء.. وبعضهم لا يجدون ما يقتسمونه.. وبعضهم لا يرغبون في إقتسام ما حصلوا عليه من الوادي مع الآخرين!..

ومع ذلك أستطاع هذا البعض، فيما يشبه المعجزة. الحفاظ على بعض من طقوس حياتهم القديمة، تاركين البعض الآخر، رجالا ونساء يمارسون هواياتهم المحببة: يغتسلون من مشيش وجمام الوديان.. فبينما كان الرجال يمضون للإغتسال من "صيبانهم وقملهم" وآثار "المرقوت"، الذي سكن عناقريب القِّدْ والحبال، ويغسلون معه بقايا شخيرهم ومخاخيطهم، وآثار تغوطهم في خلاء الوادي، وهم يحتفون بعضلاتهم ويتحسسون شواربهم، بل وحتى المرد الذين لا شوارب لهم، كانوا يتلمظون شفاههم، وهم يتخيلون النساء يمضين، يقارن في عريهن المجنون تكورات بعضهن البعض، تحت خيوط الماء الذي ينزلق في رفق وتؤدة.

أهالي الوادي.. كثيرون منهم كانوا يفتقرون إلى ثوابت الإنتماء النبيل لهذا الوطن: البلاد الكبيرة.. كانوا بأحاسيسهم الرّخوة، التي لا يدرون مصدرها، لا يزالون حتى قُبيل الدمار الرابع بقليل، متآكلين بالحنين إلى وطن وهمي مفقود.. وطن يتوهمونه ولم يستطيعوا إستبداله أبدا بالبلاد الكبيرة، فأحالوا-هكذا- حياتهم وحياة البلاد الكبيرة شقاء وضجر!.

كان بؤسهم السوداوي اللئيم، إذن مستمرا في التفشي. مضعضعا الأرض والتاريخ، وروح السكان الأصليين، الذين يتحملون اليوم فوق طاقتهم، أكثر من أي وقت مضى، خصوصا بعد إنفصال الصعيد، وخطى دار الريح الوئيدة، التي تمضي خلفه.. كان بؤسهم يتفشى مزيحا النداء اليتيم القديم المتجدد، الذي بُحت به حناجر المشردون، للتمسك بالحياة في وادي الذهب المعزول في عتمات يأسه الخالد.

هؤلاء الأهالي المعنيين.. لماذا هم هكذا.. هل لأنهم يعانون أزمة هويتهم فقط، ما يعزلهم عن الإنتماء الفعلي لهذا الوادي؟ أم لأنه ليس هناك ثمة ما يمكن تحديده، حول طبيعة علاقتهم بهذه الأرض.. وجودهم فيها؟.. فكل شيء، ومنذ الوهلة الأولى، يبدو غامضا إلى حد مفزع.. لكن من المؤكد أنهم أسرى الحنين، إلى بلاد بعيدة، لا تشبه الوادي لا من بعيد ولا من قريب!..

هؤلاء الناس المأزومين بأشجار النسب "المنجورة" الزائفة.. المعقدين من هويتهم.. جوهر ذواتهم.. كان موقفهم في الواقع، ولوقت طويل من الإنتماء لهذه الأرض الحزينة، أشبه بموقف "المحرّشين"، لا يقاتلون لأجلها.. بل يقاتلون لأجل حنينهم إلى وطن وهمي مفقود، في تخوم صحارى الشرق السعيد.. فهم ضائعون لا قضية لهم.. أو تخلو عن قضية هذه البلاد، التي كانت كبيرة.. وتبنوا قضايا الشرق السعيد، التي لا تخصهم إلا لماما.. أحلّوها محل ما ينبغي الإنتماء إليه من قضايا.. كالإنتماء إلى البلاد الكبيرة.. الإنتماء لهذا الوادي المبتلى بهم.. فهم يخجلون من الإنتماء إليه.. يخجلون من لونهم الأسمر، وأنوفهم الفطساء الكبيرة، كأنف "إبراهيم خضر".. يخجلون من شعورهم الجعداء، وينظرون لشعوب الوادي الأصلية بإستعلاء، تقشعر له صخور جبل كارناسي، وسهول البلاد الكبيرة ووديانها وقيزانها..

كانوا كالساخطين على الروح العظيمة، لكونه خلقهم هنا في هذا المكان. وبهذا اللون. وهذه الأنوف. وهذا الشعر الأجعد؟!..

فلطالما أعتقدوا أنهم يستحقون أن يحصلوا على ما هو أفضل.. وكان الأفضل بالنسبة لهم، هو اللون الأبيض، والأنوف الآرية والشعر السبيبي الناعم!.. لكن هذا هو الروح العظيمة وهذه حكمته! لا يريد أن يمنحهم سوى هذه الأنوف "المفرجخة"، وهذا اللون الأسود، الذي يدلعونه ويكتبون فيه الأشعار والأغنيات، مضيعين شبابهم في عشقه- كما يزعمون- بل حتى نساؤهم كن حساسات جدا تجاه هذه الهيئة، التي تعسفت الروح العظيمة-كما يعتقدن في دخيلتهن- بمنحها إياهم، ولذلك إلتفن حول أبونافلة، ليحصلن منه على معاجين وأعشاب نادرة. أحضرها معه من نفيه في مملكة السافل في الجوار، لتقشير وتفتيح بشرتهن، وتقليل حجم أنوفهن، وتلطيف خشونة شعرهن.. كانوا رجالا ونساء يعانون مركب نقص مرعب! وإحساس فظيع بالدونية، تجاه شعوب الشرق السعيد!

وبينما واقعهم العملي وملامحهم، يعبران عن إنتمائهم لهوية البلاد الكبيرة. كانوا يصرون في الإنتماء للشرق السعيد، وهكذا أختلفوا إلى حد الخلاف و القطيعة مع واقعهم وملامحهم. وفي الوقت نفسه، لم تكن شعوب الشرق السعيد، ترحب بإنتماءهم إليها، فهم بالنسبة لها: أنجاس مناكيد، يستحقون ضرب العصا، كما عبر التنقار في أشعاره الخالدة. بل وأيضا ينظرون إليهم كمحتالين و"متضهبين" ومستهبلين، يتنكرون لحقيقة ذواتهم!..

هؤلاء الناس الذين كانوا يحبون الشعر البدائي، الذي كتبه التنقار، والذي كرس فيه للجهل والتجهيل، والذي صمم خصيصا للفخر والمدح والذم والهجاء والتملق، للحصول على العطايا عند الوقوف، على أبواب السلاطين. بلا مبالاة بالهم والتحزين.

الوادي بأهاليه الذين معظمهم.. كانوا في أغلب الوقت سرحانين. كان يسير إلى مصيره المحتوم، وليس ثمة شيء بقادر على تجنيبه نهاياته المأساوية، ومصيره الفاجع. لم يكن الوادي قابلا للشفاء البتة. كان مكتئبا، يدين الجميع على أنهم لم يعبأوا به كوطن، ولأنهم فشلوا في الإجابة عن سؤال: لماذا يجدون المطاليق مطاليقا؟ فاكتفوا بالتساؤل: من أين أتى هؤلاء؟! رغم علمهم التام، أن المطاليق جاءوا من أصلابهم، ومن أرحام نساء الوادي، وليس من الفضاء الخارجي!

وهكذا في ظل الإنهيار العام للناس والحياة، أخذ دكان ود أبوسنينة البصير يحتل مكانة مهمة، بموقعه الإستراتيجي، الذي يتوسط سوق السراويل وسوق العناقريب..

كان كل أصحاب وصاحبات الكناتين والدكاكين، التي تجاوره، كعنيزة وستنا وبخيتة وسعيدة صاحبات كناتين الخردوات، وكل مرتادي دكان البصير، أشبه بتلك القرادة، التي أزعجت سكان الوادي لزمان طويل، بإدعاءها:" أنا وأخوي الجمل، مشينا جبنا القش من دار الريح".. هؤلاء قوم القراد.. تجدهم مبثوثين بين أهالي الوادي الآخرين، يتجمعون من آن لآخر في دكان ود أبوسنينة البصير.. يأتي بولاد النجار "نجر أخضر" وعنقرة السرماطي.. يأتي الدكيم والإغيبيش.. يأتي نقي والنويري والنقر وصغيرون ورباط، هؤلاء السماسرة الذين يسمسرون في كل شيء. و.. جميعهم يأتون.. هؤلاء الأرامل والمطلقون وآباء الشهداء المزعومين(القتلى) الذين ماتوا "فطايس" -كما أكد الإمام حراس العقاب مرارا وتكرارا- في غارات المطاليق على دار الريح والصعيد..

هؤلاء الرجال وآخرون كثر غيرهم، ياتون في أوقات متفاوتة، لرفد البصير بما تناهى إليهم من أخبار، أو لسماع ما حصل عليه من أخبار جديدة، في شأن الإنقلاب والنهايات الوشيكة.. يأتون لينفضون عن ذاكرتهم أغبرتها "بمقاشيش السعف"، ويعلقون جنونهم الشخصي على "مشلعيب" النسيان، فقد يحتاجون إسترداده يوما

يريدون تحسس  كونهم لا زالوا أحياء، لهم دور في حياة الوادي، الذي بات تململه وإضطرابه، يحتل حيزا كبيرا في تفكيرهم، إلى جانب ذكريات القلب والروح المنصرمة، ومحبتهم لإستعادة كل شيء بتكرار الحديث عن كل شيء، مما مضى دون كلل أو ملل. هذا التكرار الذي كان يفصح على الدوام، عن خوفهم من فكرة المطاليق، بحد ذاتها أكثر من خوفهم من المطاليق..

وهكذا أصبح كنتين ود أبو سنينة البصير، مركزا هاما لتبادل الذكريات الضبابية، والمعلومات الغامضة.. الوهمي منها وغير الوهمي، فدكان ود أبوسنينة البصير وجلسات القهوة النهارية، التي تجمع نساء الوادي كالمتلازمتين، ففيهما يتداول المجتمعون كل أنواع الأخبار والوشايات والمؤامرات والدسائس والمكائد، التي تؤدي إلى كوارث لا أول لها ولا آخر.. فيهما تجد أخبار الإنهيارات العائلية، وأخبار جثث الغرقى، التي تطفو على سطح ماء النهر من آن لآخر، وأخبار من قبض عليهم المطاليق من الرجال والنساء، وهم عراة في دغل قمبيل نائي أو كهف سري من كهوف كارناسي، أو انداية في قفا قوز المطيرق..

كانت النساء تختفين بينما يجدون جثث الرجال طافية على سطح الماء!.. في جلسات القهوة ودكان البصير يتسرب إلى العلن، كل ما يدور في العناقريب ليلا دون تحفظات، ليملأ الأزقة الضيقة، في صهيد الظهيرات الغائظة..

كانوا لا يكتفون برواية القصص والحكايا التي عاشوها فحسب، بل ويضيفون إليها من خيالهم الجامح الكثير من التفاصيل، بل ويختلقون الكثير من القصص والحكايا، التي لم ولن تحدث.. إذ كانوا يبدون غامضون.. متواطئون، فهم في الواقع تلفانون.. أتلفهم الحنين إلى وطنهم الغامض، وتلك الرؤيا الضبابية حول هويتهم.. كانت تهيمن عليهم الغيبة والنميمة والبهتان وشهادات الزور.. فكل القيم النبيلة على عهد المطاليق، كانت قد تراجعت في نفوسهم إلى زوايا غرائزهم البدائية، لتحتل عبر الزمن هذا المكان المسمى وادي الذهب، فيستحيل إلى عالم جشع يفتقر للسلام الروحي والمادي..

كانوا أشبه بحالة محو للجمال، يخط عليها القبح ما يشاء من آثاره المقيتة. كانوا إذن بحاجة ليس إلى مجهود جبار فحسب، بل إلى معجزة، كيما يتخلصوا من بؤسهم وقلق ذواتهم.

ودائما كانت لديهم حياتين: حياة معلنة، وأخرى خفيّة، فانعكس ذلك على كل شيء، حتى الونسات البريئة. فكل حكاية هي في الحقيقة حكايتين؟! كذلك كل ضحكة هي ضحكتين: واحدة تعبر عن المرح لكنها تنطوي في داخلها على ما تنطوي عليه!

هؤلاء الناس الذين كانت حياتهم عبارة عن سلسلة متصلة من المحن. كانوا كثيرا ما يجدون جثثا طافية على سطح ماء النهر، هي جثث ضحايا المطاليق من طائفة الإسيد، الذي كان بعد أن تمرد على المشردين، وأنضم للمطاليق. إنشق عن هؤلاء مكونا طائفته وزوجته حوشة.. هذه الطائفة التي أطلقا عليها إسم"السلام العادل" أو "كيان دارصباح"، والتي ستذبح بعد مئات السنوات ثورا أسودا، إحتفاء بإنفصال الصعيد!.

وفي الحقيقة كرّست هذه الطائفة كل مجهوداتها للإستعلاء، على شعوب البلاد الكبيرة. إنتشرت في الأندايات، وتسبب خطبائها من الموهومين، في التعجيل بأن تحذو دار الريح حذو الصعيد، بإيصالهم لها إلى منتهى حدود صبرها النافد..

إذن كانت الشائعات تنفي موتهم غرقا، وتنسبهم كضحايا لطائفة الإسيد تحديدا.. فالجميع كانوا دائما مهددين بالضرب والإعتقال والتعذيب، في أي لحظة، لتكتسب أرواحهم المسمومة، وحياتهم المعطوبة، مزيدا من التشوهات..

كنتين البصير ذي التجارة الكاسدة، التي لا يعرف نوعيتها أحد، والذي لم يعد ثمة أحد من الأهالي، يشتري منه شيئا منذ زمان بعيد، بسبب أن ود أبوسنينة البصير، لم يكن يتاجر منذ نعومة أظفاره، إلا في الأشياء التي ليس للأهالي حاجة فعلية لها. لذا وبمرور الوقت أصبح الدكان مجرد برنامج يملأ به فراغ حياته العريض. يتسلى به هربا من العطالة، ومن الجحيم الذي يواجهه في داره من قبل زوجته "النقاقة" والتي كانت قد حسمت أمر ترويضه منذ الأيام الأولى لزواجهما، قبل عشرات السنوات. تنفيذا لوصية أمها:"الراجل أفجخي بصلة قبل ما يبقى أصلة" فلطالما عانت أمها من زوجها، الذي كان لا يرفع عصاه عنها أو عن النقارة أو عن حمارته المكادية، وذلك لأنه ليلة دخلته عليها، لم تجد كديسة لتذبحها له! لذا كان يتعين عليها تحمل عصاه طوال حياتها، لذلك جنبت -بوصيتها الخالدة- إبنتها من مصير مشابه لمصيرها. كان ود أبوسنينة البصير إذن "رجلا مفجوخا جدا جدا!.. حتى أن عياله أنضموا للمطاليق، يحملون عقدة الفجخ ففجخوا أهالي الوادي أيما فجخ!.

كان ود أبو سنينة البصير، يخرج في الصباح الباكر من كل يوم. يفتح دكانه.. ينظف "كشاشة الشراقين والحصير"، التي تظلل واجهته. وما أن يخرج عنقريبه وبنابره، ويجلس بإنتظار أصدقاءه الطاعنين في السن، حتى يطل أبوجروس وعشر وبحر وجبل الضرا، الذين غاض ماء مجدهم منذ زمان بعيد، في القيعان السحيقة لأوهام الوادي.. فسكنتهم آلام الظهر والكرعين والحمى في ركبهم، التي صارت تصطك وتصدر صريرا مزعجا!

كانت الكشاشة التي تظلل الكنتين تكاد لا تفرغ، فما أن يذهب هؤلاء حتى يجيء آخرون كالجنيد وأبو جديري وأونسة وعجيب ودشين، ليلقون المزيد من أحلامهم وإستنتاجاتهم الخاصة، على أساس أنها معلومات حقيقية موثوق فيها، وربما يطيب لأحدهم الحديث عن أمجاده ومغامراته الغابرة، وهو يتأوه في حسرة كما كان يفعل الوتد دائما..

وفيما هؤلاء العواجيز ملتفون حول ود أبوسنينة البصير والوتد، يسمعون الحكايات في الظهيرات الغائظة، على وقع إرتشافهم للقهوة السوداء. كانت النسوة الشابات والحبوبات العجائز يرمين الودع، يقرأن فيه شئوون القلب والمشاعر المنصرمة، والأخرى الحبيسة اليابسة تجاه الحاضرين والغائبين، والراغبين في اللحاق بمن غابوا.

الأمر نفسه كان يفعله بعض الرجال "الرمالة ضاربي الرمل" الذين "يشوفون الخيرّة" بالخط على الرمل. قالت أم سنبل وهي تضع "البياض" في محفظتها:

"تالت التلاتة خاطر على دار الريح"

فهتفت صافي النية:

"سجمي ده ولدي"

"فقهمتها" أم سنبل:

"سجمك شنو يا ولية الودع محمدني أنا"

فتموت ريحانة والبتول من الضحك، إلى أن ينفض مجلس القهوة النهارية، الذي لا يختلف كثيرا ما يجري فيه، عن ما يجري في دكان البصير، خصوصا عندما يجيء الأربجاوي الرمالي، فيتحلقون حوله لسماع نبؤاته، التي يقرأها في خطوط الرمل، عن موضع الغنم الرايحة، أو أخبار السميح زوجة ودتوير، التي هربت قبل وقت بعيد، ومنذها في كل مرة يقول الأربجاوي حينا، أنه يراها قد توغلت في دار الريح، وحينا آخر يزعم أنها الآن في "عِدْ البَهم" أقصى دار صباح.. إلى أن حسم الأمر آخيرا وقال أنه لا يعرف المكان الذي ترقد فيه جثتها، فكل ما يراه الآن أن "الحِدَيْ" تحلق فوقها.. ربما قريبا من الحليلة شوحططت..

وهكذا كانت من قعدات الودع والرمل، تخرج معلومات زائفة مهمة، يتناقلها الحاضرون، فتملأ فضاءات الوادي، الذي ألف فيه أبو نافلة، عيون أشعاره الخالدة، عن ست الودع والرمالي.

وادي الذهب إذن في وجه من وجوهه، هو وادي ستات الودع والرمالة والمنجمون، فالودع والرمل صاغ حياة أهاليه البسطاء، وحدد مستقبلهم ومصيرهم! حتى أنهم يموتون لأجل جواري الميتافيزيقيا الحور! ولذلك كان بادي محقا، عندما صنع داخل قلعته الحصينة في الحليلة شوحططت، حديقة تشبه تلك الحديقة السرمدية التي حفلت بها حكايا الرحل، لكن بجواري أرضيات!

ومع ذلك كانت علاقة الأهالي ببعضهم البعض وبالوادي.. وكذلك علاقتهم بالسلطان والمطاليق والمشردين والرحل، وعلاقة هؤلاء وأولئك بهم وبعشائر الوادي وأسره المتنفذة، كانت علاقة غامضة ومتداخلة. الأمر نفسه ينطبق على علاقتهم بطائفة الإسيد. إذ تبدو مضللة.. وفي كل هذه الشبكة المعقدة من العلاقات البينية المتقاطعة والمتوازية، تتشابك حكايا الإنتهاك والدم والدموع.. التي تجري من المنبع(الناس) إلى المصب(الوادي) وبالعكس، لتشكل ذاكرة أسى الوادي الرهيبة.

فمملكة الوادي التي برع المطاليق في إشعال حروبها الهمجية، التي هي في الحقيقة حرب واحدة متصلة، عبر تاريخ الوادي منذ آخر دمار؟!.. الحرب نفسها التي تسبق كل دمار وشيك!

فمملكة الوادي التي لطالما بدت ميئوس منها ككهف كبير، ينسج حوله العنكبوت خيوطه، ظل أهاليها البسطاء يعتقدون لوقت طويل، أنهم ملهمون بالقدر الذي يسمح لهم بالصمود، تحت وطء جبروت السلاطين ومطاليقهم، وهم يفركون جبينهم المتجعد بأصابعهم المعروقة المتوترة.

ما هو مثير للتساؤل حقا أن هؤلاء الأهالي، عندما تسألهم عن شيء ما، يغمضون عيونهم لفترة. يحاولون فيها تجميع أفكارهم القديمة، للبحث في مجاهيلها عن إجابة، وهم يدعكون على أنوفهم المزكومة، ثم ترتفع أياديهم، ليتخللون بأصابعهم شعور رؤووسهم. أو يكتفون ببرم حفنة من الشعر بالسبابة والإبهام.. بحيث يبدون كملهمين!..

كان من الواضح أن الأسئلة تصيبهم بإضطراب وإرتباك في الهضم، وإنفعالات مجنونة. فتتورم "كضومهم وجضومهم"، بصورة غريبة. ويتناثر البزاق من أفواههم المعبأة بالتمباك، سائلا "كالريالة" على أشداقهم. ثم يبدو على شفايفهم اليابسة، رغم البلل شحوب رهيب، تبدو فيه وجوههم المنكفئة، أتونا لما يصطرع داخلهم من إدعاءات ومشاعر غامضة، يغلب عليها طابع الحسرة والخذلان، والشعور المزمن والخفي بالذنب، والذي يضرب بعيدا في وجدانهم.

خلاصة الأمر.. أنهم كانوا متغطرسين بائسين، يئنون تحت وطأة تطلعاتهم غير المشروعة، بسبب تقاصر مواهبهم الطبيعية دونها. وبإختصار أكثر، كان الحوار مع مثل هؤلاء أشبه بمكيدة لعينة، يحاصرها "الغلاط" من كل جانب!. ومع ذلك كانت كل مجموعة من هذا النوع من الأهالي، ترتبط بشبكة تحالفات "شللية" مقيتة، متوارثة. تلعب الأدوار القذرة لصالح بعضها البعض.. كما لديهم قوالب جاهزة، صممت خصيصا للرد على الأسئلة، التي تحرجهم وتزعج ضمائرهم، فهم مثلا يستاءون جدا، عندما تذكرهم بأنهم أحفاد النخاسة جالبي الرقيق، ففي تقديرهم هناك فصل تام بين التركة المادية والمعنوية؟!. فهم متمسكون بوراثة التركة المادية، التي ورثوها عن أسلافهم، والتي يفاخرون بها!.. لكنهم يرفضون إرثهم المعنوي المرافق لهذه التركة. وذلك لتخدير ضمائرهم كيما تنعم بالرفاهية والسلام! والحق يقال ليسوا جميعهم هكذا، فالبعض منهم تحمل أعباء تاريخه العائلي، وأنضم للمشردين لتصحيح الأوضاع الخاطئة! مثلما أنقسم البعض عن المشردين ليلتحق بتاريخ لا يمثله؟!وفي الوقت ذاته مضى البعض الآخر، ممعنا في غيه، وهؤلاء بالنتيجة كانوا تافهين جدا!..

وبالإضافة لكل ذلك، كان هذا النوع من الأهالي، مغرما بالتقليل من شان الآخرين، والتشكيك في إنجازاتهم، و إفشاء الأسرار التي يؤتمن عليها.. يفشونها لأعداء بعضهم البعض! رغم الصداقات العميقة والوطيدة التي تربطهم. كانت العلاقة معهم، أيا كان نوعها.. أشبه بالمشي على رمال متحركة. من الصعب أن تجد أرضية مشتركة بينك وبينهم. وهم على هذا النحو من صدأ الروح، وقد تخرّمت قلوبهم بشكل فظيع.. مروع.. يخلو من أي لمسة عاشميقية.. الحوار معهم كان أشبه بالبحث في الأنقاض، إذ لا يمكنك سوى العثور على بقايا الأشياء المهملة، والمهشمة أو ناقصة الأجزاء.. حتى المشاعر والأحاسيس الإنسانية: بقايا.. وللمفارقة هؤلاء الناس ذاتهم، كثيرا ما يبدون في محاولاتهم الإجابة، أنهم يسعون لتصفية أمر لا يهمهم على الإطلاق.. الطريقة نفسها التي صفوا بها الصعيد!..

إعتقادهم الزائف في القدرة على الصمود، تبدد كما تبددت الكثير من الأشياء في الوادي:

"لم يعد وادي الذهب هو ذاته"

قال أبوقصيصة الخشن موجها حديثه للنخاس السفيه، الذي لم يكلف نفسه عناء محاولة الرد، أو التعليق. السؤال نفسه وجهته ست البنات لعاشميق، الذي أجاب:

"ومتى كان الوادي هو الوادي ذاته؟"

وقتها كان المشردون لا يزال يحدوهم أمل، لكن مع تنامي موجات الإحتقان، الذي بدأ ينخر أسوار الماضي، لتنهار وتنفتح كل التواريخ القديمة، بدء بحكايات الشرف والمباديء الممسوسة. وحكايات الدهاقنة والمحنكين، ذوي الخبرة الكبيرة في إحالة حياة الناس شقاء وضجر!..

و إذ تنفتح الحكايات القديمة والجديدة على بعضها البعض، تنهض في هذا الحطام، مراثي من نوع غريب، كبلبلة الأفكار، التي لا تخلو من مرارات الأغنيات المهزومة المهرولة.. فيفكر الكثيرون في المغادرة إلى مملكة الجوار أقصى السافل، إذ ما عاد الوقت يكفي لرتق شقوق الجغرافيا، أو تلاقي الأطراف المنقسمة.. ما عاد يكفي لفعل أي شيء، وأي شيء كنحلة في القلب، تمتص حميميات الناس، دون أن تصنع من هذا الرحيق شهدا..

كانت إذن روح العوالم المشدودة في وتر المسافات، تتجمع من كل أبعاد الزمان والمكان، لتعصف بالوادي الموبؤ، الذي فقد نضارته وإلى الأبد..

لذا وفي تلك الظهيرة.. بعد عشرات السنوات أطرق ود التويم رأسه في حزن وأسى، وغرق في ظلمة صمت عميق، وهو يتحسس أرض الكهف بعود أندراب جاف، ثم رفع رأسه يخاطب جقندي:

"أعلم  أنك كاشف. كل ما أريده منك أنه إذا قربت وفاتي، أن تخبرني لأتزود لمعادي"

تملى فيه جقندي النظر طويلا، وهو يضغط أنفه بين أصبعين من أصابع يده اليمنى، دون أن يقول شيئا. وقتها كان مستوى ماء المطر والسيل، قد بدأ يرتفع قليلا عن سطح الأرض.

III

فجأة هبطت الصاعقة على رؤوس مزارعين وادي الذهب، الذين كانوا ما أن أنهوا طقوس جدع النار، في قلب الساحة التي تتوسط البندر، حتى إنشغلوا بطقوس الحصاد، بالقرب من جنقل السلطان، في تلك الظهيرة الغامضة قبل آلاف السنوات..

تجمد المزارعون لهول المشهد الذي لم يره بشري قبلهم قط.. فهناك، على بعد أمتار قليلة منهم، خرج من أحد كهوف الجبل، الذي سيصبح إسمه بعد مئات السنوات(جبل كارناسي) طفلان.. كانا طفلا.. وطفلة يمسك كل منهما بكف الآخر، ويبدو عليهما الإرتباك الشديد، وهما يبكيان بحرقة. طفلان سمراوان(بعد آلاف السنوات سيضيع أحد الشعراء شبابه، في عشق اللوّن الأسمر ويضوق المر والمرار) ويرتديان ثياباً من مادة مجهولة..

وكانا مذعورين لدرجة رهيبة.. إندفع المزارعون نحو الطفلين، فأصابهما الذعر، وحاولا الفرار عدواً، ولكن المزارعين نجحوا في إلقاء القبض عليهما، وذهبوا بهما إلى السلطان، الذي حاول عبثاً التحدث إليهما، و هو يأمر خدمه ورقيقه بغسلهما، متصوراً أن ذلك اللون الأسمر، مجرد صبغة نباتية أحتكا بها في دغل من أدغال البلاد الكبيرة، إلا أن اللون الأسمر بقي ثابتاً، في حين لم يقبل الطفلان شيئاً مما قدم لهما من طعام، وإنما راحا يقلبانه في أيديهما بدهشة وحيرّة عظيمة، وكأنما لم يريا مثله قط، وقضياً خمسة أيام في منزل السلطان دون طعام، حتى كشف أحد الصيادون المغرمون بصيد حمام الوادي والشقوق، أنهما يقبلان على كسرة وعصيدة الفتريتة والدخن باللبن و الويكة بشغف.. كان ذلك هو طعامهما الوحيد، إلا أن الطفلة لم تلبث أن ماتت، وجرى دفنها في إحدى المقابر الملحقة بالجبل(التي ستظل مقابرا مجهولة لا يعرف أحد سر مدفونيها، الذين لا يزالون طازجي الجثث).

كبر الطفل وعمل خادما في قصر السلطان، وعلى الرغم من معرفته لكل لغات البلاد الكبيرة، إلا أنه لم يشرح أبدا حقيقة أمره وأمر شقيقته الراحلة، ولا كيفية وصولهما إلى بندر الوادي.

كل ما قاله إنهما كانا في عالم يختلف، ثم حدث دمارا رهيبا، فوجدا نفسيهما في وادي الذهب.. فحص الأهالي والرُّحَلْ العابرون –وقتها- الكهف الذي خرج منه الطفلان، ولكنهم لم يجدوا ثغرة واحدة فيه، وسجلوا كل هذا في أحفوراتهم الرسمية على جدر الوادي، والتي كانت موجودة حتى لحظة الدمار الرابع.

من صلب هذا الطفل غريب الأطوار، خرجت طائفة المطاليق القديمة، التي قام بادي بإحيائها بعد آلاف السنوات.. فكثرت التكهنات التي تجاوزت حدود القصر الملكي في عصور مختلفة، إلى أن وصلت الأندايات في بعض العصور..

وبينما كان أبونافلة يصر أن الطفلين جاءا من بُعدٍ آخر.. أو كوكب آخر، كان التنقار نكاية فيه يزعم: "أنهما من عالم الشياطين والأبالسة أولاد الكلب".. ولم يحسم رواد "الأنادي" أمرهم لصالح أي من الزعمين، فبقى سؤال المطاليق معلقا: من أين أتى هؤلاء؟

عندما أنهى الشايب جقندي خطبته الطويلة، ومضى وعشيرته، يغادرون بندر الوادي إلى أعماق ومجاهيل كارناسي، حيث المعبد العتيق. وقتها كان وادي الذهب خلفهم يحترق، وندى الفجر فيه يتحول إلى كتلة من البلور الملتهب..

كان الحريق يأتي على النّاس، والأشياء والشجر والحجر والمطر!.. كان يأتي على كل شيء.. آخيرا حلّت عليهم اللعنة التي إنتظروها طويلا، دون أن يأبهوا لتحذيرات الرُّحَلْ، الذين لطالما سعوا جاهدين أن ينعم الوادي بالسلام.

كأن التاريخ في الوادي يمضي على نحو دائري، كحلقة شريرة لا منتهى لها، فكلما تمر عقود من الزمان يتكرر الحدث نفسه بطريقة تختلف أو تتفق قليلا.. هذا الوضع الذي ظل الوادي يعيشه، أطلق عليه العقلاء إسم "الحلقة الجهنمية" فحواضر"الصعيد" و"دار الريح" و"السافل الأقصى" و"دار صباح البعيدة" التي تتململ الآن وتضطرِّب بشدة، بُعيد إنقلاب المطاليق. كان الشيء نفسه يحدث لها قُبيل كل دمار وشيك!..

لذا، وفي تلك الصبيحة المسكونة بالقلق والتوتر والهواجس والظنون، التي كلكلت على الوادي البائس، الذي لفته الحيرّة والمخاوف، وأعتملت داخله مشاعر الفقد وأحاسيس التوجس والهلع، فالتف على نفسه، محاولا إغراقها في مزيد من العزلة..

في تلك الصبيحة التي إنهارت فيها، حظائر الأغنام والأبقار والحمير والحصين، وأنطلقت حيوانات الوادي كلها لا تلوي على شيء.. نشر المطاليق جندهم في شوارع البندر ودروبه الضيقة.. وأخذوا يفتشون أغراض السابلة.. الكناتين.. بل فتشوا حتى دكان ود أبوسنينة البصير.. كانوا يفتشون في كل شيء، بحثا عن شيء لا يعرفه أحد سواهم، وكانوا يحتجزون كل من يشكون فيه!..

توترت أعصاب الناس المنكفئين على ذواتهم، والذين ظلوا طوال عمرهم "لا يطقعون ولا يجيبون الحجار"، لأول مرة بدأوا يحاولون الفعل: مقاومة الإحساس بالغثيان والرغبة الملحة في الإستفراغ. فلحظتها كان كل ما مر بالوادي، عبر التاريخ وتواتر إليهم. يخيم بإحساساته المتناقضة على فضاء الوادي الغارق في شبح الماضي المتجدد، مفسحا للحاضر مسارات واسعة للحسرات والأسى والدّم والدموع.

"إغتيال سوميت هو البداية فقط سيقتلون الجميع"

قالت ست البنات. أضاف عاشميق:

""لقد فات الوقت على فعل أي شيء يجنبنا ما سيحدث

كأن الأيام القلائل التي مرّت على مقتل سوميت هي عشرات السنوات.. أيام من الحذر والترقب وعذابات الإنتظار.. مزيج من الحزن الغاضب. المرتاع. المغلوب على أمره، شمل النّاس والمكان والأشياء..

تبدل الوادي كثيرا ولم يعد هو نفسه، في هذه اللحظة الفاصلة بين عالمين.

"بل قل لم يكن الوادي في يوم من الأيام هو نفسه"

رمى جقندي كلمته يائسا ومضى.

أهالي الوادي ومنذ آلاف السنين، ظلوا يتفاعلون في هذا المكان، الذي إمتزجت فيه حضارات وأقوام عديدة، فبندر الوادي، كان دائما كالأتون المشتعل، الذي تتفاعل فيه حضارات وأقوام و أحزان وآلام.. ذاكرة وذكريات.. أحاسيس ومشاعر.. ممالك وسلطنات.. عقائد وأعراف وديانات، ليعطي كل هذا المزيج وادي الذهب مزاجه الحاد. ولونه وطعمه الخاص، ورائحته المميزة وشكله الفريد.

لكنه مع ذلك، ورغم ثرائه، ظل أهاليه يتسمون بهشاشة مزعجة وفقر مفزع. ربما، بسبب إجتذاب السلطة لهم في دوائر صراعاتها.. فهؤلاء الناس، الذين كانوا يظنون، أنهم يعرفون ما يريدون. في الحقيقة لم يكن إدراكهم يتعدى حدود رغبتهم في إمتلاك السلطة، التي عندما يمتلكونها، لا يعرفون ما الذي يتوجب عليهم فعله بها، كيما ينعم كل الوادي بالأمن والإستقرار والرخاء والسلام! إذ كانوا دائما متنازعين، بين أن يكونوا قادة لقبائل النعام، أو أفرادا في قبيلة الذئاب.

فعادة، وفي كل العصور(العوالم) السابقة، يسيئون إستخدام (السلطة)، وهكذا تشتعل الحرب على الأرض والتاريخ والتراث. فداء الغربة، الذي تمكن منهم، وتجذر في وجدانهم عميقا، حوّل حياتهم إلى حياتين: الحياة الواقعية التي يعيشونها بالفعل، وتلك الحياة الأخرى، التي يتوهمونها، ويعيشونها بصورة غامضة، على هامش حياتهم الواقعية الحقيقية!

وهكذا يحاصرهم الحنين الخفي. الغامض للشرق السعيد، ويصبح وجدانهم على مفترق دروب الغابة، وسباسب الصحراء ووهادها!

لم يسألوا أنفسهم يوما حول "كيفية" التعامل مع السلطة، ليدركوا "الكيفية"، التي يجب أن يحكموا بها الوادي، بغض النّظر عمن سيحكمه منهم؟! وهكذا أيضا إنفتح الباب واسعا للمطاليق،"الحواة" الذين يلعبون بالبيضة والحجر، ويصنعون من"الفسيخ شربات" دون جدوى. والنتيجة: رموز لأبطال وقادة وهميين، فاضت بهم "كوش" التاريخ الوهمي ومزابله العريقة.

عندما خرج "الناجون" من الدمار الثاني"أحياء"، واستقروا بوادي الذهب. كانت عيونهم قريبة من مواطيء أقدامهم.. في "ركبهم". وكانت السماء تحتهم، يمشون على فضاءها، ودون أن يركعوا يمكنهم تحسسها بعيونهم. كان بإمكانهم زيارة "عرش الروح العظيمة"، في"جبل كارناسي المقدس"، في أي وقت.

وقتها كانوا على صلة مباشرة بالسماء، فكانوا سعداء جدا، إذ بإمكانهم الحصول على كل ما يحتاجون، دون جهد أو هموم أو صراعات.. كانوا مرفهين ومترفين و"بالهم رايق".. لكنهم نسيوا أنفسهم.. نسيو حيثيات الدمار الأول والثاني وذكرياتهما المريرة، التي لم يتعلموا منها شيئا كما توهموا.. فأصابهم الغرور.. جحدوا نعم الروح العظيمة، وأخذوا يصطادون الطيور والحيوانات "كهواية" ممتعة، ويقطعون الأشجار على سبيل التسلية، وأنكروا كل شيء، وكذبوا بإسم الروح العظيمة وإسم الرُّحَلْ، "وقولوهما ما لم يقولاه أبدا!"

ضاق بهم الروح العظيمة، فسلط عليهم الأمراض والأوبئة، وأصابهم بأدواء الهواجس والظنون، وأخذت السماء ترتفع شيئا فشيئا وتحل محلها الأرض.. وبدأت عيونهم ترتفع من "الركب"، تحاول ملامسة السماء، التي كانت لا تزال ترتفع شيئا فشيئا، وعيونهم هي الأخرى كانت "تتحوّل" في أجسامهم من مكان إلى مكان، إلى أن بلغت رؤوسهم، التي بدأت تهطل عليها أمطار الحنين، فيما كانت السماء قد إبتعدت أكثر، وبدى جبل كارناسي مغسولا بأمطار الحزن.. تترقرق على فجواته الدموع "الرقاشة".. أشتد حنينهم أكثر وأكثر، وجبل كارناسي يراقب الحيوانات والنباتات، التي جاءت من كل مكان في البلاد الكبيرة، لتجتمع عند سفحه، لتناقش مع الأسد رغبتها في التحوّل إلى بشر!

وقتها كان الثعلب المكار المهموم بأهمية حضور هذا الإجتماع يتضور جوعا، عندما شاهد عناقيد الجوافة تتدلى من شجرة متشابكة الأغصان، كانت الشجرة مثقلة بالجوافة وعالية، قفز الثعلب لكي يصل إليها عدة مرات دون جدوى، فلما يئس من الوصول إليها، مضى في طريقه و هو يقول:

"على كل حال هذه الجوافة نّية لم تنجض بعد".

وكان ذلك الرجل المغرّم بصيد الجقور، يطارد الثعلب و يتعقبه في الغابة، التي لا تبعد كثيرا عن "دبة أم قنيطير"، و لم يجد الثعلب سوى أحد الرُّحَلْ ليتوسل إليه أن يخبئه. فأشار عليه الرجل بالذهاب إلى خيمته المدببة، و بعد قليل ظهر الصياد، وسأل المشرد إن كان قد رأى ثعلبا مر في الطريق، فأجاب:

"نعم أنه هناك في خيمتي!"

فأعتقد الصياد أن الرجل يسخر منه، و عندما رأى الثعلب، أن الصياد قدعاد من حيث أتى مستيئسا، خرج من مخبئه دون أن ينبس ببنت شفه، فوبخه الرجل لأنه يريد أن يذهب، دون أن ينطق بكلمة شكر أو عرفان. فقال الثعلب.

" كنت في الواقع أود أن أشكرك، لكنك وشيت بي"

فرد عليه الرجل:

"الصح كان ما نجاك الكضب ما بينجيك"

إعتذر الثعلب ومضى ليلحق بالإجتماع، فوجد الحيوانات قد أبلغت الأسد رغبتها، وكان الأسد مطرقا برأسه متفكرا، وبعد صمت طويل قال:

"لماذا ترغبون في أن تصبحوا بشرا؟!"

فأخذوا جميعهم ينظرون إلى بعضهم البعض، ويتساءلون في دخيلتهم:

"لماذا يريدون أن يصبحوا بشرا؟"

وعندما طال تبادلهم النظرات مع بعضهم البعض، دون أن ينبثوا ببنت شفه، قطع الأسد الصمت الذي هيمن على فضاء سفح كارناسي وقال:

"كما تعلمون. لقد خرجوا من الدمار الثاني للتو. وكما ترونهم الآن عادوا لسيرتهم القديمة، دون أن يتعظوا، فلماذا تريدون أن تصبحوا مثلهم؟!"

هذه المرّة –بإستثناء ود أبرق والغراب النبّيه وشجرة القمبيل والسمكة-  أجابوه بصوت واحد:

"لا شيء يهدد حياتنا أكثر من البشر. لو أصبحنا بشرا سنستطيع محاربتهم، أو رد الأذى عنا على الأقل، لأننا عندها سنكون "عيال الروح العظيمة" مثلهم، ومهما فعلنا سيغفر لنا كما سامحهم، وغفر لهم. وجعل منهم "ناجون من كل دمار"..

شعر ود أبرق –من ناحية أخلاقية- أنه ملزم بقول أي شيء والسلام، "فالقحة أفضل من صّمة الخشم"، فقال بصوت مفخم:

"أنهم يقتلون الطيور"

تشجعت الشجرة:

"ويقطعون الأشجار"

و الأمر كذلك كان لزاما على السمكة، أن تدلي هي الأخرى بدلوها في السياق نفسه، الذي إبتدره ود أبرق، فأضافت:

"ويصطادون الأسماك"

فضحك الثعلب وهو "يتشقلب" على ظهره

"ماذا تتوقعون منهم إذا كانوا يقتلون بعضهم البعض دون سبب مقبول!، ويشتمونني بأنني مكار!.. "أبو سنينة يضحك على أبو سنينتين".. بالروح العظيمة عليكم هل سمعتم يوما أن ثعلبا قتل ثعلبا آخر؟"

هنا تدخل القرد الأعمش وهو يحك جفنيه:

"ومع ذلك لا حل لنا للحفاظ على أنواعنا، إلا بالتحوّل إلى بشر"

أخذ الغراب النبيه نقطة نظام وقال:

"دعونا نستشير السلحفاة. فهي أعقلنا وأكثرنا حكمة، إذ دائما ما تحني ظهرها لريح البشر، ولا تخرج عنقها إلا بعد أن يستيأسوا ويتركوها في حالها"

فقالت السلحفاة:

"لا أريد أن أصبح بشرية، لكني أعلم أن "أبو مبجع كان ما ضاق الوجع ما بيشيل عيالوا وينجع"، لذا سأساعدكم بإعداد سائل إكسيري، عندما تتجرعونه يحولكم إلى بشر، وستتمنون لو أنكم لم تتحولوا إلى بشر"

ومضت السلحفاة لتعد الإكسير، وعندما فرغت من إعداده وأخبرتهم، عمت البهجة سفح جبل كارناسي، وأقامت الحيوانات والأشجار والنباتات، في تلك الليلة -بهذه المناسبة- إحتفالا صاخبا، دون أن يخبروا السلحفاة -إحتراما لرغبتها في عدم التحوّل إلى بشرية- ولم تستطع السلحفاة النّوم بسبب الضجيج والصخب، فجاءتهم وسألتهم بصوت غاضب، لا يخلو من تعنيف:

"ما هذا الضجيج؟"

فردوا بصوت واحد:

"نحن نتهيأ لوداع حيوانيتنا"

فردت ونبرة الغضب لا تفارقها:

"تريدون أن تصبحوا بشرا وأنتم تتصرفون كالحيوانات الآن. فكيف بكم إذا أصبحتم بشرا؟!!"

وتركتهم ومضت تريق الإكسير الذي أعدته على أرض كارناسي. فيما كانت السماء وقتها، قد بلغت أقصى حدود المدى في الأفق اللامتناهي.

لم يعد أهل الوادي إذن، بإمكانهم زيارة عرش الروح العظيمة في أي وقت، كما كان متاحا لهم سابقا. ومنذها والسماء بعيدة جدا عن الأرض.

عندما أراقت السلحفاة الإكسير على الأرض، نزل مطر ملوّن كثيف "حزم" جبل كارناسي ونحت فيه مزيدا من الكهوف والكراكير، وبعد أن توقف"فجّ" طيف قطع الشك السماء، ونزل في قلب المكان، الذي أقامت فيه الحيوانات إحتفالها.

أومأت لهم قطع الشك تجاه المكان، الذي تقيم فيه السلحفاة، ثم تبددت في الفراغ. ففهمت الحيوانات ونباتات وأشجار الوادي رسالة قطع الشك، وشعروا بعرفان عظيم للسلحفاة.. وشعرت هي الأخرى بسعادة غامرة، فأخذت ترقص مبتهجة على وقع الرزاز، المتبقي من المطر الكثيف الملوّن.

كانت رسالة قطع الشك، هي الرسالة نفسها، التي لطالما تواتر إليهم خبرها.. رسالة الشايب الجنزير التقيل من قبل، والشايب جقندي من بعد!. وبعد أن توقفت الحيوانات عن الرقص، لملمت أطرافها، وأتجه كل منهم عائدا إلى حيث يقيم، دون أدنى رغبة في التحول إلى بشر.

وقتها كان الأهالي المسكونون بالمخاوف والظنّون، قد غابوا في إنكفاءاتهم وتكوراتهم، على أنفسهم أكثر فأكثر، دون أن يفيقوا.. إلا على وقع خطوات المطاليق، وهم ينتشرون في شوارع البندر. يدهمون قصر السلطان وبيوت أعضاء مجلسه!.

علاقة الإسيد بالمطاليق، جاءت من أنه عندما وافق السلطان الكرباج، آخيرا على تزويجه إبنته حوشة  -بعد أن فشل في تزويجها للجنزير-  شريطة أن يأخذها ويرحل عن القصر، أخذها الإسيد وسكنا في دار كبيرة.. تطل على النّهر في  "قفا قوز المطيرق"، وكانت هذه الدار قد شيدت في أرض، تبدو موحشة جدا..

كانت تلك الدار هي القصر الذي كان يملكه  بادي الشقيق الأكبر للسلطان الكرباج، والذي  تم دفنه بعد وفاته في المقابر السلطانية، التي تقع على مرمى حجر من هذه الدار، وقد وضع على مقبرته غطاء كارناسي صقيل، من أنقى سلالات الأحجار الكارناسية عبر التاريخ الكارناسي الشخصي لجبل الكهف المقدس، وعبر التاريخ العام للبلاد الكبيرة، فهو من أجود حجارة الكهوف السرية، كما  نحت المطاليق صورة له علي  غطاء القبر، تمثله وهو يرقد فوق إحدى النساء!.. ذهب الأهالي إلى أنها ست الدار!

لم يكن قصر بادي أو داره الكبيرة التي قطنها الإسيد وحوشة، سوى مكانا مفزعا.. محاصرا  بأعشاب البرية الموحشة. حشراتها وهوامها وزواحفها السامة. والرطوبة العالية، والقبورالتي تطل على وادي "دبة أم قنيطير" بين أشجار القمبيل والأحجار الكارناسية المهشمة والمحطمة.. وحيث تجتهد الشمس في البحث عن هذه القبور، لتلقي عليها بضوءها دون جدوى..

كان الهشيم والوحشة والإكتئاب هو أول إحساس يداهم القلب، ويتوغل في أعماق الروح، فتنقبض كل عصبة في الجسد، وتعلو حدّة التنفس وتهبط. فينقبض من كل هذا الغبار، الذي يجرح الصدر ويكاد يشقه نصفين.

ثمة قصة كان يتناقلها الأهالي عن الصورة المنحوتة على غطاء قبر بادي.. أن بادي وست الدار، يغادران غطاء المقبرة من آن لآخر، فيما يسمي في الوادي ب"يوم الأرواح"، وأنهما يزوران الأماكن التي شهدت جرائم بادي القديمة، ويحومان في المكان الذي شيد فيه بيتهما الكبير، والمقام على مبعدة منه الدار، التي ورثتها حوشة من والدتها.

وكانت هذه الحكاية  مثار فضول الإسيد.

و في يوم من أيام الخريف، الذي "فاض فيه النهر"، "وسالت دموع الناس جداول"، وبعد أن غادر المشردون حلقته و تناول الإسيد وحوشة غداءهما، قال الإسيد مخاطبا حوشة:

"ماذا لو ذهبنا لرؤية غروب الشمس خلف قصر بادي؟"

لكن حوشة فضلت أن تبقى في الدار، إذ أنها كانت تشعر ببعض التعب، وهكذا إنصرف الإسيد بمفرده. فقادته جولته إلى درب يفضي إلى ساحة المقابر السلطانية وفجأة..

توقف عن السير متسمرا في مكانه. لا يصدق ما تراه عيناه.. فمن بين الأشجار، رأى مقبرة بادي تتوهج بضوء أحمر، لونه كاللهب على خلفية السماء السوداء.. كانت تفاصيل المقبرة واضحة بشكل ملفت.. وقد إختفي من فوقها الغطاء الكارناسي الصقيل!.

أول ما خطر على بال الإسيد، أن الأمر لا يعدو أن يكون مزحة، قام بها أحد صيادين "الجقور"، و"حمام الشقوق" العابثين، لكنه تذكر أن رفع الغطاء االكارناسي، عن المقبرة أمر شاق لا يقدر عليه إلا مجموعة من الناس. وبالحيرّة التي سببتها له هذه الصدمة، أسرع مبتعدا عن المكان، منتويا العودة إلى الدار، لكنه بعد قليل وقف في مكانه، ثم عاد أدراجه إلى المقبرة، يريد أن يتثبت مما رآه..

سار بشجاعة حتى وقف أمام المقبرة، أشعل عود أندراب، فوجد الغطاء فوق المقبرة، وصورة بادي محفورة في مكانها.. أشعل عددا من عيدان الأندراب في كومة من قش النّال، ممتحنا كل جوانب المقبرة.. فلم يجد فى أي ركن منها، ما يوحي بأن غطاء المقبرة قد أزيح من مكانه.. عدا ما لحظه من غياب أصبعين من كف بادي المنحوتة، وهي تحتضن ست الدار.. فقال في نفسه:

"ربما أن الأمر كان دائما هكذا، وأنه في المرات السابقة لم يلحظ هذا النقص".

أخيرا إستدار الإسيد منصرفا، وقد إستراحت نفسه. وهو يطمئنها:

"لا ريب أنني كنت ضحية خدعة ضوئية!.. أو ر بما كانت تلك حالة عارضة من الهلوسة!!"..

وفى طريقه إلى داره وحوشة أخذ يتساءل:

" هل يخبرها بما حدث؟.. هل ستخيفها هذه الرواية أم أنها ستضحك "عليه" وتسخر منه؟"

أخذ الإسيد طريقه عبر الدرب المؤدي إلى الدار وقد ساد الظلام.. عندما أقترب من الدار أطلق صفيره المعتاد، متوقعا أن يسمع صفير حوشة وردها على مشاغلته-كما تفعل دائما- لكنه هذه المرّة لم يسمع أى صفير أو صوت!

كما لاحظ أن كوّات الدار جميعها، لا يظهر منها أي ضوء. فشعرالإسيد غريزيا، بأن شيئا سيئا قد حدث. إندفع ليعدو نحو الكوخ مناديا حوشة، دافعا الباب بقوّة ليجد الدار، وقد خيّم عليها صمت وظلام مطبقين. كان قد إستنفد كل ما معه من أفكار، عندما كان في المقبرة. فراح يتحسس طريقه فى الظلام، وهو يصيح بإسم حوشة.. صيحات متصاعدة في حدتها.. وظل على هذه الحال، إلى أن بدأت خيوط الفجر تتسلل من خلف الأفق الشرقي.. فوقف يتطلع حوله لايصدق ما يراه!..

كانت غرفة نومهما فى حالة من الفوضى الشاملة.. كل ما بها تحطم، وكأنها قد أصيبت إصابة مباشرة بقذيفة منجنيق!. أما أرضية المكان الحجرية فقد تشققت، كما لو كانت قد تعرضت لضربات قوية للغاية، كما ظهرت الشروخ في الجدران. كان كل شيء كالمقلوب رأسا على عقب.. وسط هذه الفوضى الشاملة والخراب المطلق!..

رأى الإسيد جسد حوشة ممددا على الأرض..

وفي أقواله التي أدلي بها -وكذلك ما تواتر عن الجنزير التقيل، وتم تدوينه في أحفورات كارناسي- أن وجه حوشة:

"إرتسم عليه تعبير متجمد للرعب القاتل!"

كانت حوشة  مقتولة خنقا ! وكان السؤال الذي يتردد دون إجابة!.. ما هي تلك القوة الخارقة، التي إستطاعت أن تحدث، مثل هذا التخريب الشامل؟

نصحه الشايب الجنزير التقيل:

"الروح العظيمة غير راض بترحيلك للسراج إلى دار حوشة، فألحق بنفسك!"

كان الإسيد حزينا يائسا وغاضبا، فقال للجنزير:

"بل قل أن الرحل قتلوا حوشة"

"لقد أصبحت جلباغا كالسعن أب موية شوية.. حوشة لم يقتلها الرُّحَلْ يا رجل"

وفي اليوم السابق للجنازة.. وللمرة الأخيرّة أمسك بيد حوشة، التي كانت أصابعها مغلقة بقوة، وبرفق شديد بدأ الإسيد يبسط أصابع الكف واحدا بعد الآخر، فسقطت من اليد إلى الأرض، قطعة من الحجر الكارناسي. إلتقط الإسيد القطعة الحجرية.. فرآها على شكل أصبعين منحوتين في الحجر الكارناسي الصقيل!..

وهكذا مضى وأنضم للمطاليق سرا.

قبلها بوقت ليس قصير، عندما توحمّت حوشة –وكعادة نساء الوادي اللائي لا يملأ عيونهن حتى التراب-طلبت من الإسيد أن يحضر لها لبن العصافير، فأسقط في يده وتآكله الهم، وهو في هذا الهم المقيم، سأله الشايب الجنزير التقيل عما به، فأخبره. فقال له:

"لا تحمل هما باكر يكون عندك"

وقبل إنقضاء زوال اليوم التالي، أرسل الشايب الجنزير التقيل بعض المشردين، إلى الإسيد يحملون لبن العصفور. أخذه منهم وأعطاه لحوشة، التي كانت قد أعدت لهم الزاد: ملاح ويكاب وعصيدة ببني كربو. وعندما رجع المشردون إلى الجنزير وأخبروه. نده وقال:

"يا هبوب كتري للإسيد ويكابه"

تفيد المدونات والأحفورات على جبل كارناسي، أن الويكاب والبني كربو الذي قصده الجنزير في دعوته على الإسيد، هو عمّى البصيرة وخطل الرأي، وتعني الأحفورات بذلك الفتاوي الفاسدة حول أعراق أهالي الوادي، المنسوبة للإسيد، والتي يربط جلها بين العرق والدين، بما يجعلهما متطابقين تطابقا تاما، بالتالي أهل الوادي الذين لم يخرج أي نبي من أصلابهم غير معنيين، بهذه الفتاوي كذلك تلك الفتاوي، التي تفيد بطاعة السلطان طاعة عمياء.

ذات المدونات والأحفورات، تفيد أن الإسيد بُعيد نجاح إنقلاب المطاليق بقليل، وبينما كان في جمع من المطاليق، أطلق صرخة وأختفى دون أن يخلِّف وراءه أثر!.

IV

ما من شخص تقع عيناه على معبد الكهف المقدس، بجبل كارناسي من الداخل، إلا ويتسمّر في مكانه، ويرفع رأسه لأعلا، يجيل بصره في هذا البناء السباعي العجيب. فمعبد الكهف المقدس العتيق، هو الدليل الوحيد الباق، من خرائب وادي الذهب إثر كل دمار!!..

فالكهف المقدس ظل ككارناسي، شامخا يتحدي الزمن، ويسخر من عوامل التعرِّية، وقوّى الطبيعة الضارية، التي لم تتمكن أبدا من هزيمته!!

منذ أكتشفه ذلك الصياد المغرم بصيد الجقور، في تلك الصبيحة الندّيانة.. لم يستطع أحد حتى لحظة الدمار الرابع، التوصل للكيفية التي تم نحته بها، على هذا النحو السباعي البديع!..

وهكذا ظل كأحد أكثر الألغاز المحيرّة، التي شغلت فكر المطاليق، دون أن يجدوا لها حلا. رغم أن الرحل والمشردون، إحدى خلافاتهم دائما في الكثير من الفترات، كانت تدور حول شعلة المعرفة، التي كان السلاطين والمطاليق على الدوام، يرغبون في إحتكارها. بينما الرحل والمشردون، بإستمرار كانوا يقاومون هذا الإتجاه.

في كل يوم جديد يكتشف المطاليق والأهالي، في أحفورات كارناسي ورسوماته ونقوشه، سرا جديدا حول المدّة التي إستغرقها نحته، داخل الجبل، بأزاميل المشردين البارعين في النّحت والرسم والتصميم، والأدوات التي أستخدمت في ذلك، وفكرّة التصميم السباعي ذات نفسها!!.

لكن حتى لحظة الدمار الرابع، لم يتم الكشف عن ما يحيط بمعبد الكهف المقدس من جميع جهاته، إذ لا زالت المعابد الصّغيرة الملحقة به، مطمورة تحت الأرض القردود. ولا زالت القبور الطازجة حوله، مثلما هم أصحابها مجهولون.. سر طزاجتها أيضا ظل مجهولا!!.

وكان في "بال الناس" دائما يدور سؤال: هل بذل الرُّحَلْ والمشردون، كل هذا الجهد فقط لنحت معبد داخل الجبل، وبهذه الطريقة الشاقة!!.. فقط لبناء معبد لعبادة الروح العظيمة في حد ذاته؟!!

كانت الغاية الحقيقية -كما يعتقد جقندي الذي يعاصر الآن الدمار الوشيك- التي هدف لها الرحل والمشردون، هي نحت "ذاكرة الأمة" في الصّخر وتخليدها وتوحيدها وحشدها، لبناء ذاتها وبناء البلاد الكبيرة!..

الذين نحتوا هذا الكهف، لم يكونوا بمعزل عن الشعب. ولم يسعوا أبدا لإحتكار المعرفة، لتقتصر عليهم وحدهم.

ومثلما كان الغموض يلف معبد الكهف المقدس، ويجعله كالسر المدفون –ليس في جوف أصداف-  في جوف التاريخ، كان أيضا يلف حياة الرُّحَلْ في ترحالهم.. وكان يلف حلِّهم أيضا!!..  ففي ترحالهم لمسافات لا يتصوّرها العقل.. بعيدا وراء الصحراء الكبرى، مرورا بالغابات والأحراش السوداء والبحيرات والأنهار، فالقيزان والسهول والأراضي القردود، والسهب الرملية، عبر دار الريح والصعيد إلى بندر الوادي، وصولا إلى دارصباح البعيدة..

خلال كل هذه المسافات الطويلة، لا يمكن لأيٍّ كان، الجزم بأنه رأى لهم مضاربا يوما! وكل من زعم هذا الزعم، فذلك لأنهم أرادوا له أن يراها! فمضارب الرُّحَلْ دائما مخفيّة بعناية بين الجبال المعزولة، أو الغابات المهملة أو القيزان والتلال والسهب غير المطروقة دروبها.

لم يرى أحدا أطفال وطفلات الرُّحَلْ أبدا!.

دائما يرى الناس الرُّحَلْ وهم في سن البلوغ، أو الرجولة أو الهرّم. وبندر الوادي بالتحديد، لم يحدث لسكانه أن رأو من رجال الرُّحَلْ ونسائهم، سوى الهرمين أو الشباب، و الفتيات اللائي في سن الزواج!!. على الرغم من أن مضارب الرُّحَلْ لا تبعد كثيرا عن البندر، فللرحل علاقة تاريخية خاصة ببندر الوادي، ولذلك كانوا لا يحرصون على إخفاء مضاربهم عن عيون الأهالي، عندما يمرون بأطراف البندر، عابرين من مالحة في دار الريح، عبر طريق الملح إلى دار صباح.

يعتقد الرُّحَلْ أن تاريخ الإنسان على الأرض ينقسم إلى سبعة عصور(عوالم) ، ينتهي كل منها بكارثة طبيعية، وأهالي بندر الوادي الذين يعاصرهم الآن الشايب جقندي، هم أحفاد الناجون من الدمار الثالث، لذا هم يعيشون الآن في العصر الرابع.. بينما ينتمي الجنزير التقيل للعصر الثالث!!.

وقبل نشوء هذه العوالم(العصور) كان هناك مؤسسها"الروح العظيمة"، الذي أمر بخلق أولادها(عياله). في نهاية العالم الأول، كانت هناك النباتات والحيوانات.. وضمنهم البشر. أنهت النار هذا العالم. أما نهاية الثاني، فجاءت مع غزو الجليد، والثالث غرق في المحيط.

يعتقد الرُّحَلْ أن ما يدور في وادي الذهب، ظل على الدوام هو المقدمات لدمار وشيك.. يبدأ بوادي الذهب أولا ولا يتوقف عنده، فوادي الذهب بمثابة البوابة للعصور أو العوالم السبعة. وأنهم كرُّحَلْ ظلوا دائما مرتبطون بهذه البوابة كحراس لها، ينطلقون مع الناجون منها إثر كل دمار، لينقلون أخبار الكارثة، إلى الأجيال عبر العصور والأماكن، ولهذا السبب بالذات لا يستقرون في مكان.

يقول الرُّحَلْ أن الحياة في البدء تميزت بالهدوء والطمانينة والسلام والرخاءوالترّف. لكن البشر لم يتحملوا ذلك فأخذوا يشعلون الحروب ويقتلون بعضهم البعض، فأرسل الروح العظيمة الأوبئة وقوى الطبيعة لتنقص عليهم حياتهم وتحيلها إلى شقاء وضجر!.

ويعتقد الرُّحَلْ أن "أصل وفصل" سكان دارصباح، ودار الريح والصعيد والسافل، هو "أصل واحد" يعود إليهم هم الرُّحَلْ بالذات!. لذا هم مندهشون جدا لما يجري في وادي الذهب، عبر تاريخه القديم والجديد!.

فالرُّحَلْ يعتقدون أن هؤلاء الناس ذوي الأصل الواحد، قد تجاوزوا قوانين الروح العظيمة، التي سنّها لعياله، فغزوا الممالك المجاورة. بإسمه -دون حق- وأثاروا الرعب والفزع أينما حلوا، وارتكبوا بإسم الرّوح العظيمة من الأفعال كل ما هو قبيح، ثم أصبحوا يمارسون الأفعال نفسها ضد بعضهم البعض؟!.

ووفقا لما تواتر عن الجنزير التقيل، أنه كان يعيش في العوالم الثلاث المندثرة، إلى جانب أهالي البلاد الكبيرة، كائنات أخرى غير مرئية، كانوا ينادونها ب"الجديرة بالإحترام"، إذ أينما حلّت يحل النمّاء والخصب والرخاء والسلام والفرح،  بل كانت هذه الكائنات، عندما يولد مولود جديد، تظل بجانبه تحميه وتحمي أمه، وتلاعبه فيضحك لها وتضحك له، إلى أن يكبر ويشتد عوده، فتذهب لحماية مواليد آخرين جدد.

وكذلك عندما يتزوج الناس.. تظل مع العرسان الجدد تحميهم إلى أن "يقدم" زواجهم، كما أنها كانت تلازم الذكور المختونين، إلى أن تبرأ جروحهم.

جاءت هذه الكائنات الجديرة بالإحترام، من كل كواكب المجموعة الشمسية، التي تعتبر البلاد الكبيرة تعبيرا عن إتحادها، الذي يعني أن كل الناس في هذا الكوكب، يتحملون المسئولية نفسها، ويجب أن يتشاركوا المنافع، ويتكاتفون لتجنب الأضرار بالعمل سوِّية!.

والكائنات الجديرة بالإحترام، هم أعلا مراتب الرُّحَلْ. إذ لا أحد فوقهم سوى الروح العظيمة، وبإستثنائهم ينقسم الرُّحَلْ إلى ثلاثة مراتب بشرية: البشر ذوو العقول الكبيرة، الذين يملكون سلطة الكائنات الجديرة بالإحترام، ومهمتهم العمل على إستمرارية الحياة. والمعلمين الذين يقع على عاتقهم تعليم الناس الخير  والمحبة، وقيمة التسامح و السلام والعمل ونعمهم، وإحترام بعضهم البعض، والكف عن لي ذراع بعضهم البعض، فهذا إسمه إستغلال!.

أما المرتبة الثالثة فهؤلاء هم القانونيون، الذين على كاهلهم يقع تعليم الناس أهمية إستقرار القوانين، في المجتمع. وحفظ الحقوق دون موالاة أو محاباة، وأهمية المحاسبة والعقاب "لراحة بال الجميع".

وكان هؤلاء القانونيون دائما على إستعداد للتضحية بانفسهم إذا لزم الأمر. في سبيل تقديم العون لكل الناس دون تمييز من أي نوع. وهؤلاء هم من إنحدر منهم الشايب الجنزير التقيل والشايب جقندي.

وتتجسد حياة الرُّحَلْ في كل العصور، في طقوسهم و رقصاتهم البديعة، التي تعكس وتجسد حياتهم في أدق تفاصيلها، و ذكرياتهم وما تواتر إليهم عبر الأجيال.

إذن الأحفورات على جبل كارناسي، أثبتت أن أصل الرُّحَلْ، وأهالي البلاد الكبيرة هو أصل واحد؟!. لكنهم تفرعوا إلى قبائل شتى، كل قبيلة تتكلم بلغة تخالف الأخرى، و رغم الإختلاف لا يجدون أي صعوبة في التفاهم فيما بينهم، لأن لغّة الرُّحَلْ كانت دائما مشتركة، وقد أخذت أقصى تعابيرها في حواضر دار الريح والصعيد والسافل الأقصى ودار صباح البعيدة، و قد إمتاز شعب الرُّحَلْ بإمتطاء صهوات المراكب، بالقدر نفسه الذي كانوا يمتطون به الدواب، فكانو بذلك ملوكا للبر و البحر.. وللغابة والصحراء..

أول مكان في الوجود حلّ به الرُّحَلْ، كان وادي الذهب في البلاد الكبيرة، الذي أسسوا فيه-قُبيل الدمار الأول- مراكز تجارية وأسواق محلية، لا تعتني بريش النعام وسن الفيل فحسب. بل تعدته إلى صناعة الحديد وتعدين الذهب. و قد حظيت تجارتهم قبل الدمار الأول، باقبال كبير في القبل الأربعة.

أسس الرُّحَلْ  في البلاد الكبيرة، بندرا عظيما أسموه "بندر الوادي" ما يعني في لغة أحلامهم السرِّية الواصلة، "جُبارة" البلاد الكبيرة، ولم يكن يخطر ببالهم أن هذه "الجُبارة" ستنفك يوما من الأيام "لتفرتق" كل البلاد الكبيرة!.

الرحل لم يتأثروا بأحد. كانوا فقط يؤثرون في منطق الأشياء، وحياة الكون وهذه البلاد العجيبة!.. وهذا النوع من الغرور- ربما- هو ما أدى لسلاسل الدمار المتتالية. كما تعترف الأحفورات والمدونات، التي دونها الشايب جقندي، قُبيل رحلته المجهولة مع قطع الشك تحت الماء، في غمرة الدمار الرابع.

عرف الرحل أنواع مختلفة من الصناعات والفنون والعلوم. ما دفعهم لإستخراج المعادن، وفي الحقيقة كانوا أول من عرف تعدين الحديد والنحاس والنقود.

كان الرحل -على الدوام- على جانب عظيم من الفطنة والذكاء و الإستعداد الذهني، لنقل كل التجارب. ما أدى إلى تغيير شامل في حياتهم العامة و الخاصة، و أصبحوا يعيشون- حتى بعد أن فارقوا حياة الإستقرار في وطنهم الأم  في ظل إتحاد – له صبغة عالمهم الذي ألفوه- كجاليات منافي.

كان الرُّحَلْ يدركون على الدوام، أن ليس ثمة خطر محدق على أحلامهم، سوى المطاليق المهووسين ومرتزقتهم. الذين لم يكن "يعجبهم العجب!" ولا طقوس جدع النار!.. والذين أخذوا يكونون طوائفهم السرِّية ، لإثارة الخلافات بين الرُّحَلْ و بين الأهالي، لكن شعب الرُّحَلْ تفطن لدسائسهم ومؤامراتهم ومكائدهم، و غضب غضبا شديدا أدى إلى الدمار الأول.. و ذلك دفاعا عن كرامته الإنسانية.

عندما كان الرُّحَلْ ينظرون إلى أهل البلاد الكبيرة، كانوا يشعرون بهم لا يختلفون كثيرا عن بعضهم البعض في شيء، لكن كانوا عندما يسمعون كل منهم في إتجاهات القبل الأربعة، وهو يتحدث عن نفسه بإستعلاء، وبطريقة فيها الكثير من العزل للآخرين، وإقصاؤهم وتهميشهم، بإعتباره يتميز عنهم، ترتفع حواجبهم دهشة، فهؤلاء القوم يُعرِّفون ذواتهم بطريقة مخجلة، تتعارض كثيرا مع حقيقة هذه الذوات!

وكثيرا ما بدى للشايب جقندي.. كما بدى للجنزير التقيل من قبل، أن هؤلاء الناس في كل أنحاء البلاد الكبيرة، بحاجة لإعادة تعريفهم لذواتهم، كيما يتمكنوا من العيش المشترك بسلام!..

يجب أن يكفوا عن تجريح بعضهم البعض، و التشكيك في إنتماءاتهم لأصول يتصوّرون أنها غير جديرة بالإحترام، ويولونها الإعتبار الذي يليق بها! فهذا الأمر بالذات، هو الذي يفتح أبواب الحروب، التي لا يمكن للمرء بعد رؤية ما يحدث فيها، إلا أن يتساءل بحزن وأسى:

"هل هذه هي الحياة التي يريدها ل(ذاته) في بلاده؟!"

أحد ضحايا حروبات المطاليق في دار الريح، نجح في تهريبه، تجار القوافل القادمين عبر طريق الملح من مالحة، إلى بندر الوادي. حيث أخذ المشردون يعتنون به، وبعد أن طابت جراحه وأسترد قليلا من صحته وكرامته المهدرة، قال:

"هجموا على قريتي في الصبيحة الباكرة. أحرقوا القطاطي والرواكيب والجبراكات.. نهبوا المواشي واقتلعوا الزروع ودمروا جناين الموالح.. إغتصبوا نساءنا.. بناتنا واخواتنا وقريباتنا أمام أعيننا، وقتلوا مننا من قتلوا ومن لم يقتلوه أسروه كالرقيق.. إعتقلوه في معسكرهم الكبير، داخل قلعة بادي في "الحليلة شوحططت".. في قبو رهيب تحت الأرض. في ركن منزوي تحت أسوار القلعة الحصينة.. كان معتقلا ضيقا، متعفنا برائحة الموتى والحشرات والجروح المتخثرة والفئران.. كانوا يضربونني بقسوة ويضعون الشطة "الدنقابة" في عيوني وخرقي..

سألتهم: لماذا إغتصبتم نساءنا.. لماذا تقتلوننا.. لماذا تحاولون طردنا من أرض أجدادنا.. لماذا لم تقتلونني.. لماذا تعذبونني كل هذا العذاب؟!..

قالوا أنني عبد!! لأنني لست مهاجرا مثلهم من الشرق السعيد!!.. قالوا أنني متمرد كأهل الصعيد.. يجب أن أكون عبرة لمن يعتبر عندما يطلقون سراحي؟!"..

كان الرجل مهدما كطوابي النّهر.. كان مهدودا وكل أحزان العصور المنهارة إنهدّ على كاهله. ذهب إلى قريته ووجدها قد إنمحت من الوجود!!!. لم يكن يعرف حتى إن كان أفراد أسرته لا يزالون على قيد الحياة أم لا!! فأنضم للثوار إلى أن فرّقت كتيبة من المطاليق، في إحدى المعارك شمل المفرزة التي كان يقاتل فيها. وهرب إلى الصحراء حتى إلتقى تجار القوافل، الذين أطعموه وجاءوا به للمشردين. وقتها كان المطر قد بدأ في الهطول..

مطاليق دار الريح ، ولزمان طويل ظلوا يوغرون صدور الأهالي ضد بعضهم البعض، ويوعزون للرُّعاة والمزارعين ما يوعزون، ليتقاتلوا فيما بينهم. وغالبا ما يكون قتالهما بسبب أن بهائم الأهالي الرُّعاة، ترعى  في حقول المزارعين، المسقية بوضوء المشردين. فكان الرحل عندما تقترب قوافلهم من الحليلة شوحططت، يمضي أجاويد منهم لحل النزاع بين الرُّعاة والمزارعين، وما أن يشعر طرفي النزاع بهبوب باردة تلفحهم، حتى يدركون أن أجاويد الرحل في طريقهم إليهم، فتلك الهبوب هي من نفض فراويهم.. كان الشياب الرحل –الأجاويد- لا تطعنهم شوكة من خفض أبصارهم إلى الأرض!.

وما فعله المطاليق، ليس أقل من ما فعله السلاطين، الذين نجحوا في إرباك الوادي، فتبدد كل ما أنجزه الرحل والأهالي الطيبين عبر تاريخ البلاد الكبيرة. ما فعله المطاليق هو أنهم فقط أجهزوا على ما تبقى من كل شيء.

كان المطر لا يزال مستمرا في الهطول..

طفّى كل شيء على سطح ماء المطر والسيل.. كان الوادي كله طافيا.. أصبح إمتدادا للنّهر والبحر الملوّن.. غطى الماء عنق جقندي.. رأسه.. ومن أعماق النّهر سبحت قطع الشك.

بعيدا عن هذا الأمر، وفي الواقع.. نشأ الإسيد يتيما، وكان صبوح الوجه هاديء الطباع، ميالا للعزلة. وكانت جدته التي يعيش معها، تشعر في دخيلة نفسها، أنه سيكون له شأنا عظيما في هذا الوادي،  لذا ومنذ طفولته الباكرة، دفعت به إلى الرحل. فدفع به الشايب الجنزير التقيل إلى حلقات المشردين، التي ظل يداوم فيها على الدرس حتى بز أقرانه.. كان الجميع يحبونه لهدوء طباعه، وما تبعثه ملامح وجهه الصبوح فيهم من راحة ودفء.

ذات يوم إستيقظ  الإسيد باكرا كعادته، فوجد كفيه وقدميه محناتين. وعندما ذهب إلى الحلقة وبخه الجنزير التقيل، وأمره ألا يحنن أطرافه مرة أخرى. إجتهد الإسيد كثيرا لإزالة الحنه، وبعد أن تمكن -بعد مضي أيام من إزالتها- ولم يتبق منها أثر سوى على أظافره، فوجيء في الصبيحة التالية، بأطرافة وهي محناة مجددا! وتكرر ذلك عدة مرات. فأدرك الجنزير أن الإسيد لا يد له في أمر الحناء، وأنتظر إلى أن تمكن الإسيد من إزالة الحناء وقال له:

"لا تنم هذه الليلة، حتى تعرف من يضع الحنه في أطرافك"

لم ينم الإسيد تلك الليلة وأنتظر طويلا، وهو يتظاهر بالنّوم. وعند الفجر إذا به يرى صبية جميلة، تدخل من من كوّة خيمته، وتدنو منه بحذر.ثم  شرعت في وضع الحناء في يديه، وهو يتعجب من حسنها وجمالها. وبعد أن أنهت الصبية الفاتنة، "تحنين" أطرافه خرجت.. وأختفت في غباش الفجر..

ذهب الإسيد إلى الجنزير التقيل وحكى له كل ما رأى. وبعد أن تمكن من إزالة الحناء قال له الجنزير:

"هذه المرّة خذ معك خيطا وإبرة وخط ملابسها مع ملابسك، وعندما تنهي حنتها، وتريد الإنصراف لا تطلق سراحها، حتى تعرف قصتها".

أحضر الإسيد الخيط والإبرة، وتظاهر بالنوم. وعندما جاءت الصّبية، قام بخياطة ملابسها مع ملابسه. ولما أرادت الإنصراف، لم تستطع فأخذت تصيح:

"أنا حوشة إبنة السلطان الكرباج.. أتوسل إليك أن تطلق سراحي، فأمضي قبل أن يفتقدني أهلي"

فقال لها:

"سأطلق سراحك لو وافقت على الزواج مني!"

ومضى الأسيد ليخبر الشايب الجنزير التقيل، الذي طمأنه بأنه لا محالة سيجد له طريقا للزواج منها.

خلال تجواله الطويل، وبينما قوافل الرحل تمر على دار الريح قبل سنوات طويلة، رأى الشايب الجنزير التقيل صبيا يافعا في أحد أسواق "أم دورور"، فأقترب منه وقال له:

"سيكون لك شأن عظيم، سيبلغ صوتك العذب قبل البلاد الكبيرة الأربعة"

كان ذلك الصبي هو المغني الأشهر أبونافلة ذاته، الذي عندما كبر، ومر بما مر به من وقائع وأحداث، بعد أن إستجاب لتهديد التنقار، فنفى نفسه. ثم عاد من مملكة الجوار التي على حدود السافل، أحضر معه الزيوت التي تجعل النساء شبقات، والبذور التي تمنعهن من الحمل، وأشياء أخرى عجيبة، تجعل الرجال يجن جنونهم، ويصبحون كالمصابون بلوّثة عندما يقتربون من نساءهم اللائي هن الآخريات، يصبحن مجنونات جدا كشيطانات، إنطلقن من قماقم التاريخ السري للوادي.

في ذلك الوقت وقعت حادثة طريفة أثناء زيارة الجنزير لبندر الوادي قبل سنوات طويلة من إتخاذه قرار الإقامة فيها. عندما طلب رؤية "شامات" موجودة على جسم طفلة صغيرة في بلاط السلطان الكرباج،  إلا أن الطفلة إستحت وهربت. أثار ذلك فضول الكرباج، الذي أمر بإحضارها، لكن الجنزير منعه. وفي الصبيحة الباكرة من اليوم التالي، توجه  لرؤيتها وهي نائمة، ثم أعلن بعد ذلك أن هذه الصبية عندما تكبر.. مأساة موتها ستكون بداية دمار الوادي وتبدده.. كانت تلك الطفلة هي ست الدار.

ولعل ما فعلته زوجة ملك مملكة الجوار على حدود السافل، عندما تناهى إليها ما تنبأ به الجنزير عن نجاة زوجها من محاولة المطاليق إغتياله، في تلك القيلولة  الملتهبة.. ما جعلها تندفع وتوقظ زوجها من قيلولته، لتخبره بما تناهى إليها، ففزع  الملك من هذه النبوءة، وعلى الفور بدأ يرتب لدعم المعارضين، وغزو البلاد الكبيرة..

في الواقع كثيرة هي نبوءات الجنزير، التي عندما كانت تتحقق، تثير في البلاد الكبيرة أسئلة لا تنتهي؟!.

V

كان "الشايب الجنزير التقيل"، يختبيء خلف إحدى أشجار القمبيل، التي سكنت حركته خلفها تماما. كان كالمسمّر على الأرض، وكانت رئته تضيق، وهو يحاول ببطء وصمت، "شفط" الهواء المشبع برماد حرائق مرتقبة.. تسلل "الجنزير التقيل" ببصره الأغصان المتشابكة حوله. رآهم يقتربون من قطع الشك. كان يفكر أن عليه فعل شيء قبل فوات الآوان.

لحظتها كان الدود أبوحجل، يحاول بذل أقصى جهد ليجعل صوته هامسا.. إمتلأ الوادي بالأصوات، و كانت كل هذه الأصوات المتداخلة، تثير في أوصاله قشعريرة، كصعق البرق العبادي.

عندما تبلور وعي الدود أبو حجل بما يدور حوله، بدا يكتشف أن مشهد الوادي كأنه يجمع حراس العقاب وأب زنقلة والإسيد وبادي والده وهو شخصيا في حلف، يختلف في شكله لكن يلتقي في توجهاته العميقة، ضد حلف آخر يمثله العنتيل والسلطان جبل الحديد ووالده السلطان الراحل الكرباج والشايب الجنزير التقيل ولاكو وبنت المنا، الذين كانوا أيضا يبدون مختلفين شكلا، لكنهم في الحقيقة –وفقا لقراءته لمشهد الوادي- يلتقون في توجهاتهم العميقة، وعلى الرغم مما بدى من إنقسامات عميقة وتشظيات في فضاء الوادي الحزين، الذي كان أهاليه يحلمون بشيئين: جند غير هؤلاء الجند الذين يقمعونهم ويقتلونهم بإيعاز من المطاليق. وبندرا غير هذا البندر، الذي تمت صياغة كل كوارث البلاد الكبيرة، إنطلاقا من رغباته الإستعمارية العتيقة!.

وقتها كان جبل الحديد، وفي ليلة طقوس جدع النار، قد نجا من محاولة إنقلابية فاشلة. إذ حاول بعض المشردون، الذين يقف من وراءهم الإسيد، يتجاوز عددهم العشرون، الإستيلاء على السلطة بإيعاز من الدود أبو حجل، وتحت قياد أبو الدرداق المباشرة.

جبل الحديد الذي حاول في البدء المضي على سيرة والده الكرباج العطرة إلى حد ما. كان قد أبدى قدرا كبيرا من المرونة في حل مشاكل الأهالي، ولكن يبدو أن محاولة الإنقلاب الفاشلة، أتت على مسار حكمه بنتائج عكسية تماما!. بما أحدثته من آثار عميقة على نفسه! فأخذ يقرِّب طائفة الإسيد، وطوائف المطاليق الأخرى، التي كانت كلها على إختلافاتها تخضع لقيادة بادي، الذي لن يلبث أن يموت، فيتولى إبنه الدود أمر المطاليق من بعده.

إذن كانت قدرة جبل الحديد، في حل مشاكل الأهالي بعد وفاة الكرباج، قد أخذت تتبدد، وحلّت محلها قدرة مدهشة في الكلام "الكبار كبار"، الذي لا يمكن لأيٍّ كان، أن يفهم منه الشيء الذي يريد السلطان قوله بالضبط!.. كان صوته يرتفع في بعض المواضع، وينخفض في مواضع أخرى، وهو يكاد يجهش بالبكاء، عندما يصور بخطابه الدرامي بعض المشاهد التراجيدية في حياة الناس اليومية ومعاناتهم طلبا للقمة العيش..

كان يفعل كل ذلك وهو يتجول بنظراته في وجوه الأهالي، الذين كانت أفواههم فاغرة للذباب و"السفاية"، دون أن يدركوا أن التراب "كال" خشومهم المشرعة على الجوع!..

ومع ذلك كان الأهالي البسطاء يمضون معجبين بسلطانهم، الخطيب المفوّه أبوكلاما عجب! و ناسين أو متناسين مشاكلهم، التي لا يفهمون من ما قاله السلطان: هل حُلّت أم لا؟!..

إذن عندما بلغ الدود الوعي، كانت كل الأفكار والصراعات الخفية، التي شبعّت وجدان والده بادي، قد بدأت تكسر قشرة بيضتها، و"تفقع" لتملأ فضاءات الوادي، بالمزيد من "سواسيو" المطاليق الذين أخذوا يخططون للإستيلاء على السلطة، ويلعبون لعبة الترغيب والترهيب!

VI

كانت كل الدلائل وفي كل العصور، تشير إلى أن المطاليق يخططون للإستيلاء على السلطة، فقد تمكنوا شيئا فشيئا من بسط نفوذهم، على كل مناحي الحياة. لم يتركوا شيئا لم يحتكروه، حتى تجارة العناقريب!..

يساعدهم في ذلك ضعف السلاطين وعجزهم، وفشلهم في القضاء عليهم. وكان كل العالم حول البلاد الكبيرة يعلم –وقتها- أن ثمة تغييرا ما في وادي الذهب سيحدث، لكنه لم يكن يعلم على الإطلاق، أن هذا التغيير تقوده أكثر طوائف المطاليق "غلوا وتطرفا". فقد كانوا يتآمرون على نحوٍّ بالغ السِّرِّية.

في حديث عابر سأل الجنزير التقيل حراس العقاب:

"ما الذي يجري داخل قصر السلطان؟"

"هيمن عليه المطاليق تماما"

فقطب الشايب الجنزير حاجبيه، وبدت عليه دلائل التفكير العميق:

"لا يمكن للأمور أن تستمر على هذا النحو!"

قبل ذلك بأيام، تحلق المشردون حول بنت ود المنا، في أحد الكهوف السرية لجبل كارناسي، عندما دخل عليهم حراس العقاب، ليخبرهم أن عيونه داخل القصر، تفيد أن المطاليق يقومون بتحركات مريبة. لم تبد بنت ود المنا أي نوع من علائم الدهشة أو التفاجؤ، وأخذت تستمع لحراس العقاب يشرح ويحلل ما تناهى إليه، من همس وغمز ولمز خفي، خصوصا أن دوائر هذا الهمس، كانت قد إتسعت حتى وصلت سوق العناقريب وكنتين ود أبو سنينة البصير. وخلص حراس العقاب إلى أن السلطان جبل الحديد -على علاته- هو أفضل الخيارات السيئة المتاحة، حسب ظروف الوادي الراهنة. فإستيلاء المطاليق على السلطة، يعني أن تنفتح على البلاد الكبيرة، وبندرها (وادي الذهب) أبوابا لا يمكن سدّها؟!.

بعدها بيومين وقريبا من "الحرازة أم قد"، كان بعض المشردون السريون، الذين لا يعرفهم أحد، يحاولون رصد ومتابعة إجتماع هام لعدد من قادة المطاليق، على رأسهم أبو الدرداق، وعندما مرّت بهم بنت ود المنا، والتي أيضا لم يكن أحد يعرف عنها شيئا سوى مشردون قلة، وجدتهم لم يخلصوا لشيء، سوى أن الإجراءات التأمينية، لهذا الإجتماع مثيرة للرِّيبة والشكوك.

في الوقت ذاته كان العنتيل وحراس العقاب وأب زنقلة، قد نشطوا يتحدثون عن ما تنامى إلى علمهم، من أن المطاليق قد حددوا ساعة الصفر لإنقلابهم على السلطان جبل الحديد، وإستبداله بالدود أبوحجل، ربما عندما ينقسم القمر نصفين. وقد يقومون بقتل كل المشردين الذين يعرفونهم، وكل المعارضين من العشائر والأسر، خصوصا تلك التي ينتمي إليها أعضاء مجلس السلطان، الذين هم في الوقت نفسه أعضاء مجلس العشائر والأسر، التي ظلت تتوارث الوادي، على مرأى ومسمع من سكانه الأهالي البسطاء، دون أن يطرف لهم جفن.

إذن كان الجميع يعلمون. حتى السلطان جبل الحديد ذات نفسه، كان يعلم بما يجري في الخفاء، لكن أي من هؤلاء لم يحرك ساكنا، فجميعهم إكتفوا بتسقط الأخبار ومراقبة الأوضاع!.

لم يتحرك أحدا منهم لوقف تحركات المطاليق!.

الوحيدون الذين كانوا مهمومون بما يجري أكثر من غيرهم، كانوا هم الشايب الجنزير التقيل والمشردون، الذين كانت بنت ودالمنا قد أمرتهم، برصد ردود الأفعال المتباينة لدى الأهالي، حول ما إذا كانوا سيقبلون بالمطاليق حكاما أم لا؟ وما هي رغباتهم الحقيقية؟ فأنطلقوا إلى سوق العناقريب وسوق السراويل، يستطلعون الأهالي، للتأكد من مدى تفاعلهم أو إستعدادهم للدفاع عن سلطانهم، الذي لن يلبث أن يخلعه المطاليق.

وقد لحظت بنت ود المنا والمشردون، أن الأهالي لا يهمهم من يحكم الوادي. ما يهمهم هو :(كيف يحكم هذا الوادي؟!) و أن يعيشوا في سلام.. ويفعلون ما يريدون دون وصاية، سوى وصاية القانون وأن يعيشوا في رخاء، وأن يكون لهم دورهم في (صياغة المعنى الإجتماعي العام) لواديهم. ولذلك هم لا يرون أن ثمة فرقا بين السلطان والمطاليق أو مجلس السلطان، فجميعهم بنظرهم شيء واحد!

إذن كان الأهالي قد ضاقوا بالإستبداد، وشظف العيش وفساد السلطان وبطانته.. ضاقوا بالحروب التي بدأت تشتعل في كل مكان. وضاق البعض حتى بأنفسهم، فكل ما كان يحدث في الوادي، يصيبهم بالشقاء والضجر!.

وفيما كانت هذه الوقائع تجري، كان أب زنقلة وحراس العقاب والعنتيل، قد إجتمعوا بالسلطان للتشاور معه، حول الإنقلاب الوشيك. فاقتحم عليهم أبوالدرداق إجتماعهم وهو يسأل مازحا:

"موضوعكم الإنقلاب الوهمي؟ طبعا.. أها حتمشوا وين كان بقى جد؟

فرد عليه العنتيل:

"ومن قال أن هناك إنقلاب وهمي أو غير وهمي؟ وتقصد شنو بي نمشي وين؟"

فتراجع أبو الدرداق:

"ياخي الواحد ما يهزر معاكم"

فأجابه العنتيل مرة أخرى بحدة:

"تهزر معانا؟.. إنت قايلنا أصحابك؟ لعبنا معاك شليل وين راح؟"

فلاذ أبو الدرداق عندها بالصمت، وانسحب متراجعا، وعيون السلطان تتابعانه، دون أن تحملا أي معنى محدد. عندها تحدث حراس العقاب:

"ياخي أحرجت السلطان. ما المفروض تتكلم وإنت في مجلسه!"

فأعتذر العنتيل للسلطان الذي كان ساهما، وأضاف لإعتذاره:

"جلالتك أبو الدرداق لم يحترمك، ودخل علينا دون أن يستأذنك لتسمح له بالدخول، وغضبي منه لغضبي لك.. لتجرؤه على مجلسك بهذه الصورة!"

فتمتم السلطان:

"حصل خير"

كان السلطان يستبعد تماما أن ينقلب المطاليق عليه، خصوصا أنه لم يضايقهم أبدا، رغم محاولتهم الفاشلة في الإنقلاب عليه، والتي ترتب عليها ما يشبه الإتفاق غير المكتوب. وخصوصا أنه قد أوكل لهم مهمة حفظ أمن بندر الوادي والبلاد الكبيرة، فكيف سيغدرون به ويخونونه، وقد حصلوا منه على كل الإمتيازات، التي لم يحلموا يوما بالحصول عليها، بل كانوا عمليا هم الذين يحكمون!!.

بعد أن إنفض هذا الإجتماع، أصدر السلطان بناء على توصيات الدود أبوحجل، أمرا بإعتقال بعض المشردين المعروفين، بتهمة أنهم يثيرون البلبلة في الوادي، ويقفون خلف التظاهرات و الشعارات، التي ملأت جدر الوادي، وشائعة الإنقلاب المغرضة.

وفي الواقع كان التجار القادمون عبر طريق الملح، من مالحة إلى دار صباح، مرورا ببندر الوادي، قد ذكروا للعقلاء من الأهالي، أن أخبار الإنقلاب الذي ينوي المطاليق تنفيذه، تملأ أرجاء دار الريح ودار صباح والصعيد والسافل.. وكل مكان وصلت إليه قوافلهم. بل أنهم عندما مروا بالحليلة شوحططت رأوا تحركاتا غريبة، لأعداد كبيرة من المطاليق في كامل عدتهم وعتادهم.

لذلك كانوا في الفترة التي سبقت نجاح إنقلابهم، يشددون من ضغوطاتهم على جبل الحديد، لتوسيع دائرة الحرب في الصعيد ودار الريح لإضعافهما، الأمر الذي أنهك كل البلاد الكبيرة. فلطالما أعتقد المطاليق بشكل جازم، أن الحرب هي خيارهم الوحيد لتحقيق أحلامهم.

في تلك الأثناء التي تجري فيها كل هذه الوقائع والأحداث، كان السلطان قبل أن ينقلبوا عليه قد مضى في عقد تحالفات وإئتلافات، مع العنتيل وحراس العقاب حينا، وأب زنقلة حينا آخر.. بل وعندما أشتدت عليه الضغوطات من الأطراف المختلفة، لوّح بالتنازل عن السلطة، إذا كان ذلك –كما يعتقد- حلا ليكف حلفاءه عن الصراعات، لكن لم يلبث أن تراجع، دون أن يطلب منه أحد التراجع؟!

وأخذ –لزر الرماد في العيون- ينسج الكثير من الحكايات الملفقة، التي تثير الشفقة عليه، والتي تصب في خانة إستجابته للتراجع عن التنازل؟! وفي الحقيقة قلة فقط من فهموا "أنه تراجع على غرار سماسرة زرائب المواشي وسوق العناقريب: "مية نطة ولا واحد بعبوص"!

فيما ذلك يحدث. كانت تتناهى أخبار من آن لآخر مع تجار القوافل، عن فيالق وكتائب ومفارز من الجند، تنتمي لثوار دار الريح على حدود مملكة الجوار المتاخمة للصحراء الكبرى، تتقدم بإتجاه بندر الوادي، فيما سيطلق عليه فيما بعد "غزوة بندر الوادي الكبرى".

مثلما أنتشرت أخبار أخرى كثيرة، عن تصعيد ثوار الصعيد لغاراتهم أكثر فاكثر، ما دفع جبل الحديد للتفاوض مع لاكو، ثم التآمر عليه ليموت غريقا في النيل، بعد أن دحر المطاليق فيالق دار الريح، التي أستطاعت التوغل في أجزاء واسعة من البندر، مهددة بذلك مركز السلطة للمرة الأولى في تاريخ الوادي.. على عهد جبل الحديد!.

وفي غضون ذلك كان المطاليق قد إعتقلوا إلى جانب المشردين، عددا من عقلاء الأهالي الذين أبدوا تزمرهم من إحتكار المطاليق لكل شيء، حتى لم تعد لديهم فرصة لكسب عيشهم. حينها كان الجنزير التقيل، يراقب كل هذه الوقائع والأحداث ويقول للمشردين:

"أن الأدهى والأمر أن المطاليق ما أختاروا هذا التوقيت بالذات، إلا إستباقا لقطع الطريق على إنقلابات سرية أخرى؟!.. بعضها يخطط له العنتيل، والأخريات يخطط لها حراس العقاب؟ و أب زنقلة"!.

فاضافت بنت ود المنا:

"ولقطع الطريق أيضا أمام أي فرص للتوافق والسلام، بين البندر وقبل البلاد الكبيرة الأربعة، بعد أن أثبت البندر فشله، في أن يكون بندرا للبلاد الكبيرة!".

وقتها كان أهالي مملكة الجوار على حدود السافل الأقصى، الذين إستوطنوا سافل البلاد الكبيرة، والذين كانوا كأولئك الذين جيء بهم لتوطينهم دار الريح.. كان كل هؤلاء وأولئك لديهم رغبة رهيبة في طرد إحساسهم باللجوء وعدم الإستقرار، ومغادرة الفقر والحرمان ولو على أنقاض ما كان إسمه يوما وادي الذهب أو البلاد الكبيرة.

كان لسان حالهم جميعا يقول "دار ود عمك كان خربت شيل ليك منها عود"، كيف لا وأهالي الوادي أنفسهم إستبقوهم بتخريب دار آبائهم؟!.. ومع ذلك، لا أحد يستطيع لوم هؤلاء الأهالي الهاربين، من حروباتهم الداخلية والأبئة والأمراض المستعصية، التي عاثت في بلدانهم خرابا، لا أحد سيلومهم بعد عشرات السنوات، على فرضهم لغاتهم وثقافاتهم الوافدة على الوادي، بعد أن يتكاثرون كالنباتات الطفيلية في البلاد المنهوبة، التي كانت كبيرة ذات يوم.

ربما أن سر هذه الرغبة المستميتة لأهالي الوادي، أو للمستوطنين في تخريب الوادي، يعود إلى حياة الفقر والزل والإستبداد التي عاشها الجميع.. فالمستوطنين القادمين من مملكة الجوار في السافل مثلا، حيث يصبح ماء النهر ضحلا جدا، ومحملا بالطمي ونحيلا وخامدا إلى الحد الذي "يحنن الكافر"، وهو يبدو مختنق بعبرات الأحزان والمحنة، التي تكرست في الوادي، بسبب تبدد الحب والخير، حيث تنزلق مراكب الصيادين، الذين إمتلأت رئاتهم بالقمشة والحشيش، في بطء وصمت مريب. حال هؤلاء لم تكن بأسوأ من حال أهالي الوادي.. كانو جميعهم في الهم وتد!..

VII

كان الوادي قد إرتج في تلك الليلة كالحة السواد، على أنغام أم كيكي الصارخة، ووقع حوافر جيوش دار الريح، وهي تحاصر أطراف البندر، وتقترب شيئا فشيئا من المباني السلطانية ومقرات المطاليق.. إنتشر الثوار على صهوات جيادهم في كل مكان، داخل البندر..

لم يعيثوا فسادا أو يدمروا شيئا، حافظوا على كل شيء حتى النباتات والزروع.. المواشي والزواحف والبرمائيات. و إنطلقت الشائعات حول هروب السلطان، وكامل أفراد أسرته وبعض أعضاء مجلسه، ولم يعثر أحد للمطلوق الدود أبوحجل على أثر، وإنطلقت شائعات تفيد بأنه أختفى، في أحد مقرات المطاليق السرية خارج البندر.

وفيما كانت كل هذه الوقائع والأحداث تجري، تناهى لبنت ود المنا- والمغيرب يعلن دنو أجل الشمس- أن المطاليق يحاصرون ثوار دار الريح، فما أن تملصوا من قيود دهشتهم المفاجأة، الصاعقة. حتى سارعوا بنشر جندهم المدججون بالحراب والسيوف، والنشابات. وأخذوا ينتشرون في شوارع البندر، يحرسونها ويحظرون مرور الأهالي، ثم دارت بينهم والثوار معركة طاحنة، راح ضحيتها مئات القتلى. وأنتهت بدحر المطاليق للثوار.

في الظهيرة -والشمس في وضح النهار-  التي سبقت مغيرب بت ود المنا.. (الظهيرة التي سبقت إنقلاب المطاليق)، سمع كل الأهالي في سوق العناقريب، صوت أم كيكي الشجي مرتاعا وملتاعا.. ممزوجا في الحزن والأسى، ومختلطا بأصوات نحاس غامض ونقاقير مجهولة المصدر، كما سمعوا أصوات عراك وهياج خفي، لأشخاص لم يرهم أحد "ليحجزهم"- حتى لو تلقى على ظهره العكاكيز- كما رأى الجميع في الظهيرة نفسها –والشمس في كبد السماء- السحالي والضببة التي لطالما أنتهكت شقوق جدر الجالوص، تفر هاربة. وريش ود أبرق والغارنوق، وكل الطيور الأخرى، يسبح في فضاء الوادي المكروب، وبالقرب من كوّة أحد الكناتين في سوق العناقريب، رأى الأهالي طيور المشاطة وقدوم أحمر وقدوم صفيرة، تهتز، بينما ارتمت طيور ودأبرك في أرض الوادي ميتة!..

من الواضح أنها ماتت من فرط أحاسيسها المؤكدة، بالخطر المحدق وشيك الوقوع!.

وفي سوق السراويل كان الوضع أشد غرابة !.. حيث لاحظ أحد المشردون، أن الحمام الذي كان يملأ طرقات البندرودروبه قد إختفي تماما!.. بينما على مبعدة من جنقل السلطان، كان نساجين شباك صيد السمك، دهشون وهم يتساءلون:

"لماذا كفت الكلاب عن النباح؟!"

فقد إعتادوا نباحها المتواصل حول جنقل السلطان، والذي لا يجدون له تفسيرا!.. الآن يفتقدون هذا النباح!.. صيادين السمك المسطولين بالبنقو والحشيش وارد الصعيد ودار الريح، أطلقوا على هذه الظهيرة فيما بعد وصف: "ظهيرة أم كيكي المخاطر".

لكن على الجانب الآخر من الوادي، وتماما خلف جبل كارناسي هاجت الحيوانات، التي كانت قد إجتمعت قبل عشرات السنوات، لتحاول أن تتحول إلى بشر، وقد أصابها هلع شديد. وكانت الأسود والقرود تذرع أرض الفلاة، خلف كارناسي جيئة وذهابا.. تدخل غابة القمبيل وتخرج منها، لا تدري ماذا تفعل!.. حتى أن أحد صيادي الجقور تصوّر، أن أحدالمطاليق، قد تسلل بينهم وأشاع فيهم كل هذا الزّعر.

وفي منتصف ليلة ذلك اليوم ذاته،  كان الوادي قد بدأ يهتز في عنف.. أخذت البيوت في بندر وادي الذهب، تهتز كدمي الرحل التي يحضرون بها أرواح الأسلاف، وقد إرتفع صوت كالرعد، بينما أخذت بعض بيوت الجالوص والقش تتهاوي، وكانت الأحجار وقوالب الحجارة الكارناسية تتطاير، مندفعة في الهواء وكأنها أطلقت من منجنيق.

كان الأهالي قد فتحوا عيونهم في الصبيحة الباكرة لليوم التالي، على المطاليق المدججون بالحراب والنشاب والكوكاب المشرشر، وهم ينتشرون في شوارع بندر الوادي.. وعندما حاول البعض أن يجوب دروب البندر وطرقاته، ليفهم طبيعة ما يجري أصيب بالذهول وأخذ يتمتم:

حسبته الدمار الوشيك الذي يتحدث عنه شياب الرحل!"

فرد عليه صغيرون أحد رواد دكان ود أبوسنينة البصير:

"الدنيا بنت الكلب تكتل أمك وتوريك مرة أبوك"

وأضاف صديقه رباط:

"خربانة أم بنايا قش.. دنيا فرندقس"

كانت أرض الوادي وقتها، قد إبتلعت القبور المجهولة على أطراف كارناسي.. قبور أولئك الذين ماتوا قبل  أكثر من ألف عام!

وما أن إستقر للمطاليق الأمر، حتى سارعوا بإعتقال السلطان الذي كان قدإختبأ في أحد مقراتهم السرية، عندما أقترب ثوار دار الريح من البندر. كما اعتقلوا العنتيل وحراس العقاب، وبعض أعضاء مجلس السلطان الآخرين، وأخذوا يقتلون من لا يطيع أوامرهم.. بل إقتحموا بيوت بعض الأهالي وكان بعض أعضاء مجلس العشائر قد غادروا منازلهم إلى أماكن غير معلومة.

وبعد إرسالها للعديد من المشردين للتأكد من الأخبار، علمت بنت ود المنا أن أب زنقلة إختفى في ظروف غامضة. وقتها كان الشايب الجنزير التقيل، قد غادر خيمته المدببة، وتوجه إلى الكهف السري في جبل كارناسي.

وفي الحقيقة أن سبب نجاح إنقلاب المطاليق، كان بسبب الغزوة المفاجئة لثوار دار الريح للبندر، كما أن الجميع إنشغل بالمؤامرات والمكائد البينية، مدخرين طوائفهم وعشائرهم لأجندتهم الخاصة، التي لا تتعلق بمصالح الوادي لا من قريب ولا من بعيد!.

كذلك أرباب المهن والحرف في أسواق الوادي، خصوصا طوائف تجار السراويل والعناقريب والمراكيب المتنفذة.. أيضا لم تقم بعمل أي شيء، لإفشال مخطط المطاليق. وقتها إنطلقت شائعة لا يدري أحد مدى صحتها، تفيد أن تلك الغزوة لم يقم بها ثوار دار الريح، وأنها غزوة وهمية دبر لها المطاليق، لتوفير الظروف الملائمة لنجاح إنقلابهم!

وأثناء تواجد السلطان والعنتيل وحراس العقاب في معتقلات الكهوف السرية، كان جبل الحديد دائم التحسر على ضياع ملك أجداده-كما قال- وبين الفينة والأخرى كان ينشد:

"لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى(+) فما انقادت الآمال إلا لصابر)(*)"

فكان العنتيل يرد عليه:

"الصقر إن وقع كتر البتابت عيب. وإذا بلغ الرأي المشورة فاستعن (+) برأي نصيح أو حزم ناصح(**).. لكنك للأسف ضربت بنصحنا لك عرض الحائط "فأب جنقور في الوادي ما عندو رأي". لقد "تفلهمت" وأتباعك كثيرا، لدرجة أنكم "عملتم في طواقيكم جيوب". نسيتم أن أجدادكم تمسكنوا إلى أن تمكنوا.

وكان السلطان يرد:

أن ما حدث تسببنا فيه جميعا""

فيرد عليه العنتيل:

"ما حدث هو مسئوليتك وحدك"

"مسئوليتي وحدي؟!"

تأمله العنتيل مليا قبل أن يقول:

"دعني أحكي لك هذه الحكاية: هل تعرف "المرفعين؟".. نعم أكيد أنك تعرفه.. يا سيدي الفاضل أخونا المرفعين جلس ذات يوم تحت شجرة قمبيل، وأخذ يسنن أسنانه، فسأله الثعلب المكار:

"لم تجعل أنيابك حادة على هذا النحو، إذا لم يكن هناك صياد يتعقبك و لا خطر يتهددك ؟"

(*) المتنبيء.

(**) بشار بن برد.

فأجاب المرفعين:

"عندي مبرر هام لذلك. هو أنه إذا ما تهددني الخطر، فلن يكون عندي الوقت لشحذها، لذلك عليها أن تكون مستعدة للعمل دائما".

"أنسيت عندما إجتمعنا بك، وقطع علينا أبوالدرداق الإجتماع؟"

نظر إليهما حراس العقاب نظرات غائمة، دون أن ينطق بشيء، فواصل العنتيل:

"إن كنت تعتقد أن هذا الوادي ملك لأجدادك، كان الأحرى بك أن لا تتركه "سايبا" للمطاليق وأنت سيد العارفين، أن "المال السايب يعلم السرقة". يجب أن تعترف لنفسك على الأقل بأنك فشلت في إدارة هذه المملكة، وفي الحقيقة أنك أفشلتها بين الممالك. فأنت كمن (يحسب المجد تمرا هو آكله، وهو لا يعلم أنه لن يبلغ المجد حتى يلعق الصبرا (*)

أطرق السلطان برأسه، وفي دواخله تمور مشاعر شتى، تتباين بين الضيق والتأفف والإحساس العميق بالخذلان. ثم رفع رأسه في بطء وهو يقول ساهم النظرات:

"وكيف لا أفشل وهذا الوادي لحم رأس.. بلاد كبيرة وسكان غير منسجمون"

فرد العنتيل مرة أخرى:

"كان طابت النية العنقريب بيشيل مية"

ثم صمت مكتفيا برميه بنظرة لا تخلو من الإحتقار، وهو يشيح بيده في وجهه. كان حالهم مع المطاليق الآن كما هو-حالهم دائما- حال الأرنب الذي إنشغلت الكلاب "بالدواس" فيما بينها عن مطاردته، فنجا.

(*)حوط بن رئاب الأسدي.

وبعد أن هدأت نفوسهم وكفوا عن التلاوم، أخذوا يتدارسون الأوضاع، وقرروا أنه لو كتب لهم الخروج أحياء، عليهم أن يتواثقوا على إزالة المطاليق. وأصر العنتيل أن يتواثقوا الآن، حتى إذا ما خرجوا. ما عليهم سوى التنفيذ فقط.

وهكذا تواثقوا على تأسيس كيان، يتم فيه تمثيل كامل أعضاء مجلس السلطان المخلوع، والسلطان المخلوع ذات نفسه. والأهالي الحرفيين والمهنيين والتجار والعقلاء، وأختلفوا حول إسم هذا الكيان المناط به إسترداد المملكة من يد المطاليق.

فبينما إقترح العنتيل إسم"قوات كارناسي" أصر أب زنقلة على إسم كيان "فتوحات الأهالي الكرام" بينما أصر حراس العقاب و"وقف ألف أحمر" في إسم"صحوة الأهالي الكرام"، وكحل توفيقي تنازلوا جميعا، واتفقوا على إسم "الأهالي الكرام" على أن تستبق ب"قوات" في حال بدأوا عملهم المسلح دون صحوة أو فتوحات ولا يحزنون!.

وبإيعاز من الجنزير التقيل، تدخل الأجاويد أتباع الإسيد المقربون من الدود لإطلاق سراحهم، ولم تمض عليهم سوى أيام قلائل، حتى بدأوا وكثيرون من أتباعهم، يتسللون الواحد تلو الآخر، بإتجاه مملكة الجوار في السافل.

وبعد أن إلتقوا جميعا هناك في مملكة السافل، قرروا تنفيذ ما تواثقوا عليه، عندما كانوا سجناء في معتقلات الكهوف السرية. المفارقة هنا أنهم سيعودون بعد عقد من الزمان، يزيد أو ينقص ليقتسموا السلطة مع المطاليق، إثر ما تلقوه من وعود الدود الكاذبة كبرق خلب، دون أن يعلموا أنهم يدفقون ماءهم، ويمشون حثيثا للتزود من السراب. فقد كانت نوائب الدهر كلها، تتجمع وتتكالب على السلطة الآخذة في الإنهيار. دائما كانوا هكذا.. كالمرأة الناشز، "تهديها من الليل تفجر". كانوا كمن رمته الروح العظيمة، إن جيت "ترفعوا رماك معاهو".

قبل ذلك بوقت طويل، كان الدود قد تمكن من سرقة الشعلة المقدسة، التي أحرقت بيته، وتمكن من الفرار بأعجوبة، حيث ظل يقيم في كهف، أشدّ ظُلمّة من ليالي الخوف الطويلة، لا يبعد كثيرا عن جبل كارناسي المقدس، هذا الكهف كان هو المقر السري، الذي تتم منه قيادة كل طوائف المطاليق في البلاد الكبيرة، إذ لم يكن أحد يعلم أين موضع هذا الكهف بالتحديد، رغم علم الجميع أن للمطاليق في البندر مقرا لا يقل أهمية، عن قلعتهم في الحليلة شوحطت.

أهمية هذا الكهف لا تقل عن أهمية الكهف أو "الوكر" السِّرِّي الآمن للشايب الجنزير التقيل وأعوانه، في مجاهيل سلسلة كهوف وكراكير كارناسي المعقدّة.  فلطالما ردد الجنزير على مسامع بت ود المنا والمشردين، أن "صدور الأحرار قبور للأسرار"، فالناس جميعا كالقمر، لديهم جانب مظلم، لذلك في هذا الكهف كانت بنت ود المنا تقيم إجتماعاتها الهامة التي تضم بعض المشردون القلة الموثوق بهم. بينما كانت تلتقي الآخرين، في كهف آخر لا يبعد كثيرا عن هذا الكهف.

VIII

وقف الجنزير التقيل في قلب سوق العناقريب، يخطب في الناس حول أمر الإنقلاب، ويقول:"إن سلم العود، اللحم بيعود. والبيلقى الهوا بيضري عيشو"، فكان الوتد ومن  معه من مرتادي كنتين ود أبوسنينة البصير الذين تحلقوا حول الجنزير يردون قائلين:

"الممطورة ما تتبل من الرش"..

كانوا كالذين "يدسون المحافير بينما هو حريص على مساعدتهم على دفن أبيهم" الذي خربوا داره و"شالوها شلايا؟!" فيما ظهر أبو الدرداق يجري نحوه –قاصدا ترويعه كذبا- بإخباره أن المطاليق قد أحرقوا جبل كارناسي، و أن جميع المشردون المختبئون داخل الجبل قد قضوا نحبهم، فانتفض الجنزير التقيل في مكانه في ذعر، و جرى ليرى ما حدث، فقال له عابر سبيل من الأهالي البسطاء كان يشاهده:

"شياب الرحل يقولون أن بإمكانهم التنبوء بما سيحدث للآخرين، فكيف لا تستطيع أن تتنبأ بما يحدث لكارناسي والمشردين من كوارث؟!"

قبلها كان السلطان وحراس العقاب وأب زنقلة، لا يزالون على صلتهم السرية بالمطاليق، دون علم العنتيل. رغم نكرانهم المستمر لعدم وجود أي صلة أو  إتصالات لهم بالمطاليق تجري في الخفاء، لإشراكهم في حكم الوادي، تحت قيادة الدود!.

سامحهم الدود إذن وأعطاهم الفتات، الذي يليق بهم من خيرات الوادي المنهوبة، بعد أن رد لهم ما أنتزعه منهم من ممتلكات.. نسيوا كل ما كانوا يشنفون به آذان المشردين لزمان طويل، بأنهم "لن يصالحوا ولو منحوا الذهب!" ما جعل أحلام المشردين العريضة –وقتها- ببلاد كبيرة جديدة وواد للذهب أجد، وبندر جديد.. تنطلق من عقالها لتجوب الآفاق، حتى يعرفها القاصي والداني، وتعانق عنان السماء، لتسقط على رمل الوادي، "تفرفر" كالديك الذبيح، الذي كان قبل قليل "يعوعي"، فيما المطاليق "يكشنو في بصلتو!"..

فلطالما أعتقد المشردون في حلم الرحل وشيك التحقق.. حلم الرحل بالسلام والوئام والرخاء في قبل الوادي الأربعة، فهؤلاء الرجال بإستثناء العنتيل، لم تمض سوى سنوات قليلة من المؤامرات والدسائس المتبادلة بينهم، والتي تمكنت عيون المطاليق ورسلهم السريين من إستثمارها، وبينما أكتفى العائدون بالفتات الذي رُمي إليهم فرحين! أخذ المطاليق يعملون تعذيبا وتقتيلا، في الذين لم يستجيبوا، بل وحشدوا فيالقهم في دار الريح، ناشرين الرعب والفزع والدمار، بعد أن تبدد كيان "الأهالي الكرام" المزعومين شذر مذر!، فغضب العنتيل والمشردون، وتوجهوا إلى مملكة الجوار، في أقصى حدود دار صباح.

كان والمشردون قد شعروا بالإحباط واليأس من هؤلاء القوم، الذين لا عهد لهم. والذين يتمادون في نقض مواثيقهم، والحنث بكل ما يقطعونه من وعود، وهي بعد لا تزال دافئة.

لذا مضى والمشردون، ليخوضون حربهم المقدسة ضد المطاليق وأتباعهم "المنفزرين" عبر تاريخ الوادي، بعد أن إكتشفوا أن "طايوقهم في الغنم وواقودهم في السنّم".

في هذه الأثناء، عندما علم ثوار الصعيد ودار الريح -الذين كانوا يشاركون العنتيل رأيه إلى حد كبير- بما عقد العزم عليه، مدوا معه جسور التواصل، وهكذا إنفتحت على المطاليق كل أبواب الجحيم. فواجه المطاليق كل هذه التطورات، بمزيد من الإعتقالات والتعذيب والقتل والعزل، الذي قابله ثوار الصعيد بالتصعيد، فأخذت حواضر الصعيد، التي أعلنت الثورة ضد سلطة المطاليق، تجتاح كل شبر في الصعيد، وأخذ طوق العزلة حول الوادي يشتد من ممالك الجوار، التي دعمت المعارضين للمطاليق، لتجعل منهم مخلبا لتصفية حساباتها معهم، بعد أن أثاروا الكثير من القلق والتوتر على حدودها، وتآمروا لإحداث إنقلابات فيها، بل وحاولوا إغتيال ملوكها وسلاطينها.

ما أن تمكن المطاليق من الإستيلاء على السلطة وأستقر لهم الأمر، حتى احترق جسد بنت ود المنا تلقائيا دون سبب واضح!..

في مساء اليوم نفسه جلست المشاطة "ورد الظلمات" في عقر دارها، وهي تحتسي شيئا من عرق البلح البكري، الذي تلته بسفة تمباك وارد دار الريح، ولم يمض سوى وقت قليل، منذ ودعتها نديدتها "النخيل" بحجة أن مواعيد "رقادها قد جات"..

بت ود المنا لم تكن تحس بنعاس، فبقيت تتأرجح في عنقريب المخرطة، محلقة مع عرقي البلح، في عوالم لا تهدأ لها ثائرة.

قرابة منتصف الليل، إستفاقت جارتها "السميح" على رائحة دخان، فاعتقدت أن بنت ود المنا نسيت نار "اللدايات"موقدة، فمضت لتتفقد منزل جارتها، لكنها وجدت كل شيء في التكل، يشي بأن نارا لم توقد عليه.. ربما لأيام عديدة.

فعادت راجعة إلى دارها مطمئنة، دون أن تدخل "لجوه" على بنت ود المنا.

في الصباح.. استفاقت السميح على ولولة الأهالي، فخرجت لتجدهم يملأون دار بت ود المنا، التي كان كل ركن فيها حامياً جدا.. فطلبت منهم أن يفسحوا لها لترى ما يحدث لجارتها، لم يكن هناك أي أثر لأي حريق. لكن كانت بت ود المنا محترقة في عنقريبها "المخرطة!".. كانت عبارة عن جمجمة بشرية وقطعة كبد صغيرة، وقدم في مركوب خفيف من جلد الماعز، محروقة حتى الكاحل..

كانت بت ود المنا إحدى ضحايا الإحتراق الذاتي، الذي ملأ البلاد الكبيرة في تلك الأثناء..

ففي دار الريح حدث الأمر نفسه، إذ وجدت العجوز "خيرة" إبنتها "هدية"  محترقة في جبراكة الدخن دون سبب واضح.. كانت قدماها وفخذاها سليمان، بينهما رأسها نصف المحروق، بينما تحولت اجزاء جسمها الأخرى، إلى رماد. دون أن يصيب الجبراكة أي شيء، فعيدان الدّخن كانت خضراء وسامقة!

وفي التوقيت ذاته بينما كانت "صافي النية" المزارعة العجوز، تسقي بصلها في حاضرة دار صباح البعيدة، إحترقت بصورة مفاجئة أمام مزارعين السواقي، و لم يتبق منها شيء على الأطلاق.

وفي التوقيت نفسه في حاضرة السافل، بينما كانت الصبية اليانعة "ريحانة" ترقص في سوق السراويل، اشتعل جسدها بلهب أزرق، قتلها في لحظات خاطفة.

وعلى النحو نفسه وردت الكثير من الحكايات المشابهة في القبل الأربعة، للبلاد التي كانت كبيرة.

وأستثمر ثوار الصعيد هذا المناخ، فصعدوا من غاراتهم، فأخذت حواضر الصعيد، تسقط واحدة تلو الأخرى، فأدرك الدود والمطاليق، أنهم يواجهون خصما عنيدا وقويا لا مفر من مفاوضته، بعد أن فشلت كل المواجهات معه. وفي الحقيقة كان المطاليق لطالما شعروا بالصعيد، كعقبة كأداء أمام تنفيذ مشروعهم، الذي أسس له بادي، منذ أحيى تلك الطائفة السرية القديمة، من مجاهيل تاريخ الوادي البائس. والتي ستكون خلف كل دمار قادم، يجتاح هذا الوادي. خصوصا أن هذه الطائفة قد فشلت فشلا زريعا، في أن تجد ما يكفي من مناصرين لها في الصعيد

كان الزعر قد بدأ يدب في نفوس المطاليق وأعوانهم، خصوصا بعد أن تزايد نشاط المشردين أتباع العنتيل في بندر الوادي، حتى وصل إلى درجة محاولة إحراق قصر السلطان، والهجوم على معتقلات الكهوف لتحرير المعتقلين، لكنها فشلت. وتم قتل كل المشاركين فيها، فيما عرف بسنة "النيران والرماد".

في هذه الأثناء تمكن المطاليق المزعورون من استرداد أنفاسهم، بمساعدة حرّاس العقاب وأب زنقلة، فنشط عملائهم داخل كيانات ثوار الصعيد ودار الريح، الأمر الذي أحدث كثيرا من الإنقسامات داخلهم، لكنهم سرعان ما تداركوا أمرهم، وبدأوا يرتبون الحياة الداخلية لطائفتهم.

كان الدود وقتها مشتعل الأفكار، منشغلا بشئوون القلب، فللدود تاريخ عريق في العشق.. هو الذي عندما أعجبته زوجة أحد قادة مطاليقه، أقام معها علاقة سرية، لتصبح فيما بعد زوجته إلى الأبد، بعد أن أرسل زوجها في مهمة، يعلم أنه لن يعود منها حيا!.. وهو الذي لم ترفضه إمرأة أبدا. يعاني الآن. لا من المخاوف مما يصطرع في أتون الوادي من حرق، بل من طيف قطع الشك الجميلة، الذي كان يطارده في كل مكان..

فعندما حلقت روح قطع الشك في السماوات البعيدة، أصبح الدود كالمجذوب. هائما في البرِّية يتغنى بجمالها الفريد، وظلت روح قطع الشك الهائمة، تعترض طريقه. وطريق المطاليق والسابلة، لتعبئهم ضد المطاليق.. ضد هؤلاء الجند الذين لا تتمثل عقيدتهم البلاد الكبيرة، ضد هذا البندر الذي فشل في أن يكون بندرا لوادي الذهب..

إلى أن إنتشر غمام كثيف في إحدى الليالي المظلمة، التي تشبعت "بعجاج الهبباي" وهدر الرعد وأخذ البرق العبادي يحاول في إستماتة،  تبديد الظلمة الكثيفة بين آن وآخر.

كانت العنقاء كأن السماء إنشقت عنها ورمت بها تجاه الدود لتنهشه نهشا.. إنقضت عليه.. وسالت دماؤه تحت شجرة القضيم، تروي عروقها الظمأى.

 


المراجع

alkalimah.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة