"
أي تعالُقٍ تمارسه الحياةُ معنا حينَ نُفكِّر و نتشاجر و نختلي بنا .."
..
إضافة ظرفين من السُّكر في فنجان ( نسكافيه ) صغير أكثر مما يمكن احتماله , و لكن
ذلك النَصَّ الذي يتشكل في داخلي كان كفيلا بأن أتحمل جريرة سهوي أثناء إضافةِ
السكر .. إلى حدٍّ يجلبُ الغثيان .
..
"
و حينما نحب .. تمارسُه دائمـ..
"
الانتظار في المطار أشبه بقذف الوقت في سلة مهملاتٍ متخمة بالنفايات , لا مكان
للوقت في السلة , و لا مشكلة في أن يُهدر أرضًا !!!
"
الطائرات و صوتُ محركاتها يُشبِه الحب حينما يلتهب فيغدو صاخِبًا و مشوَّهًا ,
لدرجة أن اسمه يتغير إلى .. لا شيء
"
أ لن تعلن الخطوط الجوية قدوم الطائرة السورية ؟!
ما أسوأ الانتظار , و ما آذى حلاوةَ النسكافيه في هذا الصيفِ و القيظِ و الخواء !!
"
لماذا اخترعوا الطائرة على شكل طائر باسطٍ جناحيه هكذا .. ألا يمكن أن نطير إلا عبر
طائر ضخمٍ حديدي و محنط !! ألا يمكن أن ننتقل من مكان قَصِيٍّ لآخر بدون أن نستعير
جسد كائن حي
" .
لم يعد بإمكاني ارتشاف المزيد من الفنجان .. ..
* * *
- عفوًا , متى ستصل الطائرة السورية ؟!
- إنها تتأخر عن موعدها دائمًا .
"
تماما كاعتذاراتي له , لطالما أخبرني أنها تصل متأخرة بعد أن تستحيل الشقوق إلى
حراشف تغطي جسد الحب , فيصبح شوكيًا و جافًا , و أغدو برمائية بين يابسة الكبرياء و
ماء العشق
"
لماذا تخلو صالة الانتظار من جموع الناس , أيعقل أنني الوحيدة المسافرة ؟! أم أنني
الوحيدة التي أنتظر !!
"
و لطالما عانقتني نظرتُه المعاتِبة حينَ أتزلف إلى قلبِهِ باعتذارٍ متأخر , و
لطالما قال :
-
الانتظار يُفقدنا الرغبة بتحقق الأمنية الممكنة , حاولي أن تقتربي فورَ نأيِك حتى
أكون موجودًا .
-
و إن تأخرتُ ؟!
-
قد لا أكون موجـ....
"
اخترتُ كنبةً من الجلدِ قريبةً من جدارٍ زجاجي شفاف أطل منه على ساحةِ هبوط
الطائرات . على المنضدة أمامي باقة ورد مُلفَّقةٍ صفراء من النرجس , و بالقرب منها
صحفٌ كثيرة و أخبارها بائتة !!
"
الحب لم يحتمِل طويلا , و صارَ سُمًّا بعد أن كان مصلَ الحياة ..
يقول لي :
-
الحب لا يكفي يا ( شهد ) !!
-
أريد أن أسافر يومين ثلاثة إلى أهلي في الكويت يا ( جلال ) !!
-
لكِ ذلك .. حبيبتي ..
-
أنا بحاجة إلى أن أعيد صياغتي , و أبتعِد قليلا !!
-
ربما أفضل ..
"
رائحةُ الكنبة الجلديةِ زادَ شعوري بالغثيان , كلما غصتُ في جسدها , فاحت رائحتها
.. و كدتُ أتقيَّأ كل ذاكرتي في مزهرية الورد لتكتمل الباقةُ الصفراء !!
"
– سأوصلك إلى المطار بنفسي ؟!
كم كان سعيدًا لما قالها , استفزتني سعادة العبارة بسهولة .. و رفضتُ بغيظٍ أن
يرافقني :
-
اعْـتَبِرني سافرتُ من هذه الثانية , و سأتكفل بالذهاب وحدي إلى المطار يا جلال !!
لا أذكر إن كان قد صمتَ أم قال شيئًا , كنتُ مشغولةً أفكر : أترى عيناهُ باهتتان
لأنني مسافرة , أم لأنني رفضتُ أن يرافقني !!
"
* * *
قال لي والدي مرة حين كنتُ مراهِقَةً أشتكي الفراغَ و الملل :
-
تعلَّمي يا شهد أن تتحديْ الزمن دائمًا , و اقرئي دائمًا !!
أجبتُهُ :
-
لكن القراءة لا تمتعني دائمًا , و كثيرًا ما تصيبني بالدوار أو النعاس !!
-
ليس من الضروري أن نقرأ الكتب و الصحف , لماذا لا نقرأ العالم من حولنا أيضًا !!
سألته ( كيف ؟! ) و ليتني سألته : ( و إن ضاقت نفسي بقراءة العالَم فما البديل ؟! )
..
لقد رحل والدي و لم يعلمني إلا أن أقرأ العالم .. و لم أعرف خيارًا ثالثًا حتى شمس
اليوم !!
..
" ليست
المشكلة أننا حوَّلنا حبنا إلى عكاز نتعكز عليها , و إنما في كوننا استعجلنا الشلل
!!
"
* * *
اخترتُ مقعدًا حديديا لأجلس عليه و أتابع الانتظار ..
"
كل الكراسي شاغرة إلى حد يجعلنا نختار أيًّا منها دون أن نفكر أو نحتار , كلها تبدو
رخيصةً لا ثمنَ لها , و لكن حينما تكون مسكونةً و لا نكاد نعثر على كرسي واحد
نستريح إليه , نفهم لغزَ الحاجة ..
تمامًا كقلوبنا ...
"
* * *
استللتُ من حقيبتي رواية " البحر أم الجبل " لـ ( ثلما هارينغتون بل ) , أهدانيها
والدي في يومِ ميلادي السابع عشر , و قال لي عبارةً خالدة : " دائمًا يا شهد هناك
خياران , و دائمًا علينا أن نختار أحدهما في زمنٍ ضيق , و شيطانُ الندم ثالثنا ,
يبحثُ عن أخطائنا ليدحرِجَ أظافرنا المقروضة على حواسنا فيجرِّحها و يكركر !!
فانتبهي كلما رأيت ( أَمْ ) !! "
و من ليلتها و أنا ألعن الشيطان و أسترقي ..
..
"
– أنا لا أكادُ أفهمُ ضيقَكِ ؟!
كنتُ على الطرف الآخر من السرير قد خاصمتُ ناحيته , اقترب مني و وضع يده على طرف
كتفي و كأنه يبلسمُ سؤالَه بعزاء ..
و أكمل بعد صمتي :
- هل تعرفين ما المشكلة .
و تابع :
- المشكلة أنني أقسو عليكِ حين أراكِ في خطأ .. و أنتِ لا تغضبين و لا توافقين , و
إنما دائمًا تصمتين و تعتزلينَ قلبي و قلبك .. و لا أفهمك ؟!
كان صادقًا , و أقسِم إنه صادِق , لكنني أخفقتُ في أن أستدير إليه و أبتسم أو
أبادله الدفء ..
أخفقتُ , فهجرَتْ كفُّه كتفي , و التفتَ إلى الناحية الأخرى و نام ..
دفنتُ وجهي في وسادتي و بكيتُ .. و لم أعرِف لماذا بكيت ؟!
"
* * *
-
( تعلن الخطوطُ الجوية وصولَ الطائرة السورية من رحلتها رقم ثلاثمائة و خمسٍ و ستين
و ترجو من المسافرين الاستعداد حتى إشارةٍ ثانية .. و شكرًا .)
وقفتُ و أعدتُ الكتاب إلى الحقيبة ..
مسحتُ المكان بنظرةٍ سريعةٍ .. لأُفاجأ بأنه مملوءٌ بالناس و الوجوه المختلفة .. و
ليس مزدحمًا ..
انحنيتُ لأحمِل الحقيبة الأخرى .. و إذ بقامةٍ تقف أمامي .
صعدتُ إلى وجهها ..
-
أتسمحين بأن أساعِدكَ ..
"
تمامًا ككل أخطائنا , تأتي عفوًا بلكنةِ الأطفال , لتأتي بعدها ابتسامتُنا و دمعتنا
بذاتِ اللكنةِ .."
و صوتُه :
- حتى يكون اعتذارًا غير متأخرٍ على قلبي .... حبيبتي !!