وقفت أمام باب  المكتب برهة ، و نظرت يمنة و يسرة  كأنما تخشى ان يكون أحد ما  يراقبها ،او ان أحدا آخر في البناية يعرفها . قرأت  اليافطة النحاسية الصفراء  التي استقرت إلى الجانب الأيسر من الباب، و كانت شديدة اللمعان ربما لتغري بالنظر  إليها أو  للدخول دون تردد.وكانت محاطة بإطار أسود  خرجت من حوافه نتوءات بدت كأسنان قرش .. حدقت في الاسم النافر،  وقررت الدخول.  اقتربت من مكتب السكرتير  وسألته:

- مكتب المحامية أمل راح .

رد السكرتير وهو منشغل بالنظر إلى أظافره :

- هكذا تقول اليافطة . " تفدلي "  كيف نساعدك يا مدام . ألست "برده " مدام ؟!

طالعته  من أعلى نقطة في رأسه  حيث  تجلى كرم الحلاق  بتركه بعض الشعر  عليه ، و نزلت ببصرها إلى حاجبيه حيث بدا ان الشعرات الزائدة قد التقطت حديثا وتُرك الحاجبان خطين رفيعين،   ثم نظرت إلى رموش عينيه ، ولم يفتها المسكرة ، ثم إلى ذقنه التي  حلقت بعناية ، و غطت البودرة آثار اخضرار الشعر  الحليق  . لكن عينيه كانت شيئا آخر. كان من الواضح ان كل تلك  التغييرات لم تفلح في جعل العينين الحادتين  أقل قسوة او ان تخفف مما يشبه الغضب فيهما.

وقف .. تثنى أمامها وأشار  بيده إلى كرسي ، وقال بنعومة  "زائدة "

- " تفدلي " اجلسي .

- " شكرا . هل أستطيع  رؤية المحامية؟"

- "تبعا ، تبعا . ثانية من فدلك ."

 وترك ليديه حرية الحركة في الهواء  وبدا وكأنه يمشي  على منصة لعرض الأزياء. دق الباب  برقة  وبصوت  لا يكاد يسمع . جاء صوت أنثوي " حقيقي " من الداخل  يحمل شحنة  سلطوية:

- " أدخل!"

رأته يفتح مصراع الباب  بتمهل .. ينحني  بانكسار  .. يقول بصوت لم ينجح في إخضاعه كما فعل معها :" أستاذة ، هناك امرأة تريد أن تراك ؟؟!"

 تلقت أذناها  الصوت  الآنثوي  ذو  الشحنة سلطوية  ولكنها لم تسمع جيدا .. كان  الصوت مسموعا بوضوح  للسكرتير فقط:

-"  قل لها ان تتفضل  . اسمع "شوشو "لا تنسى فنجان القهوة بعد خمس دقائق  من دخولها ،  وكأس الماء بعد عشر دقائق ، و التوكيل بعد ربع ساعة ."

- " نعم  كالمعتاد يا أستاذة ."

واستدار  و  ألقى ما لديه من رقة إلى المرأة الجالسة  وقال :

- "الأستاذة بانتظارك ."

أغلقت الباب .وقفت برهة قصيرة تنتظر  الإذن بالجلوس  و تركت لبصرها حرية التجوال  في الغرفة و مرت نظراتها بالجدران ذات اللون الأزرق السماوي .. بالستائر ذات اللون الأزرق الداكن .. خزانة كتب سوداء حتى استقرتا على امرأة تنحدر إلى الأربعين  تجلس على كرسي  مرتفع الظهر من النوع المسمى كرسي مدير  وقد أسندت  رأسها  وجذعها إليه  واستقرت بين يديها مجلة  . قرأت الاسم " مجلة النساء المتحدات " و عنوان كبير " بدائل غائبة " . تنحنحت ، فأمالت  المحامية رأسها سامحة لعين واحدة  أن تطل من خلف المجلة  .. كان شعرها مقصوصا قصة رجالية . لم تحتج المحامية لأكثر من جزء بسيط من الثانية لكي تنظر  إلى القادمة   ولمحت في وجهها لهفة  فألقت المجلة برفق  على المكتب  و ابتسمت ابتسامة خفيفة  و ثبتت نظرات حادة على المرأة الزائرة وقالت :

_" تفضلي . مدام ...؟"

- "فاتن عبد ربه."

- "عبد ربه؟  أهو اسم أبيك  أم اسم زوجك ؟"

- " زوجي ."

- "آه ، أرجو  ألا تكون المشكلة  مع عبد ربه ؟!"

- " فعلا المشكلة معه !!"

طافت بوجه المحامية سحابة سريعة من الارتياح و هتفت بحماس:

- أرجوك اجلسي واحك لي .. خذي ما شئت من الوقت . أريد تفاصيل . الصغيرة قبل الكبيرة".

جلست فاتن على  حافة المقعد  ألصقت ركبتيها ووضعت حقيبتها عليهما . كانت لا تزال تشعر  بالحرج و طافت ببصرها في أرجاء الغرفة  و هالها العدد الكبير من الصور  المعلقة . بدت المحامية في كل صورة  ،وكانت في كثير من الصور مع مجموعات من النساء و الرجال  و أكثرهم لا يبدون عربا .ولكن صورة استوقفتها . كانت المحامية مع رجل أشقر  يضع يده على كتفها و يدها على كتفه و قد  اسند كل منهما خده على خد الآخر ووضع يده على صدرها و تركت يدها تحتضن يده. كلتا اليدين لم تحملا خاتم زواج . في خلفية الصورة  كان برج لندن  باديا . كان مألوفا لفاتن جيدا   إذ كثيرا ما رأت صوره في التلفاز . لكن إطارا لصورة اخرى كان قد ترك  على رف المكتبة وراء المحامية بغير عناية   بعكس  الصور الأخرى  .ولم يكن ممكنا رؤية الصورة التي بداخله من حيث جلست . وكان يجب ان تقف وان تلتصق بالجدار حتى تراها. قالت وهي تحاول الهرب من عيني المحامية الحادتين :

- "لا أعرف ان كانت مشكلة كبيرة أو صغيرة  بالنسبة للآخرين ، و لكنها مشكلة مزعجة  بالنسبة لي . و قد قلت لجمانة إنني أسعى إلى حل  يخلصني منها؟"

- "جمانة ؟"

- " جمانة أبو الجر . عضو جمعية النساء المتحدات وهي  جارتي أيضا  و كثيرا ما عرضت المساعدة حتى قبل ان تعرف بوجود أية مشكلة . كثيرا ما  تقول  بان لا بد من وجود مشكلات زوجية . و أكدت اكثر من مرة  انه إذا ما حدثت معي مشكلات من أي  نوع فهي تعرف كيف تساعدني .و هي تقول هذا لكل النساء . وتقول لهن بان هذا توعية . وحين صارحتها بمشكلتي  أعطتني اسمك على الفور ."

- " جمانة رائعة ، جمانة تقوم بدور كبير في خدمة المرأة و لجم الرجل الشرقي. أنا لا ارفض لها طلبا." مالت قليلا على المكتب و فحت بصوت أثقلته  ببعض  الرقة  و سألت بكل تركيز :

- " المهم ما المشكلة ؟"

- " المشكلة أنني حاولت كثيرا معه  لكني لم انجح ."

- " تنجحين في ماذا ؟"

- "في حل المشكلة  بالطبع ."

أطبقت فكيها  و قالت من بين أسنانها بصبر اعتادت عليه مع أمثال فاتن:

- "ولكن ما المشكلة ؟"

- "زوجي يعرق .. يعرق كثيرا .. ولعرقه رائحة لا أطيقها ."

- "هل واجهته بالأمر ؟"

- "مرارا .  كثيرا ما طلبت منه ان يستحم . بل وصرت اعد له الحمام  وادفعه دفعا  إليه  .. لكنه يعرق و تعود الرائحة  بعد ساعات  و كأنه لم يستحم ."

- " أنت تعدين له الحمّام ؟!! لم لا يعده بنفسه ؟ و  تقولين  انك تدفعينه دفعا  إلى الاستحمام ؟ هذا يعني  انه يرفض  و يصر على ان تبقى الرائحة  . لا أظن ان هذا ينم عن ذوق لدى زوجك"

- " لا أستطيع ان أقول انه قليل الذوق ."

- " ماذا قالت جمانة ؟"

- "قالت لو كانت مكاني لما بقيت معه دقيقة واحدة. "

- "قد تكون على حق  ولدي طريقة سريعة لتريحك منه  و من رائحته ."

سقطت الحقيبة من بين يدي فاتن . و أحست بتوتر . وحين فتحت فمها لترد كان "شوشو" قد دخل بالقهوة و وضع الفنجان أمامها و انسحب و النصف الأعلى  من جسده يتحرك عكس حركة النصف الأسفل.لكنها التقطت في عينيه نظرة أشد قسوة  حين ناولها القهوة .أحست فيهما تأنيبا .. راقبته و هو يمشي .. ( عبد ربه لا يمشي هكذا ) قالت فاتن ذلك في نفسها وارتشفت  القهوة، فأحست بالهدوء يعود إليها . التقطت حقيبتها ووضعتها في حجرها.

تابعت المحامية بصوت خفيض بطيء كأنه آت من قاع بئر: " هل من العدل ان تعاني أكثر من ذلك ؟! انظري إلى نفسك . أنت لم تتجاوزي الثلاثين . جميلة و شابة .. فاتن المرأة  يجب  التفكير بها ومراعاتها .. فاتن الأنثى يجب ان تظهر ..فاتن  الزوجة يجب ان تنحى قليلا  وليس العكس."

 رفعت صوتها فجأة :" كل تلك السنوات معه لا بد أنها كانت مليئة بالتعاسة ..بالحرمان؟!!!  كم  مر على زواجكما من سنوات؟"

( سأكون كاذبة لو قلت لها  إن حياتي معه تعيسة  .. لولا العرق و الرائحة لكنت ..)

ردت و قد بدأت المرارة تستشري في فمها:

- "عشر سنوات  ؟"

انطلق الكلام من فم المحامية كالرصاص:

- " عشرة ؟! أليست عمرا كاملا ؟ كم مرة شعرت معه أنك لامست السحاب ؟ كم مرة اقتربت منه دون ان تسدي انفك ؟ كم تتوقعين ان تصمدي على مثل هذه الحال ؟"

- "لكن ماذا افعل ؟ لقد جئتك لهذا السبب ؟"

عادت المحامية بجذعها إلى الوراء و تنفست بعمق و ابتسمت ابتسامة خفيفة :

- " الأمر بسيط . اخلعيه . قانون الخلع الآن أنصفك . أتعلمين ما الزوج الآن ؟ انه ليس اكثر من ثوب أو حذاء  .. أجل  .. حذاء  تخلعيه إذا  اهترأ  .. تخلعيه إذا قدم .. تخلعيه إذا لم يعجبك لونه .. أو رائحته  . "

( عبد ربه حذاء ؟!! لولا تلك الرائحة لكان..)

سقطت الحقيبة مرة أخرى .  أحست بحلقها يجف .و حين فتحت فمها لتسأل السؤال الذي راودها منذ البداية  كان "شوشو "يدخل بكوب الماء، و يضعه على الطاولة أمامها .رمقها بالنظرة القاسية المؤنبة نفسها  ،و حانت منه إلتفاتة تجاه الصور  . توقف مترددا ..  و لاح على وجهه وجوم عابر .. تنهد و خرج وهو يكاد يتعثر .

 كانت قد لمحت كل ذلك ..( عبد ربه يقول أنني لماحة) ..شربت فعاودها الهدوء، وأخذت  تلملم  كلمات السؤال   الذي جاءت به ، أو الذي جاء  بها. لكن  المحامية عاجلتها قائلة :

-" الأمر سهل للغاية  ولا يكلف أكثر من كلفة الاستدعاء ،و الطوابع  ،وبضعة قروش رسوم الطلب  ثم تخرجين حرة .. عصفورة استردت جناحيها .. عصفورة لها ان تطير إلى أي عش .. هل هناك اجمل من الحرية ؟ لا تفكري كثيرا ..التردد قد يكون قيدا جديدا."

- "و لكن .."

- "أعرف عشر سنوات ليست سهلة ! ولكن اليست افضل  من الموت اختناقا برائحة العرق."

- "ولكن .."

-"أعرف أيضا . قد يطلب مالا مقابل الخلع . هل تخمنين كم سيطلب و هل أنت مستعدة لدفع المبلغ  لتصبحي حرة ؟"

أجابت بصوت تخنقه العبرات :

- " عبد ربه لن يطلب شيئا ، انه ارق مما تتصورين  و هو يحبني كثيرا .. و أنا .. أنا .."

- " أنا افهم .. حتى لو لم يكن معك المال ، الجمعية ستساعدك . لا تقلقي .. قد تكوني تحبينه .. و لكن لديك مشكلة  لم يحاول حلها  و حتى لو حاول  فالمشكلة قائمة . لست مضطرة لان تعيشي هذا الوضع ."

قالت بضعف :

- " و لكن .."

لكن" شوشو "دخل ، و معه التوكيل  ، ولمحت النظرة الصارمة في عيني المحامية حين ألقى التوكيل والقلم أمام فاتن  التي رفعت رأسها مجفلة  فغمغم " سوري " . اندحر بصرها أمام حدة نظرات  المحامية  فوقّعت  . نهضت تجرجر نفسها إلى الباب  لكنها استدارت ، ولم تستطع ان تمنع عينها من النظر إلى الصورة المائلة  . كانت المحامية في الصورة  بثوب الزفاف وإلى جانبها رجل ذي ملامح رجولية قاسية .. وعيون غاضبة وحادة . اتجهت بنظرها إلى المحامية فهزت هذه كتفيها بغير مبالاة وقالت :" كان هذا هو شو شو."

فسألت فاتن  والشحوب يعلو وجهها :"  ماذا عن أولادي ؟"

قلبت المحامية شفتها و هزت كتفيها وفالت : سنرفع قضية حضانة و ستكسبينها بسهولة  و نرفع قضية نفقة و  سيدفع . الرجل لعبتنا، و نحن ماهرات في اللعبة . كوني مطمئنة ."

طأطأت رأسها ..وخرجت لكن صوتا داخلها اخذ يدق جدران رأسها (جاء السؤال أخيرا .. سَألتِهِ  لكنه جاء متأخرا.. هل أقنعك الجواب ؟ هل ارتحت الآن ؟ إذن ما هذه الدوامة التي في رأسك .. وما ذلك الأنين المكتوم في قلبك ؟  ) 

                                               *****

بعد خروج فاتن، وقفت المحامية   أمام النافذة ترقب الشارع. تناولت هاتفها النقال . طلبت رقما يزيد على تسع خانات وقالت :

_ "هالو (بات) . أخبار سارة . أضيفي واحدة جديدة إلى قائمة الخلع . نعم زاد العدد على المائة في فترة وجيزة . تستحقين قبلة كبيرة على فكرتك هذه ."

و لفت نظرها امرأة تمشي مع رجل، وقد تشابكت يديهما ،  و بينهما يتقافز طفل بسعادة   فوجمت  وتابعت :" إنها مسألة وقت  ."

لكن صوتا خشنا قاسيا قال: لا أظن ذلك ."

كان شوشو إلى جانبه فاتن و أمامهما تتطاير قطع التوكيل.

     


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة