أين الحقيقة؟؟ (2)


الفصل الثالث

الدين والجنس

الكنائس بين حافتي التطرف ضد ثم مع موقف الإسلام

حلَّ اليوم الذي يجتمعون فيه، ويمارسون نقاشاتهم لتقوية لغتهم الفرنسية. وها هي آن تسبق الجميع بالحضور.. وتبعها عمر ومعه أحمد، حياها بابتسامة رقيقة وعرفها بأحمد وعرف أحمد بها ثم جلسا بجانبها، وها هي الهولندية سلفا تتهادى في مشيتها ومعها بعض الشباب، وقد علت الضحكات.. وتطايرت الكلمات، وها هم مجموعة من الشباب والفتيات يدخلون إلى القاعة دفعة واحدة، وقد بدا بينهم نوع من الانسجام، فيهم الأبيض والأسود والأصفر..

ترى أين الحقيقة بين هؤلاء؟

وأين عمر من هؤلاء.

هذا ما دار في ذهن آن..

واقتربت سلفا منهم قائلة:

- كيف أنتم؟.. هل استعددتم لهذه الندوة؟.. لا شك أن النقاش سيكون حامياً.. فالأمر جد خطير.. الجنس والدين.. المسافة بينهما تبدو واسعة جداً.

قال عمر: سنرى بعد قليل.

وتذكر ما قالته له هذه الفتاة في لقاء سابق وهي تتحداه:

- ما أراك إلا وحيداً لعلك مصاب بالشذوذ، ورد عليها:

- إنني من عالم طاهر، من الصعب أن تفهميه.

وسمع آن تقول موجهة الكلام لسلفا:

- يبدو أنك في قمة الاستعداد..

ردت سلفا: نعم ولن يغلبني أحد..

ونظرت إلى أحمد وقالت:

- هل هو محمدي آخر؟..

سأل أحمد: من هذه الفتاة؟..

قال عمر: إنها فتاة هولندية.. ولها اهتماماتها الخاصة واقتناعاتها.. والحرية في رأيها انفلات من كل القيم.

قال أحمد: صادفت كثيرات وكثيرين من هذا النوع.. وحتماً لها هذه مؤيدون كثر..

قال عمر: نعم لا شك في ذلك.

ولاحظت آن أن السيدة سماح لم تأت.. وكذلك ابنتها منال.. ترى لماذا؟ ما الذي أخرها، كانت تحب أن تسمع رأيها في هذا الموضوع، ستحاول زيارتها بعد الندوة، وعرضت الأمر على عمر، فوافق مع أحمد على مصاحبتها، ودخل المشرف ووجه تحية للجميع، ثم بدأ حديثه:

- لن نضيع الوقت، إنكم تعلمون أن نقاشنا اليوم سيكون حول الجنس والدين، وطبعاً المهم في هذه النقاشات تمتين اللغة، وإغناء ما تملكون من مفرداتها، أرجو من الجميع أن يشاركوا والآراء كلها مقبولة، ولكم كامل الحرية، فباريس بلد الحرية.. والآن من سيبدأ؟..

ونهضت سلفا وبدأت حديثها قائلة:

- إن الجنس وممارسته في بلادنا أمر طبيعي، والحرية مكفولة للجميع، والكل يمارس هذا الأمر الطبيعي كما نتنفس الهواء.. ونأكل الطعام.. ونشرب الماء.. والكنائس لم تعد تتدخل في هذه الأمور.

وأيدها عدد من الشباب، وانطلق أحدهم يقول:

- ولماذا تتدخل الكنائس؟.. وما علاقة الكنائس بأمر فطري طبيعي تمارسه كل الكائنات الحية من خلال حاجتها إليه، ولن يستطيع الدين أن يكبت هذه الحاجة طويلاً، لقد تمرد العلم على الدين وحصره داخل الكنيسة، وهذا ما يحصل الآن في معظم بلاد الدنيا بالنسبة للجنس.

وهنا تكلم أحد الشباب من الجنس الأصفر قائلاً:

- البوذي الحقيقي لا يزني فالزنا محرم في ديانتنا، والحاجة الفطرية تتحقق من خلال علاقة شرعية هي الزواج، ففي الديانة البوذية يركز بوذا على الأخلاق والقيم، وإن سعادة الإنسان لا تتحقق إلا من خلال ذلك، وهناك وصايا عشر لبوذا، لا تسرق، ولا تغتصب.. ولا تكذب، لا تشرب خمراً.. لا تزن، لا تحضر مرقصاً، ولا حفل غناء،.. لا تأخذ ذهباً ولا فضة.

وتكلمت الإنكليزية التي تدرس اللاهوت وتستعد لتكون مبشرة قائلة:

- لا شك أن سيطرة الجنس تدمر المجتمعات وتستعبد البشر، والمسيحي الحقيقي لا يزني، فقد ورد تحريم ذلك في الكتاب المقدس، ففي إنجيل متّى الإصحاح الخامس جاء ما يلي:

"قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزنوا، وأما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنا بها في قلبه فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم".

وهكذا فالأمر شديد الخطورة والذنب عظيم.

عجباً ها هو سامي ينهض يريد الكلام!.. وتمتم عمر:

- اللهم ألهمه الرشد.

قال سامي:

- ولكن يبدو أن الكنيسة تنازلت عن هذا الأمر، فبالأمس حضرت حفلاً راقصاً في النادي التابع للكنيسة، ومعظم الكنائس هنا لها نواد خاصة بها، وبعد أن انتهت مراسم الصلاة والترتيل دلفنا جميعاً فتية وفتيات إلى ساحة رقص ملحقة بالكنيسة، وتلاقت الأيدي والصدور وانسابت الموسيقى.. وأطل راعي الكنيسة على الساحة سعيداً مبتسماً مباركاً الأجساد المتلاصقة، ولم يكتف بذلك وإنما أطفأ بعض الأنوار ليكون الجو ملائماً وأكثر إثارة، ورافق الحفل تناول النبيذ، وبعد الانتهاء انفض الجمع أزواجاً كل فتى يحتضن فتاة، وكل فتاة تتأبط ذراع فتى.

وردت نورما الإنكليزية التي تستعد لتكون مبشرة:

- لا شك أنها حفلات بريئة وتشجع الشباب على ارتياد الكنيسة وسماع الصلوات والتراتيل، والدخول في ملكوت الله، فالكنيسة معذورة لأن الشباب انفضوا عنها، فاضطرت إلى ابتكار وسائل كثيرة لجلبهم، ومنها هذه الوسيلة.

ونهض أحمد ليتكلم فكررت سلفا سؤالها الذي لم تتلق جواباً عليه:

- أنت محمدي أيضاً؟ لقد أصبحتما اثنين.

وأشارت بيدها إلى عمر.

قال أحمد: لست محمدياً ولكنني مسلم، أؤمن بالله رباً لا إله إلا هو، وبمحمد نبياً ورسولاً. هذا أنا، أما بالنسبة للكنيسة فأرى أنها تخطئ عندما تدعو إلى الدين بوسائل ليست من الدين في شيء، وبذلك تهدم الدين من جهة، وتضلل الناس من جهة أخرى، وكأن الدين مجرد طقوس كنسية لا علاقة له بتصرفات الإنسان وأعماله، ولقد التقيت بمبشرين يقولون: اعمل ما شئت، وخلاصك بالإيمان بأن عيسى ضحى على الصليب طائعاً مختاراً لينقذ الإنسان، وكانوا يظهرون الشفقة علي والقلق من أجلي، لأنني سأعذب في النار لعدم التصديق بقصة الصلب هذه، وفي رأيي أن مثل هذه العقيدة تفتح الباب واسعاً أمام النزوات والشهوات والشرور، افعل ما تشتهي وما تمليه عليك الأهواء، ستجد المخلص في انتظارك، لقد صلب من أجلك.

والتفتت آن إلى عمر قائلة:

- ما رأيك بما يجري؟.. ألا تريد أن تشارك؟..

قال عمر: بلى، سأدلي بدلوي في الأخير، لماذا لا تشاركين أنت؟..

ردت آن: سوف أفعل.

ونهضت قائلة:

- لي ملاحظة بسيطة تحيرني بالنسبة للكتب المقدسة والجنس، أعني كتب النصارى واليهود، لأنني لا أعلم الكثير عن كتاب المسلمين.

وسألها مدير الجلسة: وأنت بماذا تدينين؟..

قالت آن: لم أستقر بعد، وأعود إلى ملاحظتي، ففي العهد القديم في سفر الأمثال ورد ما يلي:

"وأغوت الزانية الرجل بعسل كلامها فذهب وراءها كثور إلى المذبح، كطير إلى الفخ، أيأخذ الإنسان ناراً في حضنه ولا تحترق ثيابه؟.. أيمشي على الجمر ولا تكتوي رجلاه؟ هكذا من يدخل على امرأة صاحبه؟".

وفي إنجيل متّى السفر الخامس:

"أن كل من ينظر لامرأة ليشتهيها فقد زنى بها قلبه".

هذا كما هو واضح تحريم صريح للزنا ودواعيه في كلا العهدين القديم والجديد.

بينما نجد العهد القديم الذي يؤمن به اليهود والنصارى، يصور الأنبياء زناة، لا يتورعون عن ارتكاب حتى زنى المحارم، فابنتا لوط مثلاً تسقيانه خمراً حتى يفقد وعيه وتنام كل واحدة معه وتحمل منه، ومثل هذا كثير في العهد القديم، ومن أراد المزيد فليعد إلى العهد القديم، ونشيد الإنشاد هو غزل مكشوف بأعضاء المرأة، ولا يدع عضواً من أعضائها إلا ويصفه ويضع له التشبيهات، إنني في حيرة، وأسأل هل من توضيح أو تعليل لهذا التناقض؟..

قال أحمد: لا تعليل سوى أن تلك الكتب قد حُرّفت وبُدّلت فاختلط فيها الحقّ بالباطل.

قالت نورما: إن ما ورد في التوراة عن الأنبياء دليل على أنهم بشر وليسوا آلهة ويخطئون كما يخطئ كافة البشر، ولا داعي للحيرة والتساؤل..

قالت آن: كيف؟.. إن عقلي يرفض هذا، كيف يرتكب الأنبياء ذنوباً إلى حد الفاحشة، آثاماً يرتفع أي إنسان صالح عن الإتيان بها، ولو فعل ما هو أقل منها بكثير.. اندفع يطلب المغفرة ويعترف بذنبه أمام رجل دين يعتقد أنه بعيد عن مثل هذه الذنوب.

قال سانج: فعلاً إنه أمر يدعو للحيرة، يرتكب الأنبياء في الكتاب المقدس كل أنواع الموبقات بكل بساطة، ولا تحرك فيهم ساكناً، فلا يستغفرون.. ولا يتوبون.. ولا يخجلون..

قالت أنديرا: أليس في هذا دعوة صريحة للناس أن يفعلوا الآثام والخطايا، وأن يرضوا أهواءهم وشهواتهم غير مبالين بالنتائج فالأنبياء القدوة زناة.. و...و..

وتكلم صحافي أمريكي أسود اسمه لويس وقد ارتسمت الدهشة على وجهه:

- هل يعقل أن يفعل الأنبياء ما حرّمه الله على لسانهم؟.. أليسوا القدوة للناس؟ كيف يأمرون بالشيء ويفعلون ضده؟

وسادت لحظة صمت.

قال عمر: الحقيقة لقد حوت تلك الكتب تناقضات كثيرة، وما جاء في التوراة عن الأنبياء أمر عجيب وقصص لا يتقبلها عقل.. إنها دعوة صريحة للانحراف والدمار.

قالت سلفا: لماذا لا تقول إنها دعوة صريحة للتحرر ومجاراة الفطرة التي خلقها الله، وتريدون كبتها وإلغاءها ولن تستطيعوا ذلك، ربما هذا ما أرادت أن تقوله لنا التوراة.

وأيدها مجموعة من الشباب والفتيات.

قال أحمد: التوراة نهت عن الزنا وحرمته وذكرت أن ابن الزنا لا يدخل الجنة إلى الجيل العاشر، ومع ذلك تدعي تلك الكتب أن الأنبياء قد زنوا بل ارتكبوا أبشع أنواع الزنا.. زنا المحارم وهنا التناقض المحير العجيب.

قالت آن: من أجل ذلك لا يثق الإنسان بما جاء في هذه الكتب.. ولا شك أنها تعرضت للتحريف، والتوراة نفسها تؤكد ذلك، ففي المزامير الإصحاح 56 يقول الله:

"ماذا يصنعه بي البشر، اليوم كله يحرفون كلامي".

وقد أكد العلماء أن نسخ التوراة ضاعت في عهد بختذصر ولما ظهرت نقولها بواسطة عزرا ضاعت تلك النقول أيضاً في حادثة أنتيبوكس، ثم تولى كتابتها عدد كبير من الكتاب، كل من خلال عصره وظروفه..

وهنا نهض المشرف قائلاً:

- لقد خرجتم عن الموضوع، لا تنسوا أن الموضوع: الجنس وموقف الدين، وليس الكتب المقدسة وما حوت.. وقد نخصص جلسة للأديان والكتب السماوية. ليتكم تظهرون لنا موقف الإسلام من الجنس.

قال أحمد: حسناً لا شك أن للإسلام موقفاً واضحاً من هذا الأمر، فالإسلام يعترف بالدوافع الفطرية ويظهر هذا في عدد من آيات القرآن الكريم.. منها قوله تعالى:

"زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث.." آل عمران(4).

هذا الميل الفطري في الإنسان لا ذنب فيه ولا إثم، ولكن الإثم والذنب أن ينساق الإنسان وراء شهواته حتى يصبح عبداً لها، ولذلك وضع الله للإنسان المنهج الذي يضمن مصلحته ومصلحة المجتمع من خلال التنفيذ العملي المضبوط المنظم لهذه الميول والشهوات. وبهذا يتميز الإنسان عن الحيوان.

المشرف: ليتك تذكر لنا بعض النصوص القرآنية.

- الآيات التي تنظم وتضبط كثيرة، أذكر منها:

)كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين( الأعراف31  

و)ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة( الروم21

و)ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً( الإسراء17.

يجب أن يبتعد الإنسان عما يقربه من الزنا لئلا يقع فيه.

وسألت فتاة سويدية: ماذا تقصد بقولك، ما يقربه من الزنا؟!

قال أحمد: عرض الأجساد العارية.. تبادل النظرات المحرمة.. استباحة اللمسات الرقيقة.. الاختلاط الماجن غير المهذب.

قال أحد الشباب: معنى ذلك أنكم تضعون الإنسان في سجن ضيق لا يمكن احتماله، وتكبتون أحاسيسه ومشاعره، وبذلك تدمرونه وتملؤون نفسه بالعقد والتشوهات، وتدفعونه إلى الشذوذ والانحراف دفعاً..

وأيدته سلفا: هذا ما فعلته الكنيسة عندما وجهت الناس إلى الرهبانية ودفعتهم إلى كبت دوافعهم واستقذارها؛ ولكنها عجزت ولم تستطع ضبط الأمر، واضطرت إلى التراجع، والاعتراف بتلك الدوافع وغض الطرف عن إروائها وإشباعها.

ونهض عمر أخيراً ليتكلم:

أولاً: أود أن أذكركم أن الشذوذ والانحراف تئن منها المجتمعات المنفلتة التي تدعي التحرر.

ثانياً: اسمحوا لي أن أوضح أن ما فعلته الكنيسة يختلف عما دعا إليه الدين، فالكنيسة استقذرت العملية الجنسية واعتبرتها إثماً ولو عن طريق الزواج، واعتبرت المرأة شراً لا بد منه، أما الإسلام فقد اعترف بهذا الميل الفطري، وأوجد الطريق السوي لإروائه، واعتبر ذلك نوعاً من أنواع العبادة، ولهذا الإرواء المنظم أهدافه التي هي في مصلحة الإنسان، وارتفع الإسلام بالإنسان وحماه من أن يكون عبداً لشهواته ونزواته، وهناك فرق بين الكبت الذي ينشأ من الشعور بقذارة هذه الغريزة، وبين التحكم فيها لتروى من طريق صحيح، ولتكون العامل الأساسي في استمرار البشرية من جهة والمحافظة على الخلية الطبيعية التي تنمو من خلالها الأجيال من جهة أخرى وهي الأسرة.

قالت المبشرة نورما:

- إنني معك، لا شك أن سيطرة الجنس على كل شيء قد أدى فيما أدى إلى دمار الأسر.. وتشرد الأطفال وانتشار الأنانية، والسعي وراء الشهوات التي لا ترتوي ولن ترتوي.

قال عمر: إنني أكبر فيك هذه الشهادة خاصة أنها جاءت من فتاة تعيش في ظل هذه الفوضى التي يسمونها حرية، ونسوا أنه لا بد من ضوابط، لئلا تنقلب إلى عبودية لمن يلهثون وراءها.

قالت آن: لا شك أن ما يدعونه حرية جنسية قد أضر بالمرأة بالدرجة الأولى فهي التي تستغل وهي التي ضلت الطريق، وجرحت مشاعر الأمومة ومتعة الاستقرار في أسرة.

قال أحمد: إنني أسجل احترامي للمرأة.. أمّاً وزوجة وأختاً وبنتاً من خلال عقيدتي، كما أعترف بتلك الغريزة وأنها جزء من الفطرة وأنها موجودة في الإنسان والحيوان لحفظ النوع، وأن الله سبحانه ميز الإنسان بالإرادة والعقل وحدد له الطريق المشروع لإرواء غريزته.. واعتبار إروائها من هذا الطريق عبادة:

"إن في بضع أحدكم لأجراً".

أما الانفلات والفوضى والاستسلام للغرائز فهي من طبائع الحيوان وبذلك ينقلب المجتمع الإنساني إلى مجتمع حيواني تشيده الغرائز والشهوات، لا العقل والإرادة.

قالت سلفا: لا شك أنك تأتينا بكلام من عالم المثل، ولا شك أنك تخضع لتقاليد وعادات مختلفة.. لا تصلح لنا ولا نصلح لها.. إنكم تسبحون فوق السحب ونحن نعيش على الأرض.

قال عمر: الإنسان هو الإنسان، وما يصلح له هنا يصلح له هناك، وما استعبدت الشهوات أمة إلا وحل بها الخراب والدمار والشقاء.. وهذا ما أشعر ببداياته هنا..

قالت: لا شك أنك حديث عهد هنا، ستخضع قريباً لما نخضع له وتدعو لما ندعو له..

قال عمر: لا شك أن الأمر صعب، ولكنني مصمم على الاستمرار في الطريق السوي، مع أن الإغراء يحيط بي من كل جانب.

قال أحمد: وأنا معك وأؤيدك، سأنتظر مهما طال الانتظار حتى تسمح لي الظروف باختيار الزوجة وتكوين الأسرة، لن أتنازل عن مبادئي، ولن أكون عبداً للنزوات، وأسأل الله العون في مجتمع ترتفع فيه رؤوس الشياطين متحدية ساخرة، توقعه في شراكها ثم تدوسه وهي تمد ألسنتها عابثة مستهزئة بكرامة الإنسان وحريته المزيفة.

قالت الهولندية سيلفا:

- وأنا أتحداكم، وسيأتي اليوم الذي أراكما فيه تسيران مع الواقع بعيداً عن التحليق في عالم المثل التي لا تسمن ولا تغني من جوع، أمثالكما يجب أن يعيشا في عالم آخر، لأنكما ستتعبان أهل الأرض بهذه المبادئ...

وأيدها عدد من الشباب والفتيات، وتحفظ البعض.

ونهضت آن قائلة:

- إنني أعيش في هذه الأجواء التي تسمونها حرية وحضارة منذ ولادتي، ومع ذلك لم آلفها ولم تؤثر علي، وأشعر معها بالغربة والضياع، وألهث بحثاً عن الحقيقة، وأحب أن أعرف موقفكم من الأسرة، هل أنتم معها أم ضدها، وإذا كنتم معها فأي أسرة هذه التي يذهب كل فرد فيها وراء شهواته... ونزواته، إنها تشكل جواً موبوءاً وتنشئ ثماراً فاسدة، وهذا ما يلمسه العقلاء في مجتمعاتنا، وإن كنتم ضد الأسرة، فأي مجتمع هذا الذي لا رابطة بين أفراده تضفي على الحياة جواً من المودة والرحمة، إلا رابطة المصالح التي توجهها الشهوات، إنه مجتمع بعيد عن إنسانية الإنسان، إنه مجتمع يدمر نفسه من القواعد.

وختم المشرف على الحلقة قائلاً:

- أرى أن كل فريق منكم في واد، واللقاء بينكما بعيد، ولكن كل شيء ممكن، والمهم أن لغة الجميع في تحسن مستمر، وأودعكم الآن وإلى اللقاء، مع جولة جديدة.

 

الفصل الرابع

السعي وراء الحقيقة

أين يجد الإنسان الأمن والطمأنينة

شعر عمر بالراحة لأن سامي رضي أن يأتي معهم لزيارة سماح في المعهد الذي تديره، ويقوم هذا المعهد على التعريف بالإسلام وتدريس القرآن الكريم واللغة العربية لمن يرغب في ذلك.

وقد لاحظ عمر أن سامي قد تأثر مما سمع في الحوار الذي دار حول الدين والجنس، وداعبه أمل أن ينصلح حاله، سيقف إلى جانبه ويشد من أزره لعله يغير طريقه بعد أن يعرف حقيقة دينه، ومن هو المسلم الحق.

وفكرت آن وهم في طريقهم إلى زيارة سماح – ترى ماذا ستجد عند هذه السيدة؟.. لقد التقت مع بعض المسلمين خلال حياتها السابقة فلم تجد عندهم ما تريد، ومنهم من وجهها للاطلاع على القرآن، ترى هل المسلمون غير الإسلام؟.. الكتب التي قرأتها عن الإسلام لم تمنحها ما تريد، ويبدو أن عمر وأحمد مختلفان عمن شاهدت من قبل من المسلمين.. وها هو سامي، إنه مختلف عنهما.. مع أنه مسلم.. لا بد من أخذ الإسلام من ينابيعه.

أما أحمد فقد أحس بسعادة غامرة وهو في صحبة عمر وآن وحتى سامي.. وإن كان له اتجاهه الذي لا يرضى عنه أحمد.. ولكن هذه السيدة التي سيزورونها ترى ماذا عندها؟.. إنه لم يرها ويتخيلها كما وصفوها له.. مسلمة أحبت هذا الدين.. وأحبت الناس جميعاً.. ولذلك تدعوهم إلى الطريق الذي وجدت فيه الخير والرضى.. سيراها بعد قليل ويحكم..

ولام سامي نفسه لماذا أطاع عمر وجاء معه لزيارة هذه السيدة.. كان بإمكانه أن يمضي سويعات جميلة ممتعة في مكان آخر.. ولكن قضي الأمر ولا يمكن التراجع.. وإن كانت كلمات السيدة سماح وتصرفاتها قد حظيت باحترامه.. كما أحس بنوع من الحيرة والتقدير نحو الفتاة النرويجية آن..

وسار الركب كل منهم له حديثه مع نفسه.. وها هم يلجون ذلك البناء الذي ضم المعهد، وحمل اسم المعهد العربي الإسلامي واستقبلتهم السيدة سماح مرحبة وعرفتهم بابنتها منال، شابة في مقتبل العمر.. تتابع دراستها في كلية الطب، وفوجئوا بأن الجميع ينادون السيدة سماح بالدكتورة، وعرفوا أنها تحمل درجة دكتوراه في علوم الشريعة الإسلامية.

وفي غرفة معدة لاستقبال الضيوف، قدمت القهوة العربية، والغريب أن آن تقبلتها وشربتها بتؤدة كما فعل عمر وسامي، وكانت تسترق النظر إليهما وتجاريهما في طريقة الشرب، وسألها عمر:

- هل تذوقت القهوة العربية من قبل؟

قالت: لا.. ولكن طعمها ليس غريباً عليّ.. نكهتها تشدني، ترى ماذا وراء هذه النكهة؟..

قال عمر: هكذا أنت دائماً تبحثين عما وراء الأشياء.

ابتسمت آن ولم تجب.

قالت منال معلقة على الموضوع:

- البعض هنا يستسيغها وقد يطلبها، والبعض الآخر لا تروق له وهكذا الدنيا.

وفكر سامي: ماذا تقصد بقولها وهكذا الدنيا؟.. إنها فتاة مختلفة.. كل شيء فيها مختلف.. حشمتها هدوؤها.. نظراتها.. ووجد نفسه يجري مقارنة بينها وبين الأخريات.. وأخرجه من أفكاره صوت عمر يعرف السيدة بأحمد:

- إنه أخ مسلم من جنوب إفريقيا.. يتابع دراسته في مقارنة الأديان، وقد أحب أن يراك بعد أن أخبرناه عنك، ولقد افتقدناك في الندوة السابقة، ترى لماذا تخلفت عن الحضور؟..

قالت السيدة سماح:

- الحقيقة أنه شغلني أمر خاص، فقد جاءني خبر من الوطن أن أختي التي تعيش هناك تعاني من مرض خطير في الدم، فحاولت الاتصال بها، لعلها تستطيع المجيء إلى هنا حيث يوجد أطباء مسلمون جيدون يمكن أن يقدموا لها العلاج الناجح إن شاء الله. ولقد شغلني هذا الأمر طوال اليوم، وأختي تعيش في مأساة منذ سنوات عندما اقتاد زبانية السلطة أولادها الأربعة إلى حيث لا يعلم إلا الله، وأصغرهم في الثاني الثانوي وأكبرهم في السنة الرابعة في الجامعة وتركوها مع بنت وحيدة وزوج كهل هدته الخطوب، كانت ظروفاً قاسية، قاومت وعاشت على الأمل، تأمل أن تراهم في يوم ما يعودون إليها، ولذلك رفضت الهجرة، ولكن يبدو أن شعلة الأمل قد انطفأت، فقد مرت السنون ومطارق الظلم والظلام تدمر كل شيء حتى قضت على الشعاع في شعلة الأمل، وبدأت تلك المطارق تهد الجسد المنهك حتى تهاوى ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال أحمد: نعم لا حول ولا قوة إلا بالله، حسبنا الله ونعم الوكيل، وويل للظالمين والطغاة من النار.

قال سامي: وهل وصلت إلى نتيجة في مسعاك؟

قالت الدكتورة: لا.. لم أصل إلى شيء، فخروجها من البلد صعب وغير مسموح به، لماذا لا أدري؟.. يدعون أنهم يحافظون على أمن البلد بهذه الوسائل، التي تجعل حياة الناس جحيماً لا يطاق.

قال عمر: أي أمن هذا الذي تهدده امرأة ضعيفة.. مريضة؟..

قالت منال: يبدو أن الله سبحانه حرمهم من الشعور بالأمن، هذا في الدنيا، والآخرة أدهى وأمرّ، ويحضرني قول الله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم في مناقشة قومه موضحاً لهم أنه لا أمن مع الظلم:

 )فأيّ الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون( الأنعام 81- 82.

وتساءلت آن عن معنى الكلمات التي نطقتها منال باللغة العربية، وبطريقة خاصة شدّت إليها انتباه آن وإن لم تفهم المعنى.

وتولى أحمد الرد:

إنها آيات من القرآن الكريم.

وأعاد لها المعنى مترجماً.

قالت آن: وهل هناك سبيل للشعور بالأمن؟ إنني أبحث عن هذا السبيل.. إن القلق يلازمني ويقضّ مضجعي.

قالت الدكتورة سماح:

- لاشك أنه سبيل واحد هو الإيمان بالله الواحد.. والارتباط والتسليم له سبحانه.. وهذا هو الإسلام الذي دعا له كل الأنبياء وقد وضح القرآن الكريم هذه الحقيقة:

)ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. لا تبديل لكلمات الله ذلك الفوز العظيم( يونس 62 – 64.

قال عمر: وكمثال على ذلك سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عندما جاءه رسول كسرى فوجده ينام في ظل شجرة في ظاهر المدينة وليس بجانبه أحد، فقال قولته الشهيرة التي ذهبت مثلاً: "عدلت فأمنت فنمت".

قال سامي: وتخيلوا صورة الحكام وذوي السلطان الآن، إنهم لا يخطون خطوة إلا في حماية مالا يحصى من الحرس والمجندين، ولكن الذي يحيرني أن عمر رضي الله عنه قضى قتلاً.

قال أحمد: لا داعي للحيرة.. المهم إحساسه رضي الله عنه بالأمن والطمأنينة من خلال ارتباطه بربه دون حرس أو جند وأما النهاية المحتومة فقد اختار له الله سبحانه الشهادة وبيد مجوسي كافر، وهو بين يدي ربه وحوله قومه ورعيته، من كان مثل عمر يستحق هذه النهاية.

قالت آن: حديثكم هذا يهمني جداً.. أشعر بالراحة وأنا أستمع لكم.

قالت الدكتورة سماح: ليتك تزوريننا دائماً.. ويمكنك هنا أن تتلقي دروساً في اللغة العربية، وتتعرفي على ديننا فقد لمست عندك هذه الرغبة.

قالت آن: نعم أرغب في ذلك، ولم أجد أحداً يمنحني ما أريد من معلومات، والمعلومات التي قدمت لي عن الإسلام قليلة وبعضها نفّرني منه، ولكن الله جمعني بكم فوجدت في تصرفاتكم وتعاملكم ما غيّر رأيي.

قال عمر: نحمد الله على ذلك.. لاشك أنك تبحثين عن الحقيقة بصدق، ولذلك مهد لك سبحانه وتعالى الطريق.

قالت آن: إنني منذ طفولتي أبحث عن الحقيقة، وتؤرقني أسئلة لم أجد لها جواباً حتى الآن، والخوف يلاحقني منذ طفولتي، خاصة بعد أن رأيت الموت بعيني، يأخذ جدتي التي كنت أجد معها بعض الأمن، خاصة عندما تصحبني إلى الكنيسة وأشعر أنني مع الله.. وفي معيته..

قال أحمد: لقد ذكر كتابنا المقدس القرآن الكريم هذه الحقيقة، إن من أراد الأمن والطمأنينة فعليه أن يكون مع الله:

)الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب( الرعد 28.

هذا الذكر يشعر المؤمن بقربه من الله فتطمئن روحه وترتاح نفسه.

قالت آن: أرجو أن أصل إلى هذه الدرجة من الصلة بالله، أما الكنيسة فقد خذلتني من خلال تعاليم يرفضها العقل، ولذلك هجرتها منذ مدة طويلة، ورحت أبحث بنفسي علني أهتدي إلى الحقيقة.. وأجد الجواب على أسئلتي.

قالت السيدة سماح: إنني أدعوك للانضمام إلى معهدنا لعلك تجدين ما تبحثين عنه، وإذا أردت فهم القرآن الكريم فهماً دقيقاً فعليك أن تتعلمي اللغة العربية، فهي اللغة الوحيدة التي بإمكانها استيعاب مقاصد وتوجهات ذلك الكتاب العظيم.

قالت آن: يسعدني ذلك، وتعلم اللغات هوايتي وأنا أتقن عدة لغات، ويمكن أن أشارك معكم في بعض المهمات، فما تقومون به من تعريف بالإسلام والعربية أمر جيد ويشدني، وأستأذن أن أحضر معي شخصين يبحثان عن الحقيقة مثلي، رجل وفتاة من الهند يعيشان معي في نفس المنزل.

قالت الدكتورة: لا مانع، ونرحب بمن تحضرينه معك، فمن واجبنا أن نعرف بهذا الدين الذي تُنشر عنه الأكاذيب من كل الجهات، ويحارب بكل الوسائل، بينما من يحملون اسمه غافلون.

قالت آن: حسناً سأدعو أنديرا وأباها سانج لمشاركتي في التعرف على دينكم ولغتكم، وأظن أن هذا سيسعدهما، فهما هاربان من الهندوسية، ولم يقتنعا بالنصرانية، ففيها مالا يحتمله العقل، وما لا يشبع الروح.

قالت الدكتورة: أهلاً بكم.. أهلاً بكل الذين يبحثون عما يغذي الروح، كما يبحثون عما ينمي الجسد ويريح العقل.

قال أحمد: وأنا وعمر وأظن سامي أيضاً نعرض إمكاناتنا إن كان لدينا إمكانات للتعاون معكم في تأدية رسالة هذا المعهد.

ولم يعترض سامي على الاقتراح، لقد بدأ يشعر بنوع من الراحة وهو مع هذه المجموعة، هدوء افتقده منذ زمن بعيد، منذ تعرف على تلك البيئة المختلفة المملوءة بالإثارة والغليان.. وتذكر صديقته إيفا، فقد أخبرته أنه إن لم يأت فستجد غيره.. وإن كانت تهواه ويصعب عليها فراقه.. إنه في حيرة من أمره.. ووجد نفسه يدعو ربه أن يثبته على الطريق الصحيح..

في هذه الأثناء كانت السيدة سماح تحدد لهم المواعيد التي سيحضرون فيها.. وتعرفهم بنظام المعهد.. ودعتهم لجولة فيه، ونهضوا وشاركهم سامي دون أن يتكلم.. واقتربت منه منال وسألته:

- هل أنت موافق على الانضمام إلينا والعمل معنا؟

- نعم.. نعم يشرفني ذلك.

- لقد لاحظت أنك كنت بعيداً عما يدور فهل لديك مشكلة ما.. يصعب حلها؟..

- نعم.. هناك ما يشغلني حالياً وأرجو أن أتخلص من ذلك، وأكون معكم بكليتي.

وطافت بهم السيدة سماح في أنحاء المعهد، وشرحت لهم ظروفه وما يتعرض له من مشاكل، والأنشطة الهامة التي يقوم بها.. ثم ودعتهم متمنية لهم التوفيق.. وتواعدوا جميعاً على اللقاء في الدورة القادمة، حيث سيناقشون فيها موضوع الكتب السماوية وما حوت.

 

الفصل الخامس

في الكتب السماوية الثلاثة؟ تميز الإسلام

استيقظ سامي نشطاً يستقبل يوماً جديداً في تلك الديار البعيدة.. إنه يشعر أن تغيراً ما يجتاح أعماقه.. لم تعد الرغبة في لقاء إيفا وغيرها من الفتيات المتحررات تحركه وتدفعه للقاء مملوء بالمحرمات والنزوات.. يشعر كأنه تحرر بين يوم وليلة من قيد شلّ عقله.. وأنام قيمه.. إنه يشعر بالحرية.. كيف حدث هذا لا يدري.. هل أعادته تلك البيئة الصالحة إلى صوابه.. إلى فطرته.. ولكن عمر معه منذ مدة طويلة وهو يحاول إنقاذه ويفشل.. لاشك أن لمساته تركت آثاراً لم ينتبه لها سامي.. حتى تكاثرت الأصوات واللمسات.. وجاءت اليقظة المباركة أخيراً، ونهض من فراشه سيتوضأ ويصلي لعل الله سبحانه يقبله، ولكنه سبحانه وعد العائدين إليه بالقبول.. إنه كريم حليم ولن يردع..

واستيقظ عمر منشرحاً مطمئناً.. لقد وجد زمرة صالحة تشد من أزره وتقويه.. وتعينه على مقاومة حبائل الشيطان التي تحيط به.. لقد حذره أبوه وأوصته أمه، ولا ينسى ما قاله له عمه: "إن أخشى ما أخشى عليك أن تعود لنا بالشهادة ونجد فيك عمر آخر غير الذي ربيناه على قيمنا ومبادئنا وعندئذ شهادتك لن تساوي شيئاً بعد أن أضعت نفسك وهويتك.."

وتمتم عمر:

الحمد لله.. الحمد لله.. لن أضل الطريق إن شاء الله ولن أسمح لقيمهم الزائفة أن تقيد روحي التي انطلقت إلى آفاق رحبة مذ عرفت طريقها.

وها هو أحمد يردد كلمات وقد أنهى وضوءه:

"اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي في رزقي.."

إنه دعاء سمعه من شيخه، وعلم منه أن الرسول الكريم صلوات الله عليه كان يردده خلال وضوئه.. وسأل نفسه:

"هل استيقظ رفيقاي؟"..

ما أسعده لقد هيأ الله له أخوين صالحين في بلاد الغربة هذه.. بل إنها أسرة كاملة.. إنها حكمة المولى سبحانه التي جمعته بمن يحتاجون له ويحتاج لهم.. وخطر له أمر لماذا لم يسأل أحدهم السيدة سماح عن زوجها وما عمله؟.. وعن بقية أولادها.. سيفعل ذلك عندما يلقاهم.. وتذكر موعد الندوة المسائية:

"ترى هل سيحضرون جميعاً؟.. وهل ستحضر آن معها من ذكرت؟ إنهم من الهنود وإنهم فارون من ظلم الهندوسية؟"..

سيسعده أن يلتقي بأناس هم من وطنه الأصلي الهند كما أخبره جده.

وجلست آن في غرفتها ترتب أوراقها، وحملت ورقة وسجلت فيها هذه التساؤلات:

"من أنا؟.. ولمَ خُلقت؟.. وإلى أين أمضي؟.. وما العلاقة بيني وبين خالق الكون؟.. وبيني وبين بقية المخلوقات؟ وما حقيقة الموت؟ وماذا بعد الموت؟"..

هل ستجد الجواب على أسئلتها؟ إنها ترجو ذلك.. فالقلق والخوف يملآن روحها.. ولكن راحة غريبة تشعر بها وهي برفقة تلك المجموعة المختلفة.. جو آخر يبعدها عما تحسه من جوع روحي، وهي في عالم تكاد تُغرقه المادة ويسيطر عليه الظلم.. ويطل عليه شبح الموت والدمار.. الموت الذي يخيفها، فمنذ رأته وهي طفلة عندما جثت بجانب جدتها المتوفاة.. وقد أصابتها قشعريرة غريبة عندما لمست يدها الباردة.. اليد التي كانت تمنحها الحنان والدفء والطمأنينة.. وانتهى الأمر في حفرة من تراب تضم إلى جانب التابوت الحشرات والديدان.. ذكريات تملؤها رهبة.. وتشعل ناراً من أسفل قدميها إلى رأسها.. وتكاد تختنق.. وانطلقت إلى خارج غرفتها.. حيث وجدت السيد سانج يبدؤها بالتحية.. فشعرت بشيء من الراحة.. وسألها:

- هل تريدين شيئاً.

- لا.. لا.. لا أريد شيئاً.. بل أود أن أعرض عليك أمراً..

- تفضلي اعرضي ما شئت..

وراحت آن تذكر له ما عرفته عن السيدة سماح والمعهد الذي تشرف عليه، وأنها ستستقبلهم لو شاء لتعرفهم على الإسلام.. وقد علمت أنهم يبحثون عن الحقيقة.. فأعلن موافقته.. وخرجت أنديرا في تلك الأثناء واستوضحت الأمر وشاركت بالموافقة..

استيقظت الدكتورة سماح على صوت الهاتف.. إنه من الوطن، نهضت مسرعة، وجاءها صوت أختها وبلغتها أنها بخير إن شاء الله، ويشرف على علاجها طبيب جيد، ولم يؤذن لها بالخروج من البلد بعد، وأن القضية تحتاج إلى وقت، الله أعلم بمداه، ولابد من الصبر، وتمتمت:

- اللهم ألهمنا الصبر واجعلنا من الصابرين، ويلهم! لماذا يكبلون الإنسان بالقيود؟.. مم يخشون!.. أي خطر تسببه لهم امرأة مريضة حرمت فلذات أكبادها، ودمرها القهر والظلم؟.. اللهم احرمهم الأمن والطمأنينة.. أو اهدهم سواء السبيل..

وقادتها الذكريات إلى ذلك اليوم الذي خرجوا فيه من الوطن فراراً من الظلم والبطش، الذي كاد يصل إليهم، لولا أن مشيئة الرحمن تداركتهم، وأعمت الأبصار والبصائر عنهم، حتى تجاوزوا الحدود ووصلوا سالمين إلى تلك البلاد حيث شعروا ببعض الأمن، بعد أن كانت الأخطار تتهددهم من كل جانب، وأقرباؤهم وأصدقاؤهم يُسحبون إلى السجون وتختفي أخبارهم، وتذكرت كيف وصلهم خبر من ذلك الشخص المخلص بأن يرحلوا إن استطاعوا، لأن الخطر يهدد الأسرة جميعها وخاصة الأب.. وتمتمت:

- اللهم فرّج الهمّ والغمّ عن المؤمنين، وامنحنا الأمن والإيمان..

وجاء زوجها علاء ومعه طارق ومنال يسألان ما الأمر؟.. فأخبرتهم بما ذكرته لها أختها.

قال الدكتور علاء:

لا بأس وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، لعل في ذلك مصلحة لها ولأسرتها، فلربما لو جاءت لمنعوها من العودة.. أو أعادوها إلى السجن.. أو الذهاب والإياب إلى مراكزهم حيث التحقيقات والمضايقات التي لا نهاية لها.

قالت سماح: الحمد لله على كل حال، ولننطلق الآن إلى أعمالنا.

وفي الطريق ابتعدت عن الواقع.. وطاف بها خيالها على الشخصيات الجديدة التي انضمت إلى المعهد ووعدت بالمساعدة المادية والمعنوية.. انتقلت من شخص إلى آخر وتوقفت عند آن التي تبحث عن الحقيقة.. ما أكثر الذين يلفهم الجهل ويعيشون على سطح الحياة حيث الزبد ولا شيء غيره.. ولكن لاشك أن هناك من يغوص في الأعماق ويصل إلى ما يريد..

وتذكرت منال سامي.. ترى من أي صنف هو؟.. إنها لم تتعرف عليه كما يجب.. هل هو رواد الحقيقة؟.. أم لا يزال بين السطح والأعماق.. ونبهها صوت طارق:

- ماذا بك؟! هيا بنا..

وانطلقا إلى مناهل العلم.. وهما توأمان واختارا نفس الاختصاص –الطب كأبيهما- وسيتخصص كل منهما في فرع من فروعه الكثيرة، وجاء المساء وبدأ رواد الدورة يتوافدون.. وها هي آن تدخل القاعة، إنها في شوق للقاء تلك الوجوه.. لأول مرة تشعر أنها في مركب آمن.. ترى هل اقترب اللقاء.. لقاء آن مع الحقيقة؟.. كم هي في شوق للاطلاع على كتاب المسلمين، سترى ماذا سيقولون عنه اليوم، لقد قرأت عن القرآن في كتب بعض المستشرقين فلم تجد إلا النقد والذم، وجاءها صوت المشرف على الدورة يحيي الحاضرين ويذكرهم بموضوع المناقشة:

- موضوعنا اليوم الكتب السماوية: التوراة، الإنجيل، القرآن.. وأكرر: المهم اللغة لغتنا الفرنسية وما المناقشة إلا وسيلة للوصول إلى اللغة السليمة، والآن من سيبدأ؟..

نهض أحمد: أقترح أن نناقش عدة أمور في كل من هذه الكتب: الإله.. الرسل، العلم والعقل، وهل هي وحي سماوي أم كتب بشرية؟..

قال المشرف: لا مانع ولنبدأ بمناقشة القضية الأخيرة أهي وحي أم لا؟..

وفكر عمر أن تركيز المشرف على قضايا الأديان يحيره.. لا بأس.. فالأمور تجري لصالح الدين الحق.

ونهض صحافي أمريكي يعمل بالتبشير قائلاً:

- حسب معلوماتي أن القرآن ألفه محمد ليخرج الناس من النور إلى الظلمات وأن 75% من القرآن مأخوذ من الكتاب المقدس.

قال أحمد: قبل أن أرد على ما قلت يسبقني سؤال:

- هل اطلعت على القرآن الكريم؟.. وهل اطلعت على كتابك المقدس بشقيه القديم والجديد قبل أن تصدر هذا الحكم؟..

قال الصحافي الأمريكي:

- لم أطّلع على القرآن، وإن قرأت بعض ما كتب عنه واطلعت إلى حد ما على الكتاب المقدس.

قال أحمد: أما أنا فأعرف قرآني وقد اطلعت على كتابكم المقدس ويمكنني أن أقارن وأرد، لقد بلّغ محمد صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه من ربه ولم يؤلفه، والقضية لا تحتاج إلى أدلة كثيرة، فمحمد أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يؤلف في حياته ولا حتى أسطراً قليلة من شعر أو نثر، ومع ذلك، فقد أعجز القرآن الكريم العرب أهل الفصاحة والبلاغة أن يأتوا ولو بسورة من مثله، مع أنه تحداهم ولا يزال يتحدى.. ومنكروه يلفهم العجز، لاشك أنه كلام الله ووحي السماء، وأنّى للبشر أن يأتوا بمثله..

قالت منال: وعدا ذلك فالنبي الأمي صلوات الله عليه لُقِّبَ بالصادق الأمين قبل النبوة لصدقه وأمانته، فليس من المعقول أن يصدق مع الناس ويكذب مع ربه.

قال عمر: من قرأ القرآن دون غرض وبموضوعية لابد أن يرشده عقله أنه وحي إلهي أنزله رب السماوات والأرض ليكون منهاجاً شاملاً للإنسان على هذه الأرض. بينما قارئ الكتب الأخرى يملؤه الشك وتعذبه الحيرة لكثرة ما يصادفه من تناقضات واختلافات.. وتحديات للعقل والمنطق والعلم.

قالت أنديرا: وهل ما ورد فيه، يخرج الناس من النور إلى الظلمات كما قال السيد؟

قال أحمد: إن هذه العبارة تملؤني عجباً.. إن النور الإلهي يملأ كل جوانب القرآن الكريم.. وهذا النور يكشف كل جوانب الحياة، كما ينير الطريق السوي لمن أراد الهداية وطلبها، كما أن أي تالٍ منصف للقرآن الكريم يحس بهذا الدور يملأ جوانب نفسه.

قال المشرف: ليتك تذكر بعض آيات القرآن الكريم لنسمع ونحكم.. طبعاً باللغة الفرنسية وليس العربية.

قال أحمد: لك ما تريد ولكن الذي سأنقله بالفرنسية سيكون ترجمة لمعنى الآيات.. لأن القرآن الكريم لا يُترجم، ولا تودّى معانيه كاملة إلا من خلال اللغة العربية، ولذلك أدعو من هو أقدر مني على تأدية هذه المهمة.

فنهض شاب مصري يدعى إبراهيم وهو مسيحي ويدرس اللاهوت يقول:

- لقد درست القرآن وتأثرت به وأستطيع أن أذكر لكم بعض الآيات منقولة المعنى إلى الفرنسية.

وذكر الآيات الآتية:

)سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم، يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون مالا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون( الصف 1 -3.

)تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور( المُلك: 1 -2.

)فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره( الزلزلة 7.

)يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير( المجادلة 11.

)والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان( الرحمن1 -8.

قالت منال: عجيب أمر هذا الشاب إنه نصراني ويعترف بنور القرآن.

قالت آن: لعله يبحث عن الحقيقة.

قال أحمد: ولعل القرآن الكريم غلبه.

قال المشرف: هذا جيد.. النور واضح في تلك الآيات.. وسأحاول الاطلاع على كتابكم.. وقد وعدتني الدكتورة سماح بالمساعدة.

قالت المبشّرة الإنكليزية نورما:

- لا بأس بما أوردتموه ولكن ما ردكم على القضية الأخرى.. هل كتابكم أخذ من كتابنا المقدس؟..

قالت الدكتورة سماح:

- لاشك أن هذه المقولة بعيدة كل البعد عن الحقيقة.. فالتوراة مثلاً بكل ما فيها موجهة لشعب مختار هم بنو إسرائيل، تذكر حروبهم وما جرى لهم من خير أو شر وما وجه إليهم من وصايا، وما وُعدوا به من أمور ستتحقق لهم في آخر الزمان، بينما القرآن الكريم موجه للناس جميعاً.. هو كلام الله سبحانه وموجه للعالمين والسورة التي نكررها في صلاتنا تبدأ بقوله تعالى:

)الحمد لله رب العالمين(.

قال أحمد: وفرق كبير أيضاً بين الأناجيل والقرآن الكريم، فالإنجيل يركز على الروح.. بينما يشمل القرآن الكريم كل جوانب الحياة وكل اتجاهات النفس البشرية.. ويضع المنهج الذي يحيط بكل أمور الحياة.. لقد أهملت الأناجيل الدنيا وشمل القرآن الكريم الدنيا والآخرة.

قال الصحافي الأمريكي: ليتك تذكر لنا بعض الأمثلة..

قال أحمد: مثلاً الحرب في التوراة حرب إبادة هدفها سيطرة شعب بعينه على كل أمم الأرض، وإليكم ما ورد في الإصحاح السابع من سفر الاستثناء:

"إذا أدخلك الرب إلهك الأرض التي تدخل لترثها وتبيد الشعوب الكثيرة من قدّامك.. سبع أمم أكثر منكم عدداً وأشد منكم، وسلمهم الرب إلهك بيدك فاضربهم حتى لا تبقي منهم بقية فلا تواثقهم ميثاقاً ولا ترحمهم".

فالله سبحانه في زعمهم قد أمر بإبادة كل ذي حياة من الأمم السبع التي تفوقهم عدداً دون شفقة ولا رحمة.

قال سانج: الأمر واضح، إنها حروب إبادة حتى للأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ.

قال أحمد: نعم حروب إبادة وهذا ما أكدته التوراة وأصرت عليه، ففي سفر التثنية أيضاً الإصحاح العشرون ورد ما يلي:

 "أما مدن هؤلاء الشعوب (الآموويين والكنعانيين واليبوسيين إلخ..) التي يعطيك الرب فلا تستبقِ منها نسمة" أي أثر لحياة ومن أراد زيادة فليعُدْ للتوراة ففيها الكثير من هذا النوع من الحروب.

قال عمر: هذا ما فعله الإسرائيليون في فلسطين.. والصليبيون في القدس حيث قتلوا فيها 70 ألفاً كما أراقوا قبلها دماء 60 ألفاً في معرة النعمان، بينما أهملت تعاليم المسيح كلياً لأنها أخذت الجانب المضاد تماماً، مثل قوله:

"من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر"..

أما قرآننا فقد التزم جانب العدل والرحمة معاً.

)يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم(.. (الحجرات 13).

)وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله.. ( (الأعراف 61).

قالت منال: وهناك أمر مهم فالحروب شُرعت في الإسلام لدفع الظلم وحماية المستضعفين ولو كانوا من غير المسلمين. قال تعالى:

)الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله(.

وقال تعالى:

)ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقويّ عزيز( (الحج 40).

فالمسلم مأمور أن يدفع الظلم والعدوان عن الجميع، ورُمز لذلك بدور العبادة ويلاحظ أن الصوامع والبيع ذكرت قبل المساجد.

قال المشرف: لاشك أن الفرق واضح بين القرآن والكتب الأخرى، ولا يمكن أن يكون القرآن مأخوذاً منها.. والآن لنعد إلى مناقشة صحة هذه الكتب ولنبدأ بالقرآن.

تمتم عمر: إن أمر هذا المشرف يحيرني..

قالت آن: لا داعي للحيرة، إنه يريد الحقيقة.

وتكلمت الدكتورة سماح:

- صحة القرآن الكريم وعدم تعرضه لأي تحريف أمر واضح وضوح الشمس في صحراء العرب، فهو الكتاب السماوي الوحيد الذي دوّن وحفظ خلال الثلاثة والعشرين عاماً التي توالى فيها نزول القرآن الكريم على رسول الله.. ومحمد صلوات الله عليه، هو النبي الوحيد الذي تولى إملاء القرآن الكريم على نخبة من الكُتّاب سُمُّوا كُتَّاب الوحي، وهو الكتاب الوحيد الذي حفظه الملايين من ألفِهِ إلى يائه.. وشهدوا على صحته وخلوّه من أي تحريف أو زيادة أو نقصان، وتناقلت الأجيال هذه الحقيقة.. فالقرآن واحد عند جميع الشعوب الإسلامية وفي كل أنحاء الأرض، لا اختلاف بين قديمه وحديثه ولو بحرف واحد. ومن أراد أن يتحقق من ذلك فالقرآن بين يديه.. القرآن الكريم هو الأثر السماوي الفذ الذي بقي مستعلياً على التحريف.

قال أحمد: أود أن أؤكد على ناحية مهمة وهي أن كلا الكتابين (التوراة والإنجيل) لم يدوّنا في عهد موسى وعيسى، ولم يمل أحد منهما كتابه.. ولم يطلبا من أحد حفظ ما يقولان ويفعلان، وتناقل البعض ما رأوه وسمعوه.. ومرّت سنون طويلة، وخطر للبعض أن يسجل ما سمع وما حفظ، وكثرت النسخ، وكل شخص دوّن ما سمع أو حفظ من خلال ظروفه وثقافته، وتنوعت النصوص وكثرت وتباينت، فضلاً عن ندرة الكتابة وضعفها في تلك القرون.

قالت الإنكليزية نورما:

- الذي أعلمه أن الكنيسة اختارت من بين عدد من الأناجيل ما ثبتت صحته، وهناك أناجيل كثيرة لم تعترف بها، فالإنجيل الذي بين أيدينا لاشك أنه صحيح..

وقال الصحافي الأمريكي:

- وبالنسبة للعهد القديم فقد اختارت منه الطائفة البروتستانتية وكذلك الأرثذوكس ستاً وستين سفراً من ثلاثة وسبعين سفراً، واعتبرت السبعة أسفار الأخرى مشكوكاً في صحتها، أما الستة والستون فهي صحيحة.

قالت منال: معنى ذلك أن الطائفة الكاثوليكية تعتمد أسفاراً محرفة مشكوكاً في صحتها.

قالت سلفا: لاشك أنه ثبت لدى الكنيسة الكاثوليكية أن تلك النسخ صحيحة فاعتمدتها، ولابد أن عندها البرهان على ذلك.

قالت آن: إن ما تقولينه عن كتبكم فيه الدليل الدامغ على تحريفها، وأنها ليست التي بلّغها موسى وعيسى فالأناجيل الأربعة اختيرت من بين سبعين إنجيلاً، والستة وستون سفراً اختيرت من بين ثلاثة وسبعين سفراً، إذن أنتم أنفسكم أتباع هذه الكتب تشهدون بأنها حُرّفت.

قالت فتاة نرويجية موجهة الكلام لآن: وأنت ماذا تتبعين؟..

قالت آن: لا أتبع أحداً.. إنني أبحث عن الحقيقة وسأجدها إن شاء الله.

قال الدكتورة سماح:

- أود أن أوضح أمراً هاماً، وهو أن النسخ الأصلية التي دوّنت بعد عهد عيسى عليه السلام بسنوات هذه النسخ قد ضاعت ولا وجود لها، والموجود بين أيدي الناس الآن هي تراجم فقط، وهذا ما يؤيده ويعترف به علماء اللاهوت أنفسهم، وهذه التراجم بينها اختلافات لا تُحصى، بينما القرآن الكريم دوّن كله في عهد رسول الله وبين يديه، وحفظ في الصدور، وانتقل بنصه الأصلي سوراً وآيات وكلمات وحروفاً خلال الأجيال المتعاقبة، من عهد رسول الله وحتى عصرنا هذا، وسيبقى كما هو حتى قيام الساعة، كما وعد الله سبحانه:

)إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون( (الحجر 9).

قال أحمد: وحتى هذه الأناجيل الأربعة التي اختيرت والتي تناولت الكتابة عن أقوال وأفعال سيدنا عيسى وتنسب إلى مؤلفيها.. إنجيل متى.. إنجيل لوقا.. إنجيل مرقص إلخ.. هي كالكتب التي ضمت سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ولا أحد يعتبرها وحياً، وقد قرر نقاد مسيحيون أن عقائد الإنجيل من صنع بولص وليست من صنع الحواريين، وعيسى عليه السلام كان يتكلم العبرية أو الآرامية، وأقواله نقلت برواية آحاد ولم تدون إلا بعد غيابه بفترة طويلة جداً.

قالت سلفا: كلكم تقرون أن الأناجيل قد حرفت ومشكوك فيها، كيف هذا وأتباع هذه الكتب موجودون في كل أنحاء العالم.

قال أحمد: لا شك أنهم يؤمنون بها دون أن يقرؤوها أو يناقشوا ما ورد فيها، وكيف وصلت إليهم..

وتذكر عمر معلومة مرت معه ولم يذكرها أحد قال:

- يجب أن لا ننسى أن نسخ العهد القديم ضاعت أثناء الغزو البابلي في عهد بختنصر بل أبيدت، وعندما أعادوا كتابتها ضاعت مرة أخرى في عهد أنتيوكس وهذا أمر يعرفه الجميع.

وتكلم المشرف: أحسنتم لا شك أن لغتكم تتحسن وربما حرارة الموضوع أدت إلى ذلك ولننتقل الآن إلى مناقشة "الإله" في كل من هذه الكتب. فليتفضل من يريد الكلام.

قال الصحافي الأمريكي لويس:

- الإله في العهد القديم "التوراة" والعهد الجديد "الإنجيل" إله واحد، خلق الأرض والسماء وأوجد البشر من خلال آدم وحواء، وخلق كل ما في الأرض ونحن نصلي له ونعبده.

وقالت المبشرة الإنكليزية نورما:

- وهذا لا يمنع أن الله واحد في ثلاثة هم الأب والابن والروح القدس، وأنه رحيم بنا إذ أرسل ابنه ليكون فداء لنا كما جاء على لسان يوحنا المعمدان في الكتاب المقدس:

"هذا هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم" 1-29 وقد صلب المسيح من أجل هذا لكي لا يهلك من يؤمن به وتكون للمؤمنين به وبصحبه الحياة الأبدية.

وتكلمت آن:

- لقد قرأت الإنجيل والتوراة مراراً فلم أجد فيهما ما تصبو إليه نفسي من تمجيد لله سبحانه، فالإنجيل يقدم ما لا يقبله العقل من ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة.. والتوراة تقدم لنا صورة مادية عجيبة لله. فتارة نجده مصارعاً وتارة يفعل ويندم وتارة أخرى يقول ويعد وقد ينسى إلخ..

وتكلمت فتاة ألمانية تدعى ليندا قالت:

- لست مسلمة ولكني عشت في بلد عربي مسلم فترة من الزمن برفقة والدي الذي كان يمثل البلد هناك، ولمست عن قرب وضوح عقيدة المسلمين في الإله.. فالإله عندهم واحد أحد ليس كمثله شيء، خلق كل شيء وهو رب كل شيء، والكل عبيده، وأنا أقرأ الآن ترجمة للقرآن الكريم، وأزداد اقتناعاً بأن الله في القرآن إله يتقبله العقل والقلب معاً، وفي ظل الإيمان به يجد الإنسان الراحة والطمأنينة.

وعرف شاب مصري بنفسه:

- اسمي إبراهيم مسيحي من مصر.. أدرس مقارنة الأديان.. هدفي كما قال الذين وجهوني للدراسة وأمدوني بالمال أن أحارب الأديان وأرفع من شأن ديني.. ولكن للأسف الشديد فوجئت أثناء دراستي بأمور كثيرة منها ما يختص بموضوع نقاشنا، وهو أن الإله في العهد القديم هو رب بني إسرائيل فقط وهم شعبه المختار من بني إسرائيل، وهذا تجده مبثوثاً في كل أنحاء التوراة، ففي الإصحاح (43 أسفيا) يخاطب الله شعبه قائلاً:

"كل مكان تدوسه أقدامكم يكون لكم.. وقد اختارك الرب لتكون شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض".

وفي (أشعيا 49):

"هكذا قال الرب ها أنا ذا أرفع إلى أمم الأرض يدي. إلى الشعوب أقيم رايتي.. فيأتون بأولادك في الأحضان وبناتك على الأكتاف يحملون.. ويكون الملوم حاضنيك.. وسيداتهم مرضعاتك.. بالوجوه إلى الأرض يسجدون لك ويلحسون غبار رجليك.."

إذن تلحس شعوب الأرض تراب نعل إسرائيل بأمر الرب، ويلح على سؤال الشعوب الأخرى من ربها؟...

عمر: لقد شعرت بعمق بفضل ديني، وأنه نعمة كبرى يجب أن أشكر الله عليها في الصباح والمساء.. استقر هذا الشعور في أعماقي بعدما قرأت خلال الأيام السابقة في ذلك الكتاب الذي يؤمن به اليهود والنصارى، ولمست ما بث فيه من عنصرية وتحريف، بينما القرآن يذكرني دائماً أن الله رب العالمين وأن رعايته ورحمته تشمل الناس جميعاً، فأنا أكرر في صلاتي يومياً "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم.." وأستعيذ برب الناس من كل شر فأقول كما أمرني ربي: "قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس.." برب الناس لا برب العرب ولا برب غيرهم وإنما برب الناس جميعاً.

ونظرت آن إلى عمر وقد غمرت وجهها مسحة من الاقتناع والرضى، وفي أعماقها تساؤل:

"ترى هل بدأت الحقيقة تنكشف؟

إنها تشعر باقترابها منها.

قال أحمد: لا شك أن لإله العهد القديم الذي يؤمن به اليهود والنصارى معاً صفات أخرى تجعل العقل في حيرة.. فهو يندم لأنه خلق الإنسان كما ورد في سفر التكوين الإصحاح السادس:

"فندم الرب على عمله الإنسان على الأرض.. وقال: امحوا البشر الذي خلقته.. حتى الحيوانات من الدبيب حتى طير السماء.. لأني نادم أني عملتهم".

قالت الدكتورة سماح:

- وهناك ما هو أكثر من ذلك فالله عندهم يتعب بعد أن خلق الكون ويستريح في اليوم السابع ويطرد آدم وحواء من الجنة لأنهما أكلا من شجرة المعرفة وأصبح بإمكانهما منافسة الله سبحانه في علمه ومعرفته، ويخشى أن يأكلا من شجرة الخلود أيضاً فلا يموتا، ويندم مرة أخرى لأنه أغرق الأرض وأهلك من فيها بالطوفان، ويعاهد نوحاً أن يفعل هذا مرة أخرى ولكنه قد ينسى –أستغفر الله العظيم. الله سبحانه ينسى؟... وعندئذ سيتذكر عهده لنوح عندما يرى قوس قزح الذي أوجده خصيصاً ليذكره بعهده.. هذا ما تقوله التوراة التي حرفوها ومن أراد المزيد فليرجع إلى سفر التكوين في العهد القديم، والحقيقة أن المسلمين اليوم أمة التوحيد بل أبطال التوحيد النقي في العالم كله.

قالت آن: وهناك ما هو أكثر غرابة وهو ما ورد في الإصحاح (32) من سفر التكوين من مصارعة تمت بين إله التوراة ويعقوب، وامتدت إلى طلوع الفجر ولم ينتصر فيها أحد، وإن الإله لم يستطع أن ينطلق فقال ليعقوب اطلقني، ويعقوب لم يطلقه إلا بمقابل وهو أن يباركه ذلك الإله العجيب.. إنها المادية المطلقة، رسموا بها صورة عجيبة للإله الذي يزعمون أنهم شعبه المختار.

قالت المبشرة نورما:

- لا جواب لي على ما ذكرتم، والقضية تحتاج إلى من هو أعلم مني وقد غرستم في أعماقي تساؤلات كثيرة لا بد لها من جواب.

قالت سلفا: إن الإله الذي أرسل لنا ابنه ليكون لنا فداء يستحق أن يطاع ويعبد.. وهو إله واحد في ثلاثة، أحبنا وخلصنا من الخطيئة، ويجب أن نحبه ونخلص له.

قالت الفتاة الألمانية ليندا: إن ما يحيرني في العقيدة المسيحية وإن كنت لا أزال ملتزمة بها، قضية الفداء هذه.. ثم هذا الإله الضعيف الذي يخاف ويختبئ ويهرب خوفاً من الصلب.. وهذا الأب القاسي الذي لا يلين لصرخات ابنه مع أن بإمكانه أن ينقذه من أيدي الظالمين، ثم يعفو ويسامح ويتجاوز عن أخطاء عباده لو شاء ذلك فإذا كان البابا يستطيع أن يمنح صكوك الغفران لمن يشاء، وقد منح اليهود صك الغفران وبرأهم من دم المسيح، فكيف يعجز إله البابا عن ذلك؟..

هذه أسئلة تضج بها أعماقي.. ولا أجد لها جواباً..

قال عمر: ذكرتني كلماتك بأبيات أبي العلاء التي يقول فيها:

عجبي  للمسيح  بين النصارى
ليت شعري وليتني كنت أدري
 


 
كيف   قالوا   إن   الإله  iiأبوه
ساعة  الصلب أين كان iiأبوه؟!
 

وتدخل المشرف قائلاً:

أظن أننا تجاوزنا الوقت المخصص، وسنتابع الموضوع في الندوة القادمة.. وأدعوكم يوم السبت القادم لرحلة بحرية في ضوء القمر تكونون فيها أحراراً وتدعون من تشاؤون لمرافقتكم، ومن يريد الاشتراك فليسجل اسمه.

وقرر الجميع المشاركة في الرحلة.. وكانت الهولندية سيلفا أكثرهم اهتماماً وسعادة بما عرض عليهم المشرف.

يتبع...

     


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة