اقبل الليل ، بعتمته وسكونه اقبل ، بثقله وهمومه . الآن يبدأ السمر ، صحيح انه مرّ إلا انه سمر ، و له بداية .. أطبق الليل شفتيه ، فعم الصمت و عام به الليل فأغرق الدنيا بالسكوت .
لكن اليوم الخميس و ليس ليله كأي ليل ، فهناك شعائر زوجية تمارس و تقام طقوس زاخرة بشهوة الأجساد ، وأرواح تنعش بالحب .. أو أللا حب .
عاد إلى البيت عابس الوجه ، يرفل بجلباب لونه رمادي اقرب إلى لون الفئران ، ألقى بطاقيته المخرّمة على كرسي خشبي متآكلة أطرافه و قاعه مخزوق . تقدم بضع خطوات و ألقى نظرة متفحصة ملية على وجوه كومات لحم نائمة مبعثرة بعشوائية و يختلط فحيح أنفاسها الساخن ليخدش هيبة الصمت ، ثم تراجع خطوات قليلة وعلى الحصير تربع . اسند ظهره إلى الحائط المتسخ بالبقع والخرابيش ، و اخذ يصغي لنقرات الماء في الحمام ، و هسيس رشقاته المنسكبة على جسد زوجته ، ويحدق في السقف الموشوم ببيوت العناكب و الممهور بالهبو .
خرجت زوجته من الحمام و قد تدلى شعرها المبلول يقطر و يغطى وجهها المدّور ، ورائحة الشامبو الرخيص تفوح ، وقد لفت جسدها بفوطة كبيرة ، فطوقتها من أعلى صدرها إلى أسفل ركبتيها ، ما أن رأته حتى فلت من فمها رشقات الضحك الرنان المتبوع بغنج ، و أضاء وجهها مثل الشنبر .. فلم لا تضحك ؟ فكل شيء على ما يرام ، فنهار الخميس قد انقضى وجاء الليل ، هي ليلة الجمعة ، و الزوج زوجها و موجود أمامها بعظمه ، صحيح انه بلا أي شحم أو لحم و لكنه زوج والسلام .. و أكوام اللحم تغط في سبات عميق ، إذن كل الظروف مهيأة لهذا الوقت المنتظر من أسبوع على أحر من الجمر .. كانتظار الأرض العطشى لماء المطر .
اقتربت منه حتى التصقت به ، و أخذت تتدلل عليه و تتثنى بجسمها الأهيف و مالت عليه ، فأخذ يتأوه ...
- أي .. أي .. أي يا فتحية .. راسي يتفجر بالألم .. الدنيا تدور من حولي . أي يا ظهري .. ظهري يؤلمني يا فتحية .
- سلامتك ألف سلامة .. بعيد الشر عنك .. إن شاء الله بسيطة .. سأغلي لك بابونج .
- عيوني يا فتحية .. عيوني مزغللة .. أحس أني احتضر .. نفسي مكتوم .. مفاصلي منملة و مرتعشة يا فتحية .. كأن عظامي تسحب من لحمي .
- إن شاء الله أعداءك .. تعال .. تعال استرح في الفراش . وسأحضر لك الطبيب حالا .
جاءت فتحية بالطبيب ، فأوصى بالمقويات والفيتامينات ، و الإكثار من أكل اللحوم و الأسماك ، فالزوج مصاب بسوء التغذية و دمه في غاية الضعف .. للحظات شعر بأن روحه تغلي، فهو لا يملك النقود لشراء الأدوية و الطعام ، و تحولت ليلة الجمعة إلى وبال . مر بخاطره أيام كان قويا و يهدّ الحائط بقبضة يده .. راحت أيام زمان و ألآن زمن الحصار .. الأجساد محاصرة في غزة والأرواح محبوسة و الأفكار مضغوطة في جماجم الناس .. كل الأيام مثل بعضها .. و لكنها بلا يوم الخميس . صوب نظرة ملية إلى فتحية و اخذ يتمتم ...
- من أين لنا بالنقود يا فتحية ؟ الم يستطع هذا الطبيب أن يوصي بشيء آخر غير اللحوم والأسماك ؟ ليته أوصى بالباذنجان ، أو العدس مع بصل اخضر أو حتى ناشف، نحن في حصار يا فتحية .. حصار يمص العظم و يذيب اللحم في الإنسان .
- وكّلها لله .. ربنا يجازي من كان السبب .
- منذ أسابيع وأنا ابحث عن عمل ولم أجد .. تكسرت قدماي و أنا ألف وأدور و لم احصل على أي نكله يا فتحية .. و الأسعار مرتفعة جدا .. خاصة اللحوم و الأسماك .
- سأبيع الثلاجة .. لا حاجة لنا بها .. فهي فارغة على الدوام و قد عششت بها الصراصير وباضت .
- لا يا فتحية .. خسارة .. لا تفعلي ذلك .. فهي من رائحة المرحوم .
- ليست خسارة بك ، صحتك بالدنيا .. أنت أغلى عندي من كنوز الأرض .
غرق الزوج في النوم ، و تمددت فتحية بجانبه مفتوحة العينين تفكر في تدبر النقود ، تريد القليل منها ما يكفي للطعام و العلاج ، كي يسترجع زوجها ما فقده من لحم وشحم وعافية ، و أيضا كي يتسنى لها إحياء ليلة الجمعة .. هي لا تطمع إلى أكثر من ذلك .. أبدا لا تطمع .
*****
في الصباح باعت فتحية الثلاجة .. نعم باعتها . وعادت إلي البيت تئن بحمل سلة مليئة باللحوم والفاكهة والخضار ، و الأدوية و المقويات . شمرت عن ساعديها و باشرت الطبخ والنفخ ، فتعبق البيت بالروائح المتطايرة المبثوثة من الطناجر ، و زوجها يصغي ويطرب لقعقعتها ، و يتنسم روائح الطهي بكل خلية من خلايا رئتيه ، و يستنشق رائحة تقلية الثوم المشتهاة بفتحتي انفه الواسعتين ، كأنه يخشى عليها أن تضيع هدرا .. فهي روائح كاد أن ينساها .. وثمنها باهظ .
مع مجيء يوم الخميس التالي كانت القوة قد دبت بالزوج ، و اشتعل بالنشاط ، فأخذ وزوجته ينتظران الليل بلهفة و شوق ، كما يتلهف الصائم ويشتاق لأذان المغرب .. ذهب بهما الليل إلى أسراره و ذهبا به إلى سرهما .. توهج بهما الليل و توهجا به .. امسك الزوج الجردل البلاستيكي و اخذ ينقر قاعه و يطبل . ثم صاح ...
- الله يلعن أبو الحصار .. هيا يا فتحية .." حزمي وسطك .. ارقصي يا فتحية .. ارقصي" .
- أنا ! .. ارقص ! .. عيب !.. يا عيب الشوم .
- هنا بيتنا .. أنا زوجك .. هيا يا فتحية .. "هزي خصرك .. ارقصي ".
- نحن في حصار ! نحن فقراء .. ماذا سيقول الناس ؟
- أكثر أنواع الموت موتا يا فتحية هو الفقر . هل سنصبح أغنياء أو يفك الحصار إن لم ترقص يا فتحية . هيا .. هيا .. نفسي افرح و أسلطن .
رقصت فتحية .. وانقضت الليلة على خير ما يرام ، لقد شبعت الأجساد وانتعشت الأرواح .. أي وفقا للخطة الأسبوعية .
*****
هكذا أذن أصبحت ليالي الجمعة .. كل ليلة تعني بيع أي شيء من أثاث المنزل .. لقد باعوا كل شيء حتى الغسالة الصدئة والتلفزيون الخربان ... لم يتبق لديهم ما يمكن بيعه .
- يعني يا فتحية لازم نبيع أي شيء كي نعيش حياتنا الزوجية .. أنا احسد الحيوانات فهي لا تبيع أي شيء و تمارس الزواج على كيف كيفها مجانا .
- هل تتمنى أن يسخطنا الله إلى حيوانات .
- لا. أبدا .. لكن الحيوانات ليست محاصرة مثلنا .. وهي ليست فقيرة .
- أنا بصراحة أتمنى أن يسخطنا الله إلى قردة في الغابة . ماذا سنفعل لو أصاب احدنا المرض لا سمح الله ؟
- قال بحرارة : عندها سأبيع دمي يا فتحية .
- أبقي عندك من دمك ما يكفي أن تعيش ؟ .. دمك القليل ضعيف و في طريقه إلى النفاذ .
جاء يوم الخميس مسرعا هذه المرة ، كأنه قفز عن بقية أيام الأسبوع .. اخذ زوجها يدلعها و يناغيها على ضوء الشمعة ، فلمعت قرعته المبتلة بالعرق ، و خياله الكبير على الحائط يقفز و يتحرك كالغوريلا . اقترب منها و أخذها بين يديه ليحضنها فصرخت : أي .. أي .. أي يا راسي .. راسي يتفجر بالألم .. الدنيا تدور من حولي .. أي يا ظهري .. كأن عظامي تسحب من لحمي .
Magdi_samak@yahoo.com


المراجع

ssrcaw.org

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة