اللّحظَةُ الأَخِيرَة 

قَبلَ اعترافِ الرّئيِس

 

بدأ مالك يشعر أنه على وشك تحقيق حلمه الذي رافقه منذ نعومة أظفاره … فلم يعد هناك سوى شهر واحد ، ويجتاز امتحان الثانوية العامة ، ويدخل الكلية العسكرية ليصبح ضابطاً… كان مغرماً في طفولته بتمثيل دور الضابط الذي يلقي القبض على اللص ، وإذا أراد أقرانه أن يفسدوا عليه اللعب أو يجعلوه يستشيط غضباً فما عليهم إلاّ

كانت قريته الغافية على ضفاف نهر الفرات والقريبة من حدود بلاده مع العراق تمنحه فسحة مترامية الاتجاهات مستطيلة الأبعاد للتأمل والإحساس بلذة تحقيق الأماني... كان بريق النجمة على كتفه ينسيه في بعض الأحيان غياب الشمس... غير أن زميله سميراً كثيراً ما ينغص عليه تلك الأحلام الوردية البنفسجية أو العنيفة... وكانت لذة سمير في المشاكسة بإظهار وتعرية رومانسية أحلام مالك وأفكاره... وحقاً لقد نجح سمير في تحقيق انتصار ساحق على مالك عندما خالفه في رأيه بإمكانية انتصار صدام على أمريكا ، وثقته المطلقة بشخصية صدام القوية وقدراته الخفية ، واجتهاده خلال ثلاث عشرة سنة على الإيقاع بالجيش الأمريكي وإبادته وكانت ثقة مالك تهدر بكلماته الأخيرة التي يختم بها حديثه : سترى المفاجأة الرهيبة يا سمير !!... أجهش مالك بالبكاء وهو يرى الجنود الأمريكان يدخلون بغداد بدبابتين... انعقد لسانه وجحظت عيناه ترشقان الدمع بفوضوية صامتةٍ قبل أن تتوارى بين يديه لتحجب مساحة واسعة من قدرة مالك على التفكير بما جرى تاركةً لأمنياته أن تنسل على استحياء إلى خياله المتعب… لعل صدام قد خدعهم ، لعله أعدَّ لهم خطة محكمة لاستدراجهم وإبادتهم... بيد أن الأيام القليلة اللاحقة كانت كافية لتسفيه معظم أمانيه ، لتبقي له بعض الأمل في حدوث معجزة تغيّر ما يقوله الواقع... قال لسمير بكلمات محبطة متدافعة بتثاقل وبرود : ربما يكون وراء اختفاء صدام أمرٌ عظيم ، صدام له تجربة في هذا المجال ، وأظن أنه يخفي معه قواته الضاربة تلك التي كنا نسمع عنها الكثير الكثير ، وأمام تظاهر سمير بالاهتمام بكلام مالك بدأت الحرارة تعود إلى نبرته فاستعدل في جلسته ليواجه زميله الصامت قائلاً : غداً سترى بأم عينك كيف يخرج إليهم ويأتيهم على حين غرة ومن حيث لا يحتسبون ، أنا على ثقة وإحساسي لن يخيبني... فانفجر سمير بالضحك واختلطت قهقهاته بسعال قطَّع أوصال أنفاسه ، فاستلقى على ظهره ، وهو يجاهد لسانه ليقوى على ترديد : هذا إن عاد جدي من القبر... امـتلأ مالك غضباً ، وكاد أن يضرب سميراً بالكتاب وهو ينهض مبتعداً عنه يدمدم بكلمات متناثرة الألفاظ والمعاني ليحسم الموقف مع سمير بأن يدعه لنفسه، وأن يتوقف عن إثارته ، وأن يكون ذلك آخر مرة يخلط فيها الجد بالهزل في حوارهما وإلاّ… كان غضب مالك وجدية كلامه كافيين لإيقاف ضحك سمير وجعله ساذج الاعتذار عمّـا بدر منه… غير أن مالكاً لم يلتفت له ، وتظاهر بأنه منهمك بالقراءة تاركاً ليده أن تقطع بعصبيّة الأعشاب الندية وتنثرها على صفحة مياه النهر ، وكلما استذكر أحلامه الجميلة التي كان يرسلها عبر النهر المنساب نحو العراق أثناء الحرب زاد انفعاله في رميه بتلك الأعشاب وتعرية التراب الرطب تحت سطوة يده… استرق نظرة من سمير فرآه غارقاً بالصمت والقراءة ، فنفث نفساً خانقاً محتقن الحرارة قبل أن يبدده إحساسه بشيء من البرودة والنعومة، وهو يمسح بكفه نباتاً عارياً من الأوراق غضاً يمتد ملتوياً إلى جانبه ، كان شيئاً لم يعهده ملمسه من قبل… اقتلع الغصن وكسره فخرج منه ماء أصفر اللون ؛… تذكر قصة روتها له جدته حين كان ينام على ساقها قرب المدفأة مستمتعاً بأحاديثها قبل أن يغط في نومه العميق ، لقد حدثته عن ماء في شجرة غريبة يسكن في أحد جذورها يخفيه زعيم الجن ، يجعل الإنسان الذي يشربه قادراً على الاختفاء عن الأنظار ، ويمنحه القدرة على الانتقال إلى أي مكان يريد بسرعة البرق ، وقادراً على الاطلاع على أحاديث الآخرين وأسرارهم… أخذ الغصن متردداً فكسره وشرب الماء على عجل قبل أن يسقط من الغصن على الأرض… سمع صوتاً يهمس في أذنه : ستختفي يا مالك لمدة ثلاثين يوماً ، وبعدها سيجف هذا الماء في جسمك فتعود كما كنت… نهض على صوت سمير يناديه :

مالك – مالك ، أين أنت يا رجل ، بالله عليك أن تخرج لأراك... ماذا تفعل يا أخي ؛ لقد كبرنا على هذه الألعاب والحركات… أدرك مالك فرحاً أن الأمر حقيقة، وأن سميراً لا يراه رغم أنه يقف أمامه… فكشف له السر وهو يصارحه بعفوه عمَّـا بدر منه مقابل الائتمان على هذا السر ، وأن لا مكان للهزل والمزاح ، فالموضوع خطير وأمامه ثلاثون يوماً فقط لإنجاز مهمات كثيرة ومتشابكة…

كان الطريق الزراعي إلى البيت كافياً لوضع خطة محكمة لإبادة الجيش الأمريكي عن بكرة أبيه في العراق ، لكنه لم يجد أحداً من أهله في البيت ، كان منظر البيت من الداخل يوحي بأن أهله قد غادروا رغماً عنهم وعلى عجلة من أمرهم ، فانسل إلى بيت الجيران ، فسمعهم يتحدثون بأن رجال الأمن قد اعتقلوهم بصورة مهينة... وفي لحظة كان بينهم وراء القضبان... لم يصدق للوهلة الأولى ما تقوله أمه بأن صديقه سميراً قد أخبر الأمن بسره ، فظنوا أنه التحق برجال المعارضة الذين يختبئون عن أعين المخبرين... كاد أن يضرب رأسه بالقضبان الحديدية ، حاول جاهداً أن يمسك بكلمة واحدة تعبر عن عمق مرارته... كانت شفتاه لا تطاوعانه على النطق كان يصرخ لكن صوته يتلاشى في فمه... حمل نفسه بعصبية إلى غرفة مدير الأمن ، فلم يجده ، فازداد غيظاً قبل أن يفاجئه صوت من خلفه يقول : ما هذا الطين الذي يلوث الأرض ؟! من هذا الحقير المتخلف الذي يمشي بحذاء كلّه طين في الممر وغرفتي ؟ فأجابه : أنا… أعوذ بالله هل هناك من يختبئ تحت طاولتي… لا أنا صاحب الحذاء الطيني… من المتكلم هل في غرفتي جني ؟… جني يأخذ عقلك يا مجرم… تسمَّر الضابط في مكانه ، ولم ينبس ببنت شفة قبل أن ينهال عليه مالك بالحذاء على رأسه ، وقد عقدت الدهشة لسانه وارتعدت فرائصه ، وهو لا يرى من يضربه ، فاستجاب له بكلمة حاضر حاضر ملبياً طلب مالك بأن يسير أمامه ويفتح باب السجن ويفرج عن أهله… كان عناصر الأمن في حيرة من أمرهم ، لم يفهموا شيئاً ظنوا أن رئيسهم قد أصيب بانهيار عصبي ، وهم ينظرون إليه ، والطين على وجهه ورأسه مسرعاً مرتبكاً نحو باب السجن لا يقوى على فتح القفل بيدين مرتعشتين وهو يعتذر من أهل مالك… كادوا أن يشكوا في أنفسهم إن كانوا حقاً قد سمعوا صوتاً خفياً يقول لرئيسهم : إياك أن تكررها ، لكنهم كانوا على يقين وهم يستمعون إلى رئيسهم يحدث نفسه : أبداً يا سيدي والله لن أكررها… أوشكوا أن يسقطوا على الأرض وهم يتدافعون إلى الوراء أمام سيارة مديرهم وهي تنطلق بسرعة من غير سائق تحمل أسرة مالك… كان هذا الانتصار كافياً لتغيير خطط مالك ، فأبلغ نفسه أن تنتقل إلى العاصمة ، وتنسل إلى دائرة المخابرات العامة… وهناك راح يفتش بالأوراق السرية ، فوقع نظره على بريد رئيس الجمهورية، وعلى بريد رئيس المخابرات… فالتهم الكلمات غير مصدق… مئات التعليمات حول التعذيب الجسدي والنفسي ، بعض فنون هذا التعذيب سمع بها وبعضها لم يسمع بها ولم يستطع استيعابها، وتعليمات أخرى عن تكليف ضباط يُشهد لهم بالمهارة على تشكيل أحزاب دينية وعلمانية وما بينهما وتسليط الأضواء عليهم وعلى بطولاتهم… توقف عند تقرير يتحدث عن نجاح المخابرات في إسقاط شخصيات مهمة وتشويه سمعتهم ، وعن إبراز آخرين عملاء… نظر إلى سجل مكتوب عليه خاص وسري للغاية يحمل أسماء عملاء سريين فأحس باضطراب وانفعال وهو يمر على كم هائل من أسماء المرتبطين بالمخابرات من سياسين معروفين وأساتذة وأطباء ومهندسين ورجال دين وصحفيين وفنانين ، وباعة متجولين ، ومومسات وقوادين وباعة يانصيب ، وماسحي أحذية ، وشاذين ومرضى نفسيين… التقط سجلاً يحمل أسماء معارضين أعدموا أو قضوا تحت التعذيب وآخرين غيِّبوا . وعثر على أوراق مترجمة عن لغات أجنبية تحمل اسم دوائر أمنية عالمية تتحدث عن خطط ونظريات علمية في الحكم والسلطة وتعليمات جديدة حول حرية الرأي ، ومناهج التثقيف والتعليم والتنفيس ، والمسح الجغرافي للمناطق في المدن ، وتغيير السكن ، ومنح تأشيرة الدخول للعرب والأجانب ، ومدة إقامتهم ، والتضييق على المواطنين العرب والتجسس على مكالماتهم وتحركاتهم وحدود السماح لهم بالعمل ، وأخرى توضح سياسة الدولة مع الدول العربية والأجنبية وما يجب إظهاره وإخفاؤه منها ، وعن الإعلام وأساليبه وخداع المواطن واستغلال عواطفه ومستوى وعيه ، وعن الاقتصاد وسياسة التجويع وأسلوب الاستيراد والتصدير ومحاربة الإرهاب الدولي ، وعن مسيرة السلام مع إسرائيل ومراحلها والمسموح به أو الممنوع منه… ضرب يده على رأسه وهو يقرأ من السي آي أي ، وأخرى من الموساد… إلى رئيس المخابرات يرجى الإلتزام بدقة وبسرعة عالية في تنفيذ تعليمات هذه المرحلة… لم تعد عيناه قادرتين على حبس دموعه التي اندلعت تحجب عنه الأوراق ، فانسل خارج الدائرة متجهاً إلى إحدى الحدائق وهو ينظر إلى المارة وقد بدوا أمامه كالزوج المخدوع… ألقى بنفسه مستلقياً على عشبها الندي يشغله التفكير بما رآه عن رطوبة الأعشاب ومنظر الفلاح وهو يرشها بالماء ، فراح يفكر بقتل جميع الزعماء ، وتصفية كل من له يد في تعذيب المواطن والتآمر على الوطن… فانهالت على دماغه المنهك عشرات الأسئلة المتشابكة والمزدحمة… من سيكون البديل ؟… كيف سيكون العالم وترتيبه الجديد ؟ كم سيقتل من العملاء ؟ من أين سيأتي بمؤيدين نزيهين؟ هل يبدأ بفلسطين أم العراق ؟… كان قريباً منه رجل يستمع إلى نشرة الأخبار ، فاستوقفه خبر يقول : بأن السيد توني بلير سيلتقي بالسيد جورج بوش الابن غداً في البيت الأبيض قبل أن يذهبا معاً إلى كامب ديفـيد… فقرر فوراً أن يبدأ بهما قبل أن يفكر بخطة محكمة سريعة الحل… اختراق أسوار البيت الأبيض هازئاً بالحرس والكاميرات وأجهزة التفتيش ، كان شيئاً عجيباً في تصميمه الهندسي ، وتقنياته وزخرفته وأثاثه… كان بودِّه أن يمنح نفسه مزيداً من الوقت للتمتع بتفاصيل محتوياته ؛ غير أن ضحكات بوش وبلير أفسدت عليه تلك المتعة ، فوقف أمامهما ليطلعهما على حقيقته التي سمعوا بها عن طريق أجهزتهما السرية كشيء من خرافات العرب التي تتألق عادةً في الأزمات الكبيرة ، فغمرته نشوة القوة وهو يتلذذ بتوسلاتهما ، وطلبهما العفو والمغفرة… فكان رده صارخاً بهما برباطة جأش: لا، ليس قبل أن تجيبا على أسئلتي دون أن تنسيا أني أطلع على أسراركما… هل ذهبتما بهذه الجيوش إلى العراق من أجل تخليص شعب العراق من ديكتاتورية صدام وامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل وتعريضه العالم للخطر؟… لا ليس الأمر كذلك كما تعلم، وإنما كان هذا مجرد حجة لاحتلاله… إذن لماذا كانت هذه الحرب ؟ هيّـا أجيبا ولاتترددا قبل أن ينفد صبري… كان الصوت يزحف مشلول اللفظ يتدافعُ ببطءٍ في أذنيه… هيّـا يا مالك… هيّـا يا ولدي… الحمد لله على سلامتك…

آ…آ… أين أنا ؟… أنت في المستشفى يا ولدي لدغتك أفعى سامة ، ونقلناك في حالة هذيان شديد ، وقد مضى عليك ثلاثة أيام وأنت فاقد الوعي . 

     


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب   الآداب   قصة