الفصل الثالث
قيود.. ورماح
كانت قضية المال هي الشغل الشاغل للشيخ
طراد وإخوته، على أبواب الشتاء، وكان الشيخ طراد ينقل إلى أخويه أولاً بأول أحاديث
الكولونيل "لوفنتال" وإنذاراته، بصفته شيخ القبيلة، والمؤهل الوحيد بهذه الصفة،
للإتصال بالجهات الخارجية، من مندوبين حكوميين، وزعماء قبائل وغيرهم..
وكان أخواه مسعود ومرهج، وهما أخواه
الشقيقان، والباقيان على ولائهما له والخضوع لزعامته.. على علم تام بالموقف الحرج
الذي وقعوا فيه جميعاً ووقعت فيه القبيلة بأسرها معهم.. كان الشقيقان يعلمان
بتهديدات الكولونيل من أخيهما الشيخ طراد من جهة، ويعلم كل منهما، من جهة أخرى
خاصة، لا بتهديدات الكولونيل وحسب، بل وبإغراءاته أيضاً.. فقد كان كل منهما على صلة
سرية بالكولونيل، من وراء ظهور الآخرين.. وكان الفضل في هذه الصلات السرية الخاصة
يعود إلى لوفنتال نفسه، الذي حرص على إقامة جسور خاصة بينه وبين كل زعيم من زعماء
القبيلة على حدة..
وقد طلب الشيخ طراد من شقيقيه، عقد
لقاء خاص لبحث الأزمة، واختيار الحل المناسب الذي يتفقون عليه، للخروج من الورطة،
أو الخروج من بين "مطرقة لوفنتال.. وسندان عباس" كما قال بعضهم..
والتقى الاخوة الثلاثة..
كانت الأفكار المشتركة فيما بينهم
واضحة لهم جميعاً.. وكان اتفاقهم على تحديد عناصر المشكلة سهلاً من هذه الناحية..
إلا أن الأفكار الخاصة بكل منهم، والتي نشطها لوفنتال وغذاها، تشكل لدى كل منهم
محوراً آخر من محاور اهتمامه، يعتبر بالنسبة إليه هو المحور الأساسي، والمحور العام
المشترك هو المحور الاحتياطي. وكان هذا أظهر ما يكون لدى مسعود، بيد أنه يحاول
تغطيته وتمويهه بأساليب خاصة، يلونها بحرصه الشديد على المصلحة العامة، مصلحة
القبيلة.. وكان مرهج يأتي بعد مسعود في هذه الثنائية المحورية.. أما طراد فكان
أقلهم إحساساً بهذه الثنائية، وذلك أن المحورين الأساسيين في ذهنه، محور القبيلة،
ومحور زعامته لها، متطابقان في أعماقه، ويكادان يشكلان محوراً واحداً "القبيلة
طراد، وطراد القبيلة" لولا ما أصاب هذا المحور من اضطراب في الآونة الأخيرة، بسبب
تصرفات بعض اخوته..
افتتح الشيخ طراد اللقاء بقوله:
القبيلة في خطر.. المال شحيح، والشتاء على الأبواب.. ولوفنتال يهددنا بقطع
المساعدات والهبات.. وعباس المدلول يحرض أبناءنا وعبيدنا ضد فرنسا، ويحضهم على
عداوتها باسم الدين.. والظرف صعب، ويحتاج إلى حل مناسب، في أقرب وقت..
سكت الشيخ طراد، ونظر إلى أخويه
يستحثهما على الكلام.. فنظر كل منهما إلى الآخر، ينتظر منه أن يتحدث، فقال طراد:
تكلم يا مسعود أنت أكبر من مرهج..
كان مسعود في السابعة والخمسين من
عمره، ومرهج في الخامسة والخمسين.. تنحنح مسعود وقال بصوت هادئ عميق: والله إن
المشكلة عويصة.. وتحتاج إلى حزم وتصميم.. وقاتل الله طيش الغلمان..
صمت مسعود، وأخرج سبيله وبدأ يحشوه
تتناً من كيس مزركش أمامه..
قال طراد: وايش الحل الذي يحتاج إلى
حزم وتصميم برأيك يا مسعود؟
قال مسعود بحزم: الحل يا طراد أنا ما
نضحي بالقبيلة ونعرضها للخطر من أجل غلمان طايشين، يضحك بعقولهم رجل حضري باسم
الدين ويحرضهم على معاداة الحكومة.
قال طراد مستفهماً: ها.. وأيش تقول يا
مسعود؟ الحكومة..!؟
قال مسعود مستدركاً: أنا عارف أنها
حكومة أجنبية، ما هي من بلادنا ولا من ديننا، مثلما يقول ابن مدلول والغلامين الذين
يحفظون دروسه.. لكنها يا طراد حاكمة البلاد بالحديد والنار.. بالسيف يا أبا عقاب..
وأنت عارف فعل السيف.. نحن لولا السيف، ما كان لنا وجود في هذه البلاد.. مراعي
البادية هذي حررناها بدمنا، بسهولها وتلاعها ووديانها.. أجرينا فيها سيول الدم، حتى
دانت لنا.. وصارت القبائل تهابنا، وما تجسر على الاقتراب من حدودنا.. الحكومة يا
طراد فرنسية، لكنها حاكمة البلاد، ولا بد من أن تخضع لها رقابنا.. وكل من يعاديها
يلعب بدمه ودم الناس الذين يحمونه أو يتسترون عليه..
قال طراد وهو يعبث بطرف شاربه الثخين:
هم.. وأنت أيش عندك كلام يا مرهج؟
قال مرهج في حيرة وأصابع يده اليسرى
تداعب إحدى جدائل شعره التي تدلت فوق صدره: أنت عارف يا طراد الكلام الذي عندي..
والله ما ندري ماذا نفعل بهؤلاء الغلامين الأحداث..! نمنعهم من الدين؟ وأيش وجهنا
من الله؟ نتركهم يخربون القبيلة ويسببون لنا عداوة الحكومة الفرنسية حتى تمنع عنا
المال..! وأيش وجهنا من أهلنا وأقاربنا ونسائنا وأطفالنا، لم ما يلقون طعاماً
يأكلونه وملابس يلبسونها في الشتاء..؟ والله إن الأمر محير يا طراد.. والله إنه
محير...
قال مسعود بتحد وتصميم: نحن رجال يا
مرهج، والرجال ما يحيرهم طيش الغلمان.. مصلحة القبيلة يا مرهج فوق لعب الأحداث
وعبثهم.. كل واحد يمسك غلامه ويجدع أنفه.. وإلا.. ما لنا فرج.. وتظل القبيلة مهددة
بالدمار..
قال طراد ملمحاً إلى "عفار" بن مسعود:
وأنت فعلتها يا مسعود!؟
قال مسعود متحدياً: ابني ما حاجني لهذا
الأمر يا طراد.. ابني عاقل، مدرك عواقب الأمور.. من أول ما كلمته في الأمر، ارتجع
عن ضلاله، وصار يكره ابن مدلول مثلما يكره الموت.. قلت له: تختار يا عفار أحد
الأمرين: أباك وعاداته وتقاليده.. أو ابن مدلول وتمتماته وأوراده وسوالفه الغربية..
فقال لي بلسان رجل فاهم حكيم: لا يا أبي.. أختارك أنت، وأترك ابن مدلول.. وأيش ابن
مدلول يا أبي؟ رجل حضري، لا هو منا ولا نحن منه..
واستأنف مسعود كلامه غامزاً من أبناء
إخوته: هكذا تكون الرجال يا طراد... هكذا تكون مواقف الرجولة يا مرهج..
قال طراد وقد بدأ طرفا شاربيه يهتزان
من الانفعال: هون.. هون يا مسعود.. عفار يا مسعود ما هو أرجل من غيره.. وأنت عارف..
عقاب ذيب البوادي.. وصالح أخوه والله إنه رجل لولا أن ابن مدلول قلم أظافره.. لكن
والله ما قلمها إلا عن الحرام.. والله إنه سبع من السباع لوجد الجد.. هو ولدي وأنا
خابره.. وعمره بعمر ابنك.. ولو صار بينهم ما صار لكنت تعلم أنه ابن أبيه.. لكن الله
يبعد الفتنة عن ولد العم..
كان هذا التهديد المبطن من قبل طراد،
رداً مناسباً على استفزاز مسعود، جعله يلتزم الصمت، وينشغل بتحريك النار الصغيرة في
غليونه..
فتنحنح مرهج والتفت إلى مسعود وقال
بهدوء: نحن اخوة يا مسعود.. أولاد أم وأب.. أقدارنا متساوية.. وأقدار أولادنا
متساوية من طرفنا.. أما من طرف أخوالهم، فأنت عارف أن أخوال أولادك ما هم خير من
أخوال الآخرين.. والسوالف هذي ما تورث إلا الجفاء والحزازات بين الاخوة وولد العم..
ابنك يا مسعود ما هو أرجل من فداوي.
نفث مسعود دخان غليونه وقال بتحد هادئ:
وكيف نحل المشكلة المال..؟ ثم نظر إلى
وجه طراد ووجه مرهج على التوالي..
مرهج: يحلها الله.. نحن بدو يا مسعود..
والبدوي رزقه برأس رمحه..
نظر مسعود إلى مرهج نظرة خاصة من تحت
حاجبيه، فتشاغل عنه مرهج.. إنها هي هي.. خطة الكولونيل.. وهذا رأس خيط منها.. وليس
مسعود متأكداً من أن الكولونيل اتصل بمرهج وعرض عليه خطته في حل مشكلة عباس
وتلاميذه كما عرضها على مسعود نفسه.. حتى الآن لا يبدو في حديث مرهج، أو على ملامحه
ما يوحي بصلته بالكولونيل..
قال مسعود مستدرجاً: ماذا تعني يا مرهج؟
الغزو..!؟
قال مرهج: نعم.. الغزو.. الغزو يا
مسعود.. وسيلة رزقنا ورزق آبائنا وأجدادنا..
قال مسعود مستدرجاً مرة أخرى بأسلوب
آخر: ومن يغزو معك يا مرهج..؟ فداوي..!؟ فداوي الذي ما عاد يأكل كثيراً من الحلال
مخافة أن يأكل لقمة حرام!؟ وهل ترك لنا ابن مدلول رجال غزو يا مرهج؟
قال مرهج: رجال القبيلة كثيرون ولله
الحمد.. والغلامين الذين خربهم ابن مدلول ما يشكلون شيئاً بالنسبة لباقي رجال
القبيلة.. ونحن نخيرهم بين الغزو وبين ابن مدلول.. فالذي لا يغزو معنا لا يأكل من
رؤوس رماحنا، وليذهب إلى ابن مدلول يطعمه..
ابتسم مسعود بارتياح.. إنها هي عينها
خطة لوفنتال.. ولكن يجب أن يسمع تتمتها من مرهج..
تنحنح مسعود جاداً وقال: هذه خطة حكيمة
يا أبا فداوي.. لكن افرض أن الغلمان أبوا الغزو معنا.. فماذا نفعل بهم؟ نطردهم؟
قال مرهج بانفعال: نعم.. نطردهم إلى
عند ابن مدلول.. يطعمهم ويلبسهم، ويدفئهم من برد الشتاء.. ابن مدلول الذي خرب
طباعهم، وعلمهم أن لا يأكلوا الحرام، مسؤول عن إطعامهم الرزق الحلال.. ومن أين لنا
نحن المال الحلال؟ البادية كلها ما فيها لقمة حلال واحدة! مالنا كله حرام حسب دين
ابن مدلول: مال الغزو حرام.. ودراهم لوفنتال حرام.. وماذا ترك لنا ابن مدلول من
خيرات الله؟ كلها حرام بحرام..
قال طراد: وعلى أي قبيلة نغزو يا
جماعة؟ قبائل البادية كلها مرتبطة مع فرنسا.. ونحن إذا خاصمتنا فرنسا، ستقف إلى
جانب أي قبيلة نغزوها.. تمدها بالسلاح سراً لتقاتلنا، ويلاحقنا عسكر حكومتها بحجة
المحافظة على الأمن، وتعاقبنا بصفتنا مجرمين.. لكن لو كان مع فرنسا وغزونا إحدى
القبائل، فسوف تقف على الحياد، وإذا قدمت سلاحاً بالسر، فسوف تقدمه للطرفين دون
تحيز.. لقد جربنا أساليبها منذ دخلت بلادنا.. هي هي ما تغيرت.. يجب أن نفكر بطريق
آخر غير طريق الغزو..
أفرغ مسعود رماد السبيل، وبدأ يحشوه
بالتبغ مرة أخرى.. لقد أحس بأن "مرهج" قد اقترب منه كثيراً في تفكيره، بينما كانة
في بداية اللقاء قريباً جداً من طراد.. وحرصاً من مسعود على هذا التقارب بينه وبين
مرهج، صمم على استدراج مرهج في الاتجاه السابق، اتجاه الغزو، متجاهلاً ملاحظة طراد
حول موقف فرنسا المتوقع.. فأشعل التبغ في غليونه وقال:
إذا رفض الغلمان الغزو معنا يا مرهج،
ورفضوا مغادرة القبيلة كما تقول.. فماذا نفعل بهم؟
قال مرهج: نسقطهم في نظر القبيلة..
نصفهم بأنهم جبناء رعاديد.. ونتخلى عنهم..
قال طراد مستغرباً: ولمن نتخلى عنهم يا
مرهج؟
قال مرهج: نتخلى عنهم للحكومة..
للكولونيل..
قال طراد: ليسجنهم أو يعدمهم بحجة
إثارة العداوة ضد فرنسا!؟
قال مرهج وهو يبلع ريقه: نتفق مع
الكولونيل على أسلوب معين للتعامل معهم.. ولا نسلمهم إياه إلا بشرط عدم إيذائهم..
نظر مسعود إلى مرهج فاغراً فمه.. هذا
الشرط لم يكن ضمن الخطة التي اقترحها الكولونيل.. إنه بند خاص ذكره الكولونيل لمرهج..
أدرك مسعود السر: إن ابنه ليس واحداً من هؤلاء.. فليس لديه مشكلة من هذه الناحية،
ولا ضرورة لأن يطمئنه الكولونيل على مصير ابنه.. بينما فداوي بن مرهج متورط في
التحريض.. ولا بد من حل مشكلته بأسلوب يطمئن أباه على مصيره..
تنهد مسعود.. كان يظن نفسه الذكي الأول
في الساحة، فإذا هو مسبوق بمراحل.. وعلى كل حال هذا الموضوع لا يؤثر عليه.. فليطمئن
اخوته على مصير أبنائهم، ولتتحسن العلاقات بين فرنسا وقبيلة المداعيس.. لكن يجب
متابعة الموضوع في هذه الجلسة، للوصول به إلى حل حاسم.. لكن ما الحل الحاسم! هه..
ضحك مسعود في سره.. لقد صمم على الانشقاق مهما يكن وضع القبيلة.. لقد أغراه لوفنتال
بشق عشيرة "المطامير" وتزعمها بمفرده، بعيداً عن وصاية طراد واستبداده.. وتعهد له
الكولونيل بمده بما يحتاج من مال وسلاح، وبإقناع عدد من وجهاء عشيرة المطامير
ليلتفوا حول زعامته، وإعطائهم ما يطلبون من مال أو سلاح أو دعم من أجل هذه الغاية..
ولقد صرح له الكولونيل بكلام "سري خاص"، لا يقوله لغيره، وهو أنه "أي مسعود" الرجل
الوحيد الذي يمكن أن تثق به فرنسا من بين رجال قبيلة المداعيس، وذلك أنه الوحيد بين
اخوته الخمسة، الذي ليس له ولد يعادي فرنسا، أو يحض على عداوتها.. وأن موقفه من
ابنه "عفار" وسحبه من تحت جناح الشيخ مدلول، من الأمور التي تنظر إليها فرنسا بعين
الرضى، وهي مطمئنة إلى صدق حليفها في التعامل معها..
هذا هو قرار مسعود.. وهذا هو الحل
الحاسم الذي في ذهنه.. إلا أنه سيعلنه بشكل حاسم أيضاً.. بيد أنه لا بد من التريث
قليلاً وإظهار الحرص على "المصلحة المشتركة" للقبيلة.. هه..
قال طراد معلقاً على كلام مرهج، حول
تسليم الأبناء إلى الكولونيل بشرط عدم إيذائهم:
وما الذي يضمن لنا يا مرهج أن
الكولونيل لن يؤذي أبناءنا!؟
بلع مرهج ريقه مرة أخرى.. هل يقول: إن
الكولونيل تعهد له شخصياً بذلك، وطمأنه بأن فرنسا تفي بالتزاماتها..؟ إذا قال ذلك
فسيفضح صلته السرية بالكولونيل.. فبم يجيب؟ اعتدل في جلسته قليلاً وقال: فلنتحدث مع
الكولونيل في الأمر، ونطلب منه تعهداً شخصياً في هذه القضية..
قال طراد مسايراً دون اقتناع كبير:
والله أنا ما عندي ثقة كبيرة في هذا الأمر.. وما أظن الكولونيل يرضى منا إلا أن
نقتل أبناءنا، أو نثير فتنة داخل القبيلة، أو نسلمهم إياه حتى يقطع دابرهم.. لكن لا
مانع من أن نجرب.. توكلوا على الله..
قال مرهج: نجرب وحدنا يا طراد؟ وهل
تلاميذ المدلول هم ابني وابنك وحدهم؟
قال طراد: وأيش تعني يا مرهج؟ ولد "زولة"
السرحانية؟
قال مرهج: أي نعم.. أعني ولد هواش
وغزوان.. إن الأمر لا بد أن يشمل الجميع.. أنت عارف يا طراد أن القبيلة عيلة واحدة
بنظر الكولونيل.. وما يجوز أن يبقى ناس داخل القبيلة يحرضون أبناء القبيلة ضد
فرنسا.. ولو سلمنا ابني وابنك دون الآخرين ما نستفيد شيئاً..
أطرق طراد، وبدأ يعبث بطرف شاربه.. ثم
قال: خير إن شاء الله خير.. من يذهب إلى ولد زولة ويستدعيهم إلى هنا..؟
قال مرهج: ما رأيك في أن نرسل ابن
محيدير؟
قال طراد: إي والله.. هذا رأي مناسب..
ابن محيدير رجل وجيه، وخاطره عزيز عند ولد زولة.. عساه يقدر يزيل الجفوة التي في
نفوسهم ويقنعهم بالمجيء.. ناده يا مرهج، واطلب منه أن يذهب إلى ولد زولة..
خرج مرهج وزار ابن محيدير في بيته
القريب، وطلب منه إقناع هواش وغزوان بالحضور لأمر هام يتعلق بمستقبل القبيلة ثم
عاد.. كان مسعود خلال هذه الفترة يقلب في رأسه مجموعة من الأفكار، تدور حول محور
واحد، هو: ما أفضل ذريعة يتذرع بها لإعلان انفصاله وشق عشيرة "المطامير" عن جسد
القبيلة..؟ إن هناك ذرائع متعددة، لكن يجب أن ينتقي أقواها وأكثرها إقناعاً من
ناحية، ومن ناحية أخرى يجب أن يضع ذريعة أخرى احتياطية، حتى إذا سحبت الأولى من بين
يديه، ظلت الثانية موجودة، وصالحة للتذرع بها أمام اخوته خاصة، وأمام القبيلة عامة،
دون أن يشعر الآخرون بأنه شق القبيلة لمجرد حب الزعامة. ولقد رتب في ذهنه فعلاً،
ذريعتين إحداهما احتياطية، وإن كان فيها شيء من الخدش لرجولته ونخوته القبلية..
فهذا ما يمكن تسويغه عند الضرورة..
كانت الساعة حوالي العاشرة ليلاً، حين
خرج مرهج لإرسال ابن محيدر إلى هواش وغزوان.. وحين عاد إلى مجلسه بين أخويه، كان
الصمت يلف المجلس.. وقد ظل الثلاثة صامتين، كل منهم يقلب في رأسه مجموعة من وجهات
النظر، تتعلق بكيفية التعامل مع المشكلة عامة.. وبكيفية إقناع هواش وغزوان بالخطة
ثانياً، فوضع الأخوين الشقيقين يختلف من نواح عدة عن وضع اخوتهم الثلاثة، لا سيما
ما يتعلق بصلتهما بالإنجليز سراً، وتظاهرهما بالولاء للحكومة الفرنسية في الوقت
ذاته.. وكان الأشقاء الثلاثة، يعرفون مدى سخط الكولونيل لوفنتال على هواش وغزوان
لهذا السبب، وذلك من خلال صلاتهم به، أي طراد وأخويه، كل على انفراد.. فهل يأمن
الشقيقان لوفنتال على ولديهما إذا استلمهما مع باقي أتباع الشيخ مدلول؟ وما أفضل
السبل لتطمين الأخوين حول هذه الناحية!؟ صحيح أن عشيرتي السواعير والبشارات اللتين
يرأس أولاهما هواش والثانية غزوان، ما تزالان مرتبطتين بالقبيلة أمام القبائل
الأخرى، وتدفعان الديات التي في ذمة القبيلة كل منهما حسب عدد أفرادها.. وصحيح
أنهما تجلوان مع القبيلة إذا جلت عن مواقعها بسبب ثارات قبلية.. إلا أن هذا لا يعني
بالضرورة أنهما خاضعتان خضوعاً مباشراً لزعامة الشيخ طراد، فالعلاقة بينهما وبين
القبيلة علاقة ضرورات بالدرجة الأولى.. وعلاقات الضرورات تكون جوانبها السلبية
مساوية لجوانبها الإيجابية في كثير من الأحيان، إن لم تزد عليها..
نفث مسعود دخان غليونه بقوة، واعتدل في
مجلسه وقال بلهجة جادة: ولد زولة يحتاجون إلى ساعة من الزمان حتى يصلوا، فالمسافة
بين مضاربنا ومضاربهم تحتاج إلى نصف ساعة ذهاباً وعودة، ولعل أحدهما مشغول أو نائم،
فيحتاج إلى وقت إضافي حتى يهيئ نفسه.. وفي هذه الفترة يجب أن نحسم أمورنا نحن أولاد
الأم، حتى إذا حضر ولداً زولة، لم يجدا بيننا اختلافاً..
قال طراد متجاهلاً كلام مسعود: ابن
محيدر يا مرهج ذهب على رجليه أم ركب فرسه؟
قال مرهج: فرسه ما هي عنده.. مستعيرها
واحد من أقاربه، مسافر عليها.. وبحث عن فرس من خيل ولده حتى يركبها فما وجد.. ولده
كانوا ركبوا خيولهم من المغرب، وذهبوا يسهرون عند بيت متطرف، بآخر منازل القبيلة.
قال طراد: هم.. خير إن شاء الله خير..
ثم التفت طراد إلى مسعود قائلاً: أيش
كنت تريد أن تقول يا مسعود؟
قال مسعود: كنت أريد أن أقول إننا يجب
أن نتفق على رأي واضح محدد.. حتى إذا جاء هواش وغزوان، خضعوا للأمر الواقع، ونفذوا
ما نقوله لهما.
قال طراد: وبأي صفة تخضعهما للأمر
الواقع يا مسعود، وأنت مالك سلطة عليهما؟
قال مسعود: المسألة بسيطة يا طراد..
حين يدخلان، نقترح أن يكون مجلسنا، نحن الأخوة الخمسة، مجلساً رسمياً للقبيلة، ثم
نقترح خطة لتبني القرارات التي نناقشها.. فإما أن يكون القرار من قبل شخص واحد وهو
رئيس المجلس، وهو أنت يا طراد، بصفتك الكبير والشيخ.. وإما أن يكون القرار حسب
الأكثرية.. ونحن الثلاثة نشكل أكثرية.. وما أظن أن عندهما رأياً آخر لتبني
القرارات.. فإما أن يقرا بسلطتك المنفردة، وإما أن يخضعا لسلطة الأكثرية وهذا هو
المرجح.. وفي الحالتين نغلبهما.
ضحك طراد ضحكة صفراء، مستغرباً نمط
تفكير أخيه، وقال له: والله يا مسعود أنا أعرف أنك تفهم.. خابرك من زمن طويل.. لكن
والله ما كنت أعرف أنك تملك مثل هذا التخطيط الماكر.. وأنا أخشى يا مسعود أنك تعلمت
هذي السوالف من صفر الشوارب الذين يتجولون بسياراتهم في أنحاء البادية صباحاً
ومساءً..
قال مسعود متوجساً: وايش تقصد يا طراد؟
قال طراد: أقصد لوفنتال وأعوانه
ومستشاريه..
قال مسعود وهو يظن أن أخاه قد كشف صلته
السرية بلوفنتال: وأنا وحدي الذي أتصل بصفر الشوارب يا طراد..؟
قال طراد: وقد أمسك برأس خيط: ها.. إذن
أنت اتصلت بلوفنتال..!
قال مسعود: مثلما يتصل غيري يا طراد..
وأنت فاهم.
قال طراد منفعلاً: إي والله أنا فاهم
يا مسعود.. أنا فاهم.. أنا يا مسعود أتصل بالضابط الفرنساوي علناً، وفي وضح
النهار.. الظهر الحمراء.. والناس كلها تراني.. أتصل من أجل مصلحة القبيلة.. كل
القبيلة يا مسعود.. وأنا صاحب حق بهذا.. أنا شيخ القبيلة، والمسؤول عن تأمين
مصالحها عند لوفنتال وغيره.. لكن أنت.. أنا بأية صفة تتصل يا مسعود.. ومن كلفك..
القبيلة كلفتك.. ها..؟ قل لي يا مسعود.. أما يكفينا يا مسعود ما جره علينا اتصال
ولد زولة بالأجانب من وراء ظهر القبيلة.. وأنت عارف ما هو حال القبيلة الآن.. إنها
ثلاث قطع.. وتريد يا مسعود أن تجعلها أبع قطع.. ما يكفينا يا مسعود.. ما يكفينا..!؟
قال مسعود بهدوء ودهاء، يريد امتصاص
نقمة أخيه مرحلياً، وتبديد التصور الذي في ذهنه: أنت يا طراد سمعت كلمة وبنيت عليها
بناية حكي.. ومن قال لك يا طراد إني اتصلت من وراء ظهر القبيلة بلوفنتال حتى أجعل
القبيلة أربع قطع؟ أنا لوفنتال ما أراه إلا هنا حينما يزور بيتك الذي هو بيت
القبيلة.. وأحياناً أراه كما تراه أنت ومرهج وكل واحد منا، حينما ننزل إلى إحدى
المدن.. المدير، أو الرقة، أو الحسكة.. أو حينما نزور أحد زعماء القبائل ونراه
عنده.. وحينما يراه الواحد منا لا بد من أن يسلم عليه، ويقف معه في الطريق، أو يجلس
معه في المجلس، أو يتمشى معه في السراي.. ويأخذ ويعطي معه في الحديث.. ثم التفت
مسعود إلى مرهج، الذي كان يبعث بطرف جديلته، وقال له مستحثاً على الكلام: هكذا
كلام.. وإلا أنا غلطان يا مرهج..!؟
قال مرج، وقد وجد الفرصة مناسبة لإعلان
صلته بالكولونيل بطريقة عادية مشروعة، إذ ألقى له مسعود بطرف حبل غليظ ليتمسك به:
نعم.. كلامك صحيح يا مسعود.. كلنا رأينا الكولونيل ووقفنا معه، وحكينا معه..
بمناسبات غير مقصودة.. مثل المناسبات التي ذكرتها..
أحس طراد في أعماقه بأن شيئاُ ما يجري
في الخفاء.. إلا أنه إحساس غامض ليس لديه دليل قاطع يؤكده.. فحديث أخويه طبيعي في
ظاهره، وما ذكراه عن لقاءات الكولونيل في المناسبات، عادي لا يثير شبهة.. إلا أنه
استشف من لهجة كل منهما، ومن ملامح وجهه وحركات عينيه، ما يوحي بشيء ما، ليس عادياً
ولا طبيعياً.. ففضل أن يكتم إحساسه الغامض ويتعامل معهما بنوع من المكر الهادئ،
بالأسلوب الذي مهده وعبده مسعود..
أمسك طراد بطرف شاربه وبدأ يبعث به، ثم
نظر إلى وجه مسعود نظرة فاحصة، وقال: ها.. ما كملت حديثك يا مسعود حول اتفاقنا ضد
ولد زولة..!
قال مسعود: بلى.. كملت حديثي.. لكن أحب
أن أسمع رأيكم به..
قال طراد بنوع من الدهاء الذي وجد نفسه
مدفوعاً إليه، تجنباً لأحاييل مسعود ومؤامراته: افرض يا مسعود أن الأخوين طلبا مني
أن أتخذ القرارات التي أرها مناسبة، بمفردي، وطلبا مني أن أحكم ضميري ووجداني.. كيف
يكون الموقف يا مسعود..؟
نقر مسعود نقرات خفيفة على طرف غليونه
الفارغ المرمي أمامه، ثم حك مقدمة شعره، ثم اعتدل في جلسته، ثم سعل سعلات خفيفة..
وهو خفيفة.. وهو في كل ذلك يبحث في ذهنه عن جواب لا يحرجه.. ثم قال:
أنا أرى أن الموقف يحتاج إلى مناقشة..
قال طراد متفحصاً في وجه مسعود: وماذا
تقصد بالمناقشة يا مسعود؟ أنت الذي وضعت الخطة، ووضعت فيها الاحتمالين: القرار
الجماعي، والقرار الفردي.. وأنا أسألك الآن سؤالاً واضحاً محدداً.. لو حصل أحد
احتماليك اللذين وضعتهما.. ماذا سيحصل في رأيك، أو كيف أن تسير الأمور؟
قال مسعود متهرباً من الإجابة: ولم لا
تفترض يا طراد أن ولدي زولة سيفضلان الاحتمال الثاني، لأنه أقرب إلى المعقول، ثم
إنه أكثر إنصافاً للجميع..!؟
قال طراد ضاحكاً ضحكة صفراء، وهو يبعث
بطرف شاربه: هه.. بعبك شيء يا مسعود ما تريد أن تظهره..
قال مسعود بلهجة ذات إيحاء خاص: الذي
في عبك في عبي يا أبا عقاب.. نحن ولد أم وأب يا طراد.. وما عندنا عب أفضل من عب..
ولا عندنا عب أسوأ من عب..
قال طراد، وقد أدرك شيئاً من مطامح
أخيه: "ما عندنا عب أفضل من عب"!؟ خير يا أبا عفار خير.. خير إن شاء الله.."ما
عندنا عب أفضل من عب.." ها.. يا مسعود..!؟ الله يخزي عب السوء أينما كان يا مسعود..
لكن دعني أقل لك يا مسعود: أنا لو حكمني اخوتي بأمورهم، وطلبوا مني أن أراعي وجداني
وضميري، فلن أخون ضميري يا مسعود.. ولو طار رأسي عن جسدي..
قال مسعود بلهجة تهديد: إذن الذي يأكل
الدبس يمسح بشاربه..
قال طراد وقد اضطرب شارباه: أنا أبو
عقاب.. تهددني يا مسعود!؟
قال مسعود بهدوء حازم: أنا لا أهدد
أحداً.. لكن أقول: من يناطح الجبل، فلن يكسر إلا رأسه.. وفرنسا جبل في بلادنا، فمن
أراد أن يناطحها، فعليه وحده تحمل النتائج.. هكذا يا مرهج الكلام.. وإلا أنا
غلطان!؟
أمسك مرهج بطرف ذؤابته، ثم تنحنح،
وأراد أن يقول كلاماً لا يحرجه ولا يحرج أحداً فلم يجد العبارات المناسبة.. فالموقف
دقيق، وأية كلمة يقولها في هذا المجال قد تؤذيه، فهو لا يريد أن يثير "طراد" ضده،
كما لا يريد أن يثير نقمة مسعود الذي بات واضحاً لدى مرهج أنه، أي مسعود، يسند ظهره
إلى جدار السلطة الفرنسية، وقد يقول للكولونيل كلمة ضد مرهج تفسد على أخيه مخططاته
ومطامحه الهادئة التي لم تتبلو معالمها في ذهنه بعد.. لذا آثر مرهج الصمت، وقلب يده
وهو يقول: الله يجيرنا من سود الليالي..
قال مسعود كلاماً فيه تذمر وفيه غمز
غير مباشر من قيادة أخيه طراد للقبيلة: وهل ظل يا مرهج ليال أكثر سواداً من هذه
الليالي.. اضطربت حالنا، وما عاد أحد يعرف من الذي يوجه سير القبيلة.. ابن مدلول..
أم غلماننا.. أم أولاد عبيدنا الذين صاروا كلهم ملالي يفتون لنا بالحلال والحرام..؟
وأيش يفعل الواحد منا بين كل هذه البلايا؟ ايش يفعل..؟ يسلم لحيته لأتباع ابن مدلول
حتى ينتفوها له، وما يعرف أين يكون مصيره!؟ والله هذي ما أحد قالها..!
كان واضحاً أن "مسعود" يمهد بكلامه هذا
إلى أمر ما.. وفي الوقت ذاته كانت عباراته تحمل صيغة تهديد بالانشقاق لا تخفى على
أخويه..
قال طراد وهو يكظم انفعالاً في نفسه:
يصير خير إن شاء الله يا مسعود.. يصير خير..
وهنا سمع الاخوة الثلاثة وقع حوافر خيل
أمام البيت.. فقال طراد: ولد زولة.. أكرموهم.. أحسنوا ملقاهم، ولا تشعروهم بجفاء..
دخل ابن محيدير فسلم وجلس، وهو يقول
بصوت خفيض: إخوانكم جاؤوا بعد تردد، وبعد إلحاح مني.. فأرجو يا أبا عقاب أن تطيبوا
خاطرهم.. ولا تخيبوا مسعاي..
فأشار طراد بيده وهو يهمس: أين هما؟
قال ابن محيدير: عند مربط الخيل،
يربطان فرسيهما..
قال طراد مداعباً ابن محيدير: حيى الله
وجه الخير يا ابن محيدير.. والله إنك قضيت لنا مهمة، في هذه الليلة الظلماء.. لكن
والله قهوتنا باردة.. وما أردنا أن ندعو ابن لافي لتسخينها.. لأن عندنا حديثاً
خاصاً كما تلاحظ..
قال ابن محيدير مبتسماً وقد فهم إشارة
طراد له بعدم الإطالة في الجلوس عندهم: وأنا ما أطيل عندكم يا أبا عقاب.. سأعود إلى
بيتي وأسهر مع كيس تتني حتى يغلبني النوم.. لكن أحببت أن أحضر أول لقائكم مع
إخوانكم، لتطييب الخواطر..
دخل الإخوان، هواش وغزوان، فنهض
الجميع، ومشوا خطوات لاستقبالهم، وصوت الشيخ طراد يجلجل عالياً: حيى الله النشامى..
يا أهلاً ومرحباً.. يا أهلاً بالاخوة، يا حيى الله وجوه العزة والكرامة..
تعانق الأخوة جميعاً عناقاً حاراً..
وأجلس طراد أخاه "هواش" على يمينه، و"غزوان" على يساره.. وظل دقائق يرحب بهم، ويشكر
ابن محيدير على مسعاه الطيب في إحضار الأخوة، ليسعد إخوانهم بلقائهم..
وبعد أن انتهت حفلة الترحيب، نهض ابن
محيدير وهو يقول: تصبحون على خير إن شاء الله.
قال طراد بصوت عال يودع به ابن محيدير،
الذي انصرف: وأنت من أهل الخير.. يا وجه الخير..
ثم التفت إلى هواش باسماً وهو يقول:
كيف أنت يا أبا منادي؟ كيف حال نجدية؟ والله إنها بنت كرام.. أصيلة بنت أصايل..
وكيف حال منادي.. وظبية.. والعيال كلهم.. عساهم بخير..!
وكان هواش خلال أسئلته يجيبه بكلمات
هادئة طيبة مطمئنة.. ثم التفت إلى غزوان باسماً وهو يقول: وأنت يا أبا زهلول..! كيف
حالك، كيف حال زهلول..؟ كيف حال ريمة أم زهلول؟ عساها بخير.. والله إنها نعم المرأة..
والله إن حورية أم عقاب تسألني دائماً: متى تسمح الظروف ونلتقي مع أم زهلول وأم
منادي..؟ وشمسة.. أم صالح.. والله إنها تتلهف كذلك لرؤية ولايفها.. والحق معهن..
الوليف ما يصبر على فراق وليفه.. إيه.. الله بقدرنا على ما فيه الخير..
كانت كلمات الترحيب من قبل طراد طبيعية
إلى حد كبير.. وتحمل قسطاً غير قليل من مشاعر الأخوة، برغم المرارات التي في نفسه..
إلا أن للظرف الراهن نصيباً لا بأس به من الدوافع الكامنة من وراء كل هذه
المجاملات.. وقد وعى أخواه مسعود ومرهج هذا كله.. إلا أن ذهن مسعود كان يتحرك
باتجاه آخر.. كان مسعود يخشى أن تأسر هذه المجاملة الزائدة قلبي الأخوين الضيفين،
فيسايرا أخاهما الكبير ويقفا معه في بعض الأمور ضد مسعود.. فهذا الترحيب الزائد في
نظر مسعود ذو طابع سياسي صرف، وينبغي ألا يمكن "طراد" من كسب مواقف على حسابه..
وإلا فسيضطر إلى تفجير الموقف برمته، من خلال بعض الطروح المثيرة، التي رتبها في
ذهنه.. ليعاد ترتيب الأمور من جديد في أوقات لاحقة، بصيغة ترضيه.. إلا أن الأمور لم
يبدأ ترتيبها بعد.. وحديث الساعة لم يطرق بعد..
ملأ مسعود غليونه تبغاً، ثم أشعل ناره
وبدأ ينفث الدخان في الهواء، وذهنه متحفز لطرح المبادرات.. وللرد على مبادرات اخوته..
ضمن الصيغ التي يتوقع أن تطرح فيها..
قال طراد بمودة وهدوء مخاطباً أخويه
الضيفين: نحن أرسلنا خلفكم يا إخواننا لأجل أمر هام.. يهمنا جميعاً.. ويهم مستقبل
أولادنا ونسائنا.. ومستقبل القبيلة كلها..
ثم استطرد قائلاً: لن أحدثكم يا
إخواننا عن علاقتنا بالحكومة الفرنسية.. فأنتم تعرفونها جيداً من زمن طويل.. لكن
الشيء الذي جد، هو أننا الآن مهددون بالخطر.. خطر الجوع.. خطر العري.. خطر الغزو من
قبائل أخرى يمكن أن تساعدها فرنسا ضدنا، تمدها بالمال والسلاح وتحرضها ضدنا.. فإن
استسلمنا متنا.. وإن دافعنا عن أنفسنا وقتلنا بعض أعدائنا صرنا مجرمين في نظر
الحكومة.. وهذي حالة والله ما نستطيع أن نصبر عليها.. ولو صبرنا نحن أولاد منصور
المطلق الحردان.. فإن باقي أفراد القبيلة لا يصبرون.. وما نأمن حدوث فتن وقلاقل
داخل القبيلة، داخل كل عشيرة من عشايرها الخمس.. وأنتم تعرفون أساليب فرنسا في دعم
الوجهاء والزعماء.. أو دعم غيرهم ضدهم.. ونحن أولاد منصور المطلق، برغم ما بيننا من
خلافات في الرأي، نبقى أبناء رجل واحد، وعلينا أن نتكاتف حتى لا نسقط جميعاً، أو
يسقط بعضنا، فيضعف البعض الآخر ويتبعه في السقوط.. ووجهاء العشاير البدلاء كثيرون..
وفرنسا لا تحرص علينا لسواد عيوننا، فهي مستعدة لدعم كل منشق علينا، وتسليمه مقاليد
الأمور في القبيلة، بقدر ما يخضع لإرادتها وتوجيهاتها.. فيجب علينا يا إخواننا أن
نكون على وعي كامل.. وإدراك للأخطار المحيطة بنا.. وإلا فعاقبتنا وخيمة، ومستقبلنا
مظلم.. ولا يعرف الواحد منا كيف يصبح، ولا كيف يمسي..
صمت الشيخ طراد.. ثم التفت إلى هواش،
ثم إلى غزوان، وقال: فما الرأي عندكم يا إخواننا؟
قال هواش باسماً: انتهيت يا أبا عقاب؟
قال طراد: نعم انتهيت.. وأحب أن أسمع
رأيك يا هواش ورأي غزوان.
قال هواش: الصورة واضحة عندنا جميعاً
يا طراد.. صورة المشكلة ما هي غائبة عن ذهن أحد.. لكن الغائبة هي صورة الحل.. الحل
هو الذي ليس في ذهن أحد.. وإن وجد في ذهن واحد منا، فقد لا يوافقه عليه الآخرون،
لأن في أذهانهم حلولاً أخرى.. هذه هي المشكلة يا طراد..
بادر مسعود في الكلام، ليوجه الحديث
الوجهة التي تخدم تصوراته، قبل أن يطرح طرحاً قد يلقى قبولاً لدى الآخرين فتصعب
مقاومته.. قال مسعود بعد أن نفث دخان غليونه:
الحل يا هواش معروف عندنا كلنا.. الحل
أن نضع مصلحة القبيلة فوق كل اعتبار.. هذا هو الحل يا هواش..
قال هواش: هذا الكلام العام ما أحد
يخالف فيه يا مسعود.. لكن كيف نطبقه على أرض الواقع، وكل واحد منا يرى مصلحة
القبيلة بمنظاره الخاص؟
قال مسعود مستثيراً: أنا أسألك يا هواش،
وأنت رجل تفهم: قبيلة المداعيس تقدر أن تعادي فرنسا؟
قال هواش: لا.. ما تقدر..
قال مسعود: والغلمان الذي ضحك بعقولهم
ابن مدلول، أما يثيرون العداوة ضد فرنسا!؟
قال هواش: كلام ابن مدلول والغلمان على
فرنسا وعداوتها لديننا معروف يا مسعود.. لكن ماذا تريد من وراء هذا الكلام؟
قال مسعود: أريد أن أطرح بعض الأمور
التي فيها حزم، وفيها نفع للقبيلة.. فإما أن نتفق عليها، وإما كل شاة معلقة
بعرقوبها..
تضاحك هواش، وابتسم غزوان بصمت، واهتز
شارباه طراد، وأطرق مرهج يعبث بطرف جديلته..
قال هواش: هات ما عندك يا أبا عفار..
قال مسعود: الحل الأول الذي عندي، هو
أن نقمع فتنة غلماننا وعبيدنا.. كل واحد منا يضع الحديد في أرجل أولاده الذين
يتبعون ابن مدلول.. ويحبسهم، ويجوعهم، ويعطشهم، ويهينهم.. حتى يعودوا إلى رشدهم..
والذي يستمر من العبيد على ضلاله، نذبحه ذبح الخروف.. أما الغلمان الآخرون، من
أبناء القبيلة، فما جسرهم على الطيش والعبث إلا أبناؤنا، فإذا عادت إلى أبناءنا
رجاحة عقولهم، ف أبناءنا رجاحة عقولهم، فإن عقول الآخرين ستعود إليهم بسرعة، لأننا
نحن وجوه القبيلة، والناس يقلدوننا بالقول والفعل..
صمت مسعود ونفث دخان غليونه.. فقال
هواش وهو يبتسم بأسى: والحل الثاني الذي عندك يا أبا عفار، ما هو؟
قال مسعود: الحل الثاني يا هواش، إذا
لم ينفع الحل الأول، هو تخيير الغلمان، بين أن يذهبوا إلى ابن مدلول، ليطعمهم رزقاً
حلالاً. وإما أن يعودوا رجالاً مثل آبائهم وأجدادهم، فيشاركونا في الغزو، ويأكلوا
من رؤوس حرابهم.. ولا يصيروا ملالي يحرمون علينا رزق الله، الذي نكسبه بدمنا،
ونناله برؤوس رماحنا..
ابتسم هواش مرة أخرى وقال: والحل
الثالث يا مسعود؟
قال مسعود بجفاف وتحد: الحل الثالث يا
هواش، أن الذي يعادي الحكومة، ويجر علينا البلاء، نخلي بينه وبين الحكومة، تعالج
أمره حسب القانون..
أطرق الاخوة الأربعة واجمين لهذا الحل
الصعب.. ثم سعل مرهج سعلة خفيفة وقال: بشرط أن نأخذ تعهداً على الكولونيل ألا
يؤذيهم..
رفع الآخرون رؤوسهم، وظل كل منهم
ساهماً.. فقال غزوان: من يأخذ التعهد من الكولونيل يا مرهج؟
ابتسم مرهج وقال: أنا أكفل لكم هذا
الأمر..
أدرك الجميع أن مرهج على صلة
بالكولونيل، كما أدركوا أن للكولونيل يداً مباشرة في هذا العرض الذي يعرضه على مرهج..
ولولا ذلك، لما جرؤ مرهج على أن يتصدى لمثل هذه الكفالة..
قال غزوان مستدرجاً: وهل كفل لك
الكولونيل كل أتباع ابن مدلول يا مرهج؟
قال مرهج مزهواً دون أن ينتبه إلى
الاستدراج:
نعم يا غزوان نعم.. الكفالة تشم
الجميع، ابنك وابن طراد وابن هواش وابني، وكل أنباء القبيلة.. ما عدا العبيد فهؤلاء
نحن نتولى أمرهم.. لكن المرحلة الأولى مقتصرة على أبنائنا نحن.. فإذا لم ينفع
إبعادهم في قمع الفتنة، يأتي دور أبناء القبيلة الآخرين..
قال طراد ساخراً وقد اضطرب شارباه:
بارك الله بك يا شفيعنا..
انتبه مرهج إلى نفسه، فوجد أنه قد
استدرج، ولم يعد ثمة مجال لإنكار صلته بالكولونيل.. فأراد أن يسوغ هذه الصلة من
ناحية، وأن يطيب خواطر إخوانه من ناحية أخرى، فقال: لقد التقيت بالكولونيل منذ خمسة
أيام في سراي الحكومة بدير الزور، لما ذهبت للمحاكمة بشأن قضية الجمال التي بيني
وبين ابن "عرموش".. وعاتبني الكولونيل على تصرف الغلمان أباع ابن مدلول.. واعتذرت
له بأنهم أحداث في سن الطيش وغداً يكبرون ويكفون عن عبثهم وسفاهتهم.. لكن الكولونيل
عرض علي المساعدة لحل مشكلتهم، ولإبقاء الصلات الطبية بين فرنسا وقبيلة المداعيس..
وتعهد لي شخصياً، وأقسم بشرفه وشرف فرنسا الحرة، أنه سيهتم بهم كما يهتم بأولاده..
وطلب مني تسليمه إياهم، لإرسالهم إلى سويسرا وتأمين كل وسائل العيش الرغيد لهم
هناك، حتى ينسوا ابن مدلول وكل تعاليمه.. ومن حرص الكولونيل على حياتهم، ما طلب
إرسالهم إلى دولة من الدول التي تخوض الحرب، مخافة أن يصيبهم مكروه.. ولما بينت
للكولونيل أن هذا الأمر صعب، طرح علي الحلول الأخرى التي ذكرها أمامكم مسعود الآن..
واعتبر تسفيرهم إلى سويسرا آخر حل، إذا لم تجد الحلول الأخرى كلها.. وقال لي: إن
صدر فرنسا مفتوح لكل أبناء قبيلة المداعيس، وخزائنها مفتوحة كذلك لم يحرص على
صداقتها.. وآخر ما قاله لي: إن صداقة قبيلتكم لفرنسا، لا تحول بينكم وبين مصادقة
الآخرين.. لكن يجب ألا تنسوا أبداً أن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي تحكم سورية،
وليس لها شركاء في هذا الحكم.. وأن أي مواطن من أبناء سورية يتصل بجهة أجنبية من
وراء ظهر الحكومة الفرنسية، فإنما يعرض نفسه للعقوبات التي تنص عليها قوانين الحرب
المطبقة في البلاد.. وأشار إلى رقبته إشارة تعرفونها..
وجم الرجال الثلاثة طراد وهواش وغزوان..
وظل مسعود بنفث دخان غليونه، وقد أحس بأن مشروعه في الانشقاق، لم يعد يحتاج إلا إلى
وثبة أو وثبتين.. فأراد أن يتم البناء، فقال جاداً:
لقد أنصفنا الفرنسي، وما ترك لنا
عذراً، فيجب أن ننصف أنفسنا..
قال هواش ساهماً: ماذا تعني يا مسعود؟
قال مسعود: أعني أن نبدأ بتنفيذ
المراحل مع الغلمان.. إلا إذا كان عندكم رأي آخر.
صمت الجميع، إذ لا حل في ذهن أي منهم،
إلا الحل المؤذي، وهو ترك أتباع عباس يذكرون الناس بدينهم وبأن فرنسا دولة كافرة
تعادي ديننا وأمتنا وتنهب خيرات بلادنا.. وهذا الحل ثبت لديهم أنه عقيم، ونتائجه
غير محمودة العواقب..
قال طراد وهو ساهم يعبث بطرف شاربه:
وايش وجهنا من الله. الله يكب الظالمين.. ثم استطرد: خير إن شاء الله.. توكلوا على
الله، وباشروا بتنفيذ أوامر لوفنتال..
قال مسعود: الوقت ما عاد يساعد يا
قوم.. وعلينا بالعجلة.. علينا بحسم الأمور قبل فوات الأوان.. يجب أن نثبت للكولونيل
في بحر عشرة أيام، أن القبيلة تستحق صداقته ومساعدته، حتى نتمكن من شراء الملابس
الثقيلة للشتاء، ونشتري المؤونة: الدبس، والتين، والزبيب والحلاوة والتمر.. ونتمكن
من إصلاح بيوتنا قبل أن يداهمنا المطر.. خلال عشرة أيام على الأكثر، يجب أن يصلنا
المال..
قال مسعود هذا الكلام، قاصدا استفزاز
اخوته، بهذا الطلب التعسفي للحرج..
قال هواش مستاءً: وهل القضية يا مسعود
لمسة نبي، تظهر آثارها بلحظة..
قال مسعود متابعاً استفزازه: إذا كان
عطفكم على غلمانكم يا هواش فوق مصلحة القبيلة، فأنا عندي مصلحة القبيلة فوق كل
اعتبار.. وأرجو أن نكون صريحين وواضحين، نحن في رقابنا مسؤولية قبيلة ضخمة تعد آلاف
الأنفس.. وأي تفريط بمصلحتها نحن مسؤولون عنه.. لذلك، وحتى لا يبقى مجال للعتب
واللوم في المستقبل، أنا أعلن من هذه الساعة، أنه إذا لم يتم الحصول على المال خلال
عشرة أيام، فسوف أعتبر نفسي ومن يسير معي من أبناء القبلة غير مسؤولين عما يحصل
للقبيلة من كوارث وبلايا.. وسنتدبر أمرنا بعيداً عن المآسي التي يجرها على القبيلة
الإهمال والتردد والعواطف الشخصية تجاه الأبناء..
قال هواش ضاحكاً بمرارة: هذا ترتيب ما
هو ابن ساعته يا مسعود.
قال مسعود متظاهراً بالإحساس بالألم
والأسى من ناحية، وبالمن على هواش من ناحية أخرى:
لا تقل هذا الكلام يا هواش.. أوضاعنا
المحزنة ما عادت تحتمل المماطلة والتأجيل.. نحن مشرفون على الجوع يا هواش.. القبيلة
التي أولتنا ثقتها لا تعرف ماذا ينتظرها في هذا الشتاء من ويلات، إذا بقيت عواطفنا
تجاه أبنائنا تتحكم بمواقفنا وتجعلنا نهدر مسؤولياتنا تجاه القبيلة العزيزة
الكريمة، التي ورثت العز أباً عن جد من عهد الجاهلية.. نحن يا هواش لا نطلب إلا
تأديب الغلمان، الذكور.. أما غيرهم فلن نذكر سيرته ولن نتحدث بشأنه..
أحس هواش برعدة عنيفة تسري في بدنه،
فبدأت يداه ترتجفان من الغيظ، لكنه تماسك وقال بصوت متهدج: ها يا مسعود..؟ ما تذكر
غير الغلمان.. الذكور..!؟ أيش ظل عليك تفعله يا مسعود؟ ما ظل عليك إلا هذه.. ثم
استطرد بتحد عجيب: ظبية يا مسعود لو مسها الهواء لمزقته بأسناني... أتعرف بارودتي
الفرنسية الصفراء يا مسعود..؟ لو أن ابني "منادي" مس ظبية بسوء، لأفرغت رصاصها
برأسه.. فاهم يا مسعود.. فاهم..؟
قال مسعود متلايناً بخبث: ولم كل هذه
الحدة يا هواش؟ وماذا قلنا؟ ألم أقل إننا لن نذكر إلا أمر الغلمان.. ثم أليست ظبية
يا هواش تحرض ضد فرنسا وتسبب لنا عداوتها؟ صحيح أنها امرأة ومجال اتصالها بالناس
محدود.. ولكن المرأة تخلف يا هواش.. وإذا خلفت تربي.. والمرأة التي تأخذ تعاليمها
من ابن مدلول لن تربي أبناءها على عادات قبيلتها يا هواش.. بل ستربيهم على تعاليم
ابن مدلول.. وهذا يعني أنها ستربي داخل قبيلتنا أعداء لفرنسا، يثيرون لنا المشكلات
والبلايا من جديد.. أنت عارف هذا كله يا هواش.. ونحن نعرف هذا، لكنا ساكتون عنه..
لأن العرض عرضنا.. وإن شاء الله ما تضطرنا الظروف أن نخدشه، ما دامت الأمور تسير
بشكلها الصحيح في سبيل خدمة القبيلة ومصلحة القبيلة..
لم يعد هواش، وغزوان يطيقان سماع
المزيد من نذالات مسعود فنهضا منفعلين، ومدا أيديهما إلى طراد مصافحين، بينما كانت
شواربه ويداه وركبتاه تضطرب من الانفعال، فقام ليودعهما لكن ركبتيه خانتاه فجلس بعد
أن صافحهما وانصرفا.. وقال مسعود بصوت مرتفع ليسمعهما: عشرة أيام.. ونفث دخان
غليونه بتشفٍ وزهو..
بينما كان مرهج مطرقاً يعبث بطرف
جديلته السوداء، المشدودة قبل نهايتها بخيط رفيع أحمر..
يتبع..