الزمن الجريح 3
تعكرت نفس أحلام بالذعر، والاضطراب،
حين عاشت المواقف الرعيبة، أصابها الهلع وهي ترى الإنسان يطحن أخاه الإنسان،
وتتوالد شرارات نار تشعل الكراهية والأحقاد، وتسحق كائنات جميلة، بريئة، تحرق
أجنحتها، وهي تتأهب للتحليق في الغد.. الأطفال كانوا أشد تأثراً، نشؤوا في هذا
الزمن المحطم لنفسياتهم، حرموا الطفولة الهنيئة، تمزقت أرواحهم، والتشرد شطرها بين
الوطن، والغربة.
اختلطت في صدرها مشاعر الحب، والدهشة،
والأسى، فكان قلبها يدمع، وعينها تجف، وصدرها ينشج، ونفسها تتمزق كورق الورد.
من هذا البيت المتواضع خرجت أحلام تبحث
عن الحياة، ليكون لها طعم، ولذة، كان إحساسها عميقاً بالانتماء إلى المجتمع، وكانت
فرحة، وابتسامة، ولفتة حالمة وهي تمشي فوق الأرض، وكانت انصهاراً في النفوس، دون أن
تدري أن النغمة الناشزة في المجتمع الفاضل، تشوه النغمات.
عرفت بين الصديقات بصفات، كان للفكاهة
في حياتها جانب كبير، كما عرفت بسرعة البديهة، وحضور النكتة، وخفة الظل، وعرفت
برهافة الإحساس، والكآبة، وكثرة البكاء.. كانت تداعب صديقاتها وهن في جماعة
بنكاتها، وتضفي المرح والبهجة بينهن، فمن مداعباتها أن ترغمهن على الضحك.. تجلس
أمامهن، وترغمهن على الصمت، ثم تبدأ بالضحك شيئاً فشيئاً، ويعلو ضحكها، وتسيل
دموعها، وتأخذ الصديقات بالضحك بشكل غريب، ضحكها كان يستدعي ضحكهن،.. هذه لعبتها
المفضلة معهن، ثم لا يلبث أن يتحول ضحكها إلى بكاء صارخ، وهطل من الدمع غزير،..
يدهشن، يخففن عنها، ويتساءلن: لم كانت تفعل ذلك؟.. أفي صدرها أسرار مدفونة تفرغها
بهذه الطريقة المتناقضة؟.. مرح، بهجة، ثم ألم وحزن، يخففن عنها قائلات:
- هوني عليك، وجففي دموعك، لا يجمع الله بين اليأس والأمل.
كن يرين ملامح القلق، والمرح بآن في
عينيها العسليتين، ويلمسن الشرود فيهما، حين يرحل بها إلى الوطن، شرود يشعرها
بالضياع أحياناً.
أما ليلى فكانت الطيبة والرقة على
وجهها الأسمر، ويسكن القلق والذهول في عينيها السوداوين، وينسدل شعرها الفاحم على
ظهرها بنعومة، ولمعان، وإن جلست بين الصديقات فدون صوت، وإن تحدثت فبصوت خافت.
كانت روح أحلام تعاني من الأحزان،
والوله، وهي تسمع عما يصيب وطنها الحبيب من النائبات، حين غدا مرعى للسفهاء
المفسدين، يستحكمون في الأرض المقدسة بالأوزار، والآثام، حتى طال ظلمتهم كل قرية،
وكل مدينة، ونال الشجر، والزهر، وكانت دوافعهم خبيثة لتهجير السكان.. رعدت القلوب
بالخوف، واستولت عليها الهواجس، ورددت المرابع أصداء العويل، وهم يغتالون الرجال
والأطفال.
قالت الأم:
- إن دماء الأبرياء لا تخمد حقد اليهود، ستكون ناراً في ثورة لا تهدأ مع الزمن،
يهود يقتلون الرجال والشباب، وينبت أطفال، وشباب، يحملون دماء الأبرياء لهيباً في
قلوبهم.
باستخفاف قالت ليلى:
- يتوهم اليهود في إقامة دولة إسرائيل بالظلم، والعنف، ولو يريد الله لهم كياناً
مستقلاً في فلسطين لكان لهم ما أرادوا، في عهد موسى عليه السلام، ويعتقدون أن الله
لهم وحدهم، وأنهم شعب الله المختار، وأبناؤه، وأحباؤه، وفي كل مرة يفشلون.
- إن نجحوا اليوم بعض الشيء، فلبعدنا عن ديننا، وسيهدم الوهم برجوعنا إلى إيماننا
الكامن في نفوسنا.
- سيستيقظ، ويهدر، ويهدم ما بنوه، عاجلاً أم آجلاً، والله معنا.
- إن كانت قلوبنا تتفطر حزناً وألماً لما يصيبنا اليوم من المحن، فلن نستسلم لها،
ونضعف، ينبغي أن يكون حافزاً للنهوض.
كانت الأم وابنتاها غارقات في نقاش
يقوم على الظن والتخمين، بسبب ندرة المعلومات، أو بسبب أجزائها المبتورة، فالأحداث
في فلسطين تتلاحق، ولا تنتظر، وواقع جديد يولد، وتحديات تظهر، تواجه الوضع الراهن،
وما يؤدي إلى مستقبل خطر، واحتمالات رعيبة،.. وليس من السهل أن ينتزعن أنفسهن من
النقاش، ولو قررن الصمت، فما حصل في الوطن حمل صدمة رهيبة للكثيرين، ولعلهم قلة
أولئك الذين لم تأخذهم الصدمة، أو مستهم مساً هيناً، سرعان ما تم استيعابهم لها،
وتجاوزها.
كن يدرن حول تفصيلات منقوصة، يلتقطنها
من المذياع، أو من المهجرين، أما الحقيقة فمهما غامت فلا بد أن تظهر بعد زمن قصر أم
طال، كان كل فرد يدلي بدلوه،.. فالتجربة في فلسطين كانت قاسية، واختلفت حولها
الآراء.
- فلسطين لم تمت، وقدرتها على النهوض من كبوتها لم تعطل، إلا أن المعوقات في درب
النهوض كبيرة، ومتنوعة.
- كنا نسمع من الأخبار بأن اليهود يواجهون شعباً غاضباً عليهم، ويصممون على ترحيلهم
من أرضهم، مع ندرة الأسلحة.
- لقد أصبحنا في واقع جديد، يتطلب إعادة ترتيب الشعارات، والمواقف، ومن ثم تحديد
الرؤية والاتجاه، والبحث عما يجب أن يعمل لمناصرة شعبنا في فلسطين، والحيلولة دون
تنفيذ أهداف العدو، التي هي أخطر من العدوان نفسه.
قالت ليلى بحزن شديد:
- التهديدات للشعب تتوسع، وتهدد جيرانهم، وأمنهم.. ماذا تقصدين يا أحلام بإعادة
ترتيب الشعارات، والمواقف؟
- سأحدثك فيما بعد.
- أراك كثيرة الخروج من البيت.. إلى أين تذهبين؟.. لو يعلم عمك، لتصرف معك بما
يلائم.
قالت الأم بجزع:
- خدعها الناس بقولهم حسناء... البنت عادة تتوارى خلف أسوار النساء.
- هذا جيلك أنت يا أمي، أما جيلنا فقد اختلف الأمر.. إني أكره التمييز.
- أعوذ بالله من كلامك هذا.. تعالي، اجلسي بجانبي، وحدثيني.
- قد تجدين الأمر سخيفاً.
(4)
كان "عبد الكريم" يمهد الطريق للشباب
كي يصلهم بالأفق الماركسي بالاجتماعات، وتوزيع الكتيبات، دون علم آبائهم، ظاناً أنه
ينورهم نحو المستقبل، فكان يلتحم بصميم مجتمعه، ويعمل على خلخلة القيم الموروثة
والموازين، حتى صار بعضهم يقولون بوجوب نسيان الماضي، وتغيير الحال، وصارت الشيوعية
عقيدة لهم، يرونها منقذاً لهم.
علمت ليلى باعتناق أختها لتلك المبادئ،
شعرت بالخوف، جادلتها قائلة:
- تلك المبادئ فيها دمار للماضي، والحاضر، والمستقبل، هي خراب،.. أنبيع قيمنا،
وصلتنا بالله بشيء وهمي؟
قالت أحلام:
- التغيير يعني لنا شيئاً آخر.. نحتاج إلى قوة تحمينا، وليس إلى غيبيات.
- رجاء، قفي وقفة صدق مع فطرة نفسك، خلصيها من الشوائب، نحن بحاجة إلى تجديد
ماضينا، وليس إلى تخريبه، إلى صيحة حق فيها الصدق، لنصد أعداءنا، أعداء الله، لنزحف
إليهم، بأصالتنا العربية الإسلامية، قبل أن يتموا زحفهم إلينا، ويدمروا تاريخنا
العظيم.
كان الحزب يدعوها باستمرار، وهي تلبي
الدعوة، وباستمرار تنفصم شخصيتها عن الواقع الإسلامي، وبالتالي تزداد توتراً،
وتمرداً.
كان "عبد الكريم" يروج لعقيدته، وكان
يتميز بقوة الشخصية بحيث يخضع له أتباعه تماماً، يرتكز على الإلحاد، وعدم الإيمان
بالله الخالق، بالإضافة إلى أفكاراً أخرى، ومعتقدات شاذة، غريبة عن مجتمعاتنا.
باستغراب سألت أحلام أختها:
- لم هذه الرتابة في حياتنا، وفي كفاحنا؟
انفجرت ليلى بالضحك، وهي تقول:
- ولماذا هذا الاندفاع العجيب الذي يظهر عندك، وعند غيرك من الشباب لا معاناة؟..
تعتمدون على دولة عظمى، على حين بنى أجدادنا التراث الحضاري العظيم رغم وجود دولتين
عظميين، كانتا متمثلتين بالفرس، والروم،.. كان تراثنا معتمداً على منبع القوى، على
الإيمان بالله تعالى.. صدقيني، لا يمكن أن يشفى وطننا من الذبح إلا بتجديد الإيمان،
والجهود، وإعمال البصيرة والفكر، والمثابرة بالسير على قدم الذات.
قالت أحلام:
- إن الاعتماد على قوة عظمى في هذا العصر، أمر ضروري.
- أمر غريب، أنتخلى عن مبادئنا، من أجل التمسك بقوة مؤقتة؟! إن هذا لهاجس شيطاني.
استشرت الأفكار المتناقضة مع القيم في
مجتمع البلد، والوطن الذبيح يتدفق دمه في كل مكان، ويشتد التواكل على إحدى
الدولتين، يأملون الفرج في الاتكال.. ويمتد التشرد، ويتسع، ويبحث المهجرون عن متنفس
لهم في جزء أمين.. ويشتد إقبالهم على المبادئ الجديدة،.. لعل، وعسى..
قالت ليلى:
- ليست الحروب الصليبية عنا ببعيد، التاريخ يحدثنا بالكثير، الغرب يبقى العدو، ولو
زوق أساليبه.. تبقى السيادة نابعة منا، ما دمنا في تصالح مع ربنا.
كان اليساريون ينثرون أفكارهم في
العقول، والأيام المشمسة تغيب عن فلسطين، ويزداد جرحها عمقاً، والمخلصون يخشون على
العروة الوثقى من الانفصام، وجودها وجود للأمة، ونهايتها نهاية لها.
وقالت ليلى بألم:
- إنك يا أحلام تقبضين على الجمر، ولا تفطنين لكفك وهي تحترق.
- ولكن أشعر بالراحة لهذه الأفكار المتطورة.
- إسلامية الأفكار كماء الحياة، تنعش قلوب المسلمين، وتجدد نشاطهم، لإعادة بناء
الأجيال، والأوطان.
- ألا تسمعين بالبلايا التي تهطل علينا مثل المطر؟.. فالشباب يقبلون عليها ليتخلصوا
منها.
- للأسف، الآباء يتركون أطفالهم بأيد غير أمينة أحياناً، دون متابعة ودراية، وهذا
أمر في غاية الخطورة، وعواقبه وخيمة.. ما يسمعون ينعكس في كلامهم، وتصرفاتهم،
وأفكارهم، عاجلاً أو آجلاً، شئنا أم أبينا، ثم زفرت ليلى وهي تقول:
- لو كان أبوك حياً لما سمح لك بتبني هذه الأفكار الغريبة.
- قولي ما شئت.. أنا أؤمن بالتطور.
- وأنا مثلك، ولكن نريد أفكاراً عربية، إسلامية، بأساليب متطورة، تصبغ بالقيم
التربوية الأصيلة، يراعى فيها خصوصياتنا.
نظرت إلى أحلام باستعطاف، وقالت:
- أترين هذه الأرض التي نقف عليها، ونتغذى بخيرها؟.. إنها تراب أجدادنا، ضمت
عظامهم، ورفاتهم، تعبوا فيها كثيراً.. تحتاج إلى الذين يحمونها، لا إلى الذين
يعيثون فيها فساداً.
كانت ليلى متألقة بحجابها، وخلقها، رغم
النشأة الواحدة مع أختها، اتخذت المثل العليا، والسلام الذي يطير بجناحين قويين،
جناحي التوحيد، وتلقيها الإيحائي.
- تبحثين يا أختي عن وجودك الإنساني الحقيقي، فالمحبة الإلهية تشعرك به، فلا تنساقي
للأوهام، قوي صلتك بالمجتمع، فهذا البلد متماسك بالأخوة، متعاضد، يشعر بالعزة،
يغشاه النور، وترخي الأخوة ظلالها في الألفة، والمحبة، وحسن التعامل مع أصناف
الناس.
- وأفكارنا كذلك.
- بل هي استعمار جديد، يحاولون غرسها في واقعنا العربي الإسلامي.
أصبح البيت منقسماً على نفسه، يمين
ويسار، ليلى تحمل عقيدة التوحيد، وتطيع الله، وتنتهي عن نواهيه، وأحلام تتحرر من
القيم، وتسير من غير وعي، إلى مصير فوضوي.. فكانت ليلى تخشى على أختها من الانجراف،
ولا تجد وسيلة معها سوى الحوار للإقناع، لتتجاوز هذه التجربة التي تتخبط فيها، بسبب
اضطراب أفكارها، ولتمكنها من الانتصار على نفسها.
تساءلت ليلى:
"ترى: إلى أين تقودها أفكارها الغريبة؟
لماذا تلقي بنفسها في التهلكة؟
كيف أعينها على إعادة بناء نفسها؟
لماذا تستمر في حصار نفسها في خندق
اليأس؟.. أنا في حيرة من أمري"
ثم تحاول إقناعها بعدم حضور اجتماعات
لا تعلم عنها شيئاً، وتراها تعود منها متوترة، ثائرة، بعبارات، وكلمات غريبة..
أحلام تفكر بالوطن، وتحمل الشعب عار الاحتلال، وترى أن يثأر ويعيد البناء، ولكن
بطريقة أخرى.
قالت ليلى:
- الثأر بإعادة بناء النفس، وليس بتدميرها، قال الله تعالى:
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
أتت العمة "نبيهة"، إليهن زائرة، وكانت
قلما تزورهن، سألت أحلام:
- أصحيح أنك تجرين وراء أفكار جديدة يا أحلام؟
- أجل، ومقتنعة بها.. ذابت في عروقي.
- كمن يسبح في مياه ضحلة، تريدين أن تخرجي من جلدك الميت، إلى آخر سيء.
- نريد التطور يا عمتي، وليس الجمود، نريد الإبداع في حياتنا، والاستفادة من
الآخرين.
- إن كان التطور في الأساليب، فشيء رائع،.. أما التطور في التراث فبهدمه؟ فتراثنا
ليس من إبداع الخلائق، ولكن من إبداع الخالق،.. ولا بد من الجهد المتواصل في اجتياز
العوائق للوصول إلى الهدف.
اقتربت العمة "نبيهة" من أحلام، مسحت
على رأسها، وهمست في أذنها كلمات ملأى بالحنان، ولكن أحلام تهرب بعينيها منها،
وتنظر إليها بطرف ساخر.
صمتت العمة برهة ثم قالت:
- عندما أتينا وغيرنا هذا البلد، كان الضوء ينهمر، والبناء شامخاً، ثم أنتم
الإلحاديون تريدون هدم البناء كلية، وإنشاء غيره.. حسن أن نتأثر بأفكار الغير،
ورؤاهم، وأذواقهم، وأخيلتهم، ولكن بما يتناسب مع تراثنا الديني، والروحي، وإلا تحول
الأمر إلى شيء مثير للسخرية، أو الشفقة، ولن نحظى بالاحترام أبداً، وتحول تراثنا
إلى كارثة مكومة أمامنا، وعشنا في خديعة أنفسنا.
قالت أحلام بسخرية:
- فليبق آثاراً وذكريات في التاريخ.
- كيف نتناسى بناء ملأ البشرية بجماله، وعطائه، وروعته، لنبني آخر على طراز لا ينبع
من داخلنا؟.. تراثنا بناء فيه إبداع يؤوينا، ويدفئ وجودنا، يحتاج فقط إلى تنقية
وترميم، وإزالة ما علق به، بأساليب حضارية زاهية، لتبقى الحياة تضج فيه، وتبقى فيه
النضارة، والسمات المميزة.
قالت الأم:
- كفي يا ابنتي عن أحلامك الهشة، نحن في بلد لا يد لنا فيه.
كانت أحلام تستهزئ بأقوال عمتها،
وتستبعد من ذهنها أموراً كثيرة، فرائدهم في الحزب يوجههم إلى عكس ذلك. كانت
تصوراتها شاردة بين اليمين واليسار، ولكنها أكثر انجذاباً إلى الآخر، وانغماساً
فيه.
بصوت عال قالت:
- إن جرحي يا عمتي لم يتوقف عن النزف.
- كلنا في حالة نزف، سنبقى هكذا حتى تلتئم الجروح.
قالت الأم:
- الزمن يداوي الجراح.
- ولكنه يتحرك بطيئاً ثقيلاً كعادته.
- نخفف ثقله بالصبر، والكفاح.
- الأيام تتلو الأيام، يجر بعضها بعضاً، تحمل الخزي والبؤس.
- لم لا نتفاءل، ونقول: ستأتي الأيام بالفرج، والفرح؟
قالت ليلى بدهشة:
- هل أتاك يا أحلام خبر الوطن الجريح؟
- ما هو؟ هل من جديد؟
- إن العدو يقتل قتلاً جماعياً، دير ياسين أفناها على بكرة أبيها، وأخرى من القرى
المجاورة، وفي غيرها يقطعون أيدي الأطفال، ضربت العمة بكفها على صدرها، وبدهشة
تساءلت:
- لماذا يقطعون الأيدي بالذات؟.. أتراهم يريدون قطعها حتى لا تقذفهم بالحجارة،
وباستخدام المقاليع؟ أم إلقاء الحجارة، والمقالع منها؟
- كلاهما.
التفتت ليلى إلى أختها، وقالت:
- أما آن لك أن تقوي صلتك بالله، وتبتهلي إليه كي يخلص وطننا من العذاب؟
- بل نعتمد على قوة عظمى.
بادرت العمة بقولها:
- سبحان الله! بم تفكرين؟... لا ترد فلسطين إلا برجوعنا إلى الله.
- غيب لا تراه عيني، وروسيا موجودة بقوتها، وعظمتها.. فقط نتبنى أفكارها، ونحلها
محل ما تعتقدين.
- الإله في السماء يدبر شئون العباد.
- إذن، لماذا لا يدبر شئون وطننا؟
- لابتعادنا عنه، واستعانتنا بغيره.
- هراء.
حاولت ليلى أن تلمس قلبها، وتهزه،
وتوقظه من هاجس الهوى، فقالت:
- وراء أي شيء تلهثين؟
عقب الحوار لحظات صمت، وليلى تأمل أن
تطالعها أختها بردّ فيه تعقل.. ثم استرخى شيئاً فشيئاً.. نظرت أحلام إلى عمتها،
حدقت في وجهها تستشف معاني الكلمات، حاولت أن تقنع نفسها، تركت العنان لتفكيرها، لم
ترد أن تثير مشاعرها ضدها، تعرف قسوتها، وتحفزها القسوة إلى الضرب، والإهانة.. قررت
أن تسكن، ولكن صمتها أثار ظلالاً محيرة في نفس العمة، وبغضب تقمصت شخصية أخيها
خيري، وبحزم قالت:
- لن تخرجي بعد اليوم إلى تلك الاجتماعات التافهة.. أتفهمين؟
ثم خرجت ثائرة، متوعدة.. كان أخشى ما
تخشاه أحلام غضب عمها إن علم بالأمر، التفتت إلى أمها قائلة:
- عمتي دائماً تعقد الأمور، ونحكم عليها دون تفحص.. هذا ليس عدلاً.
- ما العدل إذاً؟.. عمتك على حق.
قالت ليلى:
- وأنا تعبت لإقناعك.
عضت أحلام على شفتها بغيظ شديد، ثم
قالت:
- أتمنى أن أنتقم من عمتي، ومن بيت عمي.. أنتقم منهم جميعاً.
- لماذا؟ تكلمي.. لقد رأيتك تشيحين بوجهك عنها.. وتصمتين.
- رأيت في صمتي قوة أقهرها به.. ألم تريها وقد خرجت ثائرة، غضبى؟
- لم أعلم بأنك حقود إلى هذا الحد.
تعثرت الكلمات على شفتي أحلام، مبللة
بالألم.. تملك الأم إحساس بالشفقة، وبررت أخطاء ابنتها، وقالت:
- فقط أختك تريد أن تتطور، ثم تتهم بالتمرد.
- أمي: لم تبررين أخطاءها؟.. هذا يزيدها إصراراً وعناداً.
قالت أحلام:
- كلمات عمتي القاسية، وتوعدها لم تخلع أحلامي من قلبي، بل تزيدها رسوخاً.
- لم إذن تبكين؟
- لأشياء كثيرة.. الحرمان، القهر، الفقر، أليس لديكما إحساس بالمقارنة، بيننا وبين
بيت عمي؟
- نشكر الله على كل ذلك.
يتبع إن شاء الله.
*
أديبة سورية تعيش في المنفى