التقرير الآخير حول محنة ابو لكيلك الجنجويدى ..
حياة ادمو لغير المقربين منه تبدو غريبة , وغامضة , فى ان !. تنهض فى قدرته على
تسريب تلك المشاعر المتناقضة للاخرين : التوبة , القدر , الثورة التراجيديا ,
القلق , الشغف و الموت .
وكلما اقتربت منه اكثر , اكتشفت ان هذه المشاعر المتناقضة , هى الاختصار لمعنى
الحب والقضية ( الوطن ) عند ادمو !..
لطالما حاول ادمو السيطرة على ابو لكيلك الجنجويدى , مدفوعا بهذه المشاعر
المتناقضة . ولم يجن سوى المقاومة , التى كادت ان تودى بحياته , لاكثر من مرة .
لولا نفوذه وتراجعه عن الاستمرار , فى محاولة التاثير على ابو لكيلك ...
كان ادمو رجلا استثنائيا , لا تنقصه الشجاعه ويدرك ان اصعب شىء لمن كان مثله ,
الابتعاد عن الشر , وظل ابو لكيلك هو التجسيد الحى لما يطلق عليه , ادمو ( شرا
) ..
حبيبته حليمة" الورتابة ", تكرر مرارا , بخفوت : ( نظراتك تخيفنى لكانها تثقبنى
, من اين جئت بهذه العيون ؟ !.. ) وكعادته عند تلقف يدها , لا يعلم ما هو افضل
شىء ممكن ان يقوله لها( الان )!..
لا يزال ادمو رغم مرور سنوات طويلة , يتذكر فى قيلولته المتكاسلة , كل ما مر
بحياته . من مرارات واسى , والتياع .كأن كل شىء حدث البارحة فقط ... وبين كل
ذكرى وذكرى , يتوقف ليحاسب نفسه ( لو كنت صمت واغلقت فمى لما جرى الذى جرى ..)
يتاوه ادمو فى وحدته , متكئا على بقايا من ذكريات تشظت فى هجير السنوات العجاف
..
كثيرا ما يرى الحيرة , تاكل عينى حليمة الواسعتين ..حيرتها منذ اول لقاء لهما
فى سنى حياتهما الباكرة . حين اخترقا عالميهما , غائبين فى غلاله برزخية تقاطع
فيها الالم مع القسوة والنيران التلظى , معلنان مواجدهما الوليدة للوادى .
واشجار القمبيل . وشجر القنا , و ... منذها بقدر ما اقتربا من بعضهما اذدادت
المسافة بينهما اتساعا ..فقد ادرك ادمو انها لا تنتمى الى عالمه .. ذلك الحس
الاسطورى , الذى يهيمن عليه ويتغلغل فى روحه وجسده ! ..
ولكن ظل مخلصا لها .. وظلت وفية له .. كانت سعيدة بسيطرته عليها , وكان يفهم
دخيلتها ..
ظل ادمو لسنوات طويلة يشعر بالحاجة للحب , فى كل ما هو حوله , لا يحتمل كلس
الحياة . يعانى الامه وحده , دون ان تصدر عنه اهة واحدة ..
منذ ميلاده , ولدى دخوله "الخلوة" اخذ يفكر فى كون اللغة .. اللغة التى يحفظ
بها سور الكتاب المقدس , ولغة قبيلته المختلفة عنها .. وفى هذين الكونين اخذ
يتحرك لاستكناه هذا السر الذى يبدا
من هنا وهناك بين تلافيف الايات , ومتون الاحاديث . وحواشى سيرة النبى العربى
..كان سؤالا جارحا يتغلغل داخله لينفتق عن ضباب يفضى الى ضباب اخر !..
قدر خفى ذلك الذى قاد ادمو الى المدرسة الابتدائية , دونا عن اقرانه , فى القرية
الصغيرة الرابضة على ضفة الوادى . حذاء دغل القمبيل ..
وبين مرحلة واخرى كانت هويته تتمزق لتلتئم وتلتئم لتتمزق . هويته التى صاغها ابواه
. واهل قريته . باسحارهم , وطقوسهم وطبيعة الوادى الناهض اسفل الجبل ..كانت لغته
الام تبتعد , لتحل العربية , التى التهمها ذكاءه الحاد متسللا اسرارها , واطماعها
وهيمنتها على لغته الام ..تعرف ادمو على التاريخ الانسانى وهو يودع اخر مراحله
الدراسية ..ادرك صراع الانسان فى محاولاته الدائمة للسيطرة على قوى الطبيعة ... ولم
يستطع تفادى رؤية تاريخ قريته يتحول الى اشلاء بين معان تاريخ اوروبا , والعالم
وبلاده الكبيرة , التى يشقها النيل كفلقتين لنواة نصفها متغضن , كالعرجون القديم
..المعارف المتناقضة والمتصادمة فتحت وعى ادمو , على اسئلته الحارقة .. تناهشته
الاسئلة ففتح كيانه على مصراعيه , متوغلا فى عزلة عميقة , لم يخرج منها الا وهو
حاملا السلاح ضد ابو لكيلك الجنجويدى ..
قبل سنوات طويلة من اتخاذ ادمو لقرار الثورة المسلحة , دهمت حليمة غربته ووحدته
القاسية ..على شفة الوادى جلست , دون ان تستاذنه .. التفت اليها ووجهها يلتف بوجهه
.. كان صفير الريح يتخلل الوادى الوادع , , فغابت فى مسام الريح .. تبعها ادمو ,
مكتفيا بان يجذبها الى مركز الريح , غارقين فى انينها ولوعتها وهى تحتك بقش القطاطى
وصريف الحيشان , المزروبة بعيدان الدخن ..
كان ادمو يدرك ان حليمة تعلقت به منذ الصغر , لانه المحسوس امامها . تنظر لقصتهما
معا , كقصة حب حالمة , وهما يتسللان خلسة من خلوة الفكى ابراهيم شطة , الى الدغل فى
ضفة الوادى , او الغابة حيث صندل الردوم , والدروت , اعلا قوز السمسم ..
كان هدوء حليمة , يضفى على جنوحه , طابع المغامرة التى يحب , وبشعائرهما المقدسة ,
عند لقاءاتهما تنفتح بوابات السحر , ونوافذ الشجن الريفى , كانشودات اثرية لم تكتشف
..غموض ادمو هو ما يدفع بقلق حليمه الى اقصى الحدود ..: عندما يغيب دون رسائل ,
عندما يجىء دون ترقب ..تتمنى الايسافر مرة اخرى ابدا _ هكذا ظلت حليمة تعانى
توجداتها منذ سنوات دراسته الاولى فى المدينه حتى لحظة دخوله فى تلك العزلة البديعة
التى خرج منها ثائرا يحمل السلاح , معلنا تمرده على ابو لكيلك الجنجويدى ..كثيرا ما
كان حرص حليمة على لفت انظار الاخرين يقلقه , ويفجر داخله كل كوامن التوتر الازلى ,
لروحه الملتفة فى دمور ابيض, يحاصره فى احلامه النادرة !.. جمال حليمة , جاذبيتها
وسحرها الذى يشبه تلك الاحساسات المتسربة من بوح الهة المعابد الغابرة .. كل شىء
يخص حليمة يدفعه اليها دفعا , وتتسع المسافة بينهما ايضا فى الان نفسه ؟!..
بعد محاورات عديده,ووعد ومواعيد فاشله ,في اطار من السريه المتسربله بسلسله معقده
من
الاتصالات والوسطاء.بعد كل هذه المحاولات نجح ادمو في لقاء مندوب (اليانكي)..
تحدث ادمو عن آلام شعبه وامجاد اسلافه وجهودهم الدبلوماسيه ,قبل هيمنه (الجنجويد)علي
البلاد الكبيره ....تحدث عن البعد الانساني لقضيته وواجب الاسره الدوليه .وكان
مندوب (اليانكي)يبتسم في خبث ودهاء والكلمات الاخيره لرئيسه لا تزال ترن في فضاء
اذنه تذكر انك يانكي..)...
في تلك الظهيره الغائظه التي التقي فيها ادمو اليانكي,كان مشحونا بانفعالات
الارضحليمه..ومشاهد الرفاق الذين سقطوا في غارات الجنجويد ,علي القري
والحلال...جاءت صوره امه العجوز(خاطره) وهي تحترق داخل قطيتها ,المحاصره بالجنجويد,جاءته
صوره ابيه (لاول مره يراه يبكي )..كان مقطب الجبين,يتكلم بصمت,وفي عينيه تمتزج
مشاعر شتي...
ادرك ادمو ان الجنجويدي ابو لكيلك اختطف حليمه للضغط عليه...التاع ,هاجت دواخله
..كانت ذكريات الذين لطالما احبهم بعمق, وترسخ وفاؤه لهم في وجدانه,تداهمه كالف
عقرب تتصارع في زجاجه مغلقه؟!...
انفض اجتماع ادمو باليانكي ,فتوجه الي اتباعه وحواريه,ضغط علي مشاعره الذاتيه.تغلب
علي المه والتياعه ...خطب فيهم عن حالهم ومآلهم,حتي سالت من عيونهم دموع الدم,تبلل
ارض المعسكر,المخفي بعنايه,في قلب الجبال .ومضي ادمو ينظم صفوفه معلنا حربه الضاريه
علي الجنجويد وجيش ابو لكيلك الجنجويدي...ومع اشتداد المعارك,والهزائم المتواليه
لجيش ابو لكيلك,انتشر الفزع ,في اوساط العالمين ببواطن الامور,من صفوة سنار الجديده.
بينما كانت العامه,تمضي بايقاعها ذاته ,لا تعرف شيئا عما يجري في الحدود البعيده ,فاجهزة
اعلام ابو لكيلك ,عتمت علي غارات الجنجويد, وهزائم جيش ابو لكبلك ,واكثرت من بث تلك
الاغنيات ,التي تكرر(الجريف واللوبيا,التومات,زولي هوي,شقيش قولي مروح وانت يا
الابيض ضميرك) ولم تنس بث اغنيات( الجبجبه؟!)..دون ان تشير بين فواصلها للقتل
الجماعي والاغتصاب وحرق القري ,حيث غارات الجنجويد لم تبق ولم تزر...
كان الجميع يتساءلون كيف لادمو الذي طالما شدا,بثوابت ابو لكيلك العجيبه,وتغني
بامجاده,كآخر خلفاء النبي العراف ,ذو البدله البيجيه ,عالم القانون واللغات ,وفتاوي
النكاح الشرعي ,وحيض النساء النفساوات .. كيف لادمو هذا ,ان يشق عصا الطاعه علي
سيده المهيب الركن,ويعلن الثوره علي سعادته,بكل هذا الجنون؟!......
وبالطبع سقط هذا السؤال في قصف الانتينوف والهيليكوبترات والمدفعيه الثقيله ,علي
الفلاحين والبسطاء ,الذين كانوا ينظرون لادمو(المنقذ ,المخلص الذي سيملا ارضهم عدلا
,بعد ان ملئت جورا )بعيون ملؤها الاسي والالتياع...
قال عباس ود الخزينلا بد من القضاء علي قطاع الطرق,وزعيمهم ادمو ,المارق
المرتد.).........
كان ود الخزين لحظتها يؤكد.علي صدق النزوع النفسي لابولكيلك في شهوة القتل,وعشق
الدم والاستباحه..ففي اليوم الذي سبق اليوم الذي استولي فيه ابولكيلك علي السلطه
,في سنار الجديده.كان قد افتتح انقلابه علي الامراء العنج,بقتل عشره من
الفلاحين,وثلاث غنمايات وحمارين ليتأكد من كفاءة بندقيته , فشد كبير العرافين على
كتفه بود , مستحسنا فعلته ...
من دون كل المقربين منه , كانت علاقة ابو لكيلك بادمو , مميزة , على الرغم من
احساسه الدائم , بان التفاهم مع ادمو , من الامور التى تصعب عليه , الا انه وجد
نفسه منجذبا اليه على الدوام .. ربما لان ادمو لم يكن , يكترث للتفسيرات العقلانية
, لسلوك ابو لكيلك ,. هذه التفسيرات التى , لوطرحها لوجد ابو لكيلك , حرجا شديدا فى
تبرير وجوده واستمراريته ...
اشد ما كان يزعج ابو لكيلك . هو خوفه الدائم , من شىء غامض لا يدرى كنهه بالضبط .
هذا الخوف الذى يطارده منذ الطفولة الباكرة , جعله لا يستطيع , احتمال العلاقات
المستقرة بالاخرين , ووقف خلف تعذيبه فى الصغر , للزواحف والعصافير , والتسلى -
عندما بلغ مرحلة الشباب - بقتل الكلاب والفئران والقطط ..سبب ابو لكيلك , بسلوكه
العدوانى مع اقرانه لاسرته , توترا وقلقا عظيمين , وازعاجا لا حد له .
كان ابو لكيلك , على الرغم من الخوف العظيم الذى يسكنه , يشعر بانه عظيم ونبيل ,
ولا احد يدرى كيف تكون فى دخيلته مثل هذا الشعور الزائف .
ظلت علاقة ابو لكيلك بكل من حوله عاصفة , لا تفتا بين كل ان واخر , تقتلع امامها كل
ما هو جميل , يربط بينه والاخرين ..اخضع ابو لكيلك كل من حوله - الوحيد الذى لم
يتمكن من اخضاعه , هو ادمو - كثيرا ما كان يشعر , ان علاقته بادمو اشبه باختبار
القوة .. كان الهتاف باسم ابو لكيلك , والتصفيق له من احب الاغنيات التى يشتهى
سماعها فى كل لحظة .. لا يذكر ابو لكيلك فى حياته العامرة بالمعارك , انه احب فتاة
قط . كل الفتيات اللائى ربطته بهن علاقة عابرة , اسقطهن من حياته , بمجرد انتهاء
رغبته فى الاستمرار , جميعهن كن جميلات , خاضعات . يتباهى بهن امام اصدقائه , بفخر
واعزاز .. ولطالما حلم بنوع من الحب الاسطورى , كذاك الذى فى الف ليلة وليلة .ولا
زال ينتظر مثل هذا الحب الكبير .
العلاقة بين ابو لكيلك وكبير العرافين ظلت غامضة حتى لحظة دخول اليانكى , فى مؤخرة
طلائع مليشيات ادمو , فكبير العرافين شخص من ذلك النوع الذى تنسج حوله الحكايات
التى يصعب تصديقها , فالى جانب انه كائن فطر على التكاثر اللا جنسى ( كما يطيب لود
الخزين التعبير ) كان مولعا بالابتسامات الشبقة التى يمنحها لاتباعه وحواريه بسخاء
..
فكبير العرافين ظل طوال عمره فى حالة حب دائم , كعاشق ولهان , ومغرم بفتيات سنار .
وما يشعنه من عالم بهيج . ..
عاشق لتلك الترانيم التى يسمعها فى الليل فتملؤه حبورا , وتجعله يسير الاف الفراسخ
فى طريق لم يمض فيه احد من قبل . يتبع تلك الهواتف المضيئة -كما يزعم - التى تقوده
من ظلمات الى اضاءة خافته , فشعور بالخدر اللذيذ ..حيث يشعر بالتحرر الكامل , كان
يدرك انه حصل على الحرية بعد ان دفع ثمنها من عزلته لعشرات السنوات ..
قالت التاية زوجة ابو لكيلك لجارتها محاسن زوجة وزير الدفاع خلف الله الجنجويدى : (
ابو لكيلك مسكين وغلبان , ما قادر يتفكك من سيطرة الزول دة عليهو .. يقولو شمال
يمشى شمال يقولو يمين يمشى يمين !؟).. سالت محاسن بتردد دحين يعن ما عندو شخصية
؟!) , فرمقتها التاية بنظرة غاضبة , جعلتها تتراجع وتضيف : ( برى يا اختى راجلك منو
الزيو ..هيبة وسلطان ..) .. وعندما ابتسمت التاية , هدأت اضطرابات محاسن
وانفعالاتها التى كادت تشرخ الجدار . ووجدتها فرصة مناسبة , لتسر للتايه : ( كل ما
يبشاع عن انقسام العرافين , ومناواة احد القسمين لابو لكيلك محض اختراع لزر الرماد
فى العيون , فكل ما حدث ويحدث , هو من بنات افكار كبير العرافين , لغرض لا يعلمه
الا هو , بسره الباتع وابو لكيلك شخصيا !).. فابتسمت التاية فى رضا , وهمست محاسن
فى سرها : ( سجم خشم امو ) !!...
وقتها كانت سنار , قد افاقت من بوح غفوتها الغامضة على تاوهات ابو لكيلك الجنجويدى
التى اهتز لها القصر المتاكل , وفى الوقت نفسه كان ادمو لا يزال يستعيد فى خاطره
ذكريات الصبا والطفوله .
افاق ابو لكيلك من الكابوس , الذى راى فيه نفسه مخنوقا , ينظر الى راسه وهو يتدلى
من السقف .تحيط به انشوطة طرفها ثابت فى السقف . فتاوه تلك الاهات العميقة التى
سمعها كل من فى القصر من حاشية واتباع .
من اعمق اعماق بوتقة سنار , تلفت ابو لكيلك فى فراغ الغرفة ذاتها . التى خرجت منها
اخطر القرارات , لاكثر من عقد من الزمان, تلك القرارات التى قذفت بشعبه الى حالة من
الياس والبؤس الفريد , والقلق والتوتر العظيمين , وغيرت من مصيره , باتجاه اخر اكثر
غموضا , من اهاته الملتاعه .
عندما تولى ابو لكيلك زمام الامور فى سنار الجديدة , كان مدفوعا من العرافين ,
الذين اوهموه بانه رجل ذو شان عظيم فقدر ثم قدر , وراى ان من الحكمة ان يفعل بشعبه
كل ما يشير به
العرافين . وعندما حدثه عبد الجواد ود الباهى , نقلا عن احد العارفين باسرار
العرافين , الذين احكموا الحصار حول ابو لكيلك , لم يصدق عبد الجواد بل وانتهره ,
فخرج الاخير غاضبا , ومضى ابو لكيلك الى كبير العرافين يسرب اليه شكوك ود الباهى
ولم تمض سوى ايام قليلة , حتى مات ود الباهى - او قتل - وتكررت حالات الموت فى ظروف
غامضة , لكل من تشكك فى عرافين ابو لكيلك . واصبحت منذها مقولات العرافين من ثوابت
ابو لكيلك التى يصر عليها فى خطاباته الجماهيرية اكثر من العرافين انفسهم , حتى شاع
فى سنار الجديدة القول فى سخرية ( التركى ولا المتورك ) كناية عن المازق الوجودى
لابو لكيلك فى تبنى امور غريبة نيابه عن اصحاب هذه الامور .
ظهر ذلك اليوم ,الذي افاق فيه ابولكيلك محاصرا بكوابيس اليقظه التي اخترقت احلام
سنار ,استعاد في ذاكرته عمليات السحق والتنكيل التي قام بها ضد الجمعيات السريه
-التي كانت علنيه قبل توليه الحكم ,انقلابا عليها- حتي لم يبق لهم صدي.
كانت تقارير مخبريه مؤخرا,تؤكد ان زعماء الجمعيات السريه الهاربون ,شمتانون في ابو
لكيلك وليس لديهم استعداد في اقاله عثرته ,وتطييب خاطره في محنته الكبري ..
ظهر ذلك اليوم هتف ابولكيلك -بعد اضطلاعه علي آخر التقارير- بحاشيته التي كانت
تتساءل باحساس ملؤه الزعر والخوف والترقب....
سمي ابولكيلك وصلي ,واستهل بثوابته المعتاده ,التي طالما حولت حنين اهل سنار الي
اسي,وذكريات اسلافهم بكل الحكايا القديمه الي حرب ضاريه ,انتزعها ابولكيلك من قلب
التأريخ ليزرعها في حاضر سنار الجديده .فاستحالت تلك الثوابت الي كوابيس ,اقلقت
مضاجع عمال القصب الكتكو,والفحامه والفلاحين البسطاء في اقاصي البلاد ودوانيها
واؤلئك الذين يعيشون علي جني الثمار ومطارده الارانب بالسفاريك...
كان كل من في القصر يتصبب عرقا عندما ختم ابلكيلك خطابه ب(من اراد العوده فليغتسل
بماء البحر ومن اراد السلطه فليحمل السلاح لقتالنا )...عباس السنجك همس لود القراي
ابولكيلك ما ناوي يجيبها البر) فهز الاخير رأسه
وصمت مطرقا بعيدا عن وجه ادمو ,الذي غضنته الاوجاع التي صنعها ابولكبلك وجنجويده في
قومه ...كان ادمو قد اضمر لحظتها في نفسه شيئا لم تكشف عنه سوي وقائع الاحداث فيما
بعد .اذ هرب في سريه تامه ,وبعد هروبه انتشرت البيانات والمنشورات السوداء التي
تحكي عن فساد عقل ابولكيلك وجنونه و الفساد في حاشيته واتباعه ,ورغم ان هذه
المنشورات لم تحمل توقيعا محددا الا ان اصابع الاتهام في اجهزه ابولكبلك
الاستخباريه اشارت كلها لادمو ...وتناقلت سنار الجديده في سريه تامه احد البيانات
,التي لم يكتب عليها ولا حرف واحد ,فاماطه اللثام عن علاقه كبير العرافين الحميمه
باليانكي وربائبهم من جوار سنار الطامعين في البلاد الكبيره ,لم تكن بالامر الذي
يحتاج الي بيان !...
لحظتها كان مفكري الدوله ومثقفيها ومبدعيها قد اكملوا كتابه ملحمتهم الغامضه التي
لم تحمل سوي عباره واحده علي مدي عشره الف صفحه هييالمصيرك تنجرح بالسلاح...) ولم
يتبرع اي من النقاد المزعومين لشرح المحتوي المعرفي والدلالي للفظ(السلاح) التي
وردت في الملحمه العظيمه لاهل سنار ,رغم تساؤلاتهم المريره ...ولان ابولكيلك لا
يهجسه سؤال,اكتفي باستحسان الملحمه مداريا جهله بعيون الشعر السناري العنيف ,لكنه لم يتواني في ان يعرض بعصاه
ويرقص,ما دفع احد الخبثاء في الصفوف الاماميه ان يهمس(جب,جب..جب...)-وقال آخر"حتودينا
في ستين داهيه" وتصدي جبر الدار ود تور شين للمسأله فلاك لسانه وهمهم ودمدم ولم
يفهم احد الحاضرين شيء سوي كلمه (جنجويد)...لحظتها كانت قبيله الجنجويد التي ينتمي
اليهاابو لكيلك قد غادرت مضاربها الي مكان غير معلوم ,وارسلت زعمائها الي قصر ابو
لكيلك ذو القبه الحمراء عند مقرن النيلين في قلب سنار الجديده ,كانوا يناقشون خططهم
لحمايه القبيله وحمايه ابولكيلك من اي هجوم محتمل,ويخططون لاستكمال خطط العرافين في
حرق مزيد من القري والفرقان واغتصاب اكبر عدد من الفتيات دون سن العشرين وقتل كل
الرجال والاطفال والشيوخ دون استثناء....
وعندما جلس ابولكيلك اليهم اكد علي خططهم ....
كان ابولكيلك منذ طفولته الباكره كائنا متوحدا يعشق العزله,ويجنح الي العنف ولديه
نزوع قوي للاقتياد وذاكره ذات قدره فذه علي حفظ تعليمات العرافين وتنفيذها - فى
صالوناته الخاصة - اثر نجاح ادمو , فى تصعيد وقائع السحل الذى تم لقومه وتحريك هذه
الوقائع الماساوية للضمير العالمى , افاد ابو لكيلك انه فعل ما فعل ليس استجابة فقط
لاوامر العرافين , بل لحبه للبيئة , فهو الذى دفعه لاعمال الابادة الجماعية ,
واستجابة لاجهزة اعلامه , ان هؤلاء السود البدائيين , يهددون الحياة البرية بالصيد
, وينهكون الارض بزراعة التمباك والبنقو . كما ان الاغتصاب من وسائل تحسين النوع
الفعالة لدمجهم فى بوتقة سنار الجديدة . ظل الهدف الحقيقى لابو لكيلك غامضا . حتى
عن افكاره الشخصية المضمرة , وفى لحظات تجليه الخاص , عندما تتسرب اليه حكايات
الاغتصاب ,والقتل الجماعى وحرق القرى , كان دائما يتسائل فى سريرته ( لماذا فعل ما
فعل , باطلاق جنجويده لاشاعة كل هذا البؤس الذى يهدد سنار ذاتها الان )...
كان ابو لكيلك ينتج افكاره بطريقه عجيبة , ينفث ذلك النوع من الدخان الذى يتصاعد فى
قاع دماغه , متموجا فى دوائر حلزونية ومن قلب هذه الدوائر تتشكل الافكار التى سرعان
ما يتلقفها الجنجويد فيزرعون الرعب فى تلك القرى النائية للفلاحين والصيادين
البسطاء فى اقصى التاريخ المنسى للبلاد الكبيرة ..
قال ود عطا الله الذى حارب جده الكبير مع الامام المهدى ومات من الجوع والعطش فى
سجن الخليفة .. ان ابو لكيلك يعانى من من ضغوط عظيمة من اليانكى الذين هددوه بالويل
والثبور وعظائم الامور , وجعلوه يرتجف فزعا ويهتف بالتاية : ( دثرينى .. زملينى ..
) .. حاولت ازاعة ابو لكيلك ان تلطف من الشقاء والضجر الذى اعترى حياة ابو لكيلك
فاعلنت عن بيان هام , استمعوا اليه فى اهتمام , فشملهم زعر وخوف مقيمين .. كان
اليانكى يتدفقون من كل فج .. فكر محمد احمد ود السرة ( لابد ان ابو لكيلك الان فى
محنه عظيمة ) ولحظة تلى وزير دفاع ابو لكيلك خلف الله الجنجويدى , _ الذى ينحدر
والده من صلب احد الاتراك فى جيش الدفتردار_ بيان التصدى لليانكى . كان ابو لكيلك
شخصيا , يجتمع بسفير اليانكى . مؤكدا على فروض الولاء
والطاعة منذ استيلاؤه على السلطة من قبضة الامراء العنج .
كان ود السرة مثل ابو لكيلك لا يعلم ان الاخير بتنفيذه لما يشير به كبير العرافين ,
انما ينفذ خطة اليانكى المزدوجة لا حتلال البلاد الكبيرة , وعندما احتج ابو لكيلك
فى ذلك الاجتماع بخنوع , قمعه سفير اليانكى بقسوة (نحن لم نقل ارتكب الفظائع..) كان
ابو لكيلك قد اسقط فى يده , وتلفت حوله فى غرفة الاجتماع مسيطرا عليه , احساس
بالهروب الان قبل اى وقت اخر ...