الآخــر
حامد عبد الواحد شخصان في واحد . الأول متزوج، له أولاد وحفدة . يشتغل في الأدب
والسياسة ، يغشى الأسواق والنوادي ، يأكل ويشرب ، وينام ككل الناس . أما الثاني
فهو كامن . هو الأصل ، لكنه لا يشارك بكل هذه الممارسات والعلاقات . إنه يتخفف
منها ، يعدّها شكليات ، فيها الأداء الآلي ، وفيها أحياناً بعض النفاق ، وفيها
ما لا يستحق العناء من تفكير وتدبير واتخاذ قرارات مصيرية .
في
الأحوال العادية لا يحس حامد إحساساً واضحاً بهذه الازدواجية ، وإن كان يعلم أنها
أمر واقع . إن التوازي والتوافق بين هذين الشخصين يبلغ حدّ التماهي في أكثر الأحوال
، فيزول التوازي والثنائية . في ظروف الأزمات يختلف الأمر .
يلحظ
حامد في حياته بعد سن الرشد - طوال أربعين عاماً - مرحلتين : عشرون عاماً منها
قضاها في وطنه ، كان فيها الازدواج كثير الوضوح والإلحاح ، لحاجة حامد إلى ممارسة
دورين ظاهر وباطن ، في حياة عامة مسمومة . حياة انفصل فيها الناس عن المؤسسة العامة
الكبرى ، فانفصلوا عن ذواتهم أيضاً خوفاً ومداراة. حامد هو من هؤلاء الناس . بل دخل
في تجارب مواجهة وتغييب ، فكان لحامد الظاهر دوره الدائر في التمويه والمراوغة
وحماية حامد الآخر . استخدم حامد الظاهر أسماء وألقاباً لإخفاء حامد الآخر : محمد
بهار الشاعر ، خالد سمان السياسي ، أبو خليل وأبو الحارث وأمثالها . مع ذلك أضطر
حامد الكامن إلى الاستعلان ، وإزاحة القناع ، والمواجهة السافرة في بعض المحطات .
في
المرحلة الثانية من عمره ، مرحلة الهجرة والغربة عن الوطن ، عاد الانسجام والاندغام
بين حامدين ، إلا حين دخول المطارات ، أو عبور مناطق الحدود ، أو جلسات التحقيق .
* * *
اليوم
بعد السادسة والستين من العمر حصل طاريء ، انعطاف مصيري .
قال
الطبيب : بناء على هذه التحليلات ، أنت مصاب ( بفشل كلويّ ) مزمن . لابد من علاج
عاجل ، غسل الكلى أو زراعة كلية جديدة .
حامد
الظاهر تلقى الصدمة . بدأ يتعامل معها . يتفهّم . يتأكد . يبحث عن حلول . أما حامد
الآخر ، فكأن الأمر لا يعنيه . ترك لحامد الأول أن يأخذ مداه ، أن ينفرد بكل ما
يلزم . مثل مشكلة النفقات ، مشكلة التعرض لمبضع الجرّاح ، الإجراءات الطبية داخل
الجسد وخارجه ، عاجلاً أو آجلاً .
حامد
الآن ممدّد على سرير المستشفى لإجراء عملية قسطرة عاجلة وغسل الكلى . لم يعترض حامد
الآخر . لم يفكر أصلاً بالاعتراض ، لأن حامداً الظاهر يمارس اختصاصه ، ويجتهد في
اتخاذ قرار إسعافيّ .
خلال
أربع ساعات - ودم حامد يجري دخولاً وخروجاً ، عبر الأنابيب الشفافة من على صدره –
أتيح لحامد الظاهر إيقاظ حامد الآخر وإطلاعه على تفاصيل الأزمة الطارئة ، والحلول
المقترحة .
شخّص
حامد الظاهر مشكلتين اثنتين . أقدم منفرداً على وضع حلّ لهما . الأولى : مشكلة
النفقات المالية الباهظة للعلاج والتداوي ، وذلك بطرق أبواب الإعفاء الرسمي ، أو
الاستعانة بالأهل والأقرباء . المؤشرات واعدة . المشكلة الثانية : إجراء عملية
قسطرة والانطراح في المستشفى مرتين أو ثلاث أسبوعياً ، وكل مرة أربع ساعات لغسل
الكلى ، أو إجراء عملية زرع كلية . في الخيار الأول هدر للوقت ، وفي الخيارين شقّ
جزء أو أجزاء من البدن ، وتعرّض للآلام والاحتمالات غير السارة . أما الاحتمالات
غير السارة فهي محدودة مع تقدم العلم والتكنولوجيا ، وأما الوقت المهدور ، فيمكن
استغلاله في التأمل والتخطيط والحمد والتسبيح والاستغفار .
-
ما رأيك ؟ قال حامد الظاهر .
لم
يجب مباشرة حامد الآخر . فكّر ، ثم فكّر ، ثم فكّر ، ثم قال أخيراً : هل هذا كلّ
شيء ؟
قال
حامد الظاهر : هذا كل شيء .
إلى
هذه اللحظة لم يكترث حامد الآخر لكل ما حصل , فحامد الظاهر هو الذي سيتلقى آلام
الجراح، وتضييع الأوقات ، ومعاناة المواجهة للمسهمين في النفقات ، وإن كانت الجراح
مؤلمة ، ومواجهة الآخرين طلباً لللإنفاق أشدّ إيلاماً . لكن إذا كانت الأزمة كلها
تُحلّ هكذا ، فليكن . . لقد سبق لحامد الظاهر أن نجح في أداء هذه الأدوار أكثر من
مرة ، وفي مواجهة أزماتها .
لم
يصدق حامد الآخر حتى الآن ما حصل له . لم يصدق أن مثل هذه الأزمة تكفيها المعالجات
التي خطط لها حامد الظاهر .
التمدد على السرير طوال أربع ساعات ، أتاح له التدخل الحقيقي وتقويم ما حصل . إن
إجراءات حامد الظاهر تناولت بعض جوانب الأزمة لا كلها . كان ظهور الفشل الكلوي
مؤشراً على انهدام ركن من أركان الجسد ، الذي أشرف على نهاية مساره ، أي سنّ
السادسة والستين . هناك توقع أن يتتابع انهدام أركان أخرى ، حتى يهمد الجسد نهائياً
. هذا إذا نجحت عمليات الغسل أو زرع الكلية الجديدة . باختصار ما حصل ليس أكثر من
تأجيل للموت الذي اقترب .
هل من
وظيفة القناع أو حامد الظاهر أن يتعامل مع الموت ؟
حامد
الظاهر سوف ينتهي وجوده بالموت . إنه موت الجسد والأعضاء . لن يبقى إلا الروح . إي
لن يبقى إلا حامد الكامن .
حامد
الظاهر انتهى دوره أو سوف ينتهي قريباً ، أي بعد الموت ، رضي حامد الآخر أو لم يرض
.
سوف
يكون البقاء لحامد الآخر وحده ، والقرار له وحده ، والمصير له وحده ، وسوف يتعامل
في عالم آخر مع طرف آخر غير الزوجة والأولاد والناس وبوابات الحدود والمطارات ،
أولئك الذين انتهوا مع نهاية القناع . سوف يتعامل مكشوفاً مع الله تعالى .
إذن
مع من كان يتعامل طوال ستة وستين عاماً مضت ؟
سؤال
قفز أمام بصيرة حامد كالعثور على جوهرة ضائعة أو حلّ مستحيل .
تفحّص
السؤال بعمق . اكتشف أنه فعلاً كان ، فيما مضى ، يسعى للتعامل مع الله . إلى أين
وصل مسعاه ؟
اكتشف
أنه لم يكن يمارس رقابة كافية على تصرفات حامد الظاهر . كان يعامله معاملة رفيق أو
صديق بل شقيق ، له حظوة ، وله مؤونة وحتى دالّة عليه .
على
ضوء التعامل مع الله يمكن أن يلحظ أن حامداً الظاهر ، كان كثيراً ما يغفل عن هذه
الصلة والميزان الحساس . ، فيقترف نفاقاً اجتماعياً ، أو يسرح ويمرح أحياناً في
الطعام والشراب والثرثرات التي لا تخلو من الغيبة والنميمة وو ... ثم حامد الآخر ،
كم قدّم من عبادات ونوافل وتسبيح واستغفار وصيام وقيام وتلاوة للقرآن ؟ !
صحيح
أن حامد ، منذ سنّ الرشد ، دخل في طور المكابدات من مواجهات للخصوم والتحقيق
والمنافي ومعاناة التأليف والطبع والنشر ، لكن هل كان كل هذا خالصاً لوجه الله
تعالى ؟ كم كان حظ الشهوة ، وحظ الشهرة ، وحظ النفس منها ؟!
إن
الله تعالى لا يقبل إلا العمل الخالص . هل كان كل ذلك خالصاً لوجهه الكريم ؟ أشكّ
بذلك . ومن يملك الإخلاص التامّ ؟
شعر
حامد الظاهر أن هذه المراجعة من حقّ حامد الآخر ، وإن كانت انصبّت عليه لوماً
وتقريعاً . وهي العادة التي تعودها في التعامل مع شقيقه الأخر من زمن بعيد .
كان
حامد الآخر يسعى للتعامل الخالص مع الله وحده ، لكن حامد الظاهر كان يؤجل أو يماطل
أو يحجب ، أو ينشغل بتفاهات ، فإلى متى يبقى السعي مفتوحاً على الاحتمالات ؟ الآن
يجب أن يتخذ قرار نهائيّ . كفّ يد حامد الظاهر ، وإنهاء صلاحياته السابقة في
التعامل المنفرد مع الآخرين . الرقابة كاملة دائبة . الازدواج مرفوض . النفاق
الاجتماعي مرفوض . التوجه الحثيث إلى الله ومع الله وفي سبيل الله وحده . غسلنا
الماضي أم لم نغسله بدموع الندم . المهم صفاء ما بقي من المستقبل ، والاستدراك .
هل
يمكن ذلك ؟
بل
يجب .
بإذن
الله تعالى يمكن أن نحقق ما نستطيع . لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها ، بعد إفراغ
الجهد إفراغاً حقيقياً .
شعر
حامد بتحول مصيريّ ، تحوّلٍ حميد ، جاء قبل فوات الأوان .
المرض
نقمة تحول إلى نعمة .
لم
يعد يحس حامد بسقوطه في هوة سوداء سحيقة .