(1)
الأزهار الصفراء لا تزال منتصبة في الفاز منذ عدة أيام. حتى ليخيل لي أنه بدأ يكسوها الغبار. مع أن الشقة محكمة الإغلاق. فالباب والشبابيك كلها موصدة والستائر منسدلة. والنور خافت في أجواء الحجرة. كنت جالسا على الكنبة في حجرة الجلوس يلفني الصمت والكمود. لا يزال الصداع يدغدغ أنحاء رأسي وصدغي.. أردت أن أشعل سيجارة فسحبت واحدة من
العلبة لكنني لاحظت أن شبابيك الغرفة محكمة الإغلاق ولم تكن في نفسي الهمة الكافية لكي أنهض من مجلسي وامشي الى الشباك لأفتحه.
لبثت برهة في حالة من السكون الشديد. وأنا أحاول أن اجمع شتاة فكري. كنت أشعر بآلام شتى تنغرس في مناطق متفرقة من أعضاء جسدي. وفجأة قفزت
الى سطح وعيي صورة سلوى! شعرت برعشة غريبة ذكرتني بليلتي الهذيانية التي قضيتها في حالة حمى ومعاناة. سحبت نفسا عميقا دون وعي واجتاحتني رغبة جامحة بالتدخين فأشعلت السيجارة التي أمضها الإنتظار بيدي المرتجفة.
ومع سحابات الدوخان الهائمة في أجواء الحجرة عاودتني صورة سلوى أكثر وضوحا وتمثلا. ليست صورتها التي اعتدت دائما ان اذكرها بها. لا. بل هي صورتها البارحة.. البارحة؟!! لا ليس البارحة بل أبعد ربما يومان أو ثلاثة أو ربما أسبوع كامل!! لا أستطيع أن أتذكر على وجه التحديد. لكنها اخر مرة رأيتها فيها على وجه القطع. كانت بخلاف عادتها هادئة جدا.. لم تكن في نظراتها اية آيات تدل على الحيرة والتفكر كما كان عهدي بها أبدا. لم تبدو لي مغتمة ولا مهمومة بل على العكس من ذلك تماما كانت متبدية بأبها حللها.. شفتاها ترسمان أعذب ابتسامة رأتها عيناي.
لم أستطع وقتها أن أدرك سر سعادتها أو الأصح لم اتمكن من تصديق واستيعاب تلك الصدمة التي صعقتني بها بغاية البساطة وبدون أدنى شعور بالذنب أو الإشفاق.. أجل كان عليها أن تداري حالتي وترأف بي وهي المرأة الحساسة التي تعرفني أكثر مما أعرف نفسي. كان آخر لقاء بيننا أقسى وأمر بكثير من تلك السعادة التي تخيلتها تنتظرني في عيني سلوى الدافئتين ورحابة قلبها العامر بالحب والتسامح. كنت أتطلع اليها بنظرات بسامة أتملى النظر الى وجهها محاولا كشف السر الكامن وراء هذا الشعور الذي حدثني بتغير
ما حل بها كنت ببساطة شديدة أحاول أن أتعرف عليها! نعم بعد كل تلك المدة من الفراق كنت بحاجة الى التعرف عليها من جديد. تلك كانت بوادر الصدمة.. وهي أن سلوى برهنت في النهاية على أنها تشبه أي شيء اخر عرفته..
فهي عرضة للتغيير! ولكم كنت مخطئا عندما كنت أجود على نفسي بآيات التطمين والتأكيد، بأنه ليس علي بأن أشعر بأدنى مشاعر القلق تجاهها..
بأنها وككل الأمور التي لم أوفق الى نيلها من قبل سوف أجدها بانتظاري
فاردة ذراعيها لي تنتظر ان أرتمي في أحضانها..
لكنني لم أكن أمني نفسي سوى بالخيبة والإنكسار وما أصعب ما يكون الإنكسار قاسيا عندما يتسبب لك به أفراد لم تعتد منهم الا على المحبة والدعم
. لانك عندما تنكسر امام طرف تعودت على عدوانيته تجاهك وكرهه لك أصعب ما يمكن ان ينتابك هو أهون مما سوف تعانيه حين تأتي
صفعتك من شخص حميم. لان الصفعة ستحمل مع ما تحمله معالم الخيانة والشعور العارم بالعار والخجل.. أجل الخجل.. لأن الحميمية التي جمعت بينك وبين هذا الشخص حوت فيما بينها أسرارك التي بحت له بها ونقاط ضعفك وأساليب تفكريك والميزان الذي تزن به الامور.. فتكون حينها الصفعة بألف..