... نظرتْ من النافذة نظرة فيها الكثير من الأسى والحزن، كانت نظرة أشبه بالنظرات الأخيرة، امتزجت فيها لسعات الضيم والغيض بلذغات الحنين إلى الماضي القريب والجميل.
 لوحت بنظرها المتذبذب فرابها منظر كلبين في الحديقة المتاخمة للدار كانا يتخارشان يكاد يمزق الواحد الآخر، لم تألفْ أمينة أن ترى هذين الكلبين في مثل هذا الوضع من قبل.
 تراجعتْ، في رمشة عين، عن فكرتها الملطخة بالسواد، وصرخة الموت جالسةٌ تنتظر على ثمرة لسانها، ودمعةُ فراق قابعة تترقب على جانبي جفنيها. وضعتْ قلامة الأظافر على منضدة خشبية بعد أن دسّتْ السكين الصغير وتوارى عن الأنظار في جوف القلامة، ثم أطلقت سراح قبضة يدها المتصلبة كالصخر، وتمددت الأصابع الخمس وأرخت عروق معصمها المتشنجة... أخذتْ نفسا عميقا كأنها استبلّتْ من خوفٍ أو هواجس مرعبة فتخلتْ عن الجاثوم الذي صارعها وحاصرها..
لكنها مازالت أسيرة التردد، سائلة نفسها وضميرها بعجرفة وحقد وكثير من التأنيب:
- سرق مني الوغد أغلى ما أملك .. وصرتُ له كما يحلو وكما يشتهي الجلاد بقوة القانون.
- لكنه جبان، أي نعم، جبان هَدَرَة، لا يستحق من الخير والإنسانية ذرّة.
- سلب مني، على حين غرة، حلم المراهقة حين تحتفل بعيد ميلادها السابع عشر، حطّم في جوفي سعادة الشابّة التي تنتظر زغرودة الجارة وعناق الأم ورقصات الصديقات...
- جرّدني من عنوان الأنوثة في مجتمع لا يرحم.. إلا .....
 أمينة المصدومة والمكلومة تتذكرُ بمرارة، في هذه اللحظة الحاسمة، كلام أمها، فقد شبهتها يوما بالنخلة؛ لطولها وجمالها وعطائها الوافر ومحبتها للناس. لكن اليوم أصبحت نخلة بلا ثمر مجرد جدع خاوٍ تتلاعب به زفرات الريح.
 وقفتْ مرة ثانية ثم فتحت النافذة بشدة حتى تشقق الزجاج، تراجعتْ عن فكرة إعطاء جسدها لحيوان آخر ينهج جثتها مجددا فالكلبان مازالا في صراع عن قطعة لحم نتنة وعظم مهترئ. فتّشت عن قلامة الأظافر، تحت المنضدة، على الصوان، قرب المزهرية، وراء الوسادة... هي لا تتذكر أين وضعت هذه القطعة الحديدة التي ستمزق لحمها الشبه ميت ليمنح الحرية لدمائها التي جُفّت وما عادت مستعدة لحمل كريات الأكسجين من وإلى قلبها المُنكسر. تفاصيل الحادثة المؤلمة تمرّ أمام أمينة كشريط سينمائي بالأبيض والأسود، يشتت فكرها المتحجر... كم هو صعب أن تعود الألوان الزهية البهية إلى جِذْلها ! استحالة أن تُرمم جدران بيتٍ أصيل بعد خرابها وتعود الأمور إلى حالها.. رغم الهتافات رغم الصيحات رغم الكتابات والنداءات والشعارات.. صعبٌ، صعبٌ !
 دواء سامّ صُنع لفتك الحيوان أصلا كانتْ له وظيفة أخرى لهلاك إنسانة في مقتبل العمر، قًتلها حيوان آدمي قبل أن تكتب خاتمتها بقرص دواء مخصص لقتل الحيوان الحقيقي.
 وتبخّر حلم النخلة في الترعرع وملامسة السحاب وإخراج الثمار.. وحان الوقت للاحتفال بيوم البيئة !

المراجع

odabasham.net

التصانيف

ادب  قصص  مجتمع   الآداب   قصة