كانت أشبه بعملية استنزاف للمشاعر، أو الرقصة الأخيرة على وتر مقطوع، أصبحتْ أكثر استفزازا، أكثر بعدا، وأشدّ تعبا، أكثر حبا، وأعنف غيرة، مثل عاصفة إن هبت لا أحد يوقفها، تجرف نفسها، فتدمر اللحظة، وتسحق النرجس وتسكب قوارير العطر المخبأ وتغيب.
أما هو فكان يعرف تماما ما الذي يغضبها ويثيرها، يتعمد أحيانا صنع ذلك لتكشف عن حبها له، كان يستلذ كلما رآها تموج غضبا وتعبر عن غيرتها، كان يتعب في مراضاتها، يقطع كل التزاماته، ويوقف كل أعماله، ويأخذ في مداراتها، وعندما يطمئن بأن العاصفة قد هدأت يشعر بلذة الانتصار، لأنه استطاع أن يظل متناغما مع قلبها وأحلامها، فهو لا يريد أن يخسرها مهما كلفه ذلك من وقت وحبر وكتابة وحلم.
أما هي فكانت تتعمد أن تجعله مستفزا وتعرف تماما نقطة ضعفه، كانت تهدده بالرحيل، وعند كل غضبة صغيرة كانت أو كبيرة، تطلب منه أن ينساها، تعاتبه بعنف على كل نص كتبه، معلنة وبكل جنون غيرتها الشديدة إذا ما تشكل النص من موقف عابر مع واحدة من المعجبات أو المتطفلات اللواتي يخترقن برسائلهن بريده الخاص، تباغته بجملها التي تأتيه على غير ما كان متوقعا. قالت له: "حياة الناس عندك هي نصوص ونصوص فقط، لا أكثر ولا أقل، يا لله كم كنتُ غبية عندما صدقتك! فأنت لا تحبني، أنت مغرور ومدع"، لم يستغرب من قولها ولكنه إمعانا في الاستفزاز يرسم لها فيضا من علامات التعجب والاستنكار، فتسترسل في الهيجان "اسمع، أنا لست نصا من ضمن نصوصك، عليك أن تفهم أنني بشر ومن لحم ودم ومشاعر، فإلى متى ستظل مجبولا برائحة العنجهية المودية بإنسانيتك".
سمع كل هذا الفيض من الحب، أو كأنه أراد أن يفسره على أنه حب ووله وتعلق واستحواذ وأنانية منها لاحتواء قلبه وعقله وقلمه، لم يعلق كثيرا أو قليلا على ما قالت، فقد اعتاد على مفاجآتها، فهي التي كانت تحرك كل إحساسه وحبه واشتياقه، وتثير شهية الكتابة لديه. أراد أن يغير مجرى الحديث، فلم يستطع أن يدفعها للحديث أكثر وكأنها أهالت ما في جعبتها مرة واحدة، واستنفدت كل كلامها، ولم يتبق غير الصمت.
حاول أن يتصل بها، لم ترد على جنون هاتفها الذي كان يبدو كعبد متوسل لترد على ذلك الرقم المتسكع على شاشة جهازها، تنظر إلى الرقم، وتتأمل النغمة التي كانت قد خصصتها له، تتردد بين قطع الصوت أو أن تفتح خطا ولكنها قررت أن تتركه صادحا في فضاء غرفتها، لتلقنه درسا لن ينساه.
يعاود الاتصال بها مرة ومرتين، يأتيه صوتها في المرة الثالثة غاضبا ولكنه مع كل ما تجمع في نبرتها من ثورة شعر بحنان ورقة في صوتها، عاصف غاضب لكنه ندي، يعاتبها، ويترجاها، يذكرها بحبهما للقهوة وطقوسها، تتعبه كثيرا، فهي اليوم على غير عادتها، غضبها كان حادا وقاسيا وقاطعا، استنفد معها كل الطرق وكل الكلام الجميل ليردها مستقيمة متناغمة معه مرة أخرى، جاء صوتها مخاطبا:
- أصلاً، أنا كرهت قهوتك ونصوصها وطقوسها، لم أعد أستطيع استيعاب تشردك وجنونك، لن أشربها بعد اليوم، وسأحطم كل الفناجين.
- ولكنني لا أحب القهوة إلا معكِ، وأنا لا أشربها بدونك، وقد صنعنا سوية طقوسها، فنحن لم نتعارف إلا عن طريق هذا المشروب الممزوج برائحة أنوثتك المحببة.
- لا تحاول إقناعي لقد كشفتك، فأنت لا تحب القهوة ولا صاحبة القهوة، والناس عندك ظلال لمعاني قصصك وقصائدك، أنت تبحث عن مثير، ولا تبحث عن حبيبة.
- يا لك من مجنونة، أيعقل أن تقولي عني هذا؟ وأنا الذي أجلس ساعات منتظرا قدومك على أحر من الجمر، وصرت لا أشرب القهوة إلا كما تشربينها، غيّرت عاداتي وأشيائي وانتقاءاتي حتى نصوصي صارت أجمل بحضورك.
- أرأيت أنك لست معنيا غير بالكتابة والنصوص؟
- لا، ليس صحيحا، ولكنه توضيح لأثرك وتأثيرك القوي في نفسي، فأنت امرأة لا مثيل لها، كل ما فيك يثير الشهية والجنون، فأنت شبه فكرة سماوية إيحائية متحدرة من عالم الغيب البعيد. أرجوك كفّي عن هذا الجنون.
انقطع الاتصال، ولم ترد على جملته الأخيرة، وغابت لا تلوي على شيء ولم تلتفت وراءها، وتركته يكتب نصوصا لقهوتهما التي لم تفلح بجعل لقائهما قريبا أو واقعا كما كانا يحلمان يوما، بأن يشربا فنجانا واحدا معا على نغمة صوت فيروز الشجي في صباح ربيعي، فقد كان آذار موعدهما، فقد أتى آذار ولم يأت الربيع، وظل فنجانهما يبحث عن عاشقيْن آخريْن!
المراجع
diwanalarab.com
التصانيف
ادب قصص مجتمع الآداب قصة