أن أُفشي الأسرار فهذا ممكن و لكن أن أُمسخ إلى كلب مدى الحياة فهذا ما لا يمكن قبوله أبدا
| | |
فهل يُعقل أن تكون أمي هي من دبّر ذلك ؟؟ | | أم أنّ ما وقع كان لعنة الأيام وهزء القدر؟؟ |
في السنة التي حصلت فيها على شهادة الباكلوريا، دعت أمي جدتي إلى بيتنا والإقامة عندنا أسبوعا وذلك احتفالا بنجاحي، و كان قد بعُد عهدي بها إذ كنت لا أراها تقريبا إلا في الأعياد وبشكل متباعد وقبل مجيئها أعدّت أمي فراشا نظيفا لجدتي في غرفتي مما أشعرني بالانقباض لأنها ستضيق عليّ حريتي وسأصبح مراقَبا ومقيَّدا إذ أصبح هناك من سيشاطرني غرفتي، ورغم كل الذي أعرفه عن جدتي وأنا صغير إلا أنني تصوّرتُ أنها تغيّرت وأنها لن تعاملني كما في السابق و أنا طفل حين كنتُ أذهب مع أمي إلى بيت جدي وأظل فترات طويلة هناك.
في صباح الغد قدمت جدتي والتقيتُها في وسط بيتنا، انتبهتُ إلى أنه لم يتغيّر فيها شيء، فرغم تقدُّم سنها إلا أنها ظلت صارمة قوية كما عهدتُها بل إنها لا تتوانى عن ضرب أي شخص بعصاها التي تعتمد عليها في مشيتها الوئيدة و لكن صرامتها تلك كانت تثير فيّ وأنا في سن الشباب شعور الريبة و المرح، كانت جدتي قصيرة القامة وتلبس دائما " ملحفة " داكنة اللون وتغطي شعرها الأبيض القصير بوشاح أحمر قديم و كان وجهها القمحي يزينه وشم أسفل شفتيها، وما يشدّ الانتباه فيها شحمتيْ أذنيها الطويلتين وحلقها الذهبي الدائري الكبير، ولكن أجمل ما فيها و الذي ظل في ثنايا ذاكرتي هو رائحتها المميَّزة التي كانت أقرب إلى رائحة البخور وشذى الأرض وعبق الجنوب..
ومن البداية اكتشفتُ أن تضايقي كان في محلّه و ذلك عندما حدث أول اصطدام لي معها حين أردتُ مساعدتها على صعود درج الحمام، فحين أمسكتُها من مرفقها جفلتْ و لوّحت بعصاها في الهواء ثم صرختْ في وجهي قائلة:
• ياولد أتحسبني عجوزا؟ اذهب من أمامي...
ثم انهالت بعصاها عليّ ضربا رغم أنها كانت تصعد الدرج بصعوبة...
لكن تلك الحادثة ستكون بسيطة لأن المشكلة الكبرى ستكون بالليل عند النوم فقد قالت لي أمي:
• لابد أن تنام في نفس موعد نومها و أنْ لا سبيل إلى تركها وحيدة، يعني باختصار ستقوم بدور خالك...
و هكذا وجدتُني ليس متضايقا فحسب بل في قمة التعاسة إذ كنتُ مجبَرا على ترك أصدقائي و الابتعاد عن السهر معهم احتفالا بنجاحي لأنام معها باكرا فبعد أن تصلّي جدتي العشاء تستعد للنوم و قد دأبت على عادة و هي أنها لا تنام قبل أن تسمع حكاية و قد تعودتْ على ذلك من خالي و هكذا وجدتُ نفسي في ورطة كبيرة و مصيبة لا فكاك منها رغم أنه حين ذكرتْ لي أمي ذلك طلبتُ منها أن تعفيني من هذه المهمة القاسية بأن تغيّر فراشها إلى غرفة أخرى و لكنها قالت لي بهدوء:
• لا يجوز ذلك يا بني فجدتك فخورة بك و بنجاحك فلو حوّلتُ فراشها إلى غرفة أخرى حتما ستعود إلى بيت خالك غاضبة..و أنت لاشك تعرف حدة طباعها..
استسلمتُ لمصيري على مضض وقبلتُ المسؤولية مكرَهًا، وفي الليلة الأولى، انتظرتُ جدتي حتى تتمّ صلاتها ثم استلقت بحركات رصينة على فراشها والعصا لا تفارقها، نادتني بعد ذلك لأقرّب نعلها وقُلّة الماء الفخارية من فراشها و أسوّي مخدتها و أغطيها جيدا و حين شعرت أن كل شيء على ما يرام، أمرتني بصوت جاف أن أتمدد على فراشي و أن أبدأ بالحكي وقالت لي بصوت جازم:
• احذر أن تروي لي حكاية عاديّة..أريد حكاية تجعلني أنام نوما عميقا...أفهمت؟ | سكتت لحظة ثم حمحمتْ إعلانا عن نقطة الانطلاق، استجمعتُ كل أفكاري و رويتُ لها تلك الليلة حكاية من إحدى الكتب التي قرأتُها و حاولت أن أدخل عليها شيئا من التشويق التبسيط حتى تكون مناسبة لها وبعد فترة قصيرة من الوقت سمعتُ صوت شخيرها الخفيف فحمدتُ الله على سهولة المهمة ونجاحها واستسلمتُ للنوم، و لكن بعد نصف ساعة تقريبا أفقتُ مذعورا على وقع عصاها على رأسي ، استويتُ على الفراش قاعدا و أنا أتحسس الضربة بيدي، إذ لم أفهم ما الذي حدث، فقد تصورتُ أنها نامت أو ربما تحلم و لكنها عادت ترفع عصاها في الهواء مهددة متوعّدة و هي تقول:
• أهذه حكاية ترويها يا كلب؟
ثم عادت و استلقت هي على فراشها و نامت و كأن شيئا لم يحدث | | أما أنا فقد ظل الذعر يتملكني خوفا من عصاها و نمت بعين المستيقظ و ما إن أطل الصباح حتى ذهبتُ إلى أمي مسرعا و رويتُ لها ما حصل فضحكت وقالت:
• جدتك كبرت في السن...تحمّلْها يا بني إنها مثل طفل صغير و هي دائما تمدحك و تقول إنك أفضل أبنائي
تحمّلْها.."إنه أسبوع فقط و بعد ذلك لن تراها...تحمّلْها من أجلي..
وجاءت الليلة الثانية ورويتُ لها حكاية أخرى و لكن حصل نفس ما جرى في الليلة الأولى فقد نامت قليلا ثم أفاقت لتضربني بعصاها..... و هكذا أصبحتُ متعوِّدا على أن أروي لها الحكاية ثم أظل مستيقظا حتى تصحوَ و تضربني مردِّدةً نفس العبارة:
أهذه حكاية ترويها يا كلب | ؟
بعد ذلك يخلد كلانا للنوم...
طال الأسبوع و أصبحتُ غير قادر على تحمل جدتي و نزواتها، لقد أصبحتْ عبئا ثقيلا عليّ و لكني في نفس الوقت كنت أفكر في الحكاية التي يمكن أن تعجبها فقد كنت أختار حكايات أراها رائعة،أختارها من روايات عربية أو عالمية....
بعد الضربة السادسة لم تبق لي إلا ضربة واحدة و أهنأ بالراحة و أرتاح من جدتي وجنونها إلى الأبد، فقد كنتُ كل ليلة و كأنني أهتم بعجوز مريضة فأغطيها وأسوي المخدة إلى غير ذلك من الأوامر المملّة التي كان يجب أن أقوم بها صاغرا، في ذلك اليوم ظللتُ أفكر و أعتصر عقلي باحثا عن مرادي....و أقبل الليل، استلقيت على فراشي بجانب جدتي و قد استقر عزمي في النهاية على حكاية مغايرة تماما لما كنت أرويه في الليالي السابقة، حمحمتْ جدتي فبدأتُ:
" في نهاية الحرب العالمية الثانية، داهمت فلول من الجيش الألماني المنهزم إحدى قرى الجنوب التونسي، كان الجنود يداهمون المنازل بحثا عن الذهب و يوجد في تلك القرية غير بعيد عن السوق بيت إمام الجامع الكبير في القرية و هو رجل كبير في السن يعيش مع زوجته كان أبناؤهما يعملون دائما في البستان طوال اليوم و ما إن سمع الزوجان بخبر المداهمات حتى تملكهما الرعب و قد كان الرجل أكثر ذعرا وخوفا أما زوجته فقد كانت تتصف بالحكمة وحسن التدبير إذ جمعت حليها و قامت بدفنه في رماد " الطابونة" التنور و وضعت الحطب ثم أشعلت النار و عجنت قليلا من الدقيق و ظلت تنتظرهم في حين أخذ زوجها في الصلاة والدعاء و ما إن داهم الجنود البيت و أخذوا يبحثون في الغرف حتى أخذت تبكي وتقول "..اني فقيرة وليس لدي سوى هذه العجينة التي سأعدها لزوجي المسكين المريض فإذا أردتم أن تأخذوها فخذوها.." كانت تمثل بالحركات حتى يفهموها، بحث الجنود طويلا ولكن دون جدوى ثم خرجوا خائبين و ما إن انسحب الجنود من القرية حتى اجتمع الأهالي في بيت الإمام مستغربين نجاة حليّ زوجته من النهب و هم يعرفون جيدا أن الإمام أغناهم في القرية فقد عمل طويلا في شركة السكك الحديدية الفرنسية و أمام استغرابهم كشفت لهم المرأة عن حيلتها و قالت لهم إنها قد دفنت حليّها في رماد الطابونة و أن الفكرة ليست فكرتها و إنما فكرة زوجها الإمام | ".
أبدى الناس إعجابهم بذكاء إمامهم و أخذوا يصافحونه مربّتين على كتفيه بكل إعجاب وفخر.. و ظل الذي قامت به تلك المرأة البطلة سرًّا لا يعرفه أحد إلا تلك المرأة وزوجها." انتهت الحكاية، وظللتُ أنتظر سماع شخير جدتي و لكنه تأخر هذه المرة..ظللتُ أنتظر و لكنه لم يصلني غير أني سمعتُ نفسا عميقا يتصاعد و تنهيدة تردّدت في الغرفة بصخب..بعد ذلك رأيتُها تستوي في جلستها على مهل و تقعد على حافة الفراش ثم تقول لي بصوت حزين خال من الحزم هذه المرة:
• ولكن الحكاية يا بني لم تعد سرًّا...فالذين يعرفونها الآن أربعة: جدك الحاج يرحمه الله و أنا وأمك و أنت | | |
ثم عادت واستلقت على فراشها صامتة و قد أخذتها الذكريات ثم قالت وقد عاد إلى صوتها الحزم و الصرامة:
• أتعرف يا بنيّ..أنت أجمل كلب يروي الحكايات | | |
ثم استلقت و نامت حتى الصباح..
ومن تلك الليلة عرفتُ أيّ نوع من الحكايات تريد جدتي | |
من الغد لم تعد جدتي إلى بيت خالي بل ظلت شهرا كاملا عندنا و حين عادتْ إلى بيت خالي صرتُ أترك أصدقائي و أذهب لأزورها كل أسبوع و أنام إلى جانبها في غرفتها ليلة السبت فأغطيها جيدا و أقرّب نعلها و قّلّة الماء من الفراش و أسوّي مخدتها أفعل ذلك بكل حب و كأنها ابنتي الصغيرة أما هي فقد كانت تتابعني بنظرة شامخة..نظرة بطل عتيق....نظرة تنضح كبرياء تختفي وراءها ظلال الحب و أشرعة الامتنان....و بعد ذلك أنتظرها حنى تحمحم ثم أروي لها الحكايات التي تحبها و كل صباح يوم أحد تقول لي عبارة ظلت ترددها دائما:
• أنت يا بنيّ أجمل كلب يروي الحكايات | | |
و بعد تلك الحادثة أدركتُ أن الحياة حكايات آثمة و تاريخ حافل بالأسرار...
و أن الكلاب وحدها من تفشي تلك الأسرار | | | |
المراجع
موسوعة ديوان العرب
التصانيف
قصص
|