في حديقةٍ كبيرةٍ مزدانةٍ بالورودِ المختلفة الألوان والأشكال، وبأشجارها البرية الجميلة، الكبيرة منها والصغيرة، على نحوٍ جميل ومتناسق، وأيضاً فيها الضخمة الباسقة، كأشجار السرو والصنوبر، وهذه محيطةٌ بالحديقة على شكلٍ رتيبٍ يَحميها سور عال له بابٌ كبير، وهناك مقاعدها الخشبية الرتيبة أيضاًً والنظيفة، شأنها شأن الحدائق التي توجد في مشفى الأمراض النفسية والعقلية، وأنا كنت أجلسُ على أحدِ المقاعد في واحدةٍ من هذه المشافي. أنتظر قريبة لي، لها مراجعة في داخلها عند أحد الأطباء، وطال انتظاري.
وأخذتُ اتأمّل هذا المبنى الضخم، كانَ له بابين أحدهما للنساء، والذي أجلس قبالته، وآخرُ للرجال وهو في الخلف من المبنى، ومطلٌ على الحديقة أيضاً، والصحيح أنه أحزنني جِدا رؤية النّساء في الحديقة، الكبيرات السن والصغيرات، ومنهن من تتحدث مع نفسها أو الصامتة، ونهضَ بي فضولي لأتجول في القسم الآخر.
ولكن! هناك ما شدّني إلى مقعدي، إذ جلستْ بجانبي إحدى السيدات في أواخر الأربعينات من عمرها، تبدو علامات قلقٍ على
وجهها، كانت تتفرس في وجهي كأنها تعرفني، وسألتني عن الوقت. فأجبتها، وبإحساسي الفطري شعرتُ أنها تريدُ أكثر من معرفة الوقت لذلك بادرتُ في جذبِ أطراف الحديث، وصارحتني بأنها تنتظرُ نتيجة فحصٍ لوالدتها المريضة ألتي دخلتْ هذا المبنى قبلَ أسبوع، على إثرِ حادثةٍ حدثتْ معها قبل شهر تقريباً.
واسترسلتْ هذه في الحديث، ربما لأنها وجدتني مهتمه بموضوعها.
قالت بانفعال واضح: أولاد الحَرام من الناس لا يتركون لأولاد الحَلال شيء، إنّ والدتي أرملة، فقد تُوفي والدي منذ أكثر من ثلاث سنوات، وتركَ لها راتبهُ التقاعدي- الدخل الشهري- وليس لها دخل ماديّ غيره- ووالدتي هيَ التي تتسلم هذا الراتب، وقبل شهر يا أختي، ذهبتْ والدتي إلى البنك، وتسلّمتْ الراتب، ولضعفها وكبر سِنها ارتاحتْ قليلا على الدرجات، داخل ذاك ألمبنى ألكبير، وجاءَها شاب بغايةِ اللطفْ يسألها إنْ كانتْ بحاجة للمساعدة، وأنّه يبحثُ عن المحتاجين ليساعدهم، ولا ندري كيفَ أقنعها بذلك، وهل يوجد بزماننا هذا النوع من الناس- قالتْ متمتمه-.
وتابعتْ حديثها عن والدتها بتوتر وبقلق واضحين، أنها أعطتْ هذا الشاب هويتها وبعض الأوراق للإثبات أنّه لا دخل لها إلا راتبَ التقاعد هذا.
والذي زاد الطين بلّه كما يقولون طلبَ منها الشاب مئة دينار، وقال لها يا خالتي: ارتاحي أنتِ، وأنا أحضر لك ألآن مئتي دينار بناءاً على هذه الأوراق، ونحنُ في خدمة المحتاجين والناس ألطيبين.
وتَركها وذهبْ، وبقيت تنتظرهذا الشاب إلى ما بعد العصر، إلى أن جاء مصادفةً أحد الناس الطيبين ألصادقين بالفعل، وسألها إن كانتْ تحتاج إلى مساعدة، فحالها يدل على ذلك.
حكتْ أمّي لهذا الرَجل ما حَصل، فَرَقّ لِحالها، وعَرفَ أنّها تعرّضتْ لعملية نصبٍ، وأفهمها أنه لا يوجد أمراً من هذا النوع، وأوصلها إلى الشارع وذهبتْ بدورها إلى البيت.
ومنذ ذاك الوقت وهي شاردة الذهن دائما. لذلك أتينا بها إلى هنا.
حزنتُ أنا أشدّ الحزن لقصةِ والدةِ هذه المرأة. وخففتُ عنها بكلام طيب، واستأذنت لأذهب إلى القسم الآخر من الحديقة لحب التجوال فيها، فما رأيتُ إلا القليل من الرجال وأكثرهم من كِبار السنّ، فمشيتُ قليلاً إلى أنْ استبدّ بي التعب، فجلستُ على مقعدٍ مريحٍ قُبالة البابْ الذي يخرجُ منْه الرّجال للتنزّه، ونسيتُ نفسي أكثر من نصف ساعة، فقررتُ الرجوع حيثُ كنتُ أنتظر قريبتي ،وإذ بأحدهم يخرجُ من البابِ أمامي مباشرة رافعَ الرأس واليدين، قائلاً بصوتٍ مرتفع كلاماً لم أفهمه، ونظرتُ إليه بشيء من الشفقة وأنا أحوقل، وأهزُ برأسي يمنة ًويسرةً حُزناً عليه وداعيةً له بالشفاء ِلما ظننتُ به من الظنون. وطأطأتُ رأسي لحظات آسفة ًعليه. وما إن رفعتُ ناظري باتجاهه مرةً أخرى ، حتى التقتْ عيناي بعينيه مباشرة، وتوقفَ عن صراخِه فجأةً محدّقاً بي ومثبتاً ناظرهُ إليّ، كان يهونُ كل ذلك لو لم أرَ خطواته متجهةً نحوي بثباتْ ، فوقف قُبالي مباشرة، لا يبعد أكثر من نصف متر وقال بصوتٍ هادىء كأنه ليس من كان يصرخ قبل لحظات: بماذا كنتِ تتمتمين؟ وقبل أن أفكر بجواب لسؤاله ، أحسست بقلبي يكاد ينخلع خوفاً من نظرات هذا الرجل وحدّقتُ بعينيهِ الجاحظتين، وسَرحَ تفكيري في احمرارهما وقلتُ في ذاتِ نفسي هاتان العينان لا بدّ وأنهما لم تناما منذ أياماً، وهذا الشَعر الأشعث لم يُمشّط منذ أيام أيضا، ولكن سؤاله المُتكرر لم يُتح لي التمعّن في شَخصِه أكثر، بماذا كنت تتمتمين؟؟ قلتُ بصوتٍ هادىء هو أقرب للخوفِ منه إلى الطمأنينه, لا شي.
إبتسم إبتسامة خفيفه كأنه يطمئنني، وجلسَ بجانبي على المقعد دونَ دعوة منيّ أو إذن، وقال لا بد وأنك تظنين أني مجنوناً أليس كذلك؟ وهل تعتقدين أنّ كل من يٌحدث نفسه بصوتٍ مرتفعٍ مجنون؟ وقبلَ أن أجيب بنعم أو بلا، كان مسترسلاً في حديثه، وقال بشيء من الشفافية :إسمحي لي أن أسألك: هل كل من يدخل عند طبيب نفسي يكون مجنوناً؟ويجيب نفسه لا طبعاً، كل ما هنالك أنيّ تعرضتُ لصدمةٍ عصبيةٍ كبيرةٍ إثرً عملية نصب ٍمن أحدهم، ـسامحه الله على كل حال- وهئنذا أعالج نفسي عند طبيب في هذه المشفى. وهل من يعالج نفسه مجنوناً؟ يساءلُ نفسه مرة اخرى، وقال أيضاً: وطال بي التفكير يا أختي حتى حالَ بيني وبين الإعتناء بمظهري، وإن كنتُ مقصِراً في هذا بعض الشيء، هذا ما قاله لي فشعرت حينها أنني مطمئنة بما أنه نعتني بأخته مما كان حافزاً لي أن أسألهُ: وهل عملية النصب هذه حصلت منذ عهد قريب؟ فصمتَ مطبقاً فمه إطباقاً محكماً كمن لا يريد الحديث أبداً، ناظراً إلى قدميه.
كان يتكأ على يدهِ اليُسرى واضعاً مرفقه على ظهر المقعد، وعندما رآني قد هممتُ بالذهاب، وقد اعتقدتُ أنهُ لا يريد الإجابة. إعتدل في جلستهِ وهيّأ نفسه للكلام مُستأذناً مني بضع دقائق من وقتي فسمحتُ له بذلك بإيماءة من رأسي.
فقال: والله يا أختي، كنت أعيش عيشةً بسيطة ًمتوسطة الحال، لا أشكو الفقر والحمد لله، وفي الأيام الأخيرة من الشهر الماضي وعندما ذهبتُ لاستلام راتبي من البنك الذي أتعامل معه، لاحظتُ شخصا يلاحقني ويراقبني لبعض الوقت، وعندما اقتربت منه سألته إن كان يعرفني، ولماذا يتبعني؟
قال لي متلهّفا: أنت بلديات [أي من بلدي] وانا أريد ان أسلّم عليك.
فقال لي: أنه بعد عشر سنوات من الغربة في الخليج قرر أن يزور احبّاءه وأقاربه في الوطن، وهو يعمل مع أميرٍ معروف في الخليج مقرّ عمله، وهذا الأمير يريد أن يساعد الفقراء حتى ينال الأجر من الله تعالى، ووكّل إليّ الأمر أن أجمع له بعض أسماء المحتاجين من معارفي وبلدياتي.
الصحيح أنني سُررت بهذا الخبر جداً وذكرتُ له كثيراً من الأسماء والمعارف، لكنه اشترط أن يفتح كل واحدٍ من هؤلاء رقم حساب بإسمه في البنك الذي يتعامل معه هذا الإنسان، ومن ثم توضع المساعدات على رقم الحساب ذاك.
وهكذا وبدون تفكير، نال مني الطمع ما نال في هذا العرض المغري وفكرة ذاك الأمير، واقتنعتُ بالفكرة وسألته: ماذا علي أن أفعل؟
فقال لي مندفعاً وكان لبريق عينيه وهجاً: إجمع عشرون ديناراً من كل شخص وهات لي إسمه الكامل ورقم هاتفه إن وُجد.
وأكّدَ لي أن أجمع قدر ما أستطيع من بلدياتي، والأقربون أولى بالمعروف، {هكذا قال لي بالضبط}, وأعطاني بطاقةً فيها اسمه الكامل وأرقام الهواتف التي تخصه. وطلب مني أن أسرع في العمل كي يأتيني بعد أسبوعين بأوّل دفعه من المساعدة بناءاً على التوكيل الذي مَعه وأخرجَ على الفور من جيبه ورقةً يغطّيها كثير من الطوابع لم أفهم منها شيئاً.
وطواها بشيء من السرعة متمتماً أنّ هذا ليس مهمّاً، وأعادها إلى جيبه.
وغابَ الرجل عن ناظري أيّاماً. لكنني خلال تلك الأيام كنتُ قد اتصلت بالأرقام المسجّله في كرته الخاص أو البطاقة الذي أعطاني ايّاها، وتأكدّتُ أنها صحيحه وأنه يعمل مع الأمير الذي ذكر لي. وأحد الارقام كان لبيته فعلا.
وتصرّمت الأيام ببطء شديد، بعد أن جمعتُ له مبلغاً من عدد كبير من معارفي وأقاربي، وأعطيته له كما طلب.
وزاد على الأسبوعين أسبوعاً آخر، ونفذ صبري وصرت أتصل مجدّداً بأرقام الهواتف أسألُ عنه كي أكّلمه ، ولكن للأسف في مقر عمله، كانوا يقولون لي أنه غير موجود، والرقم الأخير كان يخص بيته وردّت عليّ زوجته بعد عدة محاولات مني في الإتصال، فحكيتُ لها لماذا أريد زوجها .
فقالتْ لي بالحرف الواحد: حتى أنتم في بلدكم وصلَ إليكم هذا المحتال ؟
قلتُ لها بغضبٍ شديدٍ سأشكو عليه في المحكمة وأرفع عليه قضيّه؟.
قالت لي: إرفع يا أخي كما تشاء وانضم إلى من رفعوا عليه عشرات القضايا قبلك وانتظْر دورك.
فهذا زوجي، وأنا أخجل من أعماله هذه. ولا أستطيع المساعده. آسفة.
وأغلقت خط الهاتف. وهكذا انتهت قصتي .
هكذا أكمل هذا المريض قصته، وتابع حديثه وأنه في هذا المشفى يعالج نفسه حتى يستطيع أن يتعافى تماماً، من أثر ألصدمة.
دعوتُ لهذا الإنسان بالصبر والشفاء معاً، سائلةً المولى أن يعينه.
واستأذنتُ منه لأجد قريبتي تبحثُ عني وقد رأتني أكلّم نفسي خِفيةً حُزناً على هذا الشخص.
فقالت لي وهي تبتسم: هل أسجّل لكَ موعداً عند طبيبي أم ماذا؟
وخرجنا من المستشفى في ساعةٍ متأخرة، وحَمدنا الله على العافية.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
ادب قصص مجتمع الآداب قصة