تجول الذئب كعادته في تلك الغابة , يبحث عن طريدة , يفتش الارض , يحدق في الاشجار , يراقب حركات القرود , يستمع الى زقزقات العصافير , فشم عطرا أخاذا , تناقلته نسمات الهواء الخفيفة , لم يعهده من قبل , رفع راسه واخذ شهيقا عميقا , حتى امتلأت رئتاه , فتحرك نحو مصدره , بهدوء وترو , متخفيا بين أغصان الاشجار والاعشاب الطويلة , فسمع صوتا انثويا رخيما , يغني بمرح وسرور , طفحت به الغريزة , فاسرع الخطى , حتى وصل الى مكان مكشوف , ليس فيه اشجار , توسطته بركة ماء , حفتها ازهار زاهية الألوان , فأذا بتلك الحسناء , تجلس تارة على المرج , وتارة ترقص وتغني , برشاقة وتأني , تنحني على الزهور تشمها وتداعبها .
اتخذ له مكانا مخفيا بين الاغصان , يراقب ويستمتع بالمنظر , ويشنف اسماعه بذلك الصوت الرخيم , فأطلق زفرة , فيها حسرة , وقال :
- ليتني كنت انسانا ... او حيوانا اليفا ... فيتسنى لي الاقتراب منها اكثر ... ولعلها ستداعبني بـيديها الناعمتين ! .
 قطفت بعض الازهار وهمّت بالرحيل , تعقبها بحذر , حتى خرجت من الغابة , وتوجهت نحو القرية المجاورة , فأقفل عائدا .
في اليوم التالي , انتظرها في نفس المكان , يراقب الطريق , حتى وصلت , تتمتم وترقص , القت التحية على الازهار :
-  مساء الخير ...
شعر الذئب بجسده يذوب كشمعة , ورد عليها التحية بصوت خافت :
- مساء الخير ! .
شرعت بحفر حفر صغيرة , واقتلعت بعض الازهار من اماكنها الحرجة , وغرستها في تلك الحفر , ثم ملأت ابريقا من ماء البركة وسقتها جميعا , فقال الذئب بحسرة :
- أشعر بالعطش ! .
نظرت الى ساعتها وقالت مخاطبة الازهار :
- اليوم يجب ان اعود سريعا ... فأمي مريضة ... ويجب ان اعد طعام العشاء لوالدي واخي ! .
اقترب احد القرود , فسرق الابريق , طاردته بالمعول الصغير , فولى هاربا , صارخا , وصرخت بدورها في القرود :
- لا تعبثوا بأزهاري ... سمعتم يا مشاكسين ! .
ودعت الازهار واقفلت عائدة الى البيت , شاهد الذئب القرود تقترب من الازهار , فشعر بمسئوليته في الحفاظ عليها , انقض عليها مغضوضبا , واخذ يدور حول الازهار , وكأنه الحارس الامين ! .
في اليوم الثالث , وعندما اقتربت ساعة مجيئها , غادر الذئب , وقبع جالسا في مكانه السري , تفحصت الازهار وقالت :
- عجيب ... لم تعبث الحيوانات بأزهاري ... وكأن حارسا كان يحرسها ! .
فقال بصوت خافت اجش :
- نعم ... انه انا ! .
وصل صيادان كانا يتجولان في الغابة , يصطادان الطيور , فنظرا اليها نظرات مريبة , وسألها احدهما :
- ماذا تفعلين في هذا المكان ؟ .
- اعتني بحديقتي هذه ! .
نظر كلا منهما في وجه الاخر , فأدرك الذئب انهما بيتا نوايا سيئة , وضع احدهم البندقية جانبا , والقى الاخر بما يحمل من الطيور , وسارا نحوها ببطيء , فأدركت خطر الموقف , التفتت يمينا ويسارا , وبدأت بالتراجع الى الوراء وتقول :
- ماذا تنويان ... دعوني وشأني ! .
انتفض الذئب من مكانه , وشن هجوما سريعا ومباغتا , فحال بينهما وبين البندقية , وهربا بطريق , وهربت الحسناء من طريق اخر , طاردهما حتى تأكد من عودة الحسناء الى قريتها بسلام , فعاد ليحرس الازهار , وتناول الطيور عشاءا دسما لذيذا ! .
 *************************
لم تأت الحسناء الى الازهار مرة اخرى , لكن الذئب استمر بالحراسة ولم يقطع الامل .
- ربما سوف لن تعود ! .
وعلى حين غرة , جاءت الحسناء , فوقفت على الازهار وتفحصتها , ابتسمت للازهار وقالت :
- هل هناك حارسا يحرسكم ؟ ... لازلتم كما تركتكم ... لم يعبث بكم حيوان ... لكني يجب ان اعود بسرعة والا عاد الصيادان ... ولحدث امرا فظيعا ... في المرة السابقة انقذني ذئب ... عجيب ! ... ذئب متوحش ينقذني من ابناء جنسي من البشر ... لا يسعني الا ان اقول شكرا لهذا الذئب ! ... ان شاهدتموه بالجوار اشكروه نيابة عني ! .
احس الذئب بحرارة تسري في جسده , فتنملت اعضاءه , وخر مستلقيا على الارض , فسمع زئير اسد , قطع على الحسناء طريق العودة , فأستيقظ من حالته , وتخلص من غريب ما اعتراه , وهجم على الاسد , فأشتبكا بقتال دامي , يرمق الحسناء وكأنه يقول لها ( اهربي ... اهربي ... فهذه هي اللحظة المناسبة ) , هربت الحسناء , وعندما خرجت من دائرة الخطر , أفلت نفسه من قبضات الاسد , وولى هاربا بدوره , لكن مثخنا بالجراح ! .
 ***************************
لم تعد الحسناء مرة اخرى , لكنه مستمرا بالحراسة والانتظار , رغم الجراح واتصال الغياب , حتى شاع خبر الذئب العاشق بين حيوانات الغابة , تسلق فهد شجرة ما , فهربت القرود الى اعالي الاغصان , و قفز اخرون الى الاشجار المجاورة , فقال لهم :
- لا تخافوا ... ليس من اجلكم تسلقت ... بل لاسترق النظر لذلك الذئب المتوحش العاشق ! .
ثم انفجر مقهقها , فقطعت عليه قهقهاته قردة عجوز :
- وما شأنك انت ؟ .
شعر الفهد بالاستفزاز واجاب :
- جئت لارى تأثير الجمال على الوحش الكاسر ! .
- وماذا رأيت ؟ .
- ذئبا متوحشا خائر القوى ... يكاد يموت من نار الهوى ! .
- ذلك الحب ... العشق ... وتلك اثاره ! .
- لكنه غير متجانس ... فذاك ذئب ... وتلك حسناء ادمية ! .
- اصعب ما في العشق ... ان يكون المحبوب صعب المنال ! ... او يكون حب من طرف واحد ! .
- اعجب لتأثير الجمال على قلوب الوحوش القاسية فتلين ... ونبضت تلك القلوب بالعشق ... فسمت الدماء ... واسقمت الابدان ! .
- الان وقد رأيت كل ذلك ... فماذا تريد ان ترى اكثر ؟ .
- انتظر قدوم تلك الحسناء ! .
- وما تريد منها ؟ .
- اضرب الذئب حتى يشارف على الموت ... ثم امضغ لحمها امام ناظريه ... فيزداد عذابا الى عذابه ! .
-  لماذا ؟ .
- ليس للوحوش حق في العشق والغرام ... وليس لها ان تلين قلوبها وتخرج من فطرتها ... يجب ان يبقى الوحش وحشا ! .
- لكن ليس الذئب وانت من ينتظر قدومها ! .
- من غيرنا اذا ؟ .
- انظر هناك ... الاسد ينتظر ايضا ! .
اندهش الفهد عندما شاهد الاسد يجلس مترصدا في مكان قريب , ثم قال احد القرود :
- انظروا هناك ... الصيادان مختبئان ايضا ! .
فقال الفهد مندهشا ( تلك الحسناء لم تجن على الذئب فقط , بل ستجني على سكان الغابة ) .
 *****************************
جلس الاسد في زاوية ما , يراقب حركات الذئب الجريح , ويقول بصوت خافت :
- ايها الذئب الولهان حلت بيني وبين فريستي في المرة السابقة ... والان سأقتلك وامضغ لحمها واشرب دمها وادق عظامها ما ان تصل الى الازهار ! .
 *******************************
بينما الصيادان متواريان بين الاغصان , يقول احدهما للاخر :
- انه ذلك الذئب الذي هاجمنا ! .
-  انت تقتله ... وانا امنعها من الهروب ... ثم نفعل فعلتنا ونغادر ! .
شم الذئب عطرا ذكيا , مشابه لما شمه اول مرة , فبدأ قلبه بالخفقان , نهض مسرعا ليتوارى في مكان قريب , وأستعد الجميع لتنفيذ خطته , ما ان وصلت الحسناء الى الازهار , كان الاسد اول الممثلين ظهورا على المسرح , فكان الذئب له بالمرصاد , وجه الاسد ضربة موجعة القته ارضا , في غضون ذلك , صوب احد الصيادين بندقيته نحو الاسد , فأصابه اصابة طرحته ارضا من غير حراك , ثم توجه الصياد الاخر مسرعا نحو الفتاة , فحال بينه وبينها الفهد , الذي قفز عليه وطرحه ارضا , جثة بلا حراك , بينما اطلق الصياد الاخر النار على الفهد , فأرداه قتيلا , ثم رمق الحسناء بنظرة غضب , واجال بصره في الميدان , انفطر قلبه لموت صديقه , فطرح البندقية جانبا , وتوجه نحو الحسناء قائلا :
- سانتقم لصديقي ... لا مفر لك مني اليوم ! .
لم يكن الذئب قد لفظ انفاسه بعد , فأستجمع قواه , ليقترب من الصياد الاعزل , وباغته بقفزة عاشق مجروح , التهبت جراحه , ليغرس انيابه في عنقه , وليقتلع حنجرته , فسقطا معا على المرج , فأختلس الذئب النظرة الاخيرة , نظرة الوداع , واطلق زفرته الاخيرة !.

المراجع

almothaqaf.com

التصانيف

ادب  قصص  مجتمع   الآداب   قصة