خلاف مستمر في بيت جيراننا، الشاب هشام في العقد الثالث من العمر، أمّا زوجته فتصغره بأعوام قليلة، لا تفتأ تصيح ويعلو صوتها المبحوح أكثر وأكثر، ولا يُسمع لهشام، الزوج الهادئ أيّ صوت، التقيتُ مرةً بوالدة هشام، في إحدى زياراتها المتباعدة لابنها، لها فصرّحتْ لي أنهما غير متفقين البتة، ولو في أصغر ألأمور، وهو لا يعرف ماذا تريد، ولماذا تفتعل المشاكل، وهو عازمٌ على طلاقها وهي تنتظر هذا الطلاق، ولكن! وجود طفل لا يتجاوز الرابعة جعله يتروّى بصبر جميل، كلما أرادت كلمة الطلاق تخرج من فمه، سيّما ليست هذه الطلقة الأولى.
ولكن!.. في يوم من الأيام نفذ هذا الصبر وانطلقتْ كلمة الطلاق كالرصاصة الأخيرة التي كانت في جعبة الزوج، هذا ما سمعته أذناي دون تدخل لفضولي أو قصد مني في السمع، ولعلها كلمة الطلاق كانت أعلى صوتاً في المشاجرة كلها.
(وهدأ صوتُ غلق ألأبواب وفتحها في قسوة، بعد ساعة من الشجار. وهدأت ألأمور بعد ذلك)
ولم أعد أسمع صراخاًً في الأيام التي بعدها، إلاّ صوت أم
هشام تحاكي ولدها، هو أقرب إلى التعنيف منه إلى الكلام العادي والنصيحة. مما جعلني أسمعه من داخل شقتي الموازية لشقتهم بدون قصد، وساعد في ذلك النوافذ المفتوحة.
كنت أسمعها تقنعه بعروس جديدة. وتسمي له أسماءاً شتّى من أسماء الفتيات، وهو يتهرّب من كلامها، ولا أسمعه يقول إلاّ كلمة أخاف على الصبي، أخاف عليه منهنّ. وتقول له يا إبني، ليس جميع البنات مثل بعض، هناك الرائعات، ذوات الأخلاق الحسنة، ولا بد لنا أن نجد منهنّ من ترضى بتربية الصغير، وهنا ارتفع صوت الأم أكثر قائلة: ولا أستطيع أن أترك بيتي أكثر من هذا الوقت، إخوتك بحاجة إليّ.
ومرت الأيّام وجدة الصبي تأتي لرعايته، أزورها أحياناً برغبتي، وأحياناً تدعوني لشرب فنجان قهوة برغبتها.
وأراها دائماً مكتئبة على ولدها دائمة الشكوى. إلا أنها لا تفتأ تبحث له عن عروس مناسبة له كي تقر عينه، وترتاح هي عناء تربية الصغير. والظاهر أن هذه الحالة لم تطول حيث وجدتْ لابنها العروس المناسبة التي اقتنع بها، وصارت في بيته حيث يقطن، وسرّ جميع أخواته وإخوته.
وأنا بدوري سعدت بالخبر كثيراًً ولم أعد أسمع أصواتاً توتر أعصابي وتقلقني، منذ تلك اللحظة.
ولكن! ألغريب في الأمر أني عندما أحاول أن أسترق السمع وأستطلع ألأخبار عن الصغير كي أسمع بكائه، خوفاً عليه لا أكثر، ولكثرة ما سمعنا قديماً وحديثاً، عن قصص زوجة الأب، أقول كنت أسترق السمع، وذلك بعد خروج هشام إلى عمله صباحاًًً. ولا أسمع شيئاً أبداً، سوى ضحك الصبي بين الفينة والأخرى.
انتابتني يوماً موجة عارمة، من الفضول لم أستطع مقاومتها، فدعوتُ نفسي على فنجان قهوة عند هذه الجارة الجديدة، فقلت في نفسي ليس هناك مشكلة، الباب بجانب الباب وعيب أن لا أذهب، وكان ذلك بعد أسبوع من زواجها، فأبارك لها زواجها وأحمل معي هدية مناسبة، وأيضاً أعرف سبب ضحك الصبي الدائم.
رحّبت بي هذه العروس الصبية أيّما ترحيب. وأجلستني، واستأذنتْ لدقيقة لتعود قائلة الحمد لله ولدي ما زال نائماً.
سرتْ قشعريرة في أنحاء جسمي حين سمعتها. وقلت لها متساءلة: تقولين ولدك؟؟ قالت: نعم انه مثل ولدي تماماً، ليس أقل منه فأنا أخاف عليه وأحرص على سعادته أكثر من سعادتي أنا.
وتركتني مرة أخرى لتعود حاملة دلة القهوة وفنجانين أنيقين. فقلت مستطلعة الخبر لعل هذا أحسن شيء تعمليه يا جارتي العزيزة، فهذا الصغير تركته أمه وهو بحاجة إلى حنانها ورعايتها بغض النظر عن ظروفها وبماذا تفكر. ولك أجر كبير إن شاء الله إنْ رعيته وعوضته عن الحنان المرجوّ.
وهنا ترقرقت دمعة في عينها نزلت في هدوء على خدها الناعم، وتنهدت العروس قائلة: نعم سأعوضه حنانا كبيرا ورعاية كبيرة، كي يعوض الله سبحانه وتعالى حنانا ورعاية مثلهما لولدي الذي تركته غصبا عني، وها هو ذا مع أبيه.
فتحتُ عينيّ عن آخرهما مندهشة لهذا الحديث، فقطعتْ علي الصبية اندهاشي وقالت: نعم لا تعجبي فأنا كنت متزوجة، وكان زوجي قاسي القلب قليل التهذيب وقليل الدين معا. فلم استطع العيش معه أكثر من ثلاثة أشهر، وقررت أن أنفصل عنه، وساعدني أهلي كثيرا، ولكن! كنت حاملا في ولدي، وعشت عند والديّ بقية شهور الحمل، وعندما حان وقت الولادة وذهبتُ إلى المستشفى، علم أهل زوجي بالأمر فقد كانوا ينتظرون ولادتي في المستشفى، ليأخذوه مني، بالإتّفاق مع والدي، حتى لا أشعر بحنانه وأضمه إلى صدري ولا اتركه، وقالت كمن يريد أن يُنهي حديثه فجأة: المهم أن والده أخذه وابتعد به دون أن أراه.
وابتسمتْ قليلا لتخبرني أنها رأت ولدها مرة بعد عدة أشهر وكان هذا بالإتفاق مع قريبة لها جاءت به إلى الشارع القريب من بيتهم دون علم أحد.
وقالت أيضاً: أنها عندما رأت ولدها لم تضمه كثيرا فقد كان يبكي بشدة، ولكنها! أطفأت لوعة قلبها لرؤيته. وتنهدتْ هذه الصبية وسكتت، ولم أقاطعها طوال حديثها الرقيق الهادئ، وختمتْ حديثها قائلة: لذلك، وحتى أضمن التربية والرعاية والحنان لولدي، عاهدت الله سبحانه وتعالى، أن أرعى هذا الصغير إبن زوجي كأنه إبني تماماً، كي يحفظ الله لي ابني، حتى لو ما كتب الله لي أن أراه في يوم من الأيام، ولو أني أتمنى أن أراه في يوم من الأيام سعيدا غير مظلوم ولا محروم.
فدعوت لها من كل قلبي أن تكون سعيدة في عيشها، وامتدحتُ صنيعها، وأكدتُ لها أنها لن تندم أبداً إن شاء الله تعالى.
وغادرت بيت جارتي مطمئنة النفس إلى ما سمعت، وفي أعماق نفسي صوت يقول: ولله في خلقه شؤون.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
ادب قصص مجتمع الآداب قصة