دخلت القاعة بزيها الأسود عله يمتص جزءا من أحزانها.. توجهت للركن البعيد من الغرفة تنظر للحضور من خلال نظارتها السوداء، مغرورة هي حتى في حزنها، أنيقة بالرغم من جراح روحها، اقتربت منها عجوز عمرها يتعدى الستين بقليل، قادمة بزيها الأبيض وابتسامتها العذبة التي تزين ملامح وجه مرت عليه ست عقود بسرائها و ضرائها... ونظرتها المرسومة بإتقان كيف لا وهي إنجاز الواحد الجبار..كثيرة الكلام.. تحدثت عن كل شيء تقريبا والابتسامة لا تفارق شفتيها.. وفجأة..صمتت... ليس الصمت الذي العاصفة وإنما الصمت الذي يسبق الإعصار.. مدت يديها لتنتزع الخيال الأسود الذي يغطي عيني الشابة، تأملت عينيها لوهلة وقالت: ''لا زلت صغيرة على الحزن يا صغيرتي !!'' تعجبت وأجابت بشبح ابتسامة: ''لست حزينة يا خالة'' أجابتها وهي تنهض من مكانها: '' عينيك يا صغيرتي..يستحيل أن تخفي بريق الحزن فيها '' وانصرفت.
تنهدت الشابة ونهضت من مكانها بعد أن أعادت الشبح الأسود إلى عينيها وهمت بمغادرة المكان، وقفت لبرهة أمام الباب تتأمل.....لطالما كرهت هذا الشكل من الطقس فهو لا يكف عن مضايقتها ونثر الحزن بين ملامحها،شردت وتركت لقدميها هذه المرة مهمة قيادتها.
بعد لحظات، وجدت نفسها أمام مكان غريب وموحش يقشعر له البدن، تتوسطه أطلال حديقة ذابلة، اقتربت قليلا لتعانق عيناها ملامح فتية تزينها أضواء المصابيح لتبرز صفاء قسمات وجهها، طفلة صغيرة تحمل دفترا، ترسم أحلامها وابتسامتها تكاد تشق وجنتيها...عادت بها الذكريات إلى الوراء، رأت نفس الطيف، لكنه ليس طيفا هذه المرة، إنها فتاة صغيرة لديها أحلام، اعتادت أن تجسدها على ورق أبيض علها تتحول يوما إلى واقع يروي روحها الطاهرة والبريئة.
كانت كلما أنهت إحدى خربشاتها حملتها بين ذراعيها وقفزت بين أشجار الحديقة تطوف بها كل أركانها إلى أن ينهكها التعب ، كأنها أرادت أن تكون حديقتها شاهدة على أحلامها، كلما أنهت رسم أحلامها تمتلئ عيناها ببريق آسر، عيناها كانتا بمثابة رمز للبراءة، لم تتخيل يوما أن الأيام ستسرق أحلامها وتطفئ بريق عينيها.عادت إلى الواقع بعد رحلة إلى مدينة ذكرياتها، تمنت أن تبكي، أن تقذف مرارة أحزانها، لكن شيئا ما بداخلها ''مات"، فسقوط الأحلام من حافة الواقع كاف بقتلنا.
التفتت الطفلة الصغيرة للعيون التي كانت تراقبها، استغربت في البداية لكنها أشارت للشابة بأن تجلس بقربها، لبت هاته الأخيرة دعوتها، فرحلة ذكرياتها استنزفت قواها، جلست بالقرب منها فسألتها الطفلة: "هل تجيدين الرسم يا خالة؟" قد يبدو سؤلا عفويا لكنه كان كافيا لنفض غبار الذكريات، بدت كما لو أنها سألتها " هل تجيدين التنفس؟" تذكرت مخبأها، كيف كانت تتسلل لتخفي لوحاتها بعيدا عن متناول شقيقتها منذ نعومة أظافرها، كل لوحة كانت تحكي قصتها،كل خربشة كقطعة من روحها، تذكرت كيف أصبحت مطلية باللون الأسود منذ أن استلّت الحياة أحلامها ونزعت منها "حق الحلم"، فالحياة لا ترحم الحالمين...!!
أغمضت عينيها كأنها تريد أن توقف سيل ذكرياتها، أن تلونها بالأسود أيضا، لكنها لم تستطع، هذه المرة لم تقو على الاحتماء وراء الأسود، انكبت على الأرض باكية، لم تبك أحلامها، لم تبك قسوة أيامها ولا ظلم حياتها، لأول مرة منذ زمن كانت تبكي نفسها، كأنها أرادت أن تطهر ذكرياتها بدموع حسرة وألم.
لم تعلم كم مر من الوقت وهي تبكي، أخرجها من دوامة أحزانها صوت بعيد ينادي باسمها، رفعت رأسها لتجد أن المكان خال بقربها والفتاة اختفت لكنها تركت الورقة البيضاء التي كانت ترسم عليها، حملتها وإذا بها تجد رسمة لشابة تشبهها كثيرا ترتدي فستانا أخضر مزينا بورود بيضاء، تزين وجهها ابتسامة وفي جانب الورقة كتب: " إن شعرت يوما بأنك ستفقدين الأمل...تأملي الوردة "، تأملت الرسمة وابتسمت ابتسامة شاسعة، ابتسامة لم تزين شفتيها منذ مدة، أحست ولأول مرة منذ زمن أنها حرة، تحررت من القيود التي حالت دون بروز ابتسامتها. نهضت وهي ممسكة بالورقة سمعت الصوت مرة أخرى، كان صوتا مكتوما يأتي من مكان بعيد، أرهفت السمع، بدأت تركض لمصدر الصوت، وجدت نفسها أمام منزلها، هذه المرة الصوت أصبح أقرب، صعدت إلى غرفتها وبالتحديد إلى مخبئها، تفاجأت لما رأت رسوماتها مرتبة كما كانت في السابق والأغرب أنها لم تعد مطلية بالأسود." عادت أحلامي " هكذا صرخت عندما لمحت رسوماتها، ضحكت كثيرا كما لو أنها تمحو جبال خيباتها بضحكاتها، كأنها تسخر من الحياة، قفزت إلى دولاب ملابسها بعد أن وضعت الرسمة التي كانت بين يديها في المخبأ، ارتدت فستانا أخضر كما في اللوحة، نثرت شعرها على كتفيها، أغلقت دولاب الملابس السوداء فهي اليوم نزعت الحداد، حملت دفتر رسوماتها وهتفت بابتسامة "حسنا أيتها الحياة أنا مستعدة لجولة أخرى".
المراجع
odabasham.net
التصانيف
ادب قصص مجتمع الآداب قصة