ودع التاجر الصالح أسرته وودع عماله وأوصاهم خيراً، ثم مضى إلى دار شيخِه ليستأذنه في السفر ويودِّعه ويطلب الدعاء منه، فباركه الشيخ ودعا له، فانطلق بنفس راضية، وعزيمة متوقدة، يقود قافلة له إلى بلد آخر ليبيع بضاعته هناك.
كان التاجر رجلاً صالحاً أميناً، يتحرى الحلال، ويكثر الصدقة، ويرضى بالقليل من الربح، سمحاً محبباً إلى جميع مَنْ يتعاملون معه، ففشت له بين الناس سمعة حميدة في دينه ودنياه، وكثر المال بين يديه فازداد سماحة ورضاً وصدقة، وصار علماً حيث يكون.
مضت القافلة تضرب في الأرض يقودها صاحبها، مستعيناً على طول الطريق بالراحة حيناً، وبالدعاء حيناً، وبمحادثة أصحابه حيناً آخر، حتى إذا أخذ النوم بمعاقد الأجفان واشتد التعب بالأبدان، اختار التاجر شِعْباً هادئاً في الطريق فيه ظل وشجر وماء فأناخوا فيه ركابهم وقضوا فيه ليلتهم.
استيقظ القوم في الصباح فأدوا الصلاة، وأخذوا يرقبون اليوم الجديد وهو يتنفس، فشعر التاجر الصالح بمتعة روحية، وآثر الخلوة بنفسه في الشِعْب الهادئ الجميل، وطفق يتلو أوراد الصباح المأثورة وهو يمشي هادئاً متأملاً مندمجاً مع أدعيته ونفسه والمكان والزمان، فشعر بنفسه يحلق ويسمو، وشعر أن الكون كله يسبح لله خالقه ومبدعه.
فجأة لفتت انتباهه شجيرة صغيرة حسناء، فاقترب منها يتأمل صنع الله فيها، فإذا به يرى طائراً بديعاً جداً على أحد أغصانها فأخذ يدنو منه بهدوء وحذر حتى لا يخاف الطائر فيهرب. وما لبث أن أدركه شيء من التساؤل حين رأى الطائر لا يتحرك قط، وازداد التساؤل الذي أخذ يقترن بالحيرة والدهشة مع اقترابه من الطائر، وبقاء الطائر حيث هو، حتى كاد يلمسه بيده لكنه لم يفعل.
مضت ساعة من الزمان والتاجر يتأمل في الطائر، فاستبان له أنه أعمى، فتحول التساؤل في نفسه إلى مزيد من الحيرة والدهشة إذ أخذ يقول لنفسه: كيف يأكل هذا الطائر وكيف يشرب، ثم انتحى مكاناً قريباً وجلس فيه في صمت مطبق وقد شغله أمر الطائر عن نفسه وصحبته وقافلته.
بعد حين لمح طائراً آخر جاء إلى الطائر الأعمى فأخذ يضع في منقاره شيئاً من الحب يجمعه من هنا وهناك، ثم يسقيه شيئاً من الماء من الغدير المجاور حتى إذا أحس أنه أدى مهمته طار بعيداً واختفى.
فرح التاجر الصالح كثيراً، وسجد شكراً لله، وأخذ يتساءل في نفسه: إذا كان الله - عز وجل - لم ينس الطائر الأعمى فيسر له من يطعمه ويسقيه فلم العناء والتعب والضرب في الأرض؟ وحين تحول التساؤل عنده إلى قرار صارم توجه إلى القافلة فعاد بها إلى بلده، وفي نيته أن يعتكف في بيته، وسيرزقه الله تعالى كما رزق الطائر الأعمى.
حين وصل إلى بلده، وجد من تمام الأدب أن يمر على شيخه ليسلم عليه ويحدثه بما رأى ففعل. قال الشيخ الذي كان يجمع العقل إلى الصلاح للتاجر العائد: لم عدت سريعاً يا بني؟ قال التاجر لشيخه: لي أسوة بالطائر الأعمى.
قال الشيخ العاقل الحكيم لتلميذه التاجر الصالح: يا بني هلَّا كنت الطائر المبصر، يا بني عد إلى ما كنت عليه من الجد والدأب والتعب، واجعل يدك العليا بالإعطاء لا السفلى بالاستعطاء، وأغن نفسك ومَنْ معك فإن الله يحب معالي الأمور.
المراجع
cp.alukah.net
التصانيف
قصص الآداب