كأنها مخلوقة من ضلع الليل أو من بقايا نهار ، تجلس في مقهى هادئ وحيدة ،ضوء خافت يلفها كذاك الضوء الذي ينبع من روحها ،رائحة لوز مر تغزو كيانها ، ترتشف قهوة مرة تتلذذ بالمرارة التي ما عرفت غيرها .. تحدق في الأوراق الموضوعة أمامها وفي ذاك القلم الوردي كل نصيبها من الحياة الوردية، تحدق في الأوراق البيضاء، ترى ماذا عليها أن تكتب ؟!!
هل ستكتب عن عجوز إسبانية في كرم عنب لوحت الشمس بشرتها السمراء أم عن فتاة باريسية مغناجة تغني للحب في مقهى باريسي ... أم عن سائحة ترى تمثال الحرية لأول مرة ... لا لا كفاها أحلاما وردية ..ستكتب عن الحرية عن الديمقراطية في بلادها ،ثم تفكر بأسى متى نستطيع أن نشرح معنى الديموقراطية لأبنائنا دون أن نشعر بالخجل ثم ما نفع الكلام في عصر البندقية الصماء، لا لن تكتب عن هذا ولا ذاك .. تطن الأفكار في رأسها بلغة غير مفهومة ..لو أنها تستطيع أن تكتب لتفهم ما يدور في رأسها ..
تتطلع حولها عل أحداً يلهمها .. موسيقى كلاسيكية ونادل كسول ورائحة لوز مر ورجل في آخر المقهى يخفي وجهه بجريدة .. لا جديد في حياة المقهى وحياتها... تنظر من خلف الزجاج إلى الخارج .. إلى خارج المقهى ..
امرأة سمينة تتدثر بمعطف يجعلها تبدو كالفيل، ورغم ذلك تتأبط ذراع زوجها بخفة روح رشيقة شقية تميل عليه تهمس في أذنه فيضحك وتضحك مقهقهة ..كم تبدو حياتهما جميلة ، لو يهمس أحدهم في أذنها بما يضحكها تتطلع حولها كغريق يستجير بقشة عل القشة تنجيه أو عل الأمل يتكفل بذلك... لا أحداً سوى النادل ورجل الجريدة كم تود لو رأت وجهه يوماً ...
تعود وتنظر من خلف الزجاج اختفت المرأة السمينة ..هذه المرة تمر من أمامها امرأة نحيفة يبدو قوامها كعصا مكنسة وجهها مليء بالأصباغ لتبدو كأنها حرباء تتأبط ذراع رجل سمين وقصير ذو شعر أشيب تصرخ به بصوتها الذي يشبه ساكسفون صدأ :هيا أسرع ....فلا يملك الرجل إلا أن يسرع كقط أليف أو كجندي لا يملك إلا أن يلبي أوامر قائده الأرفع منه رتبة ... فتبتسم... لم تنطق المرأة إلا كلمة واحدة لكنها استطاعت التكهن بحياتهما كلها .. ستكتب عنهما ....لكنهما يسرعان ويختفيان من أمامها ..
الورق لا يزال أبيض والقلم وردي تنظر من خلف الزجاج ثانية ،رجل رمادي الشعر طويل الوجه ذو لحية غير مشذبة وعينان غائرتان تائهتان تحدقان ..بها ؟؟!! ..ربما ... يحمل دفتراً صغيراً وقلماً بيد وحقيبة سوداء بالأخرى ينظر اليها ويكتب ، عن أي شيء يكتب ؟!! يهز رأسه وهو يكتب كأن كلماته تنساب كجدول رقراق يشق طريقه وسط حقل غناء هل يكتب نوتة موسيقية ..ربما خاطرة أو ربما تقريراً صحفياً ..مذكراته ؟!!..يحدق الرجل بوسع عينيه يقرب وجهه من الزجاج كأنه اكتشف شيئا تنظر المرأة خلفها لعلها تعرف ما الذي شده ما الذي ألهمه ..لعله عميل سري يكتب عن رجل الجريدة الجالس وراءها، يبدو أن لكل فرد في الشعب مخبر سري ... يهز رأسه برضى ويضع دفتره في الحقيبة ويمضي.
وتبقى وحدها بلا نظرات الفضولي الغامض وحدها ورائحة لوز قوية تخترق أنفها وكأنها في حقل أشجار لوز والطقس نصفه ربيعي ونصفه الآخر خريفي لكأنها تنظر إلى أشجار تحمل حبات لوز ترتدي نصف معاطف ... امرأة أخرى تمر من أمامها ، عجوز في الستين أو في أوائل السبعين خطوط الزمن في وجهها خارطة بلا تضاريس ،هي الأخرى تحدق بها من خلف الزجاج ، تتساءل لم تحدق بي هذه العجوز ؟!
تحول يدها التي تمسك بالعكاز إلى الأخرى وتقرب نظارتها من عينيها .. لا إنها لا تحدق بها ،انها تحدق بالنادل ... تضع يدها على صدرها وتتنهد تنهيدة عميقة يشع من عينيها بريق عجيب وشبه ابتسامة تغزو بقايا شفتيها .. تطلق زفرة حارة بعد أن تأملت النادل من الأعلى إلى الاسفل .. وتمضي
الموسيقى كلاسيكية ناعمة تدعو للضجر والنادل الشاب الكسول الذي يتثاءب طوال الوقت لازال واقفاً مكانه ورجل الجريدة لا زال غارقاً في جريدته كأنه يريد أن يتنبأ بالخبر قبل حدوثه ... تتأمل فنجان القهوة الذي لم ترتشف منه إلا رشفة أو اثنتين وآثار أحمر شفاهها الذي يزين طرف الفنجان الأبيض كأقصى إثارة في هذا المقهى .. تنظر إلى الأوراق البيضاء ستكتب عن العجوز، عن جوعها للحب، ستكتب عن الحياة التي غادرتها عن جسدها الذي شاخ وفيه روح فتية ..
تتنبه إلى قهقهة شابين يظهران خلف الزجاج لكنهما لا يتوقفان بل يتابعان طريقهما ... بل ستكتب عن الشباب يركض وراءهم الزمن ، فيشيخوا ليركضوا وراءه .. تود لو تقوم تركض خلفهما تقهقه معهما قليلاً تحتفل معهما بالربيع بالزهور بالشمس بالحياة ، تود لو تثرثر معهما عن أحلامهما عن الصبايا عن مذيع نشرة الأخبار ،عن الأوطان ،وعن المنفيين، عن المقاتلين وعن المستسلمين عن الذين يفاوضون والذين لا يفاوضون ... لكنهما لا يتوقفان وهي لا تقوم من مقعدها.
تعود للأوراق البيضاء ثم تتذكر أنها ليست كاتبة .... لا تدري حاجتها للأوراق لعلها ببساطة لتحسب فواتيرها ، كم نقص العمر وكم زاد الوجع ......
تود لو تنام لكنها لا تنام لو تقوم ولا تقوم وتبقى المرأة تفكر بالحياة التي تحدث خلف الزجاج. رجل بذقن يختلط فيها الشعر الأبيض بالأسود كشعير نما بين حقول الذرة وبشرة بلون الحنطة وشعر مجعد ونظارة سوداء يخفي بها نوافذ روحه .. يمسح الزجاج بطرف كمه ثم ينفث من أنفاسه على الزجاج ويمسحه مرة أخرى يتأكد من نظافة الزجاج ثم يذهب بعينيه عميقاً... يتأمل المقهى يحك يده بذقنه ..يرسم بشفتيه علامة اعجاب يهم بالمغادرة تكاد تصرخ من فرط انفعالها ولا تصرخ ...إنه هو لو تقوم لكنه لم يرسم لها قدمين تود لو تطلب منه أن يعفيها من مهنتها لكنه لم يهبها صوت كل ما أعطاها إياه فنجان قهوة ومقهى واطار لوحة من شجر اللوز ..يمضي الرسام يحيي ضيوفه بعد أن اطمأن على لوحته ..لم يهرب منها أحد ، ربما لهذا السبب لا يرسم لأي من شخصياته قدمين ....
المراجع
odabasham.net
التصانيف
ادب قصص مجتمع قصة