قد تكون هذه الأحداث، عزيزي القارئ، قد وقعت في مناطق جغرافية حقيقية. لكن تحققها على بياض الورق أمر جديد خلقه انقلات الذاكرة وتمويهاتها. وضعت يدي على زر حاسوبي. وتشكل السناريو خارج أي تفكير مسبق. انساب الحرف، وتوالت أمام عيني في خفاء شخصيات وأحداث وأمكان مختلفة. غشتني ظلمة وكأنني غجرية تتحسس في الخفاء ملامح الآتين من بعيد. نسجت في غيبوبتي تلك هذه الحكاية، وحكايات أخرى سأوافيك بها لاحقا .فهل هي حقيقية ؟ لست أدري؟. تأكد منها عزيزي القارئ، ولا تنسى لذة القراءة. فهذه قصة للمتعة .
 
الرسالة
قصة شبه بوليسية
تستيقظ لارا هذا الصباح على غير عادتها مبكرة. صباح هذا النهار ليس كغيره من أيام الأسبوع. الشمس تلقي بخيوطها الرقيقة على واجهة زجاج النوافذ. السماء صافية لا أثر فيها لغيوم تعد بإمطار قريب. تستبشر لارا أحيانا بطلوع يوم مشمس، لكن الشمس سرعان ما تتخلف وراء ضباب كثيف .يبتلعها، ويملأ لارا بحالة اكتئاب تحاول منذ سنين أن تتخلص منه دون جدوى ..
. تفتح لارا النوافذ مستمتعة بصفاء السماء ورِؤية امتدادها الذي تفتقده المدينة عادة في فصل الخريف، إذ تصبح كرة من الضباب لا يكاد الواحد يدرك المسافة الممتدة أمامه إلا بصعوبة. يتسرب برد خفيف إلى داخل البيت، يغازل خصلات شعرها الأشقر المسترسل على كتفيها. تنتقل لارا بين أرجاء البيت محاولة ترتيبه قبل خروجها الصباحي .
 تنظر إلى صورة بسام معلقة بكل عناية. يغمرها إحساس غامض لا تستطيع تحديد طبيعته. أهو الألم؟أم السكينة؟ أم الأمل؟ أم شيء آخر؟. تقرر لارا أن تقطع دابر هذا الشعور .
 عشر سنوات كفيلة بتحديد مشاعرها. لا بد وأن تقتلع هذا الإحساس الطارئ . سيأتي طارق بعد قليل، ولابد أن ينتبه إلى ذلك. لا تريد أن تعكر جو اللقاء، ولا أن تجعله يشك في قرارها. لكنها لا تستطيع إخفاء أحاسيسها. هي هكذا لا يكاد الإحساس كيفما كان نوعه يحط بذرته في أعماقها، حتى تتهيأ جميع ملامحها للتعبير عنه بكل إصرار .تنظر من جديد إلى الصورة. تقتلعها من مكانها .تفكر في لينا .قد يسوؤها الأمر. قد تتساءل لماذا نزعت الصورة من مكانها. تدرك جدا حساسية لينا التي ورثتها عنها، فتعيد الصورة إلى مكانها من جديد . مازال الإحساس الغريب يتملكها. تقرر القيام بحركات رياضية تساعدها على الاسترخاء.تستحم، تتعطر، وتضع بعض المساحيق الخفيفة على وجها عساها تخفي التوتر الذي اكتسحها على غير موعد.
 دق جرس الباب .كان طارق. دعته لتناول الفطور. أحست به يتفحص وجهها وكأنما يبحث عن علامة تؤشر على تراجعها عن قرارها أو ندمها.لا يريد طارق إجبارها على اتخاذ قرار لا تؤمن به. أحست بقلقه .لم تجد من سبيل يبدد ما قد يعكر صفو لقائهما سوى الحديث معه في مواضيع مختلفة .
استشعرطارق قلق لارا، وصار يرد عليها باقتضاب.
وقف، حضنها برفق، وقال:
 -هل أنت مستعدة . سنتوجه اليوم إلى مكتب المحامي لإنهاء مراسم الدعوة التي تؤكد وفاة زوجك الذي غاب منذ سنوات .
 أجابت لارا دون تردد : طبعا . ولقد استيقظت منذ الصباح الباكر على غير عادتي، ألم تلاحظ أنني جاهزة ؟.
 استطاعت لارا أن تزيح ذلك الإحساس الثقيل بمجرد ما نظرت إلى عيني طارق . عيناه العسليتان الجانحتان نحو سكون هادئ تشي بتوسل صادق يدعوها إلى أن تكون حازمة. تعرف أنه قد أمهلها طويلا للحسم في عواطفها. كانت تخاف أن تكون الوحدة التي عاشتها بعد غياب سام هي ما جعلها تقبل به رفيقا وحبيبا وزوج المستقبل. تبحر من جديد في عينه الحاملتين لبريق متميز يتسرب كعادته إلى أعماقها، ينتشلها من الخوف والتردد .تنسى العالم من حولها. ولا يبقى سوى ذلك البريق يحمل معه ضياء يتسلل إلى ثناياها.يبدد تلك العتمة الداخلية . تحس رنات متواصلة تنشد الوصال الأبدي. تتصاعد الرنات. تنبعث حرارة من داخلها ترخي جسدها المتوتر وعقلها المتعب. وتلقي برأسها على كتف طارق. يدرك حاجتها الماسة إليه.يضمها بحنانه المعهود كطفلة صغيرة. تتذكر لارا كيف كانت لقاءاتها به تهبها القدرة على النوم بدون صعوبة. كلما خلدت إلى النوم أغمضت عينيها واسترجعت تفاصيل لحظات ممتعة لا تسمع فيها سوى لنبض أحاسيسهما الجميلة، فلا تشعر إلا والنوم يغرقها في سكون هادئ. وكل ليلة تستعيد هذه اللحظات التي تبدد أرق اليومي في مدينة تعيش على أوتار الفراق والغياب و الألم.
 أهلها في مدن بعيدة .ابنتها الوحيدة في الداخلية. الجيران لا يعرفون بعضهم البعض كل ما يجمعهم تحية لقاء عابر عند باب المصعد. البيت الصغير الذي تملكه كان يزيدها حزنا ضاعفه الغياب المفاجئ وغير المبرر لزوجها. قنوات التلفاز لا تحمل سوى أخبار الحروب والكوارث. أفلامها لا تنمي سوى الرعب والكراهية. كثيرا ما منت نفسها بمشاهدة فيلم رومانسي. تحس العالم من حولها لقيطا مولودا خارج مشاعر الحب. تذكرت لارا أنها في أحضان طارق ينتظر منها إشارة مرور إلى ضفة القرار الذي لا رجعة فيه . رفعت رأسها وأجابت :
- طبعا ،أنا مستعدة لا شيء يثنيني. والدا سام تفهما وضعيتي. كنت أخشى من قبل ردة فعل لينا، ولكنها الآن كبرت وتفهمت الأمور .صحيح لن تنسى أباها، ولكنها تقدر صبري ومعاناتي .
طلبت لارا من طارق أن ينتظرها قليلا لتأتي بالوثائق اللازمة للدعوة. رن جرس الباب. كانت لينا .
-مفاجئة ! لم تكونا تنتظراني . لكنني صممت على المجيء لتطمئن أمي. أعرف أنها تحبني، ولا تريد أن تجرح مشاعري. جئت لأطمئنها وأخبرها بأنني موافقة على قرارها .
 جلست لينا إلى جانب طارق . في انتظار أن تلحق بهما أمها. أقبلت لارا بسرعة حتى لا تدعهما ينتظران كثيرا .
 دق جرس الباب من جديد. خرجت لارا لترى القادم .وجدت مجموعة من الجرائد، و رزمة من الرسائل. فتحتها بسرعة. بعضها يتعلق بفواتير الماء والهاتف، والبنك. وبعضها الآخر بدعايات تجارية .
 استرعى انتباه لارا رسالة لا تحمل طابع البريد. فتحتها .تأملتها مليا ، فإذ بها تحس بدوار يعبث بكيانها وبرجليها تخونانها . ثم سقطت أرضا.
 أسرعت إليها لينا محاولة مساعدتها على الوقوف .
توجه طارق إلى المطبخ باحثا عن كوب ماء ، أو عصير ليمون قد يعيد القوة إلى لارا وينعشها .
-ما الأمر ماما ؟، كنت بخير قبل قليل.
-ما الأمر حبيتي ؟
 مدت الرسالة إليهما، وفي عينيها ظلال دموع تؤشر على أن في الأمر ما يزعج .
 قرأها جورج. لم يتمالك نفسه ,أخذ يصرخ :
- هل تصدقين رسالة مجهولة ؟. لقد مرت عشرة سنوات، عمر كامل لتحسمي في الأمر نهائيا . فكري بكل جدية .
 أعادت لينا قراءة الرسالة. أحست بفرح ممزوج بالخوف والقلق .
 تحب طارق وتحترمه لأن مشاعره إزاءها ووالدتها صادقة. كان طارق صديقا للعائلة. تتذكر كيف كانت ترتمي بين أحضانه وهي طفلة حين كانت تحس بالحنين إلى أبيها .كيف كان يغمرها بالهدايا. كانت دائمة الشكوى والتأفف من غياب والدها. وعندما طال غيابه صار طارق يؤلف الحكايات ليعوض الفراغ الذي كنت تعيشه لينا باعتزاز كبير وإعجاب بقدرة والدها على ترويض البح، والتغلب على أهواله بقدرة خارقة كثيرا ما أرضت غرور لينا . تتذكر لينا كيف كان المطر غزيرا في تلك الليلة .كان صوت الرعد يهز النوافذ. كانت إلى جانب أمها تعانق دميتها الصغيرة تبكي خوفا. رن الجرس وكان طارق. زاد بكاؤها وإلحاحها على طلب أبيها . أخذها بين أحضانه . وصار يحكي لها حكاية البحار الشجاع الذي لم يكن غير والدها كما كان يدعي دوما . كان يختلق الحكايات لتنسى لينا غياب أبيها. كثيرا ما أوهمها أنه في مهمة لإنقاذ باخرة، أو غريق، أو البحث عن كنز ثمين، أو لمحاربة أشرار في البحر. حكايات آمنت بها، ولكنها أدركت فيما بعد أنها لا تخص أباها .
يصير الإنسان أحيانا، ضعيفا أمام عاطفة فطرية .
 تدرك لينا أن عدد السنوات التي قضتها مع أبيها قليلة، وأن وجود طارق إلى جانبها وأمها كان يمنحها سعادة كبيرة. لكنها تتمنى مع ذلك أن يكون أبوها حيا بالفعل كما تخبر الرسالة.
يخرجها صوت طارق من شرودها وهو يصرخ عاليا موجها كلامه إلى أمها :
- لو كنت بالفعل قد حسمت أمر عواطفك ما كنت تهاويت . مازلت تحملينه معك. مازال حاضرا . وأنا لن أقبل العيش معك بإحساس قد يدمرنا بين لحظة وأخرى .
 لم يترك الفرصة للارا لتدافع أو تجيب. خرج مسرعا وصوتها يدعوه بتوسل إلى التريث دون جدوى .
 أحست لينا بفرح يداعب قلبها الصغير. تمنت أن يكون أباها حيا .لكن حبها لأمها جعلها لا تعلق على الموقف . أخذت تهدئ من روعها، وطلبت منها أن تتحرى أمر الرسالة، وتنتظر قيلا حتى يصفى ذهنها لاتخاذ القرار الصحيح .
وجدت لينا نفسها، و لأول مرة، تتمنى لو تتراجع أمها عن قرار الدعوة. أن ينسحب طارق من حياتهما ليعود أبوها. تفكر لحظة "هل سيعرفني؟هل سيحبني ؟ "أ سئلة كثيرة تناسلت داخلها أجلت الإجابة عنها .
حملت لارا حقيبتها وخرجت مسرعة. حاولت الاتصال بطارق، لكن هاتفه ظل يرن دون جدوى .كانت المسافة الفاصلة بين بيتها وبيت والدي سام غير بعيدة. دقت جرس الباب ، وخرج والد سام. أحس أن بالأمر شيئا مقلقا. طلب من لارا أن تتفضل إلى الداخل فاعتذرت. أخبرته بأمر الرسالة وعقبت :
- آنا آسفة، لن أصدق رسالة مجهولة .لو كان حيا لكان اتصل بنا. لقد انتظرت عشرة سنوات.
 كان والد سام رجلا طيبا .يكن الحب والاحترام للارا. يقدرها لطيبتها وحسن أخلاقها.عاش معها لحظاتها العصيبة مع سام .كان يشفق عليها وكثيرا ما دعاها إلى الانفصال عنه رأفة بها. لكن لارا رفضت. كانت تأمل أن يتغير سام، ويقلع عن عاداته السيئة .
نظر إليها أبو سام نظرة امتزجت بالعطف والإشفاق وقال لها مشجعا :
-لا تتراجعي، ارفعي الدعوة .
 شكرته لارا وانصرفت .
 واصلت طريقها وهي تفكر بطارق. يعتصر قلبها حزن عميق. تخفي دموعها حتى لا ينتبه المارة إليها. توجهت للتو إلى الشاطئ. كان البحر آخذا في التراجع ينسحب كأنما يعلن الولاء لقرارها. بدت لها الصخور الكبيرة واضحة المعالم. تنتصب عادة وسط البحر يغطيها في حالة المد ولا يبدو منها سوى قمتها الحادة. عندما يتراجع البحر تبدو ضخمة ممتدة. تراءى لها شبح من بعيد. أسرعت خطاها. تبين لها طارق جالسا أعلى الصخرة يتأمل البح، أو ربما كان يفرغ فيه غضبه. فاجأته قائلة :
 - سيدي لا تجلس هنا طويلا. سيرتد البحر ويعود إلى مكانه ولن تشعر بحركته إلا والمياه تغرق المكان. ولا سبيل لك إلى الرجوع حتى ولو كنت سباحا ماهرا، لأن برودة الماء لن تمكنك من ذلك.
التفت طارق إليها . فسح لها المكان لتجلس بقربه. دثرها بذراعيه كما كان يفعل دائما. كثيرا ما هبت عواصف التوتر والقلق بينهما. لكنه لم يدع ، يوما ، الحزن والغصب يمضيا بهما إلى القطيعة . شيء كبير يشده إلى لارا ولا يستطيع أن يبتعد عنها .
 II
 كانت القاعة غاصة بالمرضى. صمت رهيب يخيم على المنتظرين.تنبعث من بعيد موسيقى ضعيفة كلحن جنائزي يهيئ الزائرين لمعرفة أقدارهم المختبئة. كان طارق مستلقيا على كرسي يتصفح جريدة قديمة وجدها بين مجموعة جرائد ومجلات موضوعة بفوضى فوق طاولة تتوسط القاعة . أخذ يقلب الصفحات لتبديد ساعة الانتظار لم تستطع عيناه الاستقرار على سطر واحد. ينظر كل حين إلى ساعته اليدوية، ثم إلى ساعة الحائط الكبيرة المثبتة عاليا وكأنها حارس على الزمن. خيل إليه أنها أبطأت حركتها. فصار يعوض إيقاعها بتقليب سريع لصفحات الجريدة التي كانت بين يديه. ما ان انتهى منها حتى امتدت يده دون وعي منه إلى مجلة أخرى. أخذ يتصفحها من نهايتها، وكأنه بذلك يحاول استباق الزمن. لم يدر كم مضى من الوقت وهو ينتقل بين مجلة وأخرى، وكل مرة يجد نفسه يتصفحها من حيث تنتهي آخر صفحة فيها .انتفض واقفا وهو يعبث بهاتفه النقال. فجأة، نادته الممرضة ودعته إلى الدخول. كان الطبيب منهمكا في فحص الملف الموجود أمامه. بادله التحية دون أن يرفع بصره إليه. صار يضع دوائر على بعض النتائج، ثم التفت إلى طارق. سأله عن صحة زوجته. لم يكن ينتظر جوابا منه .بدد الصمت الثقيل بمقدمة أدرك طارق فحواها. نزلت كلماتها ثقلا أغرقه في بئر عميقة .
 حاول الطبيب أن يطمئنه :
 -هناك أمور تتجاوز الطب . قد تحدث أحيانا معجزة. لكن يجب ألا أخفي عنك الحقيقة. مرض زوجتك في مراحله المتأخرة جدا. لا تخبرها بالأمر. قوة العزيمة تجعل المرْء في بعض الأحيان يهزم الألم و اليأس. دعها تأمل في العلاج . قد يحدث ما لا نستطيع أن نتكهن به .
لم يرد طارق. وجد عقله يشرع أبوابه على بياض .
بادره الطبيب :
- لا يجب أن تراك زوجتك في هذه الحالة، وإلا عجلت برحيلها .لتداوم على ساعات العلاج.الأمر صعب، ولكنه الحل الوحيد الممكن بين أيدينا .
خرج طارق دون أن يودع الدكتور. تخيل زوجته ترفرف، تنسل منه كما ينسل الماء من الأصابع. أحس بالحزن والألم في كل جارحة من جوارحه.مشى لا يعرف أين تقوده قدماه. غاب العالم من حوله .تحول إلى سديم. مشى طويلا. لم يخرجه من شروده سوى منظر البحر المترامي أمامه . نظر إلى الأفق . كانت الشمس تودع يوما مر من حياته. أين تذهب؟ تساءل . بل أين نذهب ؟هل رحيلها إنذار بموت قريب.؟ الشاطئ شبه فارغ إلا من شبح بدا له بعيدا على مرتفع صخرة عالية وسط البحر.
 صار الماء يعود إلى مكانه بهدوء. يعلو شيئا فشيئا دون أن يحدث أي هدي. يتقدم محتلا المسافة الواسعه الممتدة ما بين مكان الصخرة ومقدمة الشاطئ. يلتف حول الصخرة كأفعى. الشبح لا يتحرك. يعرف طارق أن المياه ستغمر الشاطئ الممتد أمامه بعد قليل وتبتلع الصخر. يختفي تماما كأنه لم يكن هناك .لم يستسغ منظر الشبح البعيد وكأنه صنم . مشى وركبتيه تغوصان في الماء، إلى أن اقترب من الصخرة فصاح قلقا:
-سيدتي !سيدتي ! المياه تغمر المكان، وبعد قليل ستجدين نفسك داخلها،ولن تجديك السباحة .الماء بارد .سيرتفع ويتزايد عمق البحر.المسافة الممتدة بين الشاطئ والصخور كبيرة جدا ،هيا اسرعي لمغادرة المكان .
 التفتت السيدة والهلع يملأ كيانها.
- يا إلاهي لم انتبه. شكرا سيدي .تصفحت الرجل وصاحت : يا إلاهي طارق !ماذا تفعل هنا ؟ شكرا لك.
- لارا ؟
 مد لها يده، فنزلت .تقدما يجران قدميهما بصعوبة وسط ماء بارد كان يتزايد علوه دون إنذار.
 شكرته لارا . وسألته عن أحوال زوجته .لم يستطع أن يخفي أحزانه. أخبرها أن أمورها تسوء أكثر فأكثر. سألها :
 -ما ذا تفعلين في مثل هذا الوقت هنا؟ لو لم أحضر لست أدري ما كان سيحل بك ؟رب صدفة خير من ألف ميعاد .
نظرت رالا إلى طارق. كست عينيها سحابة دموع. وقالت :
-هنا فوق هذه الصخرة كالسندباد أدع أحاسيسي تسافر بي في كل الأرجاء أبوح متخفية بجراحي الغائرة !
- سامحني لارا . لقد انشغلت هذه المدة بمرض زوجتي، ولم أسال عنكم
لم أعد ألتقي بسام .كنا بين الحين والآخر نلتقي بالنادي. لكن ظروفي أبعدتني عن العالم .
-غاب منذ أكثر من أربعة أشهر ولم يعد.
 كانا معا بالكاد يتكلمان . كل منهما تجرفه همومه.
تذكر طارق نصيحة الطبيب. كان بحاجة إلى من يخفف عنه هول الخبر.
أحست لارا بحزنه. دعته إلى بيتها ليجفف ملابسه. لم يكن بيتها بعيدا.استحسن الفكرة .قد يزيد منظره المبلل زوجته توترا .
 أخذ يجفف ملابسه بمجفف الشعر بينما لارا تهيئ فنجان قهوة لهما معا .
 ارتشف قهوته بسرعة، ثم ودع لارا .وعدته أن تزور زوجته لتطمئن عليها .وأوصته بها خيرا .
 ارتمت لارا فوق سريها تبكي .عاودها منظرها وسط المياه .لولا طارق لكانت في عداد الغرقى. فكرت بلينا .ماذا كان سيكون مصيرها ؟. مجرد التفكير في أنها كانت ستدعها وحيدة قلب كيانها. أحست بوحدة قاتلة.
لم يعد سام منذ شهور عدة. كان في ما قبل يغيب يوما أو يومين ويعود. كان شجارهما يعلو في البداية ويتكرر بسبب غيابه عن البيت، لكن حدته خفت مع الأيام .أدركت لارا أنها لن تستطيع تغيير سام .يحب البحر أو ربما كان يهرب إلى البحر، منها ، من ذاته، من أشياء لم يحدثها عنها أبدا. ظلت سرا عميقا ابتلعه البحر عندما غيبه. لم يكن سام يكترث بخوفها واعتراضها على غيابه. صار مع مرور الأيام يغيب أكثر فأكثر إلى أن اختفى .أخبرها بعض البحارة أنهم رأوه يدخل البحر في يوم هائج. حذروه. لكنه لم يعبأ بكلامهم. هو هكذا عنيد لا ينصت لأحد، لم يرى أحد لا سام ولا قاربه من بعد. وخمنوا أنه مات غرقا في عرض البحر. التهمه سمك القرش، كما يكون قد كسر قاربه ورمى به بعيدا في شاطئ آخر.كل يوم تسمع لارا حكاية عنه .يقول البعض أنه كان يومها بصحبة سمراء قد تكون إحدى المهاجرات السريات الباحثات عن لحظة متعة عابرة . قد تكون غجرية محبة للترحال .وقال آخرون ربما هي جنية البحر افتقدته ، و خرجت يومها لتأخذه بعيدا إلى أعماق البحر حيث عالمها الغابر الذي لا يعرفه أحد. كثيرا ما تحدث البحارة عن جنية البحر. قيل هي التي تجعله هائجا عندما تقترب من الشاطئ وعندما تنسحب إلى الأعماق يهدأ ويتذلل .
تدرك لارا أن هذه خرافات وحكايات كان البحارة يتسلون بها .لم تفقد الأمل .كانت تذهب بين الحين والآخر إلى الشاطئ . تقف طويلا باحثة في الأفق عن زورق سام.أو عن أحد يخبرها بجديده. لم تكره رغم كل الخصام الذي كان يقع بينهما. كانت تبدده بالتفكير في أشياء جميلة جمعتهما .
 III
 
كان المدرج يعج بالطلبة. وكانت الشعارات ترتفع منددة بالقمع والتعذيب الذي طال مجموعات مناضلة. كان حماس الطلبة يتزايد وهم يرددون أغاني يصاحبها العزف على الآلة .
غربت الشمس وأخذ المدرج يخلو من الطلبة . وجدت لارا نفسها مع عدد قليل من زملائها تنظر بإعجاب إلى ذلك العازف. راقها انسجامه مع العود. يغمض عينيه ،يتحسس الأوتار برفق. تتسرب الألحان عذبة تتطاير كفراشة بيضاء. ترى الرؤوس والأقدام تتمايل في حركة خافتة محاولة اتباع الإيقاع. يقطع صمت القاعة صوت العازف وهو يغني بعشق.
أنهى معزوفته. بدأ الكل يصفق .انخرطت لارا مع مجموعة المعجبين في التصفيق .توقف الكل وظلت تصفق لوحدها. انتبهت إلى الأمر. توقفت وخرجت قافلة إلى غرفتها بالحي. سمعت خطوات تتبعها .التفتت .كان ذلك الشاب العازف. حياها قائلا:
-شكرا آنستي على اهتمامك. هل بالفعل أستحق ذلك التصفيق؟
 ردت لارا : أنا لا أعرف المجاملة .وكل جميل يأسرني.صوتك وألحانك و عشقك للآلة ، طريقة تعاملك معها ، كلها اشياء أسرتني .لقد راقني تعاملك مع الآلة .كنت تداعبها، تهدهدها كطفلة صغيرة .
-إذا لم يكن لديك مانع ،ابقي قليلا وسأتحفك .
 لم ينتظر جوابها وأخذ آلته . كان اللحن المنبعث من بين أنامله يداعب روحها ، ويبعث فيها انتشاء خاصا .حاولت البحث عن كلمات الأغنية ولم تجدها .أدرك سام محاولتها. توقف وقال لها : مادمت لا تحفظين الشعر، سأعزف وأغني أغنية سأؤلفها حالا لأجلك .
- هل أنت شاعر؟
-اسمعيني واحكمي -
شرع في العزف ثم غنى:
ملك أنا لو تصبحين حبيبتي
لا تخجلي مني فهذه فرصتي
لأكون بين العاشقين رسولا
ضحكت لارا وعقبت :
- أنت ماكر .هذه ليست قصيدتك .
-أجاب :
هي لي مادم لحني لم ينكسر
 خذي بيدي جميلتي
من سحر عينيك يولد شاعر
-وهذا ليس بشعر .
نظر إليها وقال:
- سأغني الآن شعرا حقيقيا وسأتحداك. ولكن أريد أن ترددي معي كلمات هذه الأغنية .صدح صوته جميلا:
أتبقين فوق ذراعي حمامة
تغمّس منقارها في فمي؟
و كفّك فوق جبيني شامه
تخلّد وعد الهوى في دمي ؟
أتبقين فوق ذراعي حمامه
تجنحني.. كي أطير
تهدهدني..كي أنام
و تجعل لا سمي نبض العبير
و تجعل بيتي برج حمام؟
أريدك عندي
خيالا يسير على قدمين
و صخر حقيقة
يطير بغمرة عين .
لم تستطع لارا أن تخفي إعجابها بالقصيدة والصوت الجميل .عقبت
-شكرا لقد أمتعتني .أتمنى لك مستقبلا رائعا في الغناء .
أجاب مبتسما :
 -شرط أن تكوني ملهمتي .
-يبدو أنك ألفت التغزل بالبنات .أنت ماكر.
 انسحبت لارا .كان الشاب ما يزال بمكانه يشيعها بنظرات جعلتها ترتبك. دخلت غرفتها وهي تردد اللحن والكلمات التي سمعتها منه .
 ظلت تلك اللحظات القليلة التي جمعتها بذلك الغريب تسيطر على تفكيرها. تمنت لو تلتقي به مرة أخرى . تدرك أن فضاء الجامعة واسع.لم تسأله عن الكلية أو القسم الذي ينتمي إليه .لم يسألها بدوره عن شيء. سخرت في أعماقها من نفسها. كيف تصبح ضعيفة إلى هذه الدرجة. تفكر في شخص عابر لم تره إلا مرة واحدة وبالصدفة .ثم تتذكر كيف تبعها عندما خرجت من المدرج .كيف غنى لها. وكيف استشعرت في صوته ونظراته بريقا خاصا مزيجا من أشياء جميلة تمتنع عن تفكيكها كي لا تفقد رونقها.
 شيء في أعماقها يدعوها إلى الاكتفاء بجمال ذلك الإحساس.وآخر يعلو داخلها ساخرا من رومانسيتها البدائية ، يدعوها لأن تطرد تلك الأنوثة الهامسة فيها .يقنعها بأن الغريب شاعر، والشعراء يقولون ما لا يفعلون. ظلت مع ذلك تتمنى في قرارها لو تلتقي به ثانية. لو تراه .لم تكن تفكر في ما سيقع بعد .كان همها الوحيد أن تشفي غليل تلك الرغبة التي تجعلها في كثير من الأحيان، وهي وحدها ، أوهي مع زميلاتها،تعيش انسحابا يعيدها إلى صدح الصوت ، وروعة الكلمات التي سمعتها سابقا من العازف الغريب. تقنع نفسها أنه وجهها إليها خصيصا.تحدثها نفسها أن تبحث عنه من جديد .تترد أمام الرغبة الجامحة.تسأل : لكن ، أين أبحث عنه؟ كليات عديدة بالمدينة. والجامعة فضاء مفتوح أمام الكل، حتى أمام من هم من خارج الكليات. قد لا يكون طالبا .قد يكون زار الكلية بصحبة رفيق ،أو صديق أو لما لا صديقة استغفلها للحظة .تركها يومها تنتظره في مكان قصي ، ثم تقصى خطاي عندما غادرت المدرج .قد تكون نزوة عابرة راودت نفسه.تتذكر أن الوقت كان ليلا .والساحة الكبيرة الممتدة أمام داخليتي البنات والأولاد كبيرة جدا، يقطع فراغها الممتد أشجار طويلة كثيفة ، تمتد أغصانها، يتشابك بعضها ليصنع ممرات غير مرئية، كثيرا ما شكلت مخابئ لعشاق ومحبين في ذلك الفضاء .تخمينات عديدة تصارعت داخلها جعلتها تطرد ذلك الإحساس الغريب الذي ملأ وجدانها ، وتواصل حياتها الطلابية عادية دون أن تجعل أحدا يلتفت إلى الارتباك الذي كان يراودها بين الحين والآخر.
 **************************************
كان فضاء الجامعة ذلك الصباح على غير عادته. حشود طلابية متفرقة في كل مكان .حلقات هنا وهناك . أصوات تعلو تنذر باختلاف في الرأي. كانت لارا ملتحقة بفوج من زملائها الطلبة .تبين لها أنه بالرغم من التعدد والانشقاق الموجود سياسيا في صفوف الحركات الطلابية ،و تعصب كل واحد لمبادئه وحزبه ،كانوا في النهاية يتفقون عندما يتعلق الأمر بالمصلحة العليا للطلبة. ينسون خلافاتهم وصراعاتهم. تصطف القيادات في الصفوف الأمامية .يشد ممثلوها أيادي بعضهم البعض. يرددون شعارات موحدة تثير الحماس في غير المنتمين، وتقتلع الخلاف من أعماق المتحزبين .من ينظر إليهم وهم متلاحمين يستغرب كيف يختلفون ، وينشقون بمجرد ما ينتهي الإضراب أو ساعات الاحتجاج.
 كانت الخطابات واحدة .ولكن النوايا مختلفة. كل منهم يرى أنه الأحق. تعتقد لارا أن هناك شيئا واحدا في أعماقهم يؤمنون بالتشبث به ،هو الحق في الزعامة .
ذلك يؤمن بتاريخه العريق ، وذلك يؤمن بانفصاله عن القديم ويآخذ عليه تراجعه عن المبادئ العامة أو مهادنته للنظام ، وذلك ينتقد الآخر لأنه لا يرقى إلى درجة الثورية المطلوبة ،يتذبذب في المواقف ويتأرجح بين هذا وذلك . خبايا النفوس كانت تختلف . ولا أحد يفهم التغيرات التي تحدث في هذا الصف أو ذلك. هكذا هي السياسة .لعبة الكبار. يكون الصغار فيها مجرد دمى تحركها أنامل خفية تعبث بالخيوط التي تشدها .أما المتفرجون فتعلوهم غمامة .يحاولون تبديدها أحيانا ، ويفضلون الانسحاب بعيدا غير مبالين بما يجري في أحيان كثيرة .
 لم تعرف لارا كيف اجتمعت حلقات الطلبة ، والتفت فجأة تستمع إلى خطاب أحد الطلبة وهو يدعو إلى مقاطعة الدراسة وخوض الإضراب. تقدمت قليلا فوجدت أحد المتزعمين للإضراب يلقي خطبته من أعلى سطح إدارة الكلية. كان إلى جانبه ثلاثة طلبة آخرين يطلبون من الكل الإنصات لإخبارهم بالمستجدات .تقدم أحدهم تبين لها أنه ذلك العازف .صار يخطب دون انقطاع وبحماس لم تر مثله .أنهى كلمته .وتقدم آخر. أدركت في ما بعد أن كل طالب ينتمي إلى فصيل مختلف ، وأن اجتماعهم هناك هم الأربعة كان للم شمل الطلبة ، وإقناعهم بالقرار الصحيح. بدا النقاش حادا. خصومات واختلافات تؤشر عليها خطابات بعض المتدخلين .كان النقاش يرتبط بمواضيع أحيانا لا تخص الطلبة ، وإنما الوضع العام في البلاد .عندما تيقن الطلبة من أن الإضراب قائم ، صارت جموع كثيرة تنسحب ، كل يغتنم الفرصة لإنهاء ما كان قد ابتدأه أو ينوي فعله .
 كانت الشمس يومها ملتهبة .أحست لارا بعد أن انتصف النهار بآلام في رأسها. فقررت الانسحاب بدورها. سمعت فجأة خطوات مسرعة. التفتت، فإذا بالعازف يلحق بها. حياها .
كان منظره يبعث على القلق. شيء ما يعكر مزاجه. بدا عابسا كأنه غير ذلك الشاب الذي التقت به قبل أيام بأساريره المنفرجة وابتسامته الوديعة التي جعلت ملامحه مشرقة. كل ما فيه كان يخبر من قبل عن سعادة عميقة. تقف الآن أمام شخص مختلف . لحيته أضحت كثيفة.وحاجباه تقوسا. فقد رونقه وجماله. بدا شخصا غريبا .ردت لارا التحية .
مد يده إليها قائلا :
- أنا سام. لم أخبرك باسمي يومها .
 أجابت غير مبالية لأنها أحست معه بغربة جعلتها تعيد النظر في ذلك الإحساس الذي امتلكها يوم التقت به ، وتملكها منذ غاب عنها ، وجعلها تعيش كآبة وحزنا كثيرا ما لفاها داخلهما .أحاسيس حاولت أن تطردها. كانت تنجح أحيانا ، وتفشل في مرات متعددة ، لأن الإحساس والرغبة في أن تلتقي به أصبحا هاجسها.
لا يهم الاسم .أنت رفيق وهذا يكفي .
- وما اسمك ؟
- رفيقة.
 قال: اسم جميل ومناسب .
 أدركت أنه لم يتبين استخفافها وعقبت :
بل لارا يارفيق .
- معذرة .لارا اسم أجمل .
-ها أنت بدأت في مكرك الشاعري .
صدقيني لارا .لست ماكرا هل تسمحين لي بطلب خدمة .
 حالته الحزينة ومنظره الكئيب جعلها تراجع موقفها غير المبالي. أعادت النظر إلى وجهه وكأنها تحاول أن تبحث عن ذكرى صورة جميلة التقطتها يوم لقائهما الأول .تلاقت نظراتهما .عيناه وحدهما لم تتغيرا .بريق يشع منهما يستعيد روعة اللقاء، وأشياء أخرى لم تستطع لارا أن تحددها .
أجابت من غير أن تسحب عينيها : إذا أمكنني ذلك فأنا في الخدمة .
 لم تستطع لارا أن تخمن ما يمكن أن يطلب منها شخص معرفتها به لا تتجاوز نصف ساعة .
 أدرك استغرابها وقال بتودد :
- جاءني هاتف يخبرني أن أمي جد مريضة .
قاطعته لارا :اذهب لرؤيتها .
البوليس يحاصر الحي ،أنا مطلوب لديهم. لذاك ترينني قد أطلقت لحيتي حتى أتنكر .وأنا بحاجة إليك .
- ماعساني أن أفعل. أنا إنسانة عادية لا معارف لي أتوسط لك لديهم.
-لا أريد ذلك. كل ما أرغب فيه هو أن تصحبيني لأخرج من الحي. لن يلتفتوا إلى فتى بصحبة فتاة جميلة. وحتى ما إذا انتبهوا إلي وسجنوني على الأقل ستخبرين أصدقائي بذلك .
 أجابت لارا متهكمة :
- وإذا سجنا نحن الاثنين فمن سيخبر عنا .
رد بتوسل : أرجوك تفهمي وضعي. ! ما كنت أطلب منك هذا الأمر لو كنت أعرف أنني سأعرضك لمثل هذا الخطر.
ترددت لارا في البداية. لكن نظراته والبريق الذي كان يشع منها مملوءا بسحر اللقاء الأول ، والتودد والترجي الذي ولدته ظروف لقائهما الحالي جعلتها تستجيب وتصحبه إلى خارج الكلية .
كان الخارج بالفعل تحيط به حافلات للعساكر ورجال الشرطة. كان الوقت ظهرا وكل واحد منهم منهمك في عمل شيء ما .أفواج أخرى من الطلبة كانت تخرج من الحي لكل وجهته .
 مشت قليلا وتوقفت .
- صرت خارج الحرم الجامعي ، أعتقد انك في مأمن. يمكنك الذهاب بسرعة ،استقل سيارة أجرة لتصل عند والدتك.
 أرجوك واصلي معي الطريق قليلا ، سنختصره عبر هذه الحديقة .
مشت لارا إلى جنبه .كان الطريق يخترق حديقة تمتد من الحي الجامعي إلى وسط المدينة ، تؤثثها بعض المقاهي الصغيرة وبعض الكراسي المترامية هنا وهناك. التفت إليها سام قائلا :
-لنسترح قليلا إذا كنت قد تعبت من المشي.
نظرت إليه باستغراب : كيف يحلو لك الجلوس وأمك مريضة ، وأنت تراوغ الرقابة، أي إنسان أنت ؟
-لا تفهميني خطأ. أحس بالذنب لأنني جعلتك تصحبينني في هذا الحر. وقلت لا بأس أن أسالك إن كنت تريدين شرب ماء أوعصير. وأحدثك بالمناسبة عن القصة التي ألفت أخيرا.
نظر إليها متوسلا .مد يده بلطف إلى يدها وقال هامسا : تعالي سنرتاح قليلا ونواصل الطريق وسأحكي لك القصة .
رفظت لارا وأجابت بجدية :
-سأقتني قنينة ماء .وفي آخر الطريق سأركب طاكسي. وأعود إلى الحي .
-سأعترف لك بشيء. أمي ليست مريضة إلى الدرجة التي تدعو إلى السرعة .مرض أمي جزء من القصة التي ألفت لأجلك . لقد اخترعت كل هذه الأحداث لألقاك وأتحدث إليك .بحثت عنك من قبل ، وكلما وجدتك كنت بصحبة صديقاتك، ولم أكن أريد إزعاجك. عندما رأيتك هذا الصباح وأنت تلتحقين بالحلقة ، منيت نفسي أن تبقي حتى ينصرف الكل .كنت آمل أن أجد الفرصة للقائك من جديد .لا تصدقي خوفي من البوليس .بوليسنا إذا ما قرر اختطاف أحد أو سجنه ،يعرف كيف يصطاده. لا يريد أن يتيح لنا فرصة لنصبح أبطالا . عمليات الاختطاف والاعتقال تتم في كامل السرية. كان هناك خوف آخر :ألا أراك. نحن على أبواب نهاية السنة.من يدري قد تنهين دراستك؟ قد تغادرين الكلية؟ وأنا في سنتي النهائية .
كان هناك إحساس بفقدانك يعذبني .
دخلت غرفتي يوم افترقنا وأنا أسأل نفسي عن ذلك الإحساس الغريب الذي أحسسته وأنا أتبعك، وأنا أغني لك .تمنيت لو استطعت يومها أن أثنيك عن الذهاب إلى غرفتك .تمنيت لو بقيت معي طويلا. لو لم تتركيني. ومن يومها وأنا أسير إحساس بجمال روعتك .
 وجدت لارا نفسها مرتبكة. لم تكن تريد أن تفصح عن مشاعرها.من يدري ؟ قد يكون شخصا مراوغا ، قد يكون باحث لذة عابرة.كيف تصدق ما يقول .من يضمن لها صدق عواطفه. لم تحس إلا وهي ترمي بالنقود التي كانت بيدها أرضا ، وقالت بعصبية : أنا لست أضحوكة تأتي بي من الحي إلى هنا لتقول لي كلاما مراهقا .ما كنت أظن أن المناضلين مستغلين وفاسدين .
 صادف أن مر بجانب لارا وسام سائحان. امراة في عقدها الخامس ورجل في الستين . انحنت المرأة وجمعت النقود المتناثرة .قدمتها للارا وهي تبتسم :
-سيدتي النقود لا تغرس في الحدائق .هنا تغرس الورود لتفوح عطرا جميلا يهدئ من نرفزة المرء ، ويجعله يستمتع بلحظاته الجميلة .
 أحرجت لارا .أخذت النقود. واعتذرت شاكرة المرأة الأجنبية .
 نظر سام إليها .ابتسم. لم تتمالك نفسها .وصارت تضحك بدورها.
 ضحكت من سخافتها .من ضعفها. من خوفها .
أدرك سام حالة الحرج التي كانت عليها. أوقفها .وربت برفق على كتفها
-صدقيني أنني صادق. اسالي عني من تشائين .لست زير النساء .شيء جميل يشدني إليك .سميه كيف شئت .ولكن اعتبريه إحساسا جميلا صادقا .
كانت لارا تنظر إليه . لم تستطع عيناها الزرقوان أن تخفيا إحساسها بالرضا .أعماقها كانت تستجيب لكل ما كان يقوله سام. أدركت ان هذا الغريب قد استطاع أن يبني قلاعا في فضاء قلبها الذي حصنته منذ سنين .
نظر سام إليها من جديد : هل صدقتني .تعالي نغتدى معا .ستعرفينني أكثر مع الأيام ولن تندمي .اعطيني فرصة أرجوك.
هل تعرفين يا لارا أن ما وقع لي معك شيء عجيب. كأنك قدر محتوم
 ما كان لي أن أتخلف عنه. وجدتك يومها أمامي تصفقين .نظرت إليك واعتقدت أنني أعرفك من زمن بعيد. لم أحس إلا وأنا أودع زملائي وألحق بك.
كانت لارا تنظر إليه مسحورة. تنصت لأحاسيسها التي تفجرت من جديد. أحست بصوت داخلها يردد :أما أنا فقد :
سألتُ عنكَ الريحَ وهي تَئِنّ في قلبِ السكون
ورأيتُ وجهَكَ في المرايا والعيون
وفي زجاجِ نوافذِ الفجرِ البعيدْ
وفي بطاقاتِ البريدْ
ناديتُ باسمكَ …، فجاوبني الظلام
كانت تتمنى في أعماقها أن يكبر حبهما أكثر وأكثر.ودت لو جهرت بأحاسيسها. لكنها كبحت عواطفها لا خوفا ، وإنما احتراسا مما قد يخفيه لقاء عابر.
 IV
دخل طارق إلى البيت .وجد زوجته مستلقية في فراشها .كان لون وجهها أصفر وعلامات التعب بادية عليها أحس بالخوف .كبحه عندما تذكر وصية الطبيب .نظرت إليه وكأنها تستعجله أن يخبرها بنتائج التحليلات .تقدم طارق احتضنها وقدم لها باقة ورد جميلة كان قد اقتناها في طريق عودته. نظرت إليه وكأنها تستعطفه كي لا يكذب عليها .استنشقت عطر الورد في انتظار ما سيخبرها به.
-الحالة مستقرة. وما علينا سوى متابعة العلاج الكيميائي . هو الدواء الوحيد.
 أغمضت عينيها محاولة إخفاء دموعها .تسربت دمعة فوق خدها .سارع طارق إلى مسحها ،ومرر بحنان يديه فوق وجهها .ثم أخذ بين يديه يدها :
-ستتحسنين إن شاء الله .يؤكد الطبيب على المزاج الحسن .القلق عدو المرض .إذا لم تكوني مرتاحة لهذا الطبيب نغيره ، أو نسافر إلى الخارج. فرص العلاج هناك كثيرة .لا يجب أن نفقد الأمل .
لم تجب. فتحت عينيها وصارت تنظر إليه وكأنها تحاول أن تقنع نفسها بصدق ما تسمع .حالتها المتدهورة تجعلها تدرك أنه لا يقول الحقيقة. ولكن حبها له جعلها تهز رأسها إعلانا لاستحسان رأيه .
أحس طارق بألمها وحزنها ، وبالعجز ينخر دواخله .
- سأهيئ لك حساء السمك. أعرف أنك تحبينه .
--هل تريد أن أساعدك .
- لا حبيبتي، لن أتأخر لقد صرت طباخا ماهرا .
 عاد بعد قليل يحمل صحن الحساء. قدمه إليها .ارتشفت القليل منه وشكرته.
جلس إلى جانبها .ألقت برأسها على كتفه .أغمضت .عينيها استرخى جسدها أحس به ضعيفا .
كان يدرك أن الموت قد يداهمها بين الحين والآخر. فكان قلبه يعتصرألما. فكر في هذا القدر الغريب ....كيف يعانده. ! كيف يقص جناحه ويشل قدرته ! .ويعجزه عن القيام بأي شيء من أجل زوجته ، في حين يبعد سام، يحوله إلى هارب يجوب العتمة والمجهول .ما أقسى لعبة القدر !
 V
استفاقت لارا على صوت لينا وهي تطلب منها فطور الصباح. لا تتذكر متى خلدت إلى النوم، وجدت نفسها فوفق الأريكة بلباسها وكما تركها طارق. ربما هو ألم الذكريات ،ربما هو الهلع مما كان سيقع لها لو لم ينقذها طارق .ربما ذلك مجتمعا ما جعلها لا تغير ثيابها وتقضي ليلتها فوق تلك الأريكة.
استيقظت وهي تحس بآلام في جسدها. قاومت الوهن .وتوجهت إلى المطبخ. أعدت فطور لينا وساعدتها على ارتداء ملابسها. ثم توجهت بها إلى المدرسة .
تذكرت طارق. لابد وأن تسال عن زوجته أن تشكره مجددا.
قررت أن تزورهما في البيت لأن ذلك أفضل .
 هاتفته .جاءها صوته حزينا خافتا. سألت عن زوجته لم يرد .سألته إن كان بالبيت رد بصعوبة : نعم .
 كان الباب الخارجي لبيت طارق مفتوحا .لاحظت لارا حركة غير عادية.توجست حصول مكروه ما .دخلت البيت .ووجدت طارق يبكي أدركت أن زوجته توفيت .
تقدمت إليه معزية .دعاها إلى الجلوس .كان بالبيت بعض المعزين من الأهل والأصدقاء الذين بلغهم الخبر هذا الصباح .
كان طارق يبكي منتحبا. أدركت حزنه العميق على زوجته .لم يمض للأسف على زواجهما وقت طويل ..قامت إليه تواسيه من جديد .
تفكر لارا كيف تكون الحياة قاسية .هو ذا طارق يفقد زوجته. عمل المستحيل من أجل شفائها .لكن يد القدر مسحت كل فسحة أمل. رفرفت روح زوجته .وظل هو عالقا في كنف عجز قاتل. في حين هي وسام موجودان ،حيان لكنهما بعيدان غرباء .هل هي يد القدر عبثت بهما بشكل مغاير .
كان بإمكان سام أن يكون معها الآن .أن يواسيا طارق .تتذكر كيف لم يفترقا طيلة سنوات الدراسة .كان طارق صديقا حميما لسام .وكانت لارا تثق به. كان صديقها الحميم في ساعات الضيق والشدة. تتذكر كيف شجعها على الارتباط بسام. كيف كان يزورهما باستمرار في بيتهما بعد زواجهما .كيف وقف إلى جانبها عندما سجن سام. وكيف كان سندها الكبير في أزماتها معه .
 سافرت بها الذاكرة إلى ربوع الجامعة .كان سام يتزعم الإضرابات ، ويسير التجمعات بقدرة هائلة على الإقناع حتى عندما يشتد الاختلاف بين صفوف الطلبة .وحده كان قادرا على ردع الانكسار الذي كان يزلزل وحدتهم ، ورأب الصدع الذي كثيرا ما كاد يودي بهم إلى الضياع والتشرد .
 أحبت نضاله ،أفكاره ،قيمه. علمها معنى الحرية والديمقراطية .علمها كيف يعيش الإنسان من أجل سعادة الآخر. لم يكن يخشى شيئا .كان يستطيع الانفلات من حملات التفتيش والبحث . كان بارعا في التنكر كثير الحركة .ظل بيتهما بعد زواجهما ملتقى المناضلين .كانت تخاف في البداية من أن يداهمهم البوليس ،لكن سام علمها مع الأيام كيف تصبح مناضلة كبيرة .
تتذكر كيف كانا معا ذات يوم بالبيت .ليلة حارة لم تستطع النوم خلالها بينما كان سام منهمكا في القراءة، سمعت طرقا عنيفا لم ينتظر أن يرد عليه أصحاب الدار. ثم دويا كبيرا فتح على أثره الباب. دخلوا .كانوا مجموعة ملثمين .كانت حامل بلينا .فتشوا البيت بعثروا أثاثه .جمعوا كتبا وملفات ثم اقتادوا سام دون أن يتيحوا له فرصة تغيير ملابسه .
أحست لارا لأول مرة بالخوف .اتصلت بطارق .أخبرته بالأمر طمأنها .
 كان طارق بدوره قلقا لأنه علم ليلتها أن البوليس داهم بيوت مجموعة كبيرة من المناضلين. كانت التهم واحدة .تهديد أمن الدولة .حكم على سام بخمس سنوات .عاشت لينا ليلة المحاكمة مخاضا عسيرا. ما إن بدأت المحاكمة حتى ألم بها وجع حاد .كان طارق بجانبها .أدرك أنه المخاض سحبها بهدوء. حملها بسرعة إلى المستشفى. ولدت لينا منتصف تلك الليلة.صرخة لينا صادفت صدى مطرقة القاضي.
خرج سام من السجن متعبا منهوك القوى. فقد وزنه كثيرا .صار يعاني من آلام في قدميه ،أدركت لارا أنها بسبب التعذيب .لم يشأ سام أن يحكي عن تلك السنوات شيئا. كلما سألته عن لغز تلك الأيام التي كانت تسميها السحارة ،أصدر زفرة عميقة تهب ريحا عاتية على سكينة البيت . كانت لارا تدرك عمق مأساة السجن. لم يحك سام شيئا. لكن نومه المتقطع، صراخه الليلي، اختناقه ، كلها كانت دوامة انكسار مهين ، وحدها خيوط جبهته كانت تحكي عن الذل والانكسار الذي عاشه .أصبح شخصا متجهما لا يتكلم إلا ناذرا .كان طارق يزوره باستمرار. يقرأ في عيني لارا صوت استغاثة. يدرك الجحيم الذي أصبحت تعيش فيه. وكان يرغمه على الخروج معه لزيارة بعض الـأصدقاء أو للاستمتاع بقهوة مسائية.
لم يستطع طارق أن يخرجه من انطوائه .طلب منه ذات يوم أن يزور طبيبا نفسانيا عساه يساعده على تجاوز حالته .نظر اليه . النظرة نفسها التي تخفي أشياء كثيرة ،لغزا بل ألغازا لا يستطيع فكها سوى تخيل ما حدث بتنويعات رهيبة. ظل طارق يتردد على البيت ولكنه لم يعد يجد سام كعادته. تخبره لارا ، قي أحيان كثيرة بأنه خرج ولم يخبرها وجهته . صار مع مرور الأيام يغيب يومين أو ثلاثة، وعندما يعود إلى البيت كانت تفوح منه رائحة خمر كريهة .
لم تتحمل لارا. هددته. كانت تعاتبه على حاله تلك. تذكره بمبادئه وقيمه بتحمسه وأحلامه ، ولم تكن تجد منه سوى انسحاب داخل البيت، أو خارجه. كثيرا ما فكرت في الطلاق ، لكنها كانت تتراجع ، تطرد الفكرة كانت -في أعماقها- تأمل أن يتغير سام. كانت تشفق عليه .تؤمن أن مأساته أعمق مما تتصور. تمنت لو حدثها عما وقع له ، لخفف من هول الصدمة لكن سام احتفظ بشيء واحد هو عناده .ظل يهرب من نفسه .. منها .. تخلى عن عمله. واشترى زورقا .صار يقضي في عمق البحر معظم أوقاته .حاول طارق أن يخفف ما به كثيرا دون جدوى.لأشد ما كان يؤلمه منظر لارا وهي تنتظر أن يعود ، أن يتغير، أن يبوح .يتعجب ! :"أنى لها بهذه القدرة على الصبر".يدرك حبها لسام .ويتذكر أيضا لينا الصغيرة التي بدأت تتعلق بأبيها رغم زيارته المتقطعة .يدرك أن لارا تتحمل لأجلها. كان يزورهما باستمرار ليطمئن على حالهما .كانت لينا بمجرد ما تراه تدعوه بابا .وكان يحس بعاطفة جياشة إزاءها .كثيرا ما اختلى بسام وحدثه عن لينا وعن تعلقها به ، وحثه على أن يكف عن رحيله وخلوته ولو من أجلها .يعده .ولكنه سرعان ما يعود إلى عادته . يتساءل طارق: كيف تغير سام؟ يتذكر حبه للارا. كيف كان يعشقها .كيف كان لا يستطيع أن يبقى يوما واحدا دونها .يتذكر عندما انتهت السنة الدراسية وسافرت لارا إلى بيتها خلال العطلة .جاءه بعد يومين وقال:
-أرجوك طارق، يجب أن تساعدني على البحث عن لارا .
-كيف ؟
سافر معي. سنبحث عنها في مدينتها .
- أنت مجنون المدينة كبيرة .ألا تعرف عنوانها ؟
لا. لم تشأ لارا أن تمدني به. أرجوك سافر معي ،لا أستطيع أن أقضي العطلة بدونها ، سنكتري بيتا هناك .المدينة شاطئية ولا بد أن نصادفها يوما.
لم يمتنع طارق. كان يحب صديقه كثيرا .سافرا في الغد .وبمجرد وصولهما واستقرارهما ببيت على الشاطئ ،طلب منه سام أن يخرجا للبحث عن لارا.ظل يجوب الشاطئ ، ولم ييأس. وعاود الكرة إلى أن صادف لارا.يتذكر كيف بحث عن عمل بسرعة وتزوجا.لا يفهم كيف تغيرت عواطف سام إزاء لارا . ربما هي سنوات السجن الذي أبعدته عنها وخففت عواطفه اتجاهها .البعد كفيل بأن يجعلنا ننسى من نحب .عواطفنا هشة قابلة للانكسار السريع.
 VI
 
بدأت خيوط الشمس تنسحب شيئا فشيئا تحت أجنحة غيوم غزت السماء على غير موعد ، وبدأت أمواج البحر تسرع باتجاه الصخرة تلطم جوانبها.أحس طارق ولارا أن زمن الصمت قد طال بينهما .وقفا معا. طوق طارق لارا بذراعيه وقبلها. :
- مازلت طفلة صغيرة تصدقين كل شيء.
- سامحني طارق. وصدقني أنني لم أتردد في عواطفي. أنت قدري الجميل فلا تدعني وحيدة .أنا مصرة على حبك .
 عادا معا لى البيت يمتلكهما إحساس بالراحة. كانت لينا تشاهد التلفاز بمجرد ما رأتهما معا دخلت غرفتها .
- لا أفهم سر غضبها
- كوني لينة معها . إنه أبوها .ستقتنع لاحقا بأنه مات منذ زمن بعيد.
عاد طارق إلى بيته .توجهت لارا إلى غرفة لينا .حاولت أن تحدثها. لكنها ادعت النوم .تركتها على أمل أن يتغير مزاجها لاحقا .
 لم يتغير مزاج لينا بل أصبحت أكثر عصبية ، تتشاجر مع أمها ولم تتحرج ذات يوم من اتهامها بالخيانة. صعقت لارا .حاولت أن تشرح لابنتها كيف انتظرت والدها طويلا .كيف تحملت قساوته وحماقاته .وأنها ستطلب منه الطلاق حتى ولو كان حيا.
ازدادت لينا غضبا .وصارت تصرخ .وتكسر كل ما وجدت أمامها .دخلت غرفتها وأغلقتها بالمفتاح .انهارت لارا وجلست تبكي. دق جرس الباب .كان والد سام .وجدها في حالة صعبة .كان بدوره حزينا واجما .
أدركت لارا أن هناك مشكلة ما ستزيدها ألما .طلبت منه الدخول .جلس وهو ينظر إليها بحزن وانكسار. أخرج ظرفا ،ثم مدها برسالة .
 نظرت إليه باستغراب : ماذا بها ؟
- اقرئيها .
 "حبيتي لارا
أعرف أنني قد سببت لك آلاما كثيرة .أنا نادم .وأتمنى أن تسامحيني. اقرئي من فظلك رسالتي حتى نهايتها. وقرري ما شئت، وإن كنت في أعماقي أتمنى صادقا أن تسامحيني. سأعوضك عن كل شيء. اغفري لي حبيبتي كما كنت تفعلين دائما . أنت من علمني كيف أحب وكيف أحن .في عينيك كنت أغرف أحاسيس رائعة توصلني بعوالم جميلة هي ما جمعتنا ونحن بالجامعة وبعد زواجنا .ما وقع لي أغرب من الخيال. لقد كنت في غيبوبة مضاعفة. الأولى كانت من جراء ما وقع لي في السجن .إنهم يعرفون كيف يقتلعون من الإنسان الرغبة في الحياة بوسائل عديدة. لا أستطيع أن أتحدث عنها الآن بعد أن حررت جسدي من آلمه وملأني إحساس جميل بالحياة يدعوني إلى ان أنطلق لأسترجع الرغبة والحب .وغيبوبة ثانية مرضية .لقد خرجت يومها بزورقي في عرض البحر .كان الجو غائما والبحر هائجا .كان الألم الذي يسكنني أقوى من أي أحساس بالخطر الذي يحفني.لم أشعر إلا وأنا وسط أمواج عاتية أقاوم الموت .لقد رأيته بأم عيني. أمواج كالجبال عندما ترتطم بزورقي ينقطع ضياء العالم ، اعتقدت أنها القيامة. لم أستفق إلا وأنا بكوخ صياد . سألني عن اسمي .نسيت كل شيء .ولم أعد أتذكر من أكون . بل لم أكن أقوى على الكلام .أشفق علي ذلك البحار العجوز. كان يعيش وحيدا في كهف معزول .يخرج صباحا يصطاد السمك،ويأتي به عشية .عمل كل ما في وسعه لمداواتي . عندما استعدت قواي، حكي لي أنه وجدني على الشاطئ في حالة يرثى لها. بي رضوض على مستوى الرأس .أقدم غجرية داومت على تطبيبي بأعشاب برية .عندما استرجعت عافيتي ،طلب مني أن يوصلني إلى أقرب قرية للتوجه إلى مركز الشرطة عساهم يساعدونني على معرفة من أكون . رفضت .
أحسست بخوف كبير. قلت في نفسي : قد أكون مجرما هاربا من العدالة.
فضلت حريتي على ذاكرتي .وعشت مع ذلك العجوز. أخرج معه إلى البحر. نصطاد السمك ونبيعه .بدأت بين الحين والآخر تراودني صور لم أستطع تفكيكها .لم أتمكن من لم شتاتها .وكلما داهمتني أحسست بألم فضيع في الرأس تأخذني معه نوبة بكاء حاد .لم يكن العجوز يجد من وسيلة تخفف ما بي سوى الجلوس إلي. يحكي لي عن غربته .وعن مصيبته .كيف تخلى عنه أبناؤه. اتهموه بالخرف ليستولوا على ثروته .وفضل أن يهرب منهم بعيدا. كان يخاف أن يضعوه في مستشفى الأمراض العقلية .كان روعي يهدأ كلما استمعت إلى تفاصيل حكايته .. استفقت ذات يوم كعادتي باكرا .بحثت عنه في الخارج ولم أجده .توجهت نحو زورقه .وجدته هناك جثة هامدة .كان البحر خاليا .أخذت أصرخ عاليا .أحسست بيتم وغربة كبيرين .لك أن تتصوري حبيبتي حال فاقد ذاكرة يضيع منه آخر أمل في الوجود .العجوز كان هويتي .لم أ كن أذكر شيئا عن حياتي سوى ارتباطي به.ارتميت فوق العجوز انتحب. وصرت أضرب رأسي وأنا ممدد جانبه فوق الزورق يمينا وشمالا . أحسست بظلام يغشاني .بدوار عنيف .فقدت معه الإحساس بما يحيط بي. تلاشى فجأة كل شيء. عندما استيقظت، وجدت نفسي إلى جانب العجوز. ولكن شيئا ما بي تغير. رأيتك حبيبتي وأنت تبتسمين وأنت ترقصين. وأنت تغنين على نغمات عودي .رأيتك ملاكا جميلا ورأيت نفسي إنسانا حقيرا. تذكرت دمعك، حزنك ،ألمك. لم أتمالك نفسي .بكيت طويلا. دفن الرجل ثم سافرت .وعدت إلى مدينتنا محملا بشوق عظيم للقائك. أصبو إلى التبرك في أعتاب غفرانك .، لم أشأ أن أفاجئك بعد غيابي الطويل .رأيت طارق يدخل بيتنا .وأدركت أنه مازال نعم الصديق. بعثت إليك عزيزتي رسالة مجهولة .لم أعد الآن أتحمل البعد عنكما .ها أنذا قد جئتك ذليلا مكسورا يرجو عطفك وسماحك.فهل تمنحينني حبيبتي فرصة عمري .أم تتحولين إلى جلاد قاس يرمي بي في زنازن مغلقة أبد الدهر . سامحني ....
 انقطعت لارا عن القراءة . أعادت الرسالة إليها آلاما كثيرة .نظر إليها والد سام .حضنها .ثم قال :
-سامحينا يا بنيتي .لقد تعذبت كثيرا بسببنا .
- عمي ، أنت رجل طيب .لذا أخبرك الحقيقة .مشاعري إزاء ابنك ماتت.
قاطعها -:
-علي أن أخبرك بشيء مهم .
 حاولت فهم ما كان يريد قوله .هل سيطلب منها التريث ؟هل سيجبر سام على طلاقها؟ نظرت إليه ورأت عينيه تدمعان .
-لا تبك عمي. أنت من كان يشجعني على الطلاق .فلماذا هذا الحزن ؟على الأقل ستفرح أنت بعودة ابنك .
خرجت لينا من غرفتها على أثر سماع حوارهما .صارت تصرخ في وجه أمها :
- امنحيه فرصة العودة على الأقل .لماذا أنت أنانية ؟لماذا لا تفكرين إلا في نفسك ؟
تدخل جدها :
 عليك -لينا -أن تعرفي الحقيقة كاملة .لا تظلمي أمك .ولا تحدثيها بهذه الطريقة أرجوك .
 -أية حقيقة ؟
 -هدئا من روعكما .واسمعاني جيدا .
تنهد أبو سام عميقا .مسح عينيه من آثار دموع ملأت مقلتيه من جديد.
- خلدت إلى النوم البارحة باكرا حوالي الساعة التاسعة ليلا .أحسست بتعب مفاجئ وبنزلة برد .قلت قد يخفف من حدتهما الاسترخاء في السرير. .استفقت منتصف الليل .تحسست الفراش .لم أجد أم سام إلى جانبي. بحثت عنها بالحمام .كانت أضواء الطابق العلوي مطفأة. نزلت الدرج .وتبين لي ضوء خافت في الصالون .شعرت صراحة بنوع من الخوف .خمنت أن يكون قد اقتحم بيتنا لص .وربما يكون قد أصاب زوجتي مكروه ما . نزلت ببطء .دخلت الصالون وجدت زوجتي.فاجأتها ، فنطت من مكانها . سألتها عما تفعل في مثل تلك الساعة وحيدة . ارتبكت .رأيتها تخفي شيئا ما. اقتربت منها . كان تحاول إخفاء ورقة طوتها بعناية .سألتها عما بها. رفضت .أحسست بالفضول .أخذت منها الورقة عنوة .
كانت هذه الرسالة.لقد كانت تنوي إرسالها إليك لتثنيك عن الزواج من جورج .أصبيت بنوبة بكاء .وصراخ اضطراني أن استدعي الطبيب .عاين حالتها وجدها صعبة .أمرني بنقلها إلى مستشفى الأمراض العصبية .
فحصها الطبيب .أخبرني أنها تعيش حالة اكتئاب كبير بلغ درجة خطيرة. وأنها ترفض موت ابنها. لذا التجأت إلى حيلة الرسائل ، حتى المكالمة الهاتفية المجهولة التي توصلت بها من قبل ، من تلك المرأة التي أخبرتك أنها رأت سام بالمدينة، وأنها عندما حاولت أن تتكلم معه ركب الحافلة بسرعة وانصرف ،كانت من تنسيق خيال زوجتي . سامحيها يا ابنتي أنها أم.وهي الآن بالمستشفى فاقدة القدرة على الكلام .
استلقت لارا على كنبة بالصالون .أحست بنفسها طائرا طليقا يفتح جناحيه للريح .وداخلها صوت يردد : أنت الآن كما ينبغي لك أن تكوني فتحرري من الأصفاد وخيوط العنكبوت. وانطلقي، لا تلتفتي إلى هذا العالم اللقيط المولود خارج مشاعر الحب . ولا تتذكري إلا الحياة ....

المراجع

alnoor

التصانيف

ادب  قصص