كأنه على ميعاد مع غلاية قهوة أعدها للتو صديقه صاحب استراحة بحرية..لملمت معظم كبائنها وعرشها المصنوعة من سعف النخيل، وقطع القماش المزخرف، انتظارا لموسم الصيف القادم.. فما أن حط في المكان ..وأطفأ موتوره، حتى سمع صوته من الداخل مرحبا..لحظات وإذا به يخرج من كرفانته مبتسما كعادته ..يحمل صينية القهوة ذات الرائحة النفاذة المميزة قائلا: سمعت صوت موتورك فجهزت قهوتك معي...
يجلس الصديقان..لم يكن أحدا في الاستراحة غيرهما، وقد فات منتصف النهار، والشمس دافئة، ونسمات باردة تلفح الوجوه، فتترك شعورا بالانتعاش ...
- أتعلم بأنك خطرت ببالي.. وقلت في نفسي بأنك ستمر هذا اليوم، وكان حدسي في محله..
- يبتسم احمد :القلوب عند بعضها يا عزيزي.. يجيبه بعد أن ارتشف رشفة من قهوته، ونفث دخان سيجارته، التي تلاشت سريعا مع نسمات الهواء .. كان يحدق في الشاطئ الذي بدا مكفهرا.. إلا من تجمع لأشخاص قد جلسوا على شكل دائرة ..لم يركز النظر طويلا، ثم أكمل استفساره عن أحوال البحر، وموسم الصيد في هذا الشهر الذي تكثر فيه اسماك السردين.. وعن حركة الزبائن ورواد الاستراحة من أصدقاء الصيف،وعن أحوال البلاد، وما آلت إليه آخر الأمور...
كان صديقه ينتظر سؤاله المعتاد ..فأشاح سريعا بوجهه ناحية البحر قائلا:سترى الآن ما لم تره من قبل !
- شوقتني يا صديقي.. فانا لا أرى غير ثلة من الناس.. وكأنها أسرة جاءت على غير ميعاد، تقتنص آخر فرصة للاستمتاع بالبحر لآخر مرة في فصل حار قد انتهى...
ما أن انتهي من قهوته، وأطفأ سيجارته، وإذ بصديقه يقول: انظر الآن صوب الشاطئ..هل ترى أمرا غريبا ؟ شيئا على غير عادته !
اخرج منديله على الفور.. مسح عدسات نظارته ..حدق صوب الثلة الملتفة كدائرة، وإذ بها تنقسم إلى قسمين .. يتباعدان فيما بينهما.. ويبدآن في سحب حبال تجر شباك صيد، ألقت بها حسكة صغيرة على بعد قريب منهم قبل قليل ...
- ما الغريب في هذا ..قالها احمد وقد بدا عليه الانزعاج ..فكأن صديقه يهزأ به.. فهذه مناظر معتادة على شاطئ البحر ، طريقة يسمونها جرف الأسماك، نظرا لصعوبة الولوج في أعماق البحر نتيجة حصار قائم منذ سنوات.. على بقعة جغرافية سحقها الفقر، وأكلتها الكآبة !
يبتسم صديقه مجددا: اعد النظر من جديد..لا تعجل في الحكم.. وهل المنظر يبدو عاديا كما تقول؟
يحدق ..يتفرس مليا ..ثم يشهق زفيرا حادا.. تتسع حدقات عينيه ..يا الاهى !! ماذا أرى حقا.. يستأذنه.. يسارع الخطى ،يبدأ نزول المنحدر الرملي صوب الشاطئ .. يقترب رويدا رويدا .. تنكشف له الأمور..يخاطب نفسه: إنها مفاجأة من العيار الثقيل! إنهن نساء يسحبن الحبال.. بل إنهن أكثر من الفتية عددا.. توشحن مناديلهن على رؤوسهن.. وقد ابتلت جلابيبهن في أسفل الربع الأخير منها.. يعاركن البحر وأمواجه المتكسرة على الشاطئ..ومياهه الباردة في نوفمبر .. يبقى احمد متسمرا مكانه وقد انهمرت على رأسه تساؤلات كثيرة.. لكنه سرعان ما أيقن بأنها هي ؟من تجعل النسوة في مثل هكذا مواقف رجولية.. فهذه أعمال شاقة بطبيعتها.. تخص الرجال عبر تاريخ البشرية .. إنها هي وليس سواها.. لقمة العيش المُرة .. عبارات رددها مع نفسه.. بينما كانت قدماه تقودانه عائدا إلى صديقه.. وابتسامة غامضة قد ارتسمت على محياه..وسؤال يقرع في رأسه، لم يجد إجابة بعد !!
إلى اللقاء