محمود جلبوط

كانت الساعة قد شارفت على الرابعة عندما دلفت من باب الاستراحة, توقفت قليلا بعد أن تركت الباب خلفي أراقب بهدوء الطاولات الشاغرة علني أجد مكانا أفضله على غيره من الأماكن...جلت بنظري سريعا وجوه الزبائن الذين توازعوا الطاولات بشكل متناثر , تقدمت الهوينا واتخذت لنفسي مكانا إلى طاولة في أقصى الركن أستطيع منه مراقبة الداخلين والخارجين من باب الإستراحة الرئيسي..

"أتمنى أن تأتي , علّها تستطيع المجيء" قلت في نفسي . صحيح أنها لم تعدني لكنها قالت من المحتمل أن تأتي وربما كانت تحمل لي من الأخبار ما يسرني . يا ليتها تأتي وتحمل لي الخبر الذي أنتظره منذ مدة طويلة .

شعرت بالعطش , في الحقيقة رغبت تناول كأس من البيرة المبردة جيدا , ولكني أدرك أنه في مثل هذه الأماكن لا يقدمون البيرة باردة إلى الدرجة التي أستطيبها , لذا بدلت رأيي..تصفحت ما بين دفتي قائمة الطعام الموضوعة أمامي على الطاولة,ولم أهتم إلا بقراءة ما تحويه قائمة المشروبات," كولا, مياه معدنية,ليمون برتقال,قهوة, شاي...."ولم تسمح لي رؤيتي المفاجئة للنادلة تقف قربي واقفة وقتا للتفكير,فطلبت إبريقا صغيرا من القهوة مع قطعة من الكاتو التي اعتدت على تناولها في هذه الاستراحة. أدرك أنني بعد تناول إبريقا من القهوة كهذا سوف أصاب ليلا بالأرق وصعوبة النوم , ولكني أعرف أنه في كل الأحوال كما درجت عادتي منذ فترة بطالتي أنني لن أتمكن من النوم بشكل هاديء دون أرق..

رحت أشاغل نفسي في تمضية وقتي في تملّي شاغلي الطاولات حولي. سقطت عيناي على امرأة جالسة إلى الطاولة المجاورة , كانت تتقبع قبعة مستديرة من القش عريضة وتغوص في التهام زبدية كبيرة من البوظة مع جبل يعلوها من القشطة والفواكه بنهم واضح....رشفت قهوتي بحرص برشفات صغيرة خشية حرارتها العالية..مازلت أشعر بالعطش," لماذا لم أطلب إبريقا من الشاي بدلاَ من القهوة" تساءلت , وازدردت كأس الماء المرفقة بقهوتي وعدت أتابع بنظري الزبائن أتحايل على قضاء وقتي لحين مجيء صديقتي...

على الطاولة المحاذية لمكان تعليق الملابس كانت تجلس أما مع إبنها الصغير وتتكلم دون انقطاع مع صديقتها التي اتخذت مكانها إلى يمينها , وفي هذه الاثناء راح طفلها الصغير يتسلى للتعبير عن ضجره بالشخبطة على غطاء الطاولة بقلم حمرة ربما كان قد أخرجه خلسة من محفظة أمه التي وضعتها على الطاولة بالقرب منه..كانت تغطي كل طاولات الإستراحة أغطية قد علا بعضها بقع من القهوة وبعضها بقع من الشاي وعلى بعضها الآخر بقع من الزيت, وها قد أضيف الآن على إحداها خطوطا حمراء من خلال عبث طفل ضجر..ترى ما الذي ستفعله النادلة إن رأته يفعل هذا؟ وما تكون ردة فعلها ؟

عندما تأتي صديقتي ستطلب بالتأكيد كوبا من الزهورات كما تفعل معظم الأحيان, " إنها مفيدة للصحة وتحمي من الرشح " تعقب دائما.

كان يجلس إلى الطاولة عل يميني رجل خمسيني يستغرق في قراءة جريدة , من الواضح أنه قد نسي نظاراته, لأن أنفه يكاد يلتصق بالصفحة التي يقرؤها مما يدل أنه يجد صعوبة في قرائتها.

اقتربت الساعة من الخامسة وصديقتي لم تأتي بعد...كانت على الطاولة بالقرب من النافذة المطلة على الشارع تجلس فتاة تبدو من سحنتها أنها في العشرينات من العمر. " ما عمرها بالضبط يا ترى؟" تساءلت, لم أستطع التخمين بدقة لأني لا أرى إلا المسقط الجانبي من وجهها..يا لطيف ! هل هذه دموع التي تنساب على وجنتها ؟ كانت تتابع المارة بشكل متواصل من خلال زجاج النافذة المطلة على الشارع بقلق . ربما كانت تنتظر هي أيضا أحدا ما , أو خبرا ما ! التفت فجأة إلى الناحية الأخرى داخل الإستراحة بوجهها المخضوضب بالدموع , وأماءت للنادلة بيدها أن تأتي إليها, ولما وصلت النادلة دفعت الحساب وقالت بصوت مترقرق " يكفي هذا أم علي أكثر..؟ " ثم نهضت ببطء, ومشت باتجاه مكان تعليق الملابس ببطء باد أيضا وارتدت بنفس البطء معطفها واتجهت نحو باب الخروج ببطء, التفتت إلى الوراء إلى الطاولة حيث كانت تجلس :انها تبحث عن أحد ما , كانت الطاولة بالطبع خالية .

لماذا الدموع في عينيها يا ترى ؟ ألأن حبيبها لم يأتي ؟ ألأنه عليها أن تذهب وتتركه ؟ ولماذا لم يأتي يا ترى ؟ هل لأنه لم يحبها بما يكفي ؟ أم لأنها توهمت أنه يحبها ؟ أم أنها وضعت حداَ لحلمها ونهاية ؟ أو..أو...أو..؟؟...
ناديت للنادلة , " قطعة أخرى من الكاتو لو سمحت " طلبت منها . " آه هل أعجبتك ؟ "..." نعم كما دائما "...في الحقيقة إن الكاتو الذي تقدمه هذه الإستراحة طيب ومن نوع فاخر , وكلما رغبت بتناول قطعة منها أو أكثر آتي إلى هذه الإستراحة ولكن ليس لوحدي!!

في الحقيقة لم أكن جائعا عندما طلبت قطعة ثانية ولكني كنت أريد أن أتسلى لحين مجيء صديقتي.

صار الوقت في ساعة يدي الخامسة والربع , تابعت بإلقاء نظرة على مدخل الإستراحة,لا أحد هناك تابعت نظرة أخرى وأخرى وأخرى , لا أحد...لقد مر على وقت انصرافها من العمل ساعة وربع..إذا لم تأتي اللحظة فلربما أيضا سيوضع نهاية لحلمي,وسأدفع حسابي,وأغادر طاولتي ببطء, وألبس معطفي ببطء وألقي نظرة خلفي إلى طاولتي الفارغة و...و..,وستطول هذه الدوامة التي أنا فيها منذ سنتين تقريبا..

ماذا ستقول النادلة على الأرجح إن أنا الآن طلبت كأسا من الكونياك ؟؟ " بالنسبة لي سيان " قلت في نفسي , وطلبت..
في الوقت الذي التقى نظري النادلة إلى جانبي تجلب لي كأس الكونياك ألتقى أيضا صديقتي فجأة تقف إلى جانبها , اندهشت, كيف لم ألحظ ولوجها من مدخل الإستراحة بالرغم من حرصي بين الحين والآخر إلقاء نظرة إليه ؟ يبدو أنها دخلت خلسة مني لما تلهيت طرفة عين..على كل حال ها هي أخيرا قد أتت فأرجو ألا تكون منثارة الأعصاب كعادتها حين تنصرف من عملها متعبة..كانت لما تخبرني أنها تعمل طوال الوقت دون انقطاع ولو دقيقة واحدة أقول لها " هذا هو المجتمع الرأسمالي يا صديقتي ,إن لدى رب العمل في المجتمع الراسمالي تصور أننا عبيد له طوال وقت العمل وعليه امتصاصنا وامتصاص كل دقيقة فينا ليكبر ربحه فربحه لا يتأتى إلا من الوقت الذي نقضيه في إنتاج السلع كما قال ماركس" تجيبني أنها لا تفهم السياسة..

علي أن أبدي لها هدوء أعصابي وأن أخفي تعجلي لسماع الخبر الذي انتظرتها من أجله , فإذا كانت تحمل خبرا سلبيا فالأمر بالنسبة لي سيان , فلقد اعتدت منذ فترة طويلة على تلقي الأخبار السلبية والسيئة , و ما على المرء سوى التسليم ومتابعة المحاولات والبحث رغم كل الظروف والأحوال...

" مساء الخير " ألقت تحيتها المعتادة , وقفت أرد تحيتها كما تعودنا كشرقيين عندما يتقدم أحدهم إلينا لنسلم عليه. ابتسمت وقبلتني قبلة سريعة وعابرة وقالت " اعذر لي تأخري فلقد كان اليوم متعبا فصالة البيع كانت مزدحمة طوال النهار بلا انقطاع بشكل غير عادي حتى آخر الوقت فاضطررت للتأخر " أجبتها " ولا يهمك , لا تأخذي في بالك " وبعد أن بذلت جهدي لإخفاء توتري وارتباكي ألقيت بسؤالي " كيف سارت الأمور معك ؟ " وشعرت بتسارع دقات قلبي قبيل إجابتها .

سألت هي " بماذا " ثم استطردت " آه, جيد جدا كل شيء سار ككل يوم, زبائن تدخل لتتفرج, وزبائن تشتري وأنا أحيانا أرتب البضائع وأحيانا أنظف وأحيانا أعمل على الصندوق لأحاسب الزبائن و ها أنا أنصرف متعبة ككل يوم " أنا أعلم هذا الذي روته,إنه موالها اليومي, فقد مللت سماعه لتكرارها له في كل يوم , ولكني أريد اليوم أن أسمع منها خبرا آخر, خبرا هام بالنسبة لي بشكل استثنائي , خبر يخرجني من الحالة التي تحيط بي منذ سنتين تقريبا , خبر ينقذني من الحالة المأساوية التي وصلتها في أيامي الأخيرة..إذا لم تقله لي الآن فعلي أن أستنتجه بنفسي, أن أقرأه بعيونها من نظراتها , فكم ادعيت لها أني أتقن لغة العيون جيدا وأجيدها , وأحيانا أتسلى من خلال قراءة ما فيها باستنتاج ما يخفي أصحابها في قلوبهم..

 انتبهت فجأة أني لم أدعوها للجلوس فقلت لها " أجلسي أولاَ ".. جاءت النادلة ثانية فطلبت صديقتي هذه المرة على غير عادتها زبدية من البوظة مع القشطة والفواكه..صمتت ولم تقل شيئاَ, وأنا أنتظر ما سوف تخبرني به بأعصاب من نار..حسناَ يبدو أنها لم تنجز الأمر كما أملت و كما كنت أحلم. على كل حال إذا انقطعت السبل في هذه المدينة فلم تنقطع المدن في هذه البلاد , وعلي التوجه إلى مدينة أخرى أتابع فيها البحث.

نظرت إليها وهي متشاغلة عني بتناول صحنها,وتساءلت عن المميز في صديقتي الذي دفعني للإنجذاب إليها , جسدها؟ طولها؟ عيونها؟ كانت عيونها ملونة, زرقاء على رمادي,فيها سرّ جميل أتى من الحزن الذي يسكنها, دائما مترقرقة..

رفعت رأسها بغتة ونظرت إلي بعينيها البارقتين, عيون صديقتي أجمل ما فيها, خاصة عندما تكون منفعلة أو يوجد ما يثيرها ..تنفست صديقتي الصعداء وقالت " أتعرف يا صديقي, لقد مرّ رئيسي بالعمل اليوم بجولة عندنا, وحدثته عنك وشرحت له مؤهلاتك وإمكانياتك واستعداداتك للعمل لدينا, فوافق على مؤهلاتك وطلب مني أن أخبرك بأنه يمكنك استلام العمل بعد انقضاء نهاية الأسبوع".


المراجع

ahewar.org

التصانيف

فنون  أدب  أدب عربي  تصنيفالآداب