( أهدي هذا النص المتواضع إلى الصديق العزيز محمود عمور )
من
القمة الشاهقة أطل النسر الشاب برأسه وراح يرقب المكان بشموخ , شح الموارد ونقص
الفرائس خلفت بعض الهزال في جسده , ورسمت على وجهه بعض علامات للغضب وعدم الرضا ,
نسر عجوز حط إلى جواره وقال :
ما
بك يا بني ؟ مالي أراك عاقد الحاجبين عابساً ؟
-
الجوع يا عم , الجوع نال منا جميعاً , وما زلتم يا معشر النسور تصرون على العيش في
هذه الارتفاعات الشاهقة , وما زلتم تصرون على أكل الطازج من اللحوم التي تصيدون ,
-
على رسلك يا ولدي , هذه القمم أوطاننا , وهذه الأوكار بلادنا , فيها ولدنا , وعليها
سنموت , شبعنا وتخمنا ثم جعنا , وسنعود لنشبع من جديد , أجنحتنا بخير ومناقيرنا
مسنونة , قليل من الصبر يا ولدي , فقد مرت بنا أيام عجاف أشد قسوة من أيامنا هذه ,
وبالصبر تجاوزناها ,
-
وما يجبرنا على الصبر ؟ انظر إلى ذلك السفح في الأسفل , وانظر إلى السهل الأخضر
الذي يمتد أمامه , خيرات وجداول , طيور وأيائل , استمع إلى صوت الحياة هناك وترانيم
السعادة , جيف الحيوانات النافقة هناك تسد الجوع دون عناء , ما لنا وهذه القمم
القاحلة ؟؟
-
إنه الوطن يا ولدي ,
-
أي مكان أجد فيه راحتي وقوتي هو وطن لي ,
-
ليس لك وطن إلا وطن أجدادك , أن شئت فانزل إلى السفح أو إلى السهل من أجل الصيد
وارجع بفريستك إلى قمتك ,
-
ولماذا الرجوع ؟
-
قلت لك إنه الوطن يا ولدي , وطن أجدادك وأبناء سلالتك ,
-
هناك سيكون لي أبناء وأحفاد , وسيصبح السفح لهم وطناً ,
غادر النسر الشاب وكره في أعالي القمم غير مكترث بنداء العجوز , أسلم جناحيه للريح
, وإلى السفح بسرعة البرق هوى , فزعت طيور السفح من هبوطه وتطايرت من حوله ,
-
ما بكم تطايرتم فزعاً , استمعوا إلي أرجوكم , أنا منذ اليوم منكم , لي ما لكم وعلي
ما عليكم , تركت القمم وعادات النسور لأكون معكم , فهل تقبلون بي ؟
-
نحن أهل السفوح نأكل الجيف والرمم ( صاح كبير طيور البوم ) , وهذا لا يروق لكم معشر
النسور , فأنتم لا تأكلون إلا صيد مخالبكم , كما أننا نعيش في كهوف وآبار , فهل
تحتمل عيشنا ؟
-
قلت لكم لي ما لكم وعلي ما عليكم , سأعتاد أكل الجيف والرمم , وسآوي إلى الكهوف
والآبار,
-
وكيف نستشعر الأمن من جانبك ؟ ونحن نرى طول منقارك وحدة مخالبك ؟
-
اطلبوا ما شئتم من ضمانات ,
بعد
مشاورات وعدة اجتماعات بين آل بوم وآل خفاش وبعض طيور السفوح الأخرى خرج كبير طيور
البوم وقال :
قبلناك بيننا أيها النسر بالإجماع , ولكن بشرط بسيط , من خلاله تتساوى معنا , حينها
فقط ستكون منا , سنجدع نصف منقارك , ونسحب مخالبك لنأمن جانبك , وسننتف ريش جناحيك
لنضمن عدم عودتك إلى قمتك , فهل توافق ؟؟
-
أوافق على إجماعكم , ومنذ الآن فإن منقاري وريشي ومخالبي تحت تصرفكم ,
في
صباح اليوم التالي كان النسر مجدوع المنقار مسحوب المخالب منتوف الجناحين , يصطف مع
طيور السفح حول جيفة حيوان نافق , كل الطيور تنهش وتأكل إلا هو فكان دون جدوى يحاول
, فلا مخلب ينهش ولا منقار يقطع , نهشه الجوع فصار يلتقط ما يسقط من الطيور , وعاش
على ذلك الحال بضعة شهور , يلتقط ما يسقط من الأفواه , أو يستجدي قطعة لحم من طير
بوم ,
عالة على طيور السفح عاش , حتى إذا ضاقوا به ذرعاً أوكلوا له مهام تنظيف أوكارهم
مقابل بعض فتات من لحم الجيف , وتلك أيضاً لم يتقنها , فضاقت به طيور السفح ذرعاً
من جديد وقرروا الخلاص منه ,
أحس
النسر بالمؤامرة التي تحاك , استذكر القمم , عادت إليه كلمات النسر العجوز عن الوطن
, استذكر مخالبه ومنقاره , نظر إلى بقايا جناحيه , صفق بهما بكل ما بقي لديه من قوة
فارتفع , غادر السفح وفي الأجواء حلق , بعزم يصفق بجناحيه وإلى القمة البعيدة يتطلع
, ارتفع وارتفع ثم ارتفع , العزم يتراجع , والقوى تنهار , في العودة يتربص له
الموت , والقمة لا زالت بعيدة المنال , ما عاد يرتفع , صفق بجناحيه , صفق وصفق ,
وقبل أن يهوي إلى الأرض بشقٍ في الصخر تعلق ,
عاش
في ذلك الشق المعلق ما بين السفوح وما بين القمم , يقتات من إحسان أحد الطيور الذي
أشفق على حاله فصار يجلب له بين الفينة والفينة بعض فتات من طعام وبعض قطرات من ماء
,
يقبع هناك فلا يراه أهل السفوح ولا يسمعه أهل القمم , وكلما سأله ذلك الطائر عن
بلاده وأوطانه قال منشداً بصوت حزين :
بلادي هناك جوار القمم وعيش السفوح أمات الهمم
ولما تعودت ذل السؤال رضيت الهوان وأكل الرمم
بلادي هناك جوار القمم وعيش السفوح أمات الهمم ..