وقفت فضيلة أمام شرفة بيتها الذي اشتراه زوجها منذ عشر سنوات من عائلة يعود أصلها
إلى الأتراك الأوائل الذين سكنوا البلاد، كان البيت فتنة فقد حافظ أهله على بهرجه
الهندسي ورخامه الأصيل وازدادت روعة البيت بعد أعمال الترميم.
كانت تفكر في الغداء الثمين الذي احترق بسبب سهو ألم بها إبان مشاهدتها المسلسل
التلفزيوني المشهور، تعلم في قرارة نفسها أن البطل هو السبب فحالما أطل الممثل من
الشاشة أصابها ما يصيب النساء المغرمات بهذا الفنان، لقد سرت في جسمها قشعريرة
الرغبة و خدر الإعجاب و لم تفق إلا وقد فاحت في البيت رائحة اللحم المحترق، لقد
أفسد مهند الغداء الثمين، وكان حمد زوجها قد ألح عليها في إعداده، إذ نوى استضافة
زميل جديد له في البنك، لذلك سارعت إلى المطعم لتعويض ما احترق ببعض الدجاج المصلي
، وقالت تحدث نفسها " إن الدجاج سيكون تعويضا مناسبا".
لبثت المرأة تراقب الحي من الشرفة و تتأمل العرافة القادمة إلى الحي تلقي على
المسمع كلمات مغزولة بدت لها مضحكة وأيقظ ضحكتها مظهرها العجيب المتنافر كأنها تضع
على جسمها مهرجانا لونيا تداخل فيه الأزرق والأحمر و الأصفر، كانت العرافة منشغلة
عن سخرية فضيلة بنداءاتها المتكررة التي بدت كأنها أغنية قادمة من زمن بعيد. ورفعت
عينيها فإذا هي تلمح المرأة الضاحكة تداري سخريتها بسمة عريضة مفتعلة اجتهدت في
مداراتها واعتقدت فضيلة أنها ستسمع من المرأة ما يسر إلا أن العرافة اكتفت بالعبوس،
ولم يخرج من بين شفتيها إلا الصلاة على الرسول و طلب اللطف لمن حضر.
كان
حمد عائدا إلى البيت فقد حانت الساعة الواحدة بعد الظهر، وهي أوان خروجه من العمل،
وتعود أن يمضي ساعة و نصفا في وساءل النقل للعودة إلى البيت بسبب بعده. خطا خطوات
عبر الدرج فوجد زميله في انتظاره ليركبا معا سيارة الأجرة.
استغربت النسوة اللائي كن يطللن من الشرفات مقالة العرافة وظللن لا يجرؤن على فتح
الأبواب مخافة أن يكون في ذلك مجلبة الخطر فقد عرفت أمثال هذه المرأة بتدجيلهن و
شعوذتهن وسرقتهن، غير أن فضيلة جرؤت على مناداتها مأخوذة بالإحراج و الرغبة في
معرفة سبب عبوسها. أسرعت صاحبة البيت إلى الباب تفتحه، و لبثت في السقيفة تسد
المدخل بجسمها حتى لا تترك مجالا للمرأة أن تلج إلى الداخل.
وصلت سيارة الأجرة بعد نصف ساعة إلى محطة القطار، كان يفترض أن يركب الزميل الجديد
قطار حمام الأنف حيث يسكن، غير أن حمد الذي ينحدر من عائلة جنوبية أصيلة ألح عليه
ان يعود معه ليكون ضيفه، و لم تفلح أعذار الرجل أمام الأيمان حمد الشديدة و التظاهر
بالغضب، فأذعن محرجا. وركبا معا قطار بنزرت متجهين إلى بيت حمد.
بسطت العرافة كيسا كانت تحمله فوق ظهرها و أنشأت تعرض على صاحبة البيت خدماتها :
قراءة الكف و تمائم جالبة للحظ و أخرى تقاوم السحر تعرض كل ذلك بجمل منغمة عذبة
بعضها بيّن و بعضها الآخر مبهم.
تأملت محتوى الكيس الذي نثرته المرأة على فولارها، عيون زجاجية زرقاء و نقيع الحبة
السوداء و جلد حرباء مجفف و قارورة كحل جميلة لم يكن في السوق أجمل منها، مدت فضيلة
يدها تبتغي إلقاء نظرة على تلك القارورة الجميلة، توقفت المرأة التي كانت تترنم
بجملها الإشهارية المرتبة و أمسكت يد صاحبة البيت مسكة قوية و قالت :"هذا ليس لك.
خذي أي شيء غير هذا".
كانت جملها صارمة لكن لفضيلة بعض خصال زوجها فقد أورثتها عشرته الإلحاح، فراحت تصر
حينا و تستجدي حينا آخر، فإذا أعوزتها الحيل طلبت من المرأة ان تفسر لها علة رفض
البيع.
وقفت العرافة محرجة متوترة لم تشأ أن تكشف عن السبب تتلكأ و تصمت حتى أعيتها صاحبة
البيت، و بين الأخذ و الرد و إغراء بالزيادة في الثمن قبلت العرافة أن تبيعها
القارورة بعشرين دينارا وكأنها تبيعها خاتم سليمان عليه السلام. قبضت المال و فارقت
المكان، أغلقت فضيلة الباب و أنشأت تتأمل قارورة الكحل المزدانة بنقوش غريبة، لكنها
سمعت طرقا ملحا فأسرعت تستفهم، كانت العرافة خلف الباب تريد أن توصيها بأمر جلل،
فتحت الباب فرأت المرأة تلهث و تحمد الله إذ لم تعمد إلى استعمالها بعد و قالت "
بنيتي أريد أن أوصيك بأمر مهم حتى أريح ضميري و أبرئ ذمتي أمام الله، إذا كان لابد
من الاكتحال فليكن ذلك في العينين معا، هل فهمت" كانت تبالغ في الوصية حتى لكان من
يسمعها لا يكاد يصدق أنها تتحدث عن قارورة كحل. أومأت فضيلة برأسها في استجابة
مطمئنة، و عادت تغلق الباب بسرعة حتى لا تتراجع العرافة التي حثت خطاها لتتوارى عن
الأنظار و خلت فضيلة إل القارورة.
نزعت الغطاء و كان عودا حديديا لينا الجنبات غمسته في الكحل الأسود المضيء، فتحت
عينها جيدا و أرخت رأسها إلى الوراء لتكون المقلة في مستوى أفقي للعود، و راحت
تقربه شيئا فشيئا حتى إذا لامس العين اليمنى أطبقت جفنيها و راحت تسحبه برفق فانطبع
الكحل على جفني عينها اليسرى، كل ذلك و عيناها مغمضتان، فلما أرادت فتحهما لترى أثر
الكحل أحست ألما فضيعا، كانت تشعر بحرارة لاذعة كمن وضع في عينه دقيق الفلفل، و سرى
في ذهنها الندم على شراء القارورة و فتح الباب. لم تعد قادرة على فتح جفنيها
فالدموع تنهمل بسرعة و ألم، ما جعلها تخطو في البيت كالعمياء تتحسس الجدران فتقع
يدها على ألوان من الملامس لم تعهدها، و لكنها منشغلة عن كل ذلك بالألم الصاعد إلى
شرايينها من أوعية عينها اليسرى، كانت عاجزة عن إيقاف الوجع النامي، و أقصى ما
استطاعته مراقبة اللذعة تنتقل متشفية من الأوعية الصغيرة للعين إلى الوريد فالدماغ
و تتخذ في طريقها صداعا متبرجا قاهرا، واصلت تلمس الأشياء في طريقها إلى الحمام حتى
اهتدت إليه و فتحت الحنفية تبتغي غسل مقلتها فانسكب الكحل في الحوض، لم تكن مهتمة
بضياع العشرين دينارا "و لتذهب القارورة ووصايا العرافة إلى الجحيم".
شعرت فضيلة ببرد الماء يهدئ دفق الصداع و يوقف التهاب العين في تؤدة عذبة، وراح
الألم يختفي ببطء، حتى سكنت الشرايين الصغيرة فجرؤت حينها على فتح عينها فكان ما
اكتشفته أعجب من العجب ذاته.
كان
حمد يحدث زميله عن حكمة زوجته و مهارتها في الطبخ و يصف له ألوانا ما الأطعمة التي
لم يذقها حتى في المطاعم الكثيرة التي زارها أثناء سفرات العمل و التربصات، و لم
ينس تعديد خصالها التي جعلت منه زوجا سعيدا و يستمهله حتى يرى بعينيه ما ستعده
للغداء.
أما
فضيلة فقد تسمرت في الحمام و هي ترى البيت الذي اعتادته ينقلب مزيج من الواقع و
الوهم كانت ألوان من الزينة و الستائر و الخشب المنقوش تملأ عينها يداخل كل ذلك
هندسة بيتها الذي عهدته، واعتقدت أن الأمر لا يعدو أن يكون من أثر الصداع فأغلقت
عينيها و فتحتهما فما تغير شيء من ذلك الحلم اللذيذ لقد انقلب بيتها قصرا لولا أن
العين اليمنى لا تستجيب للمناظر الجديدة، حينها ذكرت وصية العرافة فأسرعت إلى الحوض
تبحث عن الكحل أو بقاياه ، وكادت تصيح فزعا إذ رأت نفسها على غير عهدها و الحقيقة
ان ما رأته لا يختلف عن التغيير الحاصل في البيت إذ كانت ترى وهي تتأمل نفسها في
مرآة الحمام كأن أميرة من أميرات الماضي تقف حيالها، امرأة أخرى بملابس الأميرات
وفستان فضفاض و نهدين يكادان ينفلتان من مشدهما لولا بعض المسلين الذي كان يحاول
حفظ بعض الحياء، وكادت تصدق نفسها لولا بقايا صورتها القادمة من المقلة غير
الكحيلة، اذاك زادت إصرارا على جمع الكحل المنثال على جنبات لطخت بمخاط زوجها و
شغلها المسلسل عن تنظيفه. اجتهدت في جمع بعض الغبار لكنها كانت تبحث عن المستحيل
فقد غاص أغلبه و ما بقي في جنبات الحوض لا يكفي للاكتحال رغم أنها كذّبت عقلها
وحاولت أن تدعك جفني عينها اليمنى، فخرجت من المعركة بعين كحيلة وأخرى ملطخة.
عادت تتأمل البيت بل القصر في إعجاب و دهشة و نسيت تماما أمر الضيف فتركت الدجاجات
في غشاء "الألمنيوم" والسلطات في صحونها البلاستيكية، فللقصر فتنة أخرى تختلف عن
الشاشة ولما أعيتها عينها السليمة قررت أن تخلص للذة الجديدة بما يجب فأغلقت اليمنى
و تركت اليسرى تسبح في بهرج الجمال المنبعث من الجدران، رائحة زكية تفوح في أرجاء
القصر و ضحكات عذبة كلها غنج. صارت تبحث عن الصوت بين الأعمدة الرخامية و اهتدت
إليه قادما مما كان جدارا. كان الجدار القريب إلى الباب قد تحول إلى مدخل محلى
بنقوش جصية بارزة. ولبثت فضيلة تتأمل المشهد العجيب.
جاءت فترة صمت خلالها الصديقان حتى وصل القطار إلى المدينة فضجت العربة بحركة
ازدحام و تدافع من كان بالداخل يستعجلون الخروج. نزل الصديقان من القطار و مرا
على مطعم مجاور فضحك إذ رأى الدجاج المصلي معروضا للمسافرين و المارة، فقال انتظر
حتى نصل لقد أعدت فضيلة مفاجأة أرجو أن تعجبك فقال الزميل المشوق " لابد أن تعجبني
إذا كان أكلها كما وصفت" وواصلا طريقهما نحو البيت. حمد يمضي في الطريق إلى البيت
ربع ساعة معروفة، وهو لا يشغله عن العودة شاغل لكون المدة التي يقضيها بين العمل
ووسائل النقل تفني قطرات صبره الأخيرة، و أحيانا يعرض له أن يرى أحد معارفه فيتجاهل
رؤيته بل معرفته و يدس وجهه اتقاء البرد وحديث قد يؤجل غداءه، وقد اعتاد من زوجه
أصنافا لا تحصى من الطعام بعضها تونسي وبعضها تعلمته من التلفاز، حتى لقد امتدت
قريحتها أخيرا إلى أطعمة ما وراء النهرين...تتعلمها مشاهدة و تستفتي زوجها في
مذاقها.
كانت فضيلة في حالة ذهول فقد انفرج الباب الذي المنقلب عن جدارا وخرجت منه صبايا هن
كالبدور حسنا يضحكن و يعبثن عبثا عذبا، و كن يرينها فيكبرن جمالها و هي صامتة معجبة
لا تبدي حراكا مخافة إفساد تلك اللحظات الثمينة، جلست الصبايا و ما هي إلا لحظات
حتى كانت المفاجأة الأعظم فقد خرج من الباب شاب وسيم مليح أصهب أزرق العينين وصرخت
فضيلة بملء جوارحها" مهند؟".
والتفت الجميع إليها، و أقبل نحوها مهند تسبقه عطوره. سكب في أذنيها أروع ما سمعت
من الكلام مذ ولدت" حبيبتي أحقا ترينني؟ يا إلهي!
منذ عشر سنوات و أنا أتأمل جمالك و أرجو من الله أن ينبهك إلي و يخرجك من السجن و
العفن اللذين تعيشينهما؟ تعالي إلي يا حبيبتي " و تركت فضيلة يدها ترتاح في يده،
فجذبها جذبة خفيفة نحوه، وجلسا ، ثم صفق مهند فغنت الصبايا دورا تركيا تجاوبت له
زوايا القصر فاتخذت بها أصداء متناغمة كأنها حفلة من حفلات الباب العالي، و ناولها
كأسا ذهبية فما استطاعت الرفض، وما كانت ترغب في الرفض فمثل هذا الموقف يحدث للغافل
مرة واحدة، أحست فضيلة خدر الإعجاب يعاودها فدس رأسها في جنبيه، و أغفت كأنها لا
تريد أن تفيق، وما نبهها إلا توقف الموسيقى حينها سمعت ضحك الصبايا و صوت مهند
يخاطبها همسا، "حبيبتي أنا سأفارق الآن، بودي أن أجالسك دهرا لكنه القدر سأغيب خمس
سنوات".
تقدم حمد إلى الحي الطويل متخذا طريقه نحو البيت الواقع في آخر النهج، وفوجئ الزوج
بالعيون تطل من الشرفات و الأبواب تشير إليه و إلى زميله فلم يلق إليها بالا، وواصل
تقدمه نحو البيت يمني نفسه بإكرام زميله الودود،
كانت اللحظات الأخيرة عسيرة على فضيلة إذ رأت رغبتها تذوي و تتبخر، هند راحل،
الصبايا اللواتي كن يملأن القصر غناء شرعن في الخروج الواحدة تلوى الأخرى و ضاعت
الغنيات في البهو خلف الباب فصارت كأنها قادمة من جب سحيق، وقف مهند بالباب، و قال
وهو يودعها دامي العينين، لكم تمنيتك لي وحدي فأنت أهل لحياة الأميرات لا لهذه
العيشة النكدة، فاستفتي قلبك إن الوقت يداهمنا، انتفض قلبها يخفق كما خفق أول ما
عرفت الحب حينما كان حمد يقترب منها متوددا، وزاد ارتعادا إذ سمعت هذا الوسيم
الراحل يقول" الآن أو لا زمن مطلقا" كوني لي وحدي فما تمنيت امرأة قدر ما تمنيتك"
ووقف كالمنتظر، فواجهته فضيلة بوجه متحير قلق مترددة بين زوجها الرفيق الطيب و هذا
الوهج الذي فجر أنوثتها"
ظل
حمد يطرق الباب مدة طويلة فلما يئس من الفتح قال :" لابد أنها خرجت لجلب الخبز"
واستل المفتاح من جيب سترته، أدار حمد المفتاح في القفل ثلاث دورات على عادته، و
دفع الباب فأصدر أزيزا حادا، و ما كاد يدفعه ويلج، حتى صدرت منه صرخة قوية مفزعة
مزقت الحي و تردد صداها في زوايا و خرّ مغشيا عليه، أصيب الضيف بالذهول و هو يرى
مضيفه غائبا عن الوعي، فأطل برأسه يبتغي فهم الأمر فرأى أغرب ما يمكن أن يراه
الناظر وأبشع ما قد يتصور، كان جسد فضيلة ملتصقا بالجدار قد غاص نصفها فيه ونزف
نصفها الآخر دماء كثيرة.