(1)

- كان من المفترض أن أحضر معى شريط (( بندول )) .

قال (( الشريف )) وهو يسند مرفقه على مجرى زجاج النافذة ويمسح بأطراف أصابعه جبهته وعينيه اللتان أحرقهما العرق المالح الحار .. ضحك السائق بصوته العالى الأجش وهو يعقب:

- صدَّعتك ..؟.

- أنت والحر والعرق .. وهذه الذبابة اللعينة رابعكم اجتمعتم جميعاً لصحبتى ..!.

- لم يجبرك أحد ..!.

رد (( حسين )) بلهجته الصاخبة حتى لاحظ الشريف رذاذاً مقرفاً يتقافز من صماغيه فى كل اتجاه .. أشاح وجهه ناحية اليمين .. أرخى ذراعه فوق المجرى .. تنهد وهو يعقب :

- لقمة العيش يا صاحبى .. السوق ما يرحمش .. والزبون كالطائر إذا لم يجد حاجته عندك طار إلى غيرك .

صمت السائق لويحظاتٍ قبل أن يبدأ سرد حكايةٍ جديدةٍ .. ضرب التاجر جبهته وقد أدرك أنه أخطأ ثانيةً إذ أوحى

لمرافقه الثرثار بقصةٍ أخرى لن تنته ..!.. إنحنى ليسكب كوباً من الشاى من الـ(( ترمس )) الصغير الذى لا يفارقه .. فى حين زعق حسين وهو يمد أصابع يمناه إلى علبة السجائر :

- صب لنا طاسة الله يرحم بوك .

(2)

لم تك العلاقة بين الإثنين علاقة صداقةٍ حقيقيةٍ .. وإنما هى المصلحة المشتركة .. فالشريف الذى باع البيت الذى ورثه عن والديه واشترى بالجزء الأكبر شقةً وعربةً صغيرةً مهترئةً .. ثم باع ذهب زوجته واستخرج سلفتين من المصرف على اسمه

واسمها ثم استدان من صهره مبلغاً صغيراً ليضيف كل ذلك إلى ما تبقى من ثمن المنزل ويفتتح محلاً لبيع المواد المنزلية .. وشيئاً فشيئاً ازداد رأس ماله وتوسعت تجارته فصار يحضر كل عشرة أيامٍ سيارتين محملتان بالبضائع بدلاً من واحدة .. وفى بعض المرات يضطر إلى زيادة الحمولة فوق المسموح به قانوناً فيصبر إلى ما بعد منتصف النهار أو منتصف الليل بساعةٍ أو ساعتين تفادياً للمخالفات .

ولأنه كان بحاجةٍ إلى سائقٍ أمينٍ فقد استدل عن طريق أحد

الأصدقاء على حسين الذى كان يمتلك (( تويوتا )) حديثة الطراز فصار يستأجره ويعود هو بالعربة الأولى التى يستأجرها من بنغازى ويترك حسين ليعود على مهل .

(3)

إنتهى العمال من تحميل المركبة الأولى .. وبالكاد تمكنوا من ربط الحبال بفعل الحمولة الزائدة .. وضع الشريف خمسة دنانير مطويةً بجيب قميص السائق وهو يقول :

- تناول غداءك ريثما يُنهى العمال شغلهم .. إنتبه لنفسك .

- تقصد إنتبه للبضاعة ..!.

هتف حسين وهو يضحك فشاركه الضحك صاحب محل الجملة وابنه الأنيق ذى الجسم الممتلىء والذى يبدو أنه مواظبٌ على ممارسة رياضة بناء الأجسام .. تبسّم الشريف لدعابة رفيقه ثم اتجه إلى السيارة .

(4)

كان الوقت قد تجاوز منتصف النهار بأكثر من ساعتين الأمر الذى طمأن التاجر إلى أن نقاط التفتيش ستكون فارغةً سيما فى هذا الجو القائظ .. غير أن توقعاته لم تصب فقد فوجىء برجل

مرورٍ أمام البوابة الواقفة على بعد بضعة أمتارٍ شرقى الـ(( باكور )) .. تعالت دقات قلبه فيما رفع السائق رجله عن دواسة البنزين .. إستحضر بعض التعاويذ وآيةً من القرآن قرأها فى سره وهو يلحظ يد الشرطى ترتفع آمرةً إياهما بالتوقف .

طلب الرجل من السائق رخصة القيادة وكتيب العربة .. قال وهو يقرأ بيانات الرخصة :

- ماذا تحمل ..؟.

رد الأخير بصوتٍ هادىءٍ :

- بضاعة .. مواد منزلية .

دار رجل الأمن حول السيارة متفحصاً ثم أمر قائدها بالوقوف على يمين الطريق .

(5)

ممرت ساعةٌ كاملةٌ فشل خلالها الشريف فى إقناع الشرطى بإعادة الأوراق للسائق والتغاضى هذه المرة عن أمر الحمولة .. حينها لم يجد بداً من الإتصال برفيقه.

تفكر حسين قليلاً .. دنا من الشاب الأنيق وهو يقول: /span>

- إذا طلبت خدمة .. هل تؤدها لى ..؟.

رفع الأخير بصره عن الفاتورة .. قال مستغرباً :

- خير انشالله ..؟.

- أريد بذلتك هذه .

فغر فاه وهو يحدق بوالده .. إستدرك الرجل وهو ينحنى نحوه:

- لا وقت لدى للشرح .. إسمع كلام أبتر وقصيّر .. سأترك سيارتى هذه بحمولتها عهدةً لديك ريثما أعود.

هم الشاب بقول شىءٍ لكن حسين ضغط على يده أكثر مصراً :

- لا تخش البرد .. ثيابى تناسب حجمك .

إحمر وجهه .. نظر إلى أبيه .. هز الوالد كتفيه وأشار بشفتيه علامة عدم الفهم وهو يبتسم .. قام الولد داخلاً يتبعه حسين وهو يحثه على الإسراع .

(6)

حسين .. كان رجلاً فى مطلع الأربعينات .. ثرثاراً لا يتوقف فمه عن الحركة حتى وهو نائم ..!.. وبسبب ذلك كثيراً ما يجنح دون قصدٍ إلى الكذب وتهويل الأمور .. وكثيراً أيضاً ما يتورط مع الآخرين الذين يستغلون هذه الناحية فيتعمدون

إيقاعه فى الخطأ ليحظوا بوجبة عشاءٍ دسمةٍ ..!.

لكنه طيب القلب .. طاهر النية .. أميناً .. يتميز بسرعة البديهة وسعة الذكاء .. ميالاً إلى إيقاع الآخرين بأشراك مقالبه ومداعباته التى لا تنته .

إستأجر سيارةً فخمةً من معرضٍ قريبٍ وانطلق قاصداً النقطة .. حينذاك .. كان الشرطى يستعد لتحرير مخالفةٍ كبيرةٍ ومصادرة حمولة المركبة .. فى حين كان الشريف الذى فقد السيطرة على أعصابه يستند على مؤخرتها وهو يدخن .. بينما السائق يبذل المحاولات مع الرجل .. وحين فشل عاد ليدخن هو الآخر مع مستأجره .

(7)

فزع الشرطى من الحجرة الصفيحية المطلية باللونين الأبيض والأسود على هيئة شرائط طوليةً على إثر صوت فرامل عربةٍ دوت بعنفٍ تبعه هرجٌ وصياح .

خرج ليجد سيارةً فخمةً متوقفةً أمام الـ(( تويوتا )) .. ويشاهد رجلاً وسيماً يرتدى بذلةً سوداء أنيقةً ونظارةً شمسيةً وهو يشهر يديه فى وجه الرجلين معربداً بصوتٍ قوىٍ .. فيما هما صامتان متجمدان كتمثالين من حجر .

ركب .. إستدار بعربته وضغط على البنزين بينما اقترب رجل الأمن من الآخريْن متسائلاً فأجابه السائق بهدوء :

- هذا صاحب البضاعة .. لقد حمّلنا المخالفة وثمن البضاعة المصادرة .. (( تنهد )) .. معه حق .. هى غلطتنا نحن .. نحن اللذين زدنا الحمولة دون علمه .

نظر إلى وجهيهما .. أطال التفكير وهو يحدق بالإسفلت .. ثم مد للسائق الرخصة والكتيب وهو يقول :

- لوجه الله أترككما هذه المرة .. ولكن كونا على حذرٍ فى المرات القادمة ولا داعى لأن توقعا نفسيكما فى مثل هذه المشاكل .

لم يصدق الشريف ولا السائق ما يسمعان .. إنفرجت شفتا الأول عن ابتسامةٍ عريضةٍ .. صعد السيارة .. أخرج هاتفه المحمول .. بحث عن اسم حسين وفى فمه تتزاحم ألف ألف كلمة شكر .

              


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة