كانت "عبلة" توضّب أدراج خزانتها استعدادا للعيد الكبير، فوقع في يدها البوم صور قديم يعود تاريخه لأيام الدراسة، وعندما قلبت صفحاته، أخذت تتذكر أيام الصبا الجميلة.. وتوقفت عند صورة تجمع الشلة: "عبلة" و"تريز" و"مها".. وفورا، اتصلت بهما ودعتهما للقاء، لذكرى الأيام الخوالي..
صباح يوم الخميس وبغياب الأزواج والأولاد، جاءت كل من "تريز" و"مها"، تحملان كعكة خاصة للمناسبة، وأحضرت كل واحدة البوم صورها القديم، واصطحبت "تريز" شقيقتها الصغرى "دنيا"، معللة ذلك بانها طريحة الفراش منذ ثلاثة أيام، وتريد الترويح عن نفسها.
وكانت "دنيا" بمثابة الشقيقة الصغرى والمدللة لأعضاء الشلة، ففرحن بقدومها، فسألتها "عبلة": هل ما زلت تحبين الشكولاطة؟ هل تذكرن يا بنات كم أنفقنا من النقود على شكولاطة "دنيا" وطلباتها؟ فعلقت "دنيا" بانزعاج: ما عدت صغيرة!!
وبعد استرجاع الكثير من الذكريات، تحدثت "تريز" عن لقائها الاول بزوجها.. وهكذا تحول الحديث عن العلاقات العاطفية القديمة وكيف تم التعارف بين كل واحدة وزوجها.
تحدثت السيدات الثلاث عن تلك اللحظات المؤثرة في حياتهن وما أن تبدأ إحداهن بالحديث حتى تقاطعها الأخرى بالاستشهاد بحادثة ما، وكن يتحدثن بأسى وبفعل الماضي، وكأن الزواج قتل حبهن وتسبب في إخماد لهيبه.
بعد أن ثملن من الكلام.. مرت فترة صمت ثقيلة، تحمل شيئًا من اللوعة والحسرة على أيام لن تعود...
اخترقت "عبلة" هيمنة الصمت وقالت بلهجة لا تخلو من المداعبة، موجهة حديثها إلى"دنيا" التي كانت صامتة طوال الوقت: وماذا معك أنت يا كبيرة، ألا يوجد لدك قصة حب؟
احمرت وجنتا "دنيا" خجلا.. فتدخلت أختها "تريز": دعوها، فهي ما زالت صغيرة، لا تعرف عن الحب شيئًا..
"عبلة": أصحيح هذا يا "دنيا"؟
رفعت "دنيا" رأسها ببطء وقالت بتلعثم: أعرف حكاية حب مؤثرة جدا وأحداثها لم تنته بعد..
فنظرت إليها أختها مستغربة وقالت: هل تعيشين قصة حب يا مقصوفة العمر؟
فأجابت "دنيا": ليست قصتي، بل قصة صديقة عزيزة.. ولا أستطيع أن أرويها، فأنا الوحيدة التي تعرفها.
- صاحبتك وبعمرك وتعيش قصة حب؟! قالت "مها"..
شنفت آذان السيدات وبرقت عيونهن بفضول من حديث "دنيا" فقالت "عبلة": تكلمي يا "دنيا" وسيبقى الأمر سرا بيننا.. هل فارسها هو طالب في صفك أم ابن الجيران، أو من أقاربها..
طأطأت "دنيا" رأسها وأغمضت عينيها وتنهدت بتثاقل قائلة دون أن تنظر إلى السيدات: إنه محاضر من "مؤسسة التوجيه المهني" جاء إلى صفنا وألقى محاضرة حول اختيار المهن المناسبة في المستقبل، وفور دخوله التقت عيناه بعيني صاحبتي، فومض بريق في عيونهما، هزها الحب هزا، أصابها تماس كهربائي منذ النظرة الأولى، أحست به بكل جوارحها رغم انه يكبرها كثيرا..
"مها": كم عمره؟
"دنيا": كبير جدا...
"عبلة": هل هو متزوج؟
تنهدت "دنيا" بأسى وقالت: آه...
فقاطعتها "تريز": هذا غير معقول، فتاة صغيرة تعشق رجلاً كبيرًا ومتزوجًا..
"عبلة": دعيها تنهي القصة، فنحن أيضا أحببنا أساتذتنا في المدرسة.. أكملي يا "دنيا"..
"دنيا": إن هذا الحب، لم يرد في قصصكم، انه اختصار لأشياء يعجز الإنسان عن وصفها، فالحب بين الحبيبين هو الإحساس، النبض، الروح، الوجدان والكيان، ويمزج الجسد بالروح ويتداخل الماضي بالحاضر والمستقبل... الحب هو تلك الوردة التي تتفتح كل يوم بل هي الوردة التي لا تذبل، مهما مر عليها الزمن... الحب هو ذاك النبع المتجدد الذي لا تنضب مياهه.. هذا الحب النقي هو صفة أصبحت نادرة الوجود بينكم.
"عبلة": يا الله.. ما أجمل وصفك للحب.. وهل حصل مع صديقتك كل ذلك؟
"دنيا": عندما التقت عيونهما في المحاضرة، بدا عليهما الخجل فورًا.. كان يتكلم بعذوبة، ولم يرفع نظره عنها، ومن شدة إعجابها به، تبين لنا وكأن الدموع ستسقط لألئ من عيونها. فانتبه إليها طلبة الصف وسكتوا متأثرين لذلك المشهد الرائع..
"عبلة": سبحان الله، من أين لك بما اختلج في صدرها!
"دنيا": ألم أقل لكن بأنني موضع سرها..
"تريز": قلتِ إنه يكبرها سنًا وهو متزوج، فكيف فاضت جداولها هكذا فجأة للشخص غير المناسب!؟
"دنيا": يبدو انك لا تفهمين في الحب شيئا ومن المفضل أن لا أكمل قصتي..
"عبلة": لا تأبهي بكلام أختك، إنها قصة شيقة، أكملي..
نظرت "دنيا" إلى شقيقتها وكأنها تستأذنها الحديث، فهزت "تريز" رأسها موافقة..
"دنيا": الحب لا يعرف الفرق في السن، هل تعتقدن بأن وجود الشوك على سيقان الورد، يحد من جماله ورائحته العطرة..
"مها": هو إذا جميل جدا!
أسبلت "دنيا" أجفانها، واسترسلت بحديثها: بالطبع هو جميل، رقيق في مشاعره، شعره الشايب الخفيف، كأنه موج البحر الهادئ بعد أن تعب من الهيجان. واثق من نفسه، صلعته تشع نورا يود المرء لو يقبلها مرارا، حسن الحديث بعينيه الجاحظتين اللتين تنمان عن ذكاء خارق وتبثان الدفء في الشخص الذي ينظر إليه.. شفتاه الغليظتان تصرخان: النجدة قبلوني..... كريم في عواطفه....
"مها": أصلع وشايب وعيناه جاحظتان وشفتاه غليظتان وتعتقدين بأنه جميل..
"دنيا": أنا لا اعتقد بأن الحب أعمى، الحب يرى الأشياء بجمالها الحقيقي..
تأففت "تريز" ونظرت إلى شقيقتها بعينين متشككتين قائلة: وماذا حدث لصديقتك؟؟
"دنيا": تتبعت آثار حبيبها وعرفت انه متزوج وعنده أولاد..
"تريز": ماذا تريد منه، لتبحث عن رجل أعزب وفي مثل سنها..
"دنيا":إنها تحبه حبًا جمًا، وكتبت له الرسائل وقصائد الحب.
"عبلة": وهل بادلها الرسائل؟؟
"دنيا": احتفظت بها جميعا، لم ترسلها، كانت تخشى ردة فعله...
"مها": هل هي مجنونة؟!
"دنيا": ومنذ متى كان الحب والعقل متفقان؟!
"تريز": هذا ليس حبًا، بل إنه هوس المراهقين..
"دنيا": لقد ملك فؤادها وعقلها..
"عبلة": لماذا لم تصارحه بمشاعرها؟
"دنيا": ذهبت إليه عدة مرات في المؤسسة، حيث يعمل، بحجة الاستشارة.. وفي كل مرّة، كانت تحاول الإعلان له عن حبها.. علق الكلام في حلقها.. فأخذت تكتفي برؤيته، لتروي نفسها عشقا به وتطرب لسماع كلماته الدافئة، فهو لم يشعر بما تشعر به، أعطته إشارات وتلميحات ولكنه لم يأبه بها.. فأصبحت تتلوع في حبها.. وتبني أحلامًا كبيرة، تمنت لو غفت للحظات على صدره فيأخذها بعيدا ويضمها بين أحضانه، ويقبلها ولو قبلة واحدة..
سكتت "دنيا" لبرهة، والنساء ينظرن إليها بتلهف، لسماع نهاية الحكاية.. ثم رفعت رأسها وكأنها ستلقى خطابا، جمعت قواها وقالت باتزان: اليوم، صباحا، اتصلت صديقتي به، صارحته بكل شيء وحدثته عن مشاعرها وعن كتاباتها له، ولكنه بقي صامتا من المفاجأة، أو ربما خائفا من هول الصدمة، ثم قال لها: أنا اقدر جدًا مشاعرك نحوي، ولكنني متزوج وأريد المحافظة على زوجتي وأولادي.. فطلبت أن تلتقي به ولو للحظة واحدة..
"تريز": وهل وافق؟
"دنيا": رفض.. فتوسلت إليه.. ولكنه أصر على رفضه..
تنهدت "تريز" وقالت: إذن لن تلتقي به..
"دنيا": ربما تلتقيه وربما لا..
"تريز": كيف ذلك وهو يصر على الرفض؟!
"دنيا: أعلمته بأنها ستكون اليوم، الساعة السابعة مساء، على جسر المدينة، وستلقي بنفسها من هناك إلى النهر.. وبإمكانه أن يأتي لمشاهدتها ولو للحظات قليلة....
خيم الصمت على الجميع وأخذن يرمقنها بنظرات متسائلة وعيون متفحصة هل يصدقن ما قالته أم لا؟ ولكن تريز أيقنت بان هذه العاشقة ليست سوى "دنيا" نفسها.
***
كانت الساعة تقارب السابعة مساء، عندما اختبأت "تريز" خلف التمثال الحديدي على حافة الجسر، تراقب شقيقتها "دنيا" التي تتكئ على الحاجز الخشبي وبيدها كومة من الأوراق، وفجأة ظهر رجل تنطبق عليه الأوصاف التي ذكرتها شقيقتها وبدأ يسير باتجاه "دنيا"، وعندما رأته صعدت إلى الحاجز وألقت بنفسها إلى النهر وتطايرت الأوراق على الجسر وفوق النهر.. فركضت "تريز" نحوها، وصرخت بأعلى صوتها....
***
تنبهت "عبلة" لشرود "تريز" فقالت لها: ماذا بك؟ أين ذهبت؟.. وهزتها بيدها..
أفاقت "تريز" من شرودها، والتفتت إلى صديقاتها، ونظرت إلى شقيقتها التي بدا عليها الإعياء.. وقامت بضمها...
فقالت "دنيا": يبدو أن الألم عاودني في رأسي، هيا يا "تريز" نعود إلى البيت.
ودعت "تريز" صديقتيها على أمل العودة ثانية واتفقن على اللقاء باستمرار..
***
نظرت "تريز" إلى أختها التي تجلس قربها في السيارة وقالت: تعالي لتنامي عندي الليلة..
"دنيا": أولادك مزعجين.. لن يعطونا المجال لنكون معا.. رغم إنني اشتقت إليك كثيرا، فمنذ أن تزوجت لم تسنح لنا الفرصة للمكوث معا كما كنا قبل ذلك.. أقترح أن تأتي أنت وتنامي عندنا، فما زال سريرك بجانب سريري..
وافقت "تريز" على اقتراح أختها بسرور وقالت لها: سنسهر معا الليلة لساعة متأخرة، ولن نكف عن الحديث..
"دنيا": طبعا.. يطيب لي ذلك..
اتصلت "تريز" بزوجها وطلبت منه أن يصطحب الأولاد ليناموا عند والدته، لأنها ستبقى الليلة بجانب أختها المريضة.....
(حيفا)
المراجع
al-hakawati.net
التصانيف
أدب مجتمع الآداب قصة