على أنقاضِ دولةٍ "فيسبوكية"
قد يبدو خطابي في هذا التوقيت مدعاة
للشفقة، فدولتكم العتيدة التي اعتبرتُ نفسي منتمياً إليها بشكل آلي، سرعان ما
تداعت، في وقتٍ لم أزل فيه مُنكباً، على تنقيح نصٍ يليق بمبادرتكم، إذاك، لم تكن
خيبةُ الأملِ وحدها ما أقضّ مضجعي، فبالجوار كانت أيضاً مشاعر تنازعتني بين سخريتين،
إحداها من نفسي، جراءَ نصٍ مبتور يحاكي عجزي كلما أطلّ بذاكرته عليّ، والأخرى من
القدر، جراء خطابٍ ما أن يبلغ سنّ الحلم، سألقيه في وادٍ غير ذي زرع، فإذ به هشيماً
تذروه الرياح، وبين إقدام وإحجام، كان لا بد من حتميةٍ وحيدةٍ باستطاعتها انتشالي .
إنها تُمّثل ببساطة، قيامَ دولة
افتراضية جديدة، على أنقاض تلك المتداعية، لكن في مخيلتي فقط، لتصبح في
لحظة،كياناً يحتوي كل العناصر اللازمة لاعتبارها أمراً واقعاً، يُمَكّني من التعاطي
معها دون أدنى إحساس بالهرطقة، وإذ وضعتُ قدماي على الأرض الصلبة تلك، كان بوسعي
العودةَ إلى جذور خطابي الأولى، وتفنيدها للمرة الأخيرة، لتتهيأ كبداية سلسة لحواري
معكم .
عندما تناهت إلى مسامعي أخبار دولتكم
على موقع "فيسبوك"، تناهى بحكم المنطق إلى إدراكي تساؤل: ترى، ما هو الدافع الحقيقي
لنزوعكم إلى تأسيس دولة افتراضية من الكترونات ؟ وكان تفسيري الأقرب إلى الواقعية،
هو أن الدافع نابع من عجز دولتكم السابقة على احترام إنسانيتكم، فقررتم البحث عن
وطن بديل، إنه لأمر مبرر حقاً، لكن ألم يخاطر أحد منكم نفسه قبلاً، عن جذورٍ أكثر
قِدَماً لقصة الوطن البديل هذه ؟
فيما يبدو أنه سؤال غريب على البعض
منكم، كان بالنسبة لي جوهر الدافع لمخاطبتكم، ذلك أن التشريح التاريخي لمعضلتنا
الأزلية مع الأوطان، غالباً ما يحقق لنا كفاءةً أكبر في إدارة الصراع، إذن، إلى أي
ماض تُراني أستدرجكم ؟ ليَتخيلَ كل منكم الآن نفسَه جالساً أمامَ خِزانةٍ زاهيةِ
اللّون، يتأملها لثوانٍ معدوداتٍ فقط، ثم يُقدِم على فتحها بتلقائيته الأولى،
ويُخرِج من أدراجها، قِطاره الكهرَبائي، وعروسته الشقراء، وورقةَ امتحانِ العلوم،
وصورته مع صديقه الحميم في رحلة الربيع.. ثم، وبعد استمتاعه بتقليب أشياءه، يُرجعها
للخزانة، ويعود لمكان جلوسه، ليجد بجانبه صورةً فوتوغرافيةً له، وقد بدت معالم
البلوغِ ترتسم على وجهه، ولِيسألَ نفسه الآن: كم مرّ من الوقتِ على أشياءه في
الخزانة باعتبارها عالمه الفريد، قبل أن يُفسَح المجال للصورة بجانبه كي تُزاحمها
وحدها في هذا الامتياز ؟ تحديدُكَ الدقيق للنقطة الفاصلة تلك أمر مهم، لكن الأمر
الأكثر أهمية هو قدرتك على استعادة أكبر قدرٍ من التفاصيل للقصة التي ستبدأ عند تلك
النقطة، وحيث أنّ لكل منكم تفاصيله
الخاصة تبعاً لاختلاف المنشأ، له أن
يحتفظ بها جانباً طالما تمكّن من استرجاعها، لكن ثمة نقطة فاصلة جديدة في نهاية تلك
القصة، من الجدير بكم تحديد مقدماتها، لكن بعد ارتحالكم معي في تفاصيلِ هذه
الحكاية:
كنت في التاسعة من عمري عندما لُذتُ
للمرة الأولى في حياتي، لشجرةٍ كانت تَقبعُ في باحة المدرسة، تساءلت: لماذا يكون
سكونها، أكثر جاذبية من نشوة الأولاد في فترة الاستراحة؟ أما الجواب فظلّ معلقاً،
حتى نضجتُ بعد عدة سنين، وأصبحتُ من واضعي الاحتمالات، وكان إحداها: أن اللّوذ كان
بدايةً لتاريخي مع الانطواء..! وكِدتُ أُصدق نبوءتي، وخُيّلَ إليّ أنها شجرةً
محرمةً أخرى، فتملكني الفزع، وجهدتُ أبحثُ عن بدائل علاجية، قبل تفشي المرض، لكن
بحثي ذاك كان بمثابةِ قطرةَ ماءٍ تسلّلت إلى جرح طري، كي تحجز لميكروبه موعداً
ساخناً مع الالتهاب، وحيث أضحيتُ عاجزاً عن صدّ اجتياح الميكروب، ابتكرتُ مخرجاً
دبلوماسياً، مفادهُ أن أتعايش معه طالما فشلتُ في قهره، وبقيت أثاره الجانبية لا
تُفضي إلى موتِ إكلينيكيّ، غير أنّ تعايشي ذاك مدةً ليست بالقصيرة، أفضى إلى نتائج
غير متوقعة، فأنت إذا اعتدت الجنوح إلى ذاتك، تبتكرُ مع الوقت مهارة المكوث في
العزلة، والاستماع إلى تفاصيل نداء عقلك بتركيزٍ أكبر، وفي لحظةٍ متقدمةٍ ما، تكتشف
هوية أفكارك، فترى ظلك المبهم داخل وعيك يأخذ تدريجياً طبقات لونية أكثر وضوحاً،
إلى أن يصبح كبدر في ليلةٍ صيفية، في هذه اللحظة بالذات تكون قد اكتشفت نفسك وأيقنت
أن تفشي ميكروب العزلة هو وصفةٌ محضةٌ للشفاء، لكن، أتراها نبوءتي الأخيرةُ تلك قد
أشبعت ظمأي للوجود؟
عند السؤال السابق بالتحديد، انتهت
تفاصيل الحكاية، لتتبلور نقطتي الفاصلة الجديدة، أيمكن لكل منكم الآن أيضاً، أن
يحدد مقدمات نقطته الفاصلة الخاصة ؟ حسناً، إن كان بمقدوره فعل ذلك، له أن يُكملَ
ارتحاله معي، لا في تفاصيل قصة جديدة، وإنما في محاولة مشتركة، لاستشراف مرحلة
عتيدة فرضت نفسها أخيراً .
اكتشاف ذاتك، أشبهُ بحلِّ رموزِ
الخارطة الجينية،ِ لفأرٍ مخبري أنيق، فأنت الآن أشبه بمحارب، يستريح في واحة اسمها:
الذات الوطن، لكنّ نضج الوعيِّ يفرض بشكلٍ تلقائيٍّ جدلياتٍ جديدة، إنها النرجسيةُ،
كيف يمكنكَ أن تشهرَ أسطورتكَ الذاتيةَ في وجه الواقع، دون أن يكون كَهَرِمٍ
بلوريّ، يُرّشح البياض في ذاتك إلى سبعة أطياف، أو ربما أكثر!، نبوءةٌ ثالثة، أو
مفهومٌ ملطفً للأنانية، أياً كان المسمى، فالعبرةٌ دائماً بسياقٍ يطمح بتطويع محيطٍ
يتماهى مع إلحاح نرجسيتنا الخلاقة .
بَيدَ أنّ جدليةً من هذا الطراز قد
تودي لأن يتخيل البعض، أن اكتشاف الذات لعنةً لم ترد حتى في الكتب المقدسة، فالبلور
في الهرمِ، لم يعي أبجدية الألوان بعد، لكن، _وفي الاستدراك تقبع دائماً المعضلة_
ليس ثمةَ وسيطاً في مواجهةٍ بين أسطورة وواقع، تورطت بإيمانٍ منذ البدءِ في قدريتها،
إذن، كيف الخلاص؟
إن نقطةَ اللاعودةِ تلك، تقتضي اقتفاءَ
ما اصطَلحَ على تسميتهِ أحدُ المجانين: "طالع الحكمة"، وإذ كنتُ ممن لا يبخل على
المجانينِ ببرهةِ من التأمل، فقد أيقنت فيما بعد أن البُشرى يمكن أن تنبلجَ من وعي
أحدهم، فحتى لو كان طرحاً من هذا القبيلِ بعيداً عن التطبيق، فإن مجردَ اختبارَ
المنطقَ في جانبه النظري، يصبح بديلاً أخيراً للتسلحِ قبل ولوجِ المواجهة،
وبافتراضِ استبعادِ ذلك الاختبار أصلاً من قناعاتنا، يبقى تصديقُ حقيقةَ ذلك الأثر
في تاريخنا الكوني، دون أيّ دليلِ مادي أو دافعِ منطقيّ، سوى وجوبُ التصديقِ فقط
ليتحقق الخلاص، هو محض شجاعةٍ أسطورية، تدفعك ميكانيكياً لِتَقمُصِ الحكمة، الأمر
الذي يسوقكَ بلا وعيٍّ لاستشعار جحورٍ يهيم في عبثيةِ سباتها، صعاليك يتقاطعون مع
فلسفاتك حد التطرف، بعضاً من الحضورِ ما يلزمك، وشيئاً من الإلهامِ فقط ما يلزمهم،
ليصبحوا بين ليلةٍ وانتصافها مشاريعَ شجعانَ أسطوريون مثلك، ما يعُوزهم ويعوزك،
توافقاً على شكل افتراضي ما، لفضاء تُرسوا فيه قواعدَ وطنكم البديل، الذي سيتأهب
لتلقين ذلك الهرم، درساً في ترشيح الألوان .