أوقفا شاحنتيهما متجاورتين حذوى مقهى الطريق الصحراوي؛ الذي يخترق الصحراء الكبرى
مثل ثعبان عنيد ؛ يشاكس الرمال ووهج القيظ والزوابع التي لا تكاد تنقطع حتى تنبعث
مثل المارد من حيث لا يدري أحد...
"
ما أشد غموض هذه الصحراء..وما أبسط أهلها ، نقيضان متضادان أو متتامان لا يعلم
المرء حقيقة ذلك بالضبط ، تماما مثل الأبيض والأسود والظلمة والنور ، والمرأة
والرجل ، والزهرة والشوك "
تعانقا عناق من لم ير صاحبه منذ أعوام مديدة ، وسارا معا ويد كل منهما على كتف
الآخر ، وارتفعت قهقهاتهما تكسر حدة صمت الصحراء وسكون الصيف بوطأته الثقيلة
ودبقيته المقرفة.
اتجها نحو المقهى الصغير الذي لا تزيد مساحته على مترين في ثلاثة أمتار، إلا أنه في
الصيف تظلل جوانبه بعريش من أعواد القصب فيبدو أكبر من ذي قبل ، ويرش رمله الناعم
بالماء حتى يخفف من أوار ريح " الشهيلي " الذي يشتد في أواخر شهر جويلية وبدايات
شهر أوت اللاهبة ، إنها مقدمات " السامة " بأيامها الأربعين والتي لا يخطىء عدها
كبار السن يوما بيوم وليلة بليلة ، إلى أن تغدو في أواخرها شديدة الحر نهارا باردة
ليلا ، فتنبسط السحنات وتشرئب قلوب أصحاب البساتين إلى عناق عراجين التمر؛ التي
أتقنت صنع تبرجها هذه الريح اللاهبة وتلك ( السامة ) التي لا تخلف موعدها أبدا.
جلسا متقابلين تفصل بينهما طاولة خشبية متآكلة الحواف،وطلبا كوبين من الشاي الأخضر
بسكر قليل، ثم أخذا يتذكران مغامراتهما معا وما كان يلاقيانه من وعثاء السفر
والطريق الطويل ومفاجآته الكثيرة ، عطب الشاحنات ؛ نفاد الوقود؛رمال الزوابع التي
تتكوم على أجزاء كبيرة من الطريق الصحراوي الوحيد
...
الليالي المقمرة وسهرات الشاي وحكايات الجن والعفاريت والسحرة والكنوز الخفية.
وأكثر ما كان يملح أحاديثهما ويجعل لها نكهة مثيرة ، حكايات الجنيات التي تعشق بعض
السائقين فتخطفهم إلى عوالم مجهولة، يعود بعضهم منها ويذهب آخرون بغير رجعة ، ومن
يعود يحكي عن أشياء مذهلة ومتعة خيالية لا يدرك كنهها، وشوق عارم إلى الأهل
والأولاد الصغار، وقرار كثير منهم أن يهجر هذه المهنة اللعينة التي تؤدي أحيانا إلى
الجنون.
جاء
الحاج الطيب بكوبي الشاي فوق صينية صدئة؛تآكلت جوانبها ، ووضع الكوبين على الطاولة
الخشبية
وهو
يداعبهما:
-
ألم تعثرا بعد على كنزكما المفقود..؟ أم أنكما ستتزوجان جنيتين تحملانكما إلى
الجنان الخضر والأنهار الجارية؟
لم
يكن كلامه يخلو من سخرية تشوبها رغبة خفية في أن يكون كل ما يقوله ممكن الحدوث.
يردان عليه بعبث ويمازحانه هنيهة إلى أن ينصرف عنهما إلى غيرهما من زبائن المقهى..
يسود بينهما صمت ثقيل ، يشغلانه بالتلذذ برشفات الشاي الأخضر " المركز" وتغرق
أبصارهما في سراب الصحراء المذهل...
الشاي الأخضر "طقس" من طقوس أهل الجنوب الكثيرة ؛ التي لا تحلو الجلسات ولا يقام
السمر الطويل إلى آخر ساعات الليل بدونه ، إنه مثل "القات" عند سكان اليمن
و"النارجيلة" في الحواري المصرية القديمة.
يقول شعبان لصاحبه ورنة الحزن ترجف شفتيه المتشققتين:
-
مسكين أخموخ لم يكن يعتقد يوما أن ستهزمه الصحراء،هذه الأم العقوق،إنه يعرفها شبرا
شبرا ،وقطعها
الآف المرات وفي مختلف الاتجاهات، وفي آخر مرة لقيته فيها قال لي كلاما غريبا ؛
شغلني أياما وليالي طويلة..فلم أدرك كنهه حتى وقع ما وقع في ذلك اليوم المشؤوم،عندما
أخرجناه من داخل الشاحنة متفسخا
..
لم نتعرف عليه إلا بعدما فتشنا جيوبه وعثرنا على بطاقة هويته.
إنها كبوة الجواد النجيب..كانت الشاحنة غائصة إلى المنتصف تقربا في رمال شيطانية لا
يستقر لها قرار،
صمت
لحظة ليعدل من صوته المتهدج ،ويتحكم في رعشات الشفاه ..ثم أضاف:
-
كل ما أخشاه هو مصير مشابه لمصير آخموخ..
أرسل" الأشقر" ضحكة مصطنعة وربت على كتفه وهو يمازحه :
-
أنت لن تموت أبدا.. إنك مثل القط بسبع " أرواح ".
ولم
ينتبها للسماء التي بدأت تحمر رويدا رويدا حتى غدت مثل برتقالة نضجت أكبر مما
ينبغي.
قال
شاب من رواد المقهى:
-
يبدو أنها ستمطر هذه الليلة..
رد
عليه شيخ هرم يفترش حصيرا مهترئا وهو يفتل دخينة "عرعار".
-
ما زلت غرا يا فتى.. هذه عاصفة " السخط " .. إذا احمرت السماء ، وهوى فيض من دقيق
التراب يقول الحكماء والمجربون من كبار السن أن حدثا مرعبا قد وقع.. أو أنه سيقع
وأن الله غاضب من البشر.. اللهم لطفك يا لطيف.. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء
منا.
سخر
بعضهم من كلام هذا الشيخ..وأيده آخرون وبقيت فئة قليلة من حديثي السن على الحياد
وقد ارتسمت على وجوههم علامات استفهام شتى..
جعل
الشيخ يبل الدخينة بطرف لسانه ليحكم لفها .. ولما استوت بين أصابعه وضعها على زاوية
فمه اليسرى
وضغط على الوقادة، انبعث لهب أزرق متوهج ؛ زاده التهاب العرعار في طرف الدخينة
توهجا.. سحب الدخينة من بين شفتيه ورمقها بعينيه الذابلتين وهو يقلبها بين أصابعه ،
ثم نفث دفعة كثيفة من الدخان سرعان ما تبددت من حوله.
أعقبها ببصقة على الأرض ثم نهض يجرجر قدميه وهو يتمتم:
-
يا ستار يا لطيف ... يا ستار يا لطيف.
بقي
الصديقان يتجاذبان أطراف الحديث حتى مالت الشمس إلى المغيب، وبدا الجو أكثر قتامة
وحزنا ، نهض "الأشقر" مودعا صاحبه ثم قال له مداعبا:
-
ماذا لو شغلت محرك الشاحنة وزحفت بها نحوك لأدهسك وأريحك من كل العذابات التي تنغص
عليك عيشك.
أجابه شعبان في مرارة ويأس:
-
تفعل خيرا.. لقد مللت الحياة وملتني..
-
الآ تخاف ..؟
-
لا..
الآ
يرعبك الموت..؟
-
أبدا..
-
ألن تتزحزح من مكانك إذا رأيت الشاحنة تزحف نحوك ؟
-
كلا.
كان
رواد المقهى يسترقون السمع لهذا الحوار الطريف ، ولم يعيروا الأمر أهمية كبرى فلقد
اعتادوا على مثل ذلك من هذين الصديقين.
اتجه "الأشقر"نحو شاحنته دون أن يضيف كلمة أخرى..شغل المحرك فصدر عنه شخير مزعج،
تجمعت سحب الغبار الأحمر مثل جيش زاحف يحكم حصاره للمكان .
انطلقت الشاحنة ببطء مقتربة من الطاولة التي جلس إليها شعبان ثم ازدادت سرعتها فجأة
.
توقع رواد المقهى أن تعوي المكابح في آخر لحظة لتوقف الشاحنة على بضعة أشبار من
الطاولة...
وضغط السائق على المكابح فعلا في اللحظة المناسبة لكنه وجد الفراغ... جحظت عيناه ؛
صرخ ملء أشداقه وهو يرى الطاولة الخشبية القديمة وصاحبه شعبان يمران تحت الشاحنة في
مثل كابوس رهيب ...
"
يا الله... يا للأقدار".
وهطلت أمطار عاصفة من التراب الأحمر الخانق...إنها عاصفة "السخط" اللهم لطفك يا
الله..