في بداية العام الدراسي 1968- 1969 وأنا طالب في كلية اللغات في حلب أدرس مقررات السنة الثالثة  كلفت أن أدرّس طلاب الصف الأول الإعدادي في إعدادية الحسن بن الهيثم بحي العرقوب بحلب ، وكان أمر تنظيم الشبيبة – وهو تنظيم حزبي أنشأه البعث حين بدأ يحكم سورية - لصغار الطلاب ينتشر بين الطلبة الذين يتميزون بضعف التحصيل العلمي ليعوضوا تقصيرهم الدرسي بحوافز قررها الحزب آنذاك لمن بنتظم في سلكهم .

كنت طلبت إلى التلاميذ أن يكتبوا موضوعاً تعبيرياً في فضل الأم ومكانتها في نفوس أبنائها ، ودورها في تربيتهم ، وفضلها في تنشئتهم ، ووضعنا عناصر للموضوع  تأخذ بأيديهم إلى إنشاء نص متكامل مفيد .

وبعد أسبوع – في درس التعبير التالي – استمعنا إلى ما كتبه عدد من التلاميذ  في هذا الموضوع ، وكان من اللافت للنظر أن أحداً من التلاميذ الكسلانين يرفع يده مصراً على أن يكون من المشاركين – على غير العادة – فسررت لهذا التغير المفاجئ منه ، – وأنا مقتنع أن هناك من أعانه في كتابة موضوعه ، وقلت في نفسي : لا مانع من ذلك ، ولعلها بادرة خير لهذا التلميذ – وطلبت إليه أن يقرأ علينا موضوعه .

بدأ بقوله : إن الجنة تحت أقدام الأمهات ، وهي السبيل إلى رضاء الله سبحانه وتعالى ، وإن الوحدة والحرية والاشتراكية أمل الأمة في الوصول إلى بناء مجتمع حر كريم ينال فيه الإنسان المسحوق آماله وأمانيه ,,,,وووووو

وقرأ الطالب ما لا علاقة له بموضوع الأم لا من قريب ولا من بعيد ، وكأنه يلقي خطاباً لأحد المسؤولين في مناسبة وطنية من تلك المناسبات ( التاريخية ) التي كان يحفل بها عهد نور الدين الأتاسي الذي انقلب عليه حافظ الأسد بعد سنة واعتقله ورئيس وزرائه يوسف زعيّن وأركان دولته ، ثم بنى أمجاده على أنقاضهم ، واستمر في نهجهم الشمولي المتعفن .

نظر الطالب إليّ نظرة اللبيب الذي أتقن فن الكتابة والأديب ينتظر تقريظاً من أستاذه ودرجة تجبر كسره ، وترفع مستواه التحصيلي .

قلت للتلاميذ : لقد تعب رفيقكم في كتابة واجبه ، وعلى الرغم من كثرة أخطائه الإملائية والقرائية يستحق أن نشكره على ما قدّم ، والتفتّ إليه قائلاً :

 كم درجة تتوقع أن تنال من العلامة الكاملة ( العشرين ) ؟

قال : خمس عشرة درجة على الأفل يا أستاذ.

قلت : لو كنت تعمل نجاراً وطلب منك صاحب العمل أن تصنع كرسياً فصنعت طاولة هل تعتبر نفسك أديتَ المطلوب منك ؟

سكت التلميذ ولم بنبس ببنت شفة ، ولعله – كما أعرفه – لم بفهم مما قلته شيئاً .

قلت : يا ولدي ؛ لو أعطاك أبوك خمس ليرات وطلب إليك أن تشتري بها لحماً ، فاشتريت حذاءً ، أتراه يرضى عن تصرفاتك ؟

قال : لا ؛ ولكن ما علاقة هذا بالموضوع الذي قرأتُ؟ !

قلت : موضوعنا اليوم عن الأم ودورها في تربية أبنائها وواجبهم نحوها ، فهل كان موضوعك التعبيري كذلك؟ أم إنك كتبت موضوعاً آخر ؟

سكت التلميذ ، وجلس في مقعده ، ونال درجة الصفر .

وفي الفسحة جاءني مسؤوله الشبيبيّ يستفهم الأمر ، فطالب الشبيبة الجديد يدّعي أن أستاذه ظلمه حين بخسه حقه ، وافتأت عليه . فلما علم مسؤوله الحقيقة قال : نعلم من غبائه الكثير يا أستاذ .

قلت : فلماذا قبلتموه في صفوفكم؟!

قال " وهل يأتينا غير الأغبياء ؟!

قلت : سأختار من الفصلين اللذين أدرّسهما عشرة من أشد الطلاب كسلاً وأكثرهم ضعفاً.

وذكرت أسماء عشرة كان تسعة منهم منتسبين إلى سلك الشبيبة ،

وقلت مبتسماً : كيف غاب العاشر عن أعينكم ؟!!

ولا ننس بعدٌ أن القيادة الحزبية كانت تـُعد هؤلاء الصنف ليكونوا قادة المستقبل المضيء في سماء الوطن المنكوب .

              


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب   الآداب   قصة