(كان يطوى الطريق الساحلي في ذاك اليوم بسرعة على غير عادته، لاسيما وهو يسير بجانب من أحب صغيرا، وما يزال على عشقه مع تقدم السنين.. كان يسترق نظراته خاطفة بين الفينة والأخرى عندما أصابه ذهول لما رآه من حال حبيبه!.. خفف من سرعة موتوره حتى توقف تماما عن الحركة، ركنه إلى جانب الطريق، ترجل متقدما بخطى حثيثة نحو صديق عمره، محدقا صوبه، ثم اختار ربوة رملية جلس عليها.. لم يكن وحيدا، من حوله اكتشف كائنات كانت تطل بعينيها المثبتتين بقرني استشعار، ثم تعود بلمح البصر إلى جحورها في باطن الرمال الرخوة، لقد استشعرت الخوف من هذا الغريب الجالس جوارها.. امتدت أنامله تلتقط سيجارة من علبة سجائره المدسوسة في جيب سترته، لم يشأ إخراجها؟ كأنه أحس بخجل يعتريه، منعه أن ينفث دخانه فيعكر أجواءه النقية، فكف عن فكرته، وبدأ في مناجاته:

- ما بك يا صديقي قد كساك الحزن حلته باهته، هل أصابك وهن أم فجعتك مصيبة ألمت بك؟ فجعلك هكذا بلا حركة أو حيوية، أين أمواجك وهديرها؟ أين زبدك الذي يتوهج كالفضة في ليلة مقمرة؟ فترسل بضيائها إلهاما على عاشق يتلمس سحرك، فيفيض قلبه عشقا لحبيبه، أو يبصرها شاعر متيم، يتأهب لقصيدة حب وغرام، فتخرج منه كلمات الغزل في أبهى صورها..
- آآ ه، يتنهد.. يخرج زفيرا برائحة الطحالب النتنة: صدقت يا صاحبي، معك كل الحق فيما تقوله، لكنه حزن مؤقت، فقد أردتُها رسائل إلى كل عاقل يتدبر! أُلفت أنظار جميع من يمروا بجانبي، و أُحذر من القادم فيما لو استمريتم على عبثكم.. وما تفعلون بأنفسكم؟ .
- من نحن يا صاحبي؟ لا أفهمك! .
- أنتم البشر، ممن تقطنون خاصرتي المنهكة، الغارقة في قبليتكم وحزبيتكم المقيتة.
- قلى بربك، أخبرني كيف تعلم بكل مصائبنا وهمومنا، وأنت هنا قابع لا تبرح مكانك؟ كيف تسمع وترى؟.
- قهقه محتجا: كيف تقول هذا يا أحمد؟
- أتعلم اسمي أيضا! وقد احمرت وجنتاه، وبدت عليه علامات الاستغراب والاستهجان، شعر برجفة تسربت إلى معظم جسده، بينما صاحبه ما يزال ضاحكا، بنبرات الحزن التي بدت جلية على سطحه الساكن و الراكد كبركة من المياه، وعلى لونه الشاحب، الذي أخفى معالم سحره وجمال زرقته حين تكون السماء صافية، وذهبية برتقالية حين تمزجها أشعة الشمس قبل الغروب أوحين يكون الشفق بسحره الذي يخلب العقول.

استفاق من ذهوله وخجله من نفسه على صوت صاحبه يقول: أعلم أشياء كثيرة، وأمور لا تعلموها انتم البسطاء المستضعفين من الناس؟.
- كيف؟ قلى بربك، مكررا سؤاله وقد بدا عليه الارتباك والحيرة.
- لا تكن عجولا يا احمد، أتعلم بان الجميع يأتون إلى هنا، بقربى وعلى مسمعي، يُفضون بأسرارهم، يتهامسون لبعضهم بعضا، منهم الظلمة ومنهم المظلومين، يتحدثون بأمور كبيرة وأخرى صغيرة، أشياء خطيرة وأخرى تافهة لا قيمة لها، بعيدا عن العيون المختلسة، والأذان المسترقة، فأدرك ما يدور و يحدث، وما حل بكم.. وأحيانا استمع إلى مسئولين كبار، يهمسون بأشد الأسرار خطرا، حيث يختارون أماكنهم الأقرب إلى، معتقدين بان صخب وضجيج أمواجي، تَحْول دونهم و الآخرين من مسترقي السمع!.
- فهمت الآن يا صاحبي، أحس بوهج يلفح وجهي من شدة احمراره خجلا من نفسي، لهذا أقدم اعتذاري، فسامحني على غبائي، وقلة معرفتي، وضحالة تفكيري، لكن: متى تعود إلى وضعك وطبيعتك وحيويتك؟ لتمدنا بهوائك النقي الغنى بأكسجين حياتنا، فقد تشفى عقول قد فسدت، وأفكار قد تحجرت، فهي عقول تأبى النصح، وقد ضلت طريق الهداية.. فقد يصبحوا أكثر وعيا وإدراكا للمصائب التي تتأتى تباعا من صنيعة أياديهم..
- هذه مشيئة من يقيد جبروتي، انه ربى وربك يا احمد، والذي يحول دون أن ألتهم الأرض بمن عليها، فقد فسدت أكثرها من فسق وفجور أهلها .
- لكنك لم تخبرني كيف عرفت اسمي؟
- يبتسم متسائلا: ألا تأتى بصحبة أسرتك وأصدقائك فيندهون عليك؟ ألا تجلس دوما هنا لترسل برسائلك عبر أثيري؟ وتتلقى ردودها، ففي كل مرة يمر اسمك عبر الأثير، أسجله في ذاكرتي الشاسعة بلا نهايات.
- صدقت أيها الحكيم، فهل قبلت اعتذاري مرة ثانية عن سذاجتي وتسرعى، متمنيا عليك سعة صدرك الناجمة عن اتساع معرفتك بلا نهايات!.

يقاطعه صديقه البحر: اسمع.. عد غدا في نفس موعدك، أعدك بان تراني بحلة جديدة من النشاط والحيوية، سيعود لونى إلى زرقته التي تحبها، وستسمع هدير أمواجي، تتنفس نسماتي التي طالما استمتعت بها.. فتنفرج أساريرك، ويتبدد همك، ويعاد إليك صفاء ذهنك.. فعِدني بأنك ستكون في لباس جديد، من الفرح والأمل..حينها ستفهم طبيعة رسالتي الموجهة للبشر، كل البشر، لأنها الحكمة التي ستصلك، كما أريدها لكم أن تكون!!.


المراجع

diwanalarab.com

التصانيف

أدب   الآداب   قصة