الناس لا يعرفون اسمه الحقيقي، وكلّ ما يعرفونه أن اسمه منصور.. ينتمي إلى عائلة أُطلق عليها عائلة "الربيع". وأمّا تسميته بالمنصور فلها حكاية تعود بنا أحداثها إلى أيام صباه حين ألقى بنفسه بين ألسنة اللهب التي كانت تشتعل في بيت فيه ثلاثة أطفالٍ يصرخون ويستغيثون فاستطاع فعلاً إنقاذهم من الهلاك. وتكريمًا له فقد دُعي إلى ديوان المخترة فقلّده المختار بقلادة من نحاس كان قد أشتراها لنفسه خلال زيارته لمدينة يافا وتجواله في أسواقها، من تاجر يدعى منصورًا، ثمّ أطلق عليه اسم منصور. واسمه الحقيقي خالد. سمّاه والده بهذا الاسم تيمُّنًا ببطل اليرموك خالد بن الوليد كما يقول. كان أكبر أخويه سنًا وأفصح منهما لسانًا وأحفظ للجميل وأسرع إلى فعل الخير وأكثر حكمةً؛ وقد لاقى احترامًا ممن لا يعرف الاحترام. وزاد احترام الناس له خصوصًا بعد وفاة والدته. ووجد حُسن الاستقبال حتى عند الذين لا تطاوعهم أنفسهم على إكرام من لا يخصّهم. كما أن هؤلاء الذين لم يعملوا بنصيحة أحد، أصغوا إليه وعملوا بنصائحه. حضوره ملازمٌ لهيبته.. هيبته معقودة بناصية جديّته التي ورثها عن والده بعد أن رحل عن الدنيا وترك له كلّ أعباء إعالة أرملة مع ولديها الصغيرين. وجديّته هذه أكسبته الخبرة والمعرفة في آنٍ واحدٍ.
في تجارة أبيه، أخذ يعمل. وكروم الزيتون ظلّ يكترث بأمرها ويزورها باستمرار في أوقات فراغه. أمّا الأغنام فلا ينام عنها إلا إذا قدّم لها الطعام وأطعمها بيده الأعشاب الذي اعتاد على جمعها على ظهر دابته قبل عودته إلى البيت. وإذا طلع الفجر صلّاه حاضرًا ثمّ حلب الأغنام وجهّز الفطور قبل أن يستيقظ أهل البيت. آمن أن الإنسان يستطيع السكن في قلوب الناس ما دام محبًّا للناس ويمدّ لهم يد العون والمساعدة في ظلّ الظروف الصعبة التي يعيشها القرويون من أبناء هذه البلاد، لهذا فقد حرص كلّ الحرص على الإنفاق على الأسرة الصغيرة وتلبية احتياجاتها دونما تأخير. لكن الأرملة ظلّت تقذفه بتهمة التقصير وتشكوه إلى حسن تاجر الأغنام المعروف بغناه وكرمه، إلى أن خطبها تاجر الأغنام ذاته من والدها فتزوّجها وأُضيفت إلى حرمه. كان ذلك حين بلغ ابنها البكر "زيّان" الذي تفصله عن أخيه زاهر سنتان، السادسة عشرة من عمره..
كم مرّةً قدّم النصيحة لأخويه الشقيين ونهاهما عن إيذاء الناس والعبث في ممتلكاتهم، ثم تنبري أمهما قبل زواجها للدفاع عنهما فتهبّ في وجهه صائحةً فيه متّهمةً إيّاه بالغيرة منهما وبالحقد عليهما وأنّه يخطط للسيطرة على إرث والده لوحده.. كم مرّة قال له رجال من القرية إنّه لولاه ولولا معزّته على قلوبهم واحترامهم الكبير له، لنكّلوا بهما جزاءً لهما على أعمالهما الشنيعة. وكان حين يسمع هذا الكلام ينتابه الحرج وتأخذه الحيرة من حيث لا يدري، فينأى بنفسه عن الناس حفاظًا لماء وجهه بعد أن قطع عليهم العهد بمحاولة ترويضهما والعيش بين الناس بكرامةٍ واعتزازٍ كامليْن.
قال له موسى الظاهر ذات يوم، وهو من أبناء عمومة والده من عائلة «الربيع» أيضًا، وكان هائجًا متوعّدًا:
يا أخي! هل تشعر أن أخويْك هذين ليسا من صُلب أبيك؟ لماذا لا تلجمهما كما يلجم الفارس فرسه وتكف شرهما عن الناس؟
هدّئ من روعك يا رجل وأخبرني كلّ ما حصل؟
لقد بلغ السيل الزبى.. تصوّر لقد أقدما على شنق حماري الذي تركته يرعى قرب بئر الحيّات. هذا الحمار هو بمثابة رجلي ويدي اليمنى به أقضي كل شأني.. أيّ جنس من البشر هذان المخلوقان؟ ألا يوجد في قلوبهم رحمة؟ لقد كلّفني ثمن هذا الحمار ثلاثين دينارًا حين اشتريته. وأنا لا أقبل الآن بأقلّ من مائة دينارٍ تعويضًا لي على انتهاك حرمة أرضي وعلى الضرر الذي لحق بملكي، ثم أنا أقبل بما يحكم بيننا المختار.
وصدر حكم المختار الذي عقد جلسة طارئة على أثر هذه الحادثة، على وليّ أمر المتهميْن مع حضور لفيف من وجهاء القرية، بدفع غرامة باهظةٍ قدرها مائة وعشرون دينارًا عدًّا ونقدًا، وهي ربع ما ادّخره على مدار خمس سنوات، دفعها طائعًا صاغرًا دون أن ينبس بكلمةٍ.
هذه الحادثة تركت أثرًا كبيرًا في نفس منصور، عاد إلى بيته وهو يحسّ أن ما كان يصبو إليه صار حلمًا وهو آخذٌ في الضياع شيئًا فشيئًا. وابنة المختار نفيسة التي يرنو إليها صارت بعيدة المنال. أخذته إغفاءة في النفس وجولة قصيرة في الخيال رأى خلالها المختار يطرده من بيته ويصيح فيه قائلاً:
أنت لست أهلاً للنسب.. ثم تخيّل ما نفّذه أخواه من عمل قاسٍ بحمار موسى دون رأفة أو إدراكٍ بسوء العمل.
مرّ على هذه الحادثة عشرون شهرًا وهي بالنسبة له مؤشر واضح على خطرٍ قريبٍ قد يداهمه من جديدٍ. وأي حماقة يرتكبها أحدهما قد تنعكس سلبًا عليهم جميعًا. والعُرف لا يميز الخبيث من الطيب بين أبناء البيت الواحد. لم يستطع أن يتبرأ منهما ومن شرّهما. كلّما شكاهما إليه أحدٌ تذكّر أمّهما وانشغالها بأسرتها الجديدة وأطفالها الصغار. الخطر لا يبعد عنه كثيرًا وصار يحسّ بوجوده في أفق قريب يُتَوَقَّعُ حدوثه في كل لحظةٍ. أخذ يدعو الله كلّ يومٍ في صلواته لهما الهداية وحسن الخاتمة.
كعادته كان منصورٌ منهمكًا في عمله. تناول غداءه وصلّى الظهر قبل ساعةٍ. أصواتٌ غريبةٌ وجلبة رجالٍ يصل صداها إلى مسامعه تنبعث من مكان واحدٍ.. بيوت القرية. كان يقتلع الأعشاب من تحت أشجار الزيتون ويجمعها في مكانٍ واحدٍ، فإذا برجل يأتيه إلى الكَرْمِ من ناحية البيوت من الجهة الشرقية، مناديًا إياه بصوتٍ رخيمٍ ومن بعيدٍ. نظر فعرفه من عرجته، ولكن منظره يوحي أن الأمر جلل.. هذا هو "مأمون الأعرج" سفير المختار ومساعده، لا بد أنه يحمل أخبارًا سيئةً. وصل الرجل لاهثًا وقال متمتمًا:
المختار.. يأمرك.. بمغادرة القرية.. فورًا.. قبل أن تحلّ الكارثة بك فتكون أنت الضحيّة لثأرٍ غير متوقعٍ. انجُ بجلدك حالاً! أخواك زيّان و زاهر ارتكبا جريمة قتل وقد اختفيا عن الدنيا والناس غاضبون هائجون وقد أحرقوا بيتكم. إن أمسكوا بك فلن يرحموك. هيا أسرع يا رجل!!
ركب الرجل دابته وأخذ يحثّها على السير باتجاه الغرب بقلبٍ خافقٍ ونفسٍ خائفةٍ، ونظراتٍ حذرةٍ.