ريحانتي
كعادتها في ضُحى كلِّ يوم ... وضعت
صغيرَها الوحيد ( فاديا ) الذي لم يتجاوز السابعة من عمره في حضنِها ، لتضمَّه
إلى صدرها الحنون ، وتقبلَه وتداعبه وتغني له :
سـيـأتـي الغائبُ iiالغالي
وأبـشـرْ أنـتَ iiيـاولدي
فـخـالـدُ لـم يزلْ شهمًا
بُـنَـيَّ أبـوكَ iiلايـنـسى
فـيـامولايَ ... iiوارحمْنا
|
|
فـمـا ( يـافـادِ ) iiجافانا
ولا تـحـزنْ لِـمـا iiكانا
وبـالـتـحـنـانِ iiأولانا
بـرغـمِ الـبـعـدِ iiلقيانا
وخفِّفْ ــ ربِّ ــ بلوانا
|
ولا يقطعُ عليها مشوار أنشودتها إلا صوتُ طرقات البابِ بيدِ جارتها الوفية الحانية
( أُم معقل ) . قبَّلتْ صغيرها وتركته جانبا ، وهرعت شطر البابِ تمسح من دموعٍ
تحدَّرت بصمتٍ على وجنتيها ، لتجدَ جارتَها تلقي عليها تحيتها النَّدية المعهودة ،
فرحَّبتْ بها وأنزلتها مكانتها في قلبها قبل أن تأخذ مكانها المعهود أيضا في الغرفة
، فقد كانت تروِّح عنها الكثير من آثار المعاناة ، وتقرِّب لها ما بّعُدَ من الأمل
المرجو ، فترتاح نفسُها ، ويطمئن قلبُها ، وتغشى السكينةُ أحناءَها المتأججة بنار
غربتها عن الأهل ، وبجمر معاناتها من تصرفات زوجها الذي جرَّه رفاقُ السوءِ إلى
مستنقعات المخدرات ، التي أودعته السجن عندما ... ؟!
كيف حالُك اليوم ( يا أُم فادي ) ؟
سؤال يتكرر في كلِّ زيارة ، ولكنه ممزوج بالجديد من حرارة المودة والوفاء ، فيأتي
جديدا محمولا على أجنحة ابتسامة ( أُم معقل ) ، ويأتي مشرقا رغم ظلمة الأكدار التي
تحدق ( بأُم فادي ) على مدى أكثر من عام . أجابت : بخير من الله يأُختي ، وصدقيني
( ياأُم معقل ) حين أقول يا أختي فإني أعني واللهِ ما أقول ، فأنت عوَّضتني بحنانك
ومودتك و وفائك عن حنان ومودة أمي وأخواتي رغم بعد المسافات التي بيني وبينهم .
ضمَّتْها ( أُم معقل ) وقالت : لاتقولي هذا يا أختي ، فوالله إنك لأختي ، بل لم
أعدْ أزور أمي وأخواتي اللواتي يعشْن معي في بلدتنا هذه بقدر ما أزورُك ، والحمد
لله الذي أكرمني بمعرفتك ، وأنت الطاهرة الذاكرة لله ، القارئة للقرآن ، الصابرة
على قضاء الله ، البعيدة عن مجالس الغيبة والنميمة ... ومن أين لي بمثلك ، والله
إني لأُحبُّك في الله ، وأسأل الله تعالى أن يفرج كربَك ، ويهيئ أسباب الفرج لزوجك
، ويعود إلى بيته مباركا معافى بإذن الله . ردَّت ( أُم معقل ) : يعود إلى بيته ...
وما الفائدة إذا عاد وهو يحمل عادته السيئة ، ويملأ جيبَه من الحبوب المخدرة
القبيحة ، ألتعود ليالي الرعب والنكد التي كنتُ أُعاني منها !!! ردَّت ( أم معقل ))
: لا . لاتقولي هذا ( يا أُم فادي ) ، ثقي بالله ، واسأليه أن يتوب على خالد
وأمثاله من المسلمين ، وأن يهيئ له أسباب الخلاص من هذه الورطة ، فالكثير من أمثاله
دخلوا أسواق الموبقات والمخدرات ، ثمَّ تابوا وأصلح اللهُ شأنَهم ، وصاروا من أفضل
الناس ، وليس ببعيد عن أُذُنيك خبرُ جارِنا ( أبي سعد ) الذي طارت أخبارُ مزالقه في
الآفاق كما تعلمين ، وهو اليوم كما أخبرني ( أبو معقل ) من رواد الصف الأول في
جماعة مسجد الحي المجاور . وعاد من أفضل معلمي المدرسة قدرةً وإخلاصا . تنهدت (
أُمُّ فادي ) وقالت : صحيح ... صحيح عسى اللهُ أن يجعل لي فرجا ومخرجا ، ويخرج (
خالدًا ) من السجن معافى تائبًا ، ولعل الله ينهي حالةَ بثِّي وحزني التي لايعلم
بها إلا الله ثمَّ أنت ( يا أُمَّ معقل ) وبكت ، فعانقتها جارتُها الودود بحرارة
خفَّفتْ عنها الكثير من المعاناة .
ويطرقُ بابُ الدارِ مرة أخرى ، وما أقل
طرق بابِ ( أبي فادي ) بعد غيابه ، وإذا بصوت زوجة أخي خالد خلف الباب :فادي ...
فادي افتح الباب لعمك يافادي . وتفتح الباب ، استأذنت ( أُمُّ معقل ) فشكرتها
جارتُها قائلةً : عودي ... عودي ... أجابتْها : أجل ، لستُ ببعيدة مبتسمةً لها
مرددةً : سأعود . وتركتْ الضيفين وقد جاءا من مكان بعيد في زيارتهما المعتادة في
عطلة الأسبوع .اطمأن الأخ على أسرة أخيه ، وخرج ومعه ( فادي ) لشراء بعض حاجات
المنزل التي اعتاد أن يشتريها كلَّ أسبوع . واختلت زوجةُ الأخ بأخت زوجها ،
ليتجاذبا أطراف الحديث ، وليسوقهما إلى ما قبل خروج خالد من دائرة الطهارة
والمسؤولية إلى مستنقع الأذى والشرور ، فأكَّدت لها ( أُمُّ فادي ) وفاء زوجها
ومودته لها ، وأنهما كانا على أحسن حال من السعادة والاستقرار ، وأنها عاشت لزوجِها
بكل حياتها ، وأنها كانت الحافظة له في نفسها وماله ، وأنها ماتبرجت ولا لبست محاسن
ثيابِها وجميل حليها إلا له ، ولا صامت تطوعا إلا بإذنه ، وإني والله برغم ماجرى لن
أنسى مودته لي وإكرامه وحسن عشرته قبل أن يجره الرفاقُ المجرمون في حقه وحق أنفسِهم
. لقد كان يسرع لإرضائي إن حصل سوء تفاهم ، وكان يردد قول النبيِّ صلى الله عليه
وسلم : ( لايفرك مؤمنٌ مومنةً ، إن كره منها خُلُقًا رضي منها خُلُقًا آخر ) ولا
أنسى مباسطته لي بعد غضب وقولَه : عندك ألفُ خُلُقٍ طيبٍ لايكدرها أبدا زعلٌ طارئٌ
، فنضحك وننسى ماكان . تبسمت زوجةُ أخيها ، وعانقتها وقالت : عسى اللهُ أن يقرِّبَ
الفرجَ ، ويأتيك ( أبو فادي ) فتطيب الليالي وتعود الأيام أحسن مما كانت . وأن يبعد
عنه رفاقَ السوء ، ويرزقه العزيمة والهمة ، قاطعتْها ( أُمُّ فادي ) قائلةً : آمين
... آمين لعلَّ الله ... إنَّ ربي لطيف عليم . كم كنتُ أتمنًَّى أن تسبق همتُه في
الخير ، وأن يفوز بأسباب رضوان الله ، وينأى عن مزالق الشيطان ، ويحمي نفسَه وبيتَه
وصغيرَه الوحيد فادي ، فادي الذي لم يستوعب مايدور حوله ، ولا أرى إلا عينيه
الحائرتين بين أولاد الجيران الذين يصطحبون آباءَهم في الليل وفي النهار .قضى أخوها
وزوجته لديها يومي العطلة الأسبوعية ، ثمَّ غادرا ، لتغلقَ البابَ ( أُمُّ فادي )
خلفهما ، وتقر في بيتها تكلؤُها عنايةُ الله عزَّ وجلَّ . ترعى طفلها وترجو ربَّها
، وتستأنس برعاية الله لها .
وفي أواخر الثلث الأخير من الليل ارتفع
صوت أذان الفجر من مسجد الحيِّ ، فهبت كعادتها من فراشها ، وتوضأت لتؤدي صلاة الصبح
، ويقف إلى جانبها طفلُها يعمل كما تعمل والدتُه ، ويرفع يديه إلى السماء كما ترفع
يديها إلى الله طالبة منه العون والفرج . ثم تفتح كتاب الله لتقرأ جزءَها اليومي ،
وربما أغلقت مصحفَها على مكان ماوصلت إليه في تلاوتها لتستمع إلى مكبِّر الصوت
لقراءة الإمام وهو يتلو قوله تعالى : ( وقَرْنَ في بيوتِكُنَّ ، ولا تبرَّجْنَ
تبرُّجَ الجاهلية الأولى ، وأقمْنَ الصلاةَ ، وآتين الزكاة ، وأطعْنَ اللهَ ورسولَه
... ) 33/ الأحزاب ، فتهز رأسَها : أنْ نعم ... ثمَّ تتابع قراءتها في مصحفها ،
ولقد كان ( فادي ) يسألها أسئلة غريبة عجيبة ، فترد عليه بحسب علمها ، وعلى قدر
فهم صغيرِها ، وبما يمكن أن يقنعه . سألها مرة لماذا لايصلي أبي في المسجد ؟ قالت :
إنَّ أباك الآن غير موجود ، وعند عودته إلينا سيصلي في المسجد ــ إن شاء الله ــ
وردَّ الصغير من خلال وعيه بما يسمع ويعايش : إيش يعمل في السجن ؟ قالت : يأكل كما
نأكل ويشرب وينام . قال فادي : ويصلي في المسجد . قالت : نعم يصلي في مسجد السجن .
قال : أريد أن أراه يصلي في هذا المسجد ــ وأشار حيثُ مسجد الحي ــ مثل آباء ...
وراح يعدد أسماء بعض أولاد الجيران ، ألم أقلْ لك :
سيأتي الغائبُ
الغالي فما ( يافادِ ) جافانا
وأبشرْ أنتَ يا ولدي
ولا تحزنْ لِما كانا
هيَّا قُمْ معي لنجهز طعام الإفطار
يافادي . وتمر الأيامُ ثقيلة ، تتخللها ومضاتُ أُنس حين دخول جارتها عليها ،وحين
قدوم أحد من أهلها ، وذات يوم طُرقَ بابُ الدار في ساعةٍ متأخرة من الليل ،
استيقظتْ فزعةً ، يارب ... يارب ... ليس من طارق في مثل هذه الساعة . الباب محكم
الإغلاق ، الجيران يحيطون بالبيت من كل الجهات ، وكلهم أولو دين وأخلاق ومروءة ،
وازداد الطرقُ على الباب ، مع صوت خافت ينادي : فادي ... فادي أنا أبوك خالد افتح
الباب يابني ، سمعت صوتَ زوجها الذي لاتنكره ، استجمعت قواها وإيمانها بالله ،
وفتحت الباب وإذا بزوجها الغائب قد عاد ، ولم يعرفا كيف انسل من بينهما ولدهما (
فادي ) وتعلق بأبيه يعانقه و يقبله ، ويبادله الأب بنفس الشوق والمودة ، واختُتمتْ
صفحةُ القلق والألم والخوف ، وعادت الأيام كما بدأت على مافي بيوت المسلمين من أمن
وسكينة ومحبة و وئام .
وأخبار الخير تنشرها الأنفاس إذ فصلتْ
عيرُ الفرج ، وتجاوزت ظلمات الأكدار . واجتمع الجيران في غرفة الضيوف يهنئون ( أبا
فادي ) بسلامة العودة ، ويدعون له بالخير والتوفيق ، ولم يزل الأهل والأصحاب
يتوافدون مسلمين و مهنئين ، وكانت ( أُم فادي ) تخشى من عودة رفاق السوء من شياطين
الإنس ، وتدعو الله سبحانه أن يقي زوجَها من شرورهم ، ويهيئ له أسباب توبة نصوح .
ويعود ( خالد ) معلما إلى المدرسة كما كان ، وعينا زوجته تتعلقان بأطياف الأمل في
إقلاعه عن ذميم العادات ، وقبيح الصفات . وفي يوم الجمعة استيقظ ( أبو فادي ) من
نومة القيلولة ، وينظر حوله فلا يجد إلا زوجته ، وأما ( فادي ) فغير موجود ، نادى
زوجته : أين فادي ؟ جلست تمسح عن عينيها آثار النوم ، وتنظر هنا وهناك ، وهبت إلى
غرف المنزل ، فلم تجد صغيرها ، لعله في الشارع ياخالد ... خرج مسرعا ينادي فادي ...
فادي ... ولكن لاأحد يجيب ، أين صغيرُنا ؟ ركض باتجاه المدرسة ملهوفا ، وعرَّج شطر
دار صديقه ( أبي الهيثم ) مضطربا ، وعاود السعي باتجاه السوق حيث كان يصطحب ولدَه
معه بعض الأحيان ، لم يجد أحدا ، دارت في رأسه الظنون التي تدور في رأس زوجته
المتلهفة بين جدران البيت مع جارتها ( أم معقل ) ، طال البحث ساعة ، وساعة ...
وخارت قوى خالد ، وكادت عزيمته أن تخور ، ويرتفع صوت أذان العصرو الذي ربما لايعني(أبا
فادي ) فهو ليس من رواد المساجد ولا من أهل الصلاة . تابع بحثَه دون جدوى ، وعزم أن
يخبر الشرطة للمساعدة ، وفي طريق عودته إلى المخفر لمح دراجة فادي الهوائية على باب
مسجد الحيِّ ، فطار قلبُه فرحا ، واندفع نحو المسجد لعل ولده جاء ليشرب الماء أو
يلعب مع الأولاد في ظل أشجار المسجد ، كانت باحة المسجد خالية من الصغار ، دخل بلا
وعي حرم المسجد ، وكان المصلون يتحلقون حول الشيخ يستمعون لدرسه الأسبوعي يوم
الجمعة بعد صلاة العصر ، فأبصر ولده جالسا في الحلقة يصغي إلى كلمات الشيخ ، فلم
يحر الأب كلاما ، وذُهل ، وخجل ، وأُلجمَ ، وجلس إلى جانب صغيره لايعرف ماذا يقول
. التفت الصغير فجأة فرأى أباه ، فألقى بنفسِه عليه وهو ينادي أبي أبي ... استرعى
صوتُ الطفل ومنظرُ معانقته لوالده انتباهَ الحاضرين ، ونظر الشيخ تجاه الرجل يريد
أن يعرف ماذا جرى . فوقف خالد وقال : لاتعجبوا يا إخواني هذا ولدي فادي افتقدته ،
وبحثت عنه لأكثر من ساعتين في هذه القيلولة ، وخفتُ أن يكون قد حدث له أمرٌ ، ثمَّ
وجدته هنا معكم ، في هذا المسجد المبارك ، وكان الأولى بي أن أكون من رواده ومن أهل
الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر والمخدرات ، ولقد سبقني صغيري فلذةُ كبدي إليه
، بل قادني إليه بقدر الله . وإني أُشهدكم في هذه الساعة المباركة على التوبة ،
وعلى هجري لكل ماحرَّم الله . وقف الشيخ وهنَّأ خالدًا على توبته ، وعلى وجود ولده
في بيت الله ، وقال : هذا ياأخي ريحانتك في الدنيا وأسأل الله أن يكون خيرا لك في
آخرتك ، قال خالد : جزاك الله خيرا ، وأثابك ورفع قدْرَكَ . وحمل الأبُ ريحانته على
صدره يضمُّه إليه ويقبله ويدعو له ، ويعود إلى البيت ليجد الأم مع بعض الجارات
يتفطر قلبُها أسى وخوفا على صغيرِها ، وما أن رأيْنَه حتى انهالت التهاني ثانية على
( أُم فادي ) بعودة الوالد والولد ، وانصرفْنَ إلى بيوتهن ، لتجد ( أُمُّ فادي )
نفسَها بين زوج تائبٍ نادم على مافرَّط في حقها وحق نفسه ، وبين صغيرها الذي تلمح
بين عينيه علائم النجابة والذكاء ، والذي وقف على منضدة في وسط الغرفة ليردد :
فـخـالدُ لم يزلْ شهمًا
بُـنَـيَّ أبـوك iiلاينسَى
فيامولايَ ... iiوارحمْنا
|
|
وبـالـخـيراتِ iiأولانا
بـرغـمِ الـبعدِ iiلُقيانا
وخفِّفْ ـ ربِّ ـ بلوانا
|
ويقفز ( فادي) من على المنضدة ليجمع
بيديه الغضتين أباه وأُمه ،و لتبدأ رحلة السعادة المنزلية من جديد .