جُحا (60 - 160هـ، 680 - 777م). جحا شخصية فكاهية حقيقية، لكنها سرعان ما انفصلت عن واقعها التاريخي، وأصبحت رمزًا فنيًا، ونموذجًا نمطيًا للفكاهة في التراث العربي. ومن هنا قيل على لسانه آلاف النوادر أو الحكايات المرحة، على مر العصور. لقد نسي الناس جذوره التاريخية، ولكنهم لم ولن ينسوا أبدًا أسلوبه الضاحك وفلسفته الساخرة.
وعلى الرغم من كثرة أعلام الفكاهة في التراث العربي، فإن جحا يبقى أشهر شخصية نمطية فكاهية، لاتزال حيّة فاعلة ـ حتى اليوم ـ في الذاكرة الجمعية العربية، الأدبية والفولكلورية والثقافية. وشهرته الفنيِّة لا تلغي الدور التاريخي الذي يؤكد أن جحا شخصية حقيقية. فهو أبو الغصن دُجَيْن بن ثابت الفزاري، ولقبه جحا، وقد عرف بين معاصريه بالطيبة والتسامح الشديدين، وأنه كان بالغ الذكاء، وتنطوي شخصيته على قدر كبير من السخرية والفكاهة. ووسيلته إلى ذلك ادّعاء الحمق والجنون، أو بالأحرى التحامق والتباله في مواجهته لصغائر الأمور اليومية، استعلاء منه على حياة فانية، وشعورًا بعبثية الصراع الدنيوي، وإحساسًا بالجانب المأساوي للوجود الإنساني (الموت) في وقت معًا. ولذلك لا غرو أن يعمّر جحا، وأن يعيش مائة سنة، كما يقول الجاحظ. وقد شهدت الفترة التاريخية التي عاصرها جحا أحداثًا جسامًا كان لها أبعد الأثر في أسلوبه وفلسفته في الحياة والتعبير، منها مأساة السقوط الدموي للدولة الأموية، وهيمنة الدولة العباسية ـ بقوة السيف ـ على مقدرات الأمور العربية الإسلامية، وسط مناخ ثقافي حافل آنذاك بالصراع السياسي والعسكري والمذهبي والعرقي.
وفي مثل هذه الظروف التاريخية الاجتماعية حدث أن استدعى أبو مسلم الخراساني ـ عندما نزل الكوفة ـ جحا لشهرته، عسى أن يظفر منه بطرفة أو فكاهة في خضم حروبه الدموية، فخشي جحا على نفسه، وادعى الحمق والجنون في حضرته. وبالرغم من ذلك فقد أعجب به أبو مسلم، وحدث عنه الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور، الذي بادر فاستدعاه إلى دار الخلافة في بغداد لعله يصلح نديمًا أو مضحكًا (مهرجًا) في بلاطه. وقد أدرك جحا عاقبة مثل هذا الدور وهامشيته ومخاطره وقيوده، فما هو بمهرج وما ينبغي له أن يكون كذلك. فتمادى في ادعائه الحمق والجنون حتى أفرج عنه المنصور بعد أن أجزل له العطاء. وكان لمثل هذا اللقاء أثره البالغ أيضًا في ازدياد شهرته، وطلب الناس له في مجالسهم، والإغداق عليه. وهم سعداء به وبنوادره، وبرؤيته الساخرة للحياة والأحياء جميعًا، وهنا قال جحا قولته الساخرة المشهورة: "حُمْق يعولني خيرٌ من عقلٍ أعوله".
ومن الطريف الدال على أن جحا استمرأ هذا الأمر ـ التغابي أو التحامق ـ ما دام يعفيه من تبعات الناس، ويتيح له قدرًا كبيرًا من الشجاعة في قول الحق، وحكمة الرأي وأن يكون صريحًا في التعبير عن نفسه، أنه دائمًا يستسلم لرغباته في لحظاته، وإنْ اتهمه الناس بالحمق والجنون ـ فليس ثمة عندئذ من حرج ـ مما يجعله بريئًا من الخوف أو الكبت وقادرًا على قول "المسكوت عنه" دائمًا، اجتماعيًا وأخلاقيًا وسياسيًا وإنسانيًا.
وشرع اسمه يتردد في أدبيات القرنين الثاني والثالث للهجرة، مقرونًا ببعض النوادر، كما ذكر الجاحظ، ولكن ما نكاد نصل إلى القرن الرابع الهجري حتى تكون نوادره المتواترة شفهيًا قد عرفت طريقها إلى التدوين في أسواق الوراقين باسم كتاب نوادر جحا الذي كان من الكتب المرغوب فيها على حد تعبير ابن النديم في الفهرست. ومن أقدم التراجم التاريخية التي وصلت إلينا عن جحا، تلك الترجمة الضافية التي ذكرها الآبي (المتوفي سنة 421هـ، 1030م) في موسوعته نثر الدرر. ثم توالت التراجم له في كثير من المصادر الأدبية والتاريخية اللاحقة. وعلى الرغم من أنها أجمعت على الوجود التاريخي لهذه الشخصية، فإنها أنكرت عليه كل ما روي عنه من نوادر بلغت من الكثرة حدًا يستحيل ـ زمانًا ومكانًا ـ أن تكون جميعًا متصلة به، بل ذكر الآبي صراحة: "أن له جيرانًا كانوا يضعون عليه هذه النوادر" أي يؤلفونها وينسبونها إليه، بل أضافوا إليه أيضًا ـ كما يقول ـ نوادر غيره من نوادر الحمقى والمغفلين والأذكياء وعقلاء المجانين وأمثالها من النوادر الذائعة في التراث العربي.
وهذا يعني أن الوجدان الشعبي العربي قد انتخب جحا رمزًا لكل ضروب الفكاهة، خاصة بعد أن تَزيَّدَ الناس عليه، فنسبوا إليه، على مر العصور، آلاف النوادر حتى ليقول عباس محمود العقاد في كتابه جحا الضاحك المضحك عبارة طريفة ذات دلالة، هي أن جحا لو تفرغ في حياته لصناعة النوادر التي نسبت إليه، لمات قبل أن تنفد روايتها أو ينتهي هو من إبداعها. ومعني هذا أن جحا انفصل عن واقعه التاريخي وتحول إلى رمز فني استقطب معظم ما قيل من نوادر التراث العربي، الذائعة، وما أكثرها! بل شرع الشعب العربي، على تعدد أقطاره، يؤلف ما يؤلف من نوادر وينسبها إلى جحا على مر العصور.
وهذا يعني أن المأثور الجحوي الذي لايزال يتنامى حتى اليوم، لم يكن ـ بداهة ـ من تأليف جحا أو إبداعه، بل كان تعبيرًا جَمْعِيّاً من إبداع الشعب العربي بعامة، ترسيبًا للتجربة ونزوعًا إلى السمر في وقت ما. فأعلن المجتمع الشعبي على لسان جحا تأملاته في الحياة والأحياء، وجسّد تصوراته السياسية والاجتماعية والدينية، بما في ذلك "المسكوت عنه" وصاغ رؤيته للعالم، ونظرته للقيم والمثل العليا، كما ينبغي أن تكون، وذلك في صياغة أدبية جمالية، ذات قالب سردي أو شكل فني متميز هو فن الحكاية المرحة أو ما عرف في تراثنا الأدبي باسم النوادر.
غير أن النقلة النوعية الكبرى في حياة النموذج الجحوي تحققت في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، عندما دخل العرب تحت السيادة العثمانية، حيث استهوى الأتراك آنذاك هذا النموذج الجحوي العربي، فقاموا بنقل نوادره وترجمتها إلى التركية، ونسبتها إلى شخصية تركية شبيهة بالنموذج العربي، اشتهرت أيضًا بميلها للدعابة، وجنوحها إلي السخرية، وحبها للفكاهة، هي شخصية الخوجة نصر الدين، الذي كان معلمًا وفقيهًا وقاضيًا. وقد قُدّر له أن يلتقي ـ تاريخيًا ـ بتيمورلنك الطاغية المعروف؛ وأن تكون بينهما من المواقف والطرائف ما يعكس حمق هذا الطاغية وظلمه وجبروته ضد المستضعفين أفرادًا وجماعات.
وفي ضوء اتصال الثقافتين الإيرانية والتركية إبان العصور الوسطى، ادّعى الإيرانيون أيضًا لأنفسهم هذه الشخصية، وأطلقوا عليها اسم المُلاَّ نصر الدين وزعموا أنها إيرانية لا تركية، ونسبوا إليها النوادر الجحوية، التركية والعربية معًا، فازدادت هذه الشخصية الفكاهية ثراء وشهرة وذيوعًا في تركيا وإيران، إلى جانب شهرته العربية بطبيعة الحال لكونه النموذج الأصل. وغدت هذه النماذج الجحوية الثلاثة جزءًا من التراث الشعبي الإسلامي،
وعبر هذا التراث ـ عربيًا وتركيًا وفارسيًا ـ استطاع جحا العربي أن يعرف طريقه، باسمه وبنوادره معًا أو بنوادره دون اسمه، إلى الآداب العالمية، خاصة في إفريقيا وأوروبا وروسيا وبلاد البلقان والصين وغيرها. وذلك في الوقت الذي تجاهلت فيه ثقافتنا الرسمية السائدة حديثًا هذا النموذج الفني الإنساني، وغابت عنا أصوله العربية خاصة عندما شرع الناشرون العرب في طباعة كتب التراث العربي، فذكروا في فهارسها ـ كلما ذكر جحا العربي ـ أنه المعروف باسم الخوجة نصر الدين. ولما جمعوا هذه النوادر في كتب مستقلة أذاعوها بين الناس تحت عنوان نوادر جحا الكبرى الشهير بنصرالدين خوجة إما جهلاً بأصوله العربية ونوادره الذائعة في كتب التراث العربي المدونة قبل ظهور الدولة العثمانية ذاتها، وهو الأرجح، وإما مجاملة لثقافة الطبقة التركية السائدة خلال القرون الأربعة الأخيرة التي كان العالم العربي فيها تابعًا للخلافة العثمانية.
ولما كان المجتمع الشعبي العربي لا يحفل بتراثه الشعبي إلا بقدر ما يحقق له هذا التراث من وظائف حيوية، فكرية وجمالية، فإنه ظل يردد ـ في موروثه الشعبي الشفهي ـ نوادر النموذج الجحوي العربي، بل صار كل قطر عربي يدعيه لنفسه، حتى بات هناك جحا المصري، وجحا الليبي، وجحا السوري، وجحا العراقي، وهكذا. واختلط الأمر على المثقفين العرب، ودبّجوا الكتب والمقالات في جحا الإقليمي، دون أن ينتبهوا أو يتبينوا أصوله العربية القومية الأساس. لكن الدراسات الفولكلورية المعاصرة أثبتت أنه ما من قطر عربي إلا وعرف النموذج الجحوي (العربي / القومي) بسَمْتِه وملامحه، وأسلوبه وفلسفته في الحياة والتعبير،
فعرف فيه "صمام أمان وعصا توازن" في خضم تحدياته ومعوقاته ـ وتمثْلَ نوادره زادًا فنيًا ونفسيًا بعيد الأثر قد يدفعه إلى الابتسام والسخرية، وقد يدفعه إلى الضحك والدعابة، لما فيها من انحراف عن المألوف أو تلاعب باللفظ أو خطأ في القياس. ولكننا لو تجاوزنا قشرتها الخارجية، وتأملناها من الداخل لوجدناها وسيلة حيوية من وسائل الدفاع عن الذات العامة، مؤكدة ـ بالتناقض الظاهر أو الخفي ـ القيم الإنسانية العليا، والغايات القومية، التي تعمل الجماعة أو الأمة العربية على تحقيقها. وهذا الدور الوظيفي للنوادر في الثقافة الشفهية أقرب ما يكون إلى الدور الذي يلعبه الكاريكاتير المعاصر، في الثقافة والصحافة المعاصرة.
وتتمثل عبقرية "الفلسفة الجحوية" أو بالأحرى عبقرية الشعب العربي الذي أبدع هذه الشخصية الجحوية، في أمرين: أحدهما في أسلوب هذه الشخصية في المواجهة، حين اكتشفت بعبقريتها أن الماسأة يمكن أن تتحول إلى ملهاة، في ضوء الحالة النفسية التي نواجه منها وقائع وأعباء الحياة، فاندماج الإنسان ـ كما نعلم ـ في بؤرة الحدث أو الموقف يضنيه، وخروجه منه وفرجته به يسري عنه، وقد يضحكه، وهكذا استطاع جحا أن يكابد الحياة، ويضطرب فيها، وأن يخلق من نفسه شخصًا آخر بعيدًا عن الأول، يتفرج به ويسخر منه.
وهكذا تحولت المآسي عنده إلى طرائف وملح ـ ذات طابع إنساني ـ تخفف عنه وتسري عن أفراد الشعب العربي تأسيًا به، الأمر الذي دفع الوجدان الشعبي إلى أن يسلك جحا ـ الواقع والرمز ـ مسلك الحكماء، في تعبيره الفني والأدبي. والآخر، في "تنميط" هذه الشخصية. فلم يكن الحمق أو الغباء السمة الغالبة عليه، ولكنه التحامق أو الذكاء الباحث عن جوهر الحقيقة. ولهذا لم يكن جحا مخبولاً أو ناقص العقل ـ كما يتوهم ـ ولكنه كان الإنسان الذي يتناول الأمور ـ مهما بدت معقدة أو تظاهرنا نحن بتعقيدها ـ من أقرب الزوايا إلى الحق والواقع، فيبدو مناقضًا لصنيع الآخرين الذين لا يتصورون الحق قريبًا ويمدون أبصارهم إلى بعيد.
وقد ذهب القدماء إلى تصنيف نوادر جحا المدونة إلى قسمين كبيرين، أحدهما نوادر الحمق والجنون ـ حيث الحمق أو الجنون هنا تعبير دلالي يستدعي نقيضه (فضيلة الذكاء والتعقل)، أو لغة إرشادية دالة تبوح بالمسكوت عنه (من حماقات الناس). والآخر نوادر الذكاء. ولكن المحدثين ذهبوا إلى تصنيف المأثور الجحوي الشفاهي والكتابي، طبقًا لمحتواه الدلالي: فهناك النوادر السياسية التي تتناول علاقة المجتمع الشعبي بالسلطة الحاكمة (السلطان - القضاء - الأمن الداخلي) وخاصة في عصور القهر العسكري والكبت السياسي، وفي عصور التحول التاريخي والاجتماعي وما تمور به من متناقضات اجتماعية ونفسية، وانحرافات سياسية واقتصادية.
والمتأمل لما أثر عن جحا من نوادر سياسية، قالها الشعب العربي على لسان جحا، يراها تشكل في مجملها ـ أسلوبًا ووظيفة ـ بابًا واسعًا من أبواب النقد السياسي في الأدب العربي عامة والأدب الشعبي خاصة، فلا غرو أن يستمر احتفاء الوجدان القومي بهذه النوادر الجحوية على مر العصور، وأن يظل معتصمًا بها، كلما حزبه أمر أو حفزه موقف، في تلك المعركة الأزلية بين القوى السياسية والشعب الأعزل، وما ينشأ بينهما من علاقات سلبية، نتيجة حتمية لغياب القانون، وانحراف القضاء، واختلال ميزان العدالة في فترات تارتيخية مختلفة. ليس فقط من قبيل نقد الوضع القائم، وفضح المسكوت عنه ـ عندما يعِزُّ القول ـ بل أيضًا للقيام بدور "تعويضي" حيث النادرة السياسية هنا بمثابة "تنفيس" عن قهر سلطوي ضاغط، وتهدف إلى التخفيف من المخاوف، حيث يغدو الظالمون موضوعًا للضحك والسخرية، وعندئذ يخف العداء للتسلط، نصغره فنكبر، ونحقّره فنرد لذواتنا الاعتبار. فالضحك رفض للظلم، وهذه هي الوظيفة السياسية للنادرة الجحوية. ومن الجدير بالذكر أن كثيرًا من النوادر السياسية الذائعة في المأثور الجحوي الشفهي الحديث لم تعرف طريقها إلى التدوين، بسبب حذر الناشرين من طباعتها ونشرها.
وهناك النوادر الاجتماعية، وهي من الكثرة بمكان، ولاتزال تتنامى إبداعًا وتذوقًا حتى الآن، وتتعاظم وظائفها الحيوية في نقد الواقع الاجتماعي، وما يمور به من سلبيات في القول والفعل والسلوك، مما هو سائد في حياتنا اليومية. ولهذا لم تشأ الأمة العربية أن تجعل هذه الشخصية التي أبدعتها بعبقريتها سلبية أو منعزلة، وإنما جعلتها شخصية رجل عادي من الناس، له مشاعرهم ومواقفهم وتجاربهم، وآمالهم وآلامهم، عليه أن يسعى ـ في سبيل العيش ـ كما يسعى غيره، ويختلف إلى الأسواق، ويرحل إلى الأمصار، ويلتقي بالحكام ويتحدث إلى العامة. وهو رب أسرة، له زوج، بينه وبينها ما يكون بين الرجل وصاحبته من الأحداث والمواقف، وله معها نوادر تجسم فلسفته الخاصة في الحياة، بل تجسم ما يريده الشعب العربي من ترسيب التجربة ونقد الحياة الاجتماعية،
واتصلت حياة جحا، فكان له ابن ينشئه بحكمته ويحاوره بفكاهته وسخريته، وكأنما أراد أن تمتد حياته وفلسفته أجيالاً متعاقبة. بل سوف نرى أن هذه الشخصية الساخرة تؤكد بدورها وحدة الحياة عند الأمة العربية، فلم تقتصر مواقف جحا على علاقاته بالناس، وخير ما يصور ارتباط جحا بالأحياء تعاطفه مع حماره الذي ارتقى به حتى جعل منه صديقًا أو شبه صديق، يتحدث إليه ويصب في أذنيه سخرياته اللاذعة من الحياة والأحياء.
وبهذا يتكامل الثالوث الجحوي الشهير (امرأة جحا، ابنه، حماره).
ومن الجدير بالذكر أن الشعب العربي في نقده لجوانب الحياة الاجتماعية على لسان جحا، الذي سلك في ذلك مسلك الفكاهة، إنما كان يرى في ذلك التهكم الساخر ضربًا من الثأر السلمي أو القصاص العادل أو الجزاء الاجتماعي الذي تنتقم به الجماعة أو الأمة لنفسها من الخارجين على معاييرها ومثلها وقيمها، بغية الدفاع عن الذات العامة، وحفاظًا على تماسكها، وتعضيدًا لهويتها القومية. ذلك أن النوادر الجحوية بتركيزها على الجانب السلبي في الحياة والمجتمع، لا تنتقم أو تهجو فحسب، بل تعالج وتخفف من التوتر الداخلي، وتحد من مخاوف الجماعة أو الأمة، وتعيد اعتبار الذات للذات.
ومن اللافت للنظر، أن المأثور الجحوي بعامة، لم يكن وقفًا على النقد السياسي أو الاجتماعي فحسب،
بل أدى وظائف أخرى، نفسية وجمالية، بالضرورة.
فالنوادر الجحوية ليست إلا تعبيرًا عن واقع نفسي وخارجي معًا، في بنية واحدة متعاضدة،
إنها هنا تسخر، تنتقد، تنتقم، تفرج، تسِّري، فهي تنفيس وتفريغ لشحنات انفعالية سالبة. وتأتي النوادر الجحوية ـ في وظائفها الجمالية والإمتاعية ـ تحقيقًا للجانب الباسم في مسرح الحياة، باعتبارها رواية هزلية كبرى كما يقال، وغايتها عندئذ التسلية والإمتاع، إما تحقيقًا لهذا الجانب الباسم من الحياة (ابتسم تبتسم لك الحياة)،
وإما تسرية وترفيهًا وتفريجًا عن بعض كرب الحياة وضنك العيش (شر البلية ما يضحك). وبذلك تمنحنا هذه النوادر قدرًا من "التطهير" النفسي الذي يزود المرء أو الجماعة بقوة التحمل والصبر والتفاؤل في خضم الإحباط الفردي أو الجمعي (القومي) وكأنها جرعة إنقاذية وتنشيطية غايتها " تطعيم" الناس ضد واقع محبط، وراهن جارح، وبذلك تضفي هذه النوادر الجحوية على الحياة والواقع قدرًا من التجميل الخيالي والتطهير النفسي الذي يحتاجه الناس كثيرًا.
النديم يذكر جحا
ومن أوائل الذين ذكروه في كتب التراث العربي (ابن النديم) المتوفى سنة 385ه - 987م صاحب الفهرست الذي انتهى من تأليفه سنة 377ه, فهو يورد اسم كتاب عنوانه (نوادر جحا) وجعل اسم صاحبه (أي جحا) بين الحمقى والمغفلين(1). والمهم في هذا المجال أنه يؤكد أن شخصية جحا العربي كانت معروفة في القرن الرابع الهجري.
وكما يرى د. محمد رجب النجار فإنه أسبق من نظيره, جحا الأتراك المعروف باسم (نصر الدين خوجة) الذي ظل حتى منتصف القرن التاسع الهجري غير معروف(2).
والجاحظ يذكره أيضاً
وإن ذكر الجاحظ له في كتابه (القول في البغال) يدل على أن جحا كان معروفاً في أوائل القرن الثالث الهجري(3). وذكره أيضاً الجوهري في قاموسه (الصحاح) إذ قال: إن أبا الغصن كنية جحا. وقال الآبي المتوفى سنة 422ه في مخطوطه (نثر الدر في المحاضرات) إن اسمه نوح وكنيته أبو الغصن, وإنه أربى على المئة سنة وفيه يقول عمر بن أبي ربيعة:
دلّهت عقلي, وتلعبت بي حتى كأني من جنوني جحا
جحا عايش الدولة الأموية
إن ذكر عمر بن أبي ربيعة اسم جحا في شعره يدل دلالة قاطعة على أن جحا ولد في النصف الأول من القرن الهجري الثاني, أي إنه عايش الأيام الأخيرة للدولة الأموية وعاش سنين في كنف الدولة العباسية, حتى ليقال إنه نزل الكوفة أيام أبي جعفر(4).
وتردد اسم جحا عند الميداني المتوفى عام 518ه في (مجمع أمثاله)(5) إذ يقول: (أحمق من جحا), ثم يصفه بأنه رجل من (فزارة) وهي قبيلة عربية, ويورد نادرة له, يريد بها أن يؤكد حمقه, وهي نفسها التي سبق أن ذكرها ابن الجوزي, ولكن.. في صيغة أخرى (فمن حمقه أن عيسى بن موسى الهاشمي مر وهو يحفر بظهر الكوفة موضعاً, فقال له: مالك يا أبا الغصن? قال: إني قد دفنت في هذه الصحراء دراهم ولست أهتدي إلى مكانها. فقال عيسى: كان يجب أن تجعل عليها علامة. قال: قد فعلت. قال: ماذا? قال: سحابة من السماء كانت تظللها ولست أرى العلامة)(6).
جحا عند الميداني والعقاد
ومن حمقه أيضاً, كما يقول الميداني (أنه خرج من منزله يوماً بفلس, فعثر في دهليز منزله بقتيل, فضجر به وجره إلى بئر منزله فألقاه فيها. فعثر به أبوه فأخرجه وغيبه - أي إنه دفن القتيل في مكان آخر - وخنق كبشاً حتى قتله وألقاه في البئر. ثم إن أهل القتيل طافوا في سكك الكوفة يبحثون عنه - أي الرجل الذي وجد مقتولاً - فتلقاهم جحا فقال: في دارنا رجل مقتول, فانظروا أهو صاحبكم? فعدلوا إلى منزله, وأنزلوه في البئر, فلما رأى الكبش ناداهم وقال: يا هؤلاء, هل كان لصاحبكم قرون? فضحكوا ومروا وقالوا: مجنون)(7).
ويرى عباس محمود العقاد في هذه الواقعة ما يفسر أن حماقة جحا كخاله, إنما جاءته بالوراثة عن أبيه, فإن جحا لم يزل الشبهة في أمر القتيل حين نقله من الدهليز إلى البئر, وكذلك كان أمر أبيه إذ وضع الكبش في البئر(.
ومن طرائف جحا....نوادر من التراث
ذكاء جحا
سرق من أعرابي حمار فقيل له : أسرق حمارك ؟ قال : نعم .. والحمد للـــه ! فقيل له وعلى ماذا تحمدالله ؟ قال : لأني لم أكن عليه !
كن هادئاً تكسب المعارك
كان جحا راكبا حمارة حين مر ببعض القوم فاراد احدهم ان يمزح معة فقال لة:
يا حجا لقد عرفت حمارك ولم اعرفك.
فرد علية جحا بهدؤ
هذا طبيعي لان الحمير تعرف بعضها
هناك أكثر من طريقة
صعد جحا على المنبر يوم الجمعه وقال يا قوم اتعلمون ؟؟
قالوا : لا ..
قال : وكيف اخاطب قوم لا يعلمون ؟؟ اقم الصلاة يا هذا ...
وفي الجمعه الثانيه .. صعد وقال لهم : يا قوم اتعلمون ؟؟
قالوا : نعم نعلم ..
قال : الحمد لله انكم تعلمون .. اقم الصلاة يا هذا ....
فأحتج الناس على ما بدر من جحا واتفقوا ان ينقسموا الى قسمين ..
قسم يعلم وقسم لا يعلم ..
وجائت الجمعه وصعد جحا المنبر وقال : يا قوم اتعلمون ؟؟
فقال قسم نعم نعلم .. وقال قسم لا نعلم ..
فهز رأسه وقال .. اذن .. فليعلم العالم منكم من لا يعلم .. اقم الصلاة يا هذا ..
إلا زوجك
تزوج جحا إمراة حولاء ترى الشئ شيئين فلما أراد الغداء أتى برغيفين فرأتهما أربعة ثم أتى بالإناء فوضعه أمامها فقالت له : ما تصنع بإنائين وأربعة أرغفه ؟ يكفي إناء واحد ورغيفان . ففرح جحا وقال يالها من نعمة وجلس يأكل معها , فرمته بالإناء بما فيه من الطعام وقالت له: هل أنا فاجرة حتى تأتي برجل آخر معك لينظر إلي ؟ فقال جحا : يا حبيبتي أبصري كل شئ إثنين إلا زوجك !
العياذ بالله
سال الوالي جحا يوما وكان الوال متسلط وجائر :
في العهد العباسي كانو يلقبون رؤسؤهم القاب كثيرة مثل
الموفق بالله و المتوكل بالله والمعتصم بالله فلو كنت انا واحد منهم
فمذا كانو يلقبونني
فاجاب جحا على الفور (العياذ بالله) ياسيدي
القمر في الماء
نظر جحا ليلة الى البئر فرأى خيال القمر في الماء فقال:
مسكين هذا القمر كيف سقط في البئر .
فحاول ان يخرجه فجعل يحرك بالدلو في الماء ليصعد القمر بيه
فعلق الدلو بحجر فشده جحا واعتقد ان ثقل القمر هو الذي عاقه عن الارتفاع
وبينما هو يشد بكل قوته انحرف الدلو عن الحجر فسقط جحا على ضهره فرأى القمر في السماء
فقال الحمدلله لقد تكسرت اضلاعي ولكني انقذت هذا المسكين
وكم من شجار هو في الأصل حماقة
اصطحب أحمقان وبينما هما يمشيان في الطريق يوما قال أحدهما للآخر تعال نتمنى . فقال الأول أتمنى ان يكون لي قطيع من الغنم عدده 1000 وقال الآخر اتمنى أن يكون لي قطيع من الذئاب عدده 1000 ليأكل أغنامك ، فغضب الأول وشتمه ثم تضاربا ، مر جحا وسألهما فحكيا له قصتهما وكان جحا يحمل قدرين مملوءين بالعسل فأنزل القدرين وكبهما على الأرض وقال لهما اراق الله دمي مثل هذا العسل إن لم تكونا أحمقين
من يفعل خير يجب أن يتمه ولا......
رأى جحا رجل يغرق في البحر فهب لنجدته فاخذه جحا ورماه الى البحر فقال الرجل لماذا رميتني فقال جحا (أفعل الخير وارميه البحر)
جحا والخوف من الموت
كان جحا يجلس تحت شجرة يأكل عنباً فطارت حبة عنب من بين يديه بينما كان يهم بابتلاعها
وقال في دهشة : عجيب كل شيء يهرب من الموت ......حتى الفواكه.