لم يصدّق ما سمعته أذناه عندما زفّ
إليه صاحبه نبأ موافقة الجامعة على التّسجيل فيها ؛ لنيل شهادة الدّكتوراه في الأدب
؛ فلطالما حدّثته نفسه ، لأكثر من أربعين عامًا ، وقد نيّف اليوم على السّتّين ،
أنّ يومَا سوف يأتي وقد أصبح فيه اسمه على كلّ لسان ، ينادى به في المحافل
الثّقافيّة ، والمؤتمرات الفكريّة ، والمنتديات الأدبيّة : " الأستاذ الدّكتور "
... وهاهي السّاعة قد أزفت ؛ ليصبح الحلم واقعًا ، وقد جاءه الخبراليقين من صاحبه
الّذي تمكّن ، بعلاقته بالجامعة الأجنبيّة ، من تسجيله فيها ، وقد زكّاه لرئيسها
مربّيًا قديمًا ذا خبرة واسعة ، وأثر كبير في الأجيال ، فغضّ النّظر عن كثير من
متطلّبات الالتحاق بالجامعة التّي لم تكن متوفّرة فيه ؛ فيلتحق بها ؛ لنيل مثل هذه
الشّهادة العالية !
مرّت سنوات وهو يعيش الحلم المتجدّد ،
ويسافر سنويًّا ؛ للقاء أساتذة الجامعة ، وتقديم ما يطلبون ، إلى أن جاء اليوم
المشهود : يوم نوقشت رسالة الدّكتوراه ، وأعلنت لجنة المناقشة نجاحه في الدّفاع عن
مضمون رسالته ، فهنّأه أعضاؤها زميلاً جديدًا لهم !
لقد كان لعلاقة صاحبه برئيس الجامعة
أثر كبير في اجتيازه العائق الأخير ؛ عائق المناقشة ، رغم أنّ رسالته كانت ، في
مضمونها ، أقرب إلى التّربية منها إلى الأدب !
لم يكد يمضي شهر على نيله الشّهادة ،
حتّى راح يسعى إلى العمل في إحدى الجامعات المحلّيّة . وبالفعل ، فتحت له إحداها
أبوابها ، وبتزكية من صاحبه نفسه ! فلم ينتظر طويلاً حتّى يطبع بطاقات شخصيّة فاخرة
وفيها : " الدّكتور / ... أستاذ جامعيّ ، ومستشار ثقافيّ ، وخبير تربويّ " !
وصدّق المسكين نفسه فراح يطرح اسمه ،
ولقبه الجديد في كلّ ساحة ، ولكنّه لم يعلم أنّ إدارة الجامعة الّتي فتحت له أبواب
العمل ، قد قرّرت منذ أيّامه الأولى فيها أن توصدها دونه فور انتهاء الفصل
الدّراسيّ ؛ فقد ثبت لها أنّه إنسان مخفق تربويًّا من خلال تعامله مع طلاّبه ،
وفارغ الجعبة من أيّ شيء يتعلّق باختصاصه ! حاول جاهدًا أن يعرف أسباب طرده من
الجامعة ، ولكنّه عبثًا كان يحاول ! فقرّر أنّ زملاءه الكثر الغيورين من نجاحه ،
والوشاة الحاقدين على مسيرة تميّزه ، قد سعَوا لدى رئيس الجامعة ؛ ليوقعوا به
حسدًا من عند أنفسهم ؛ فقد كان دائمًا متفوّقًا عليهم في كلّ مجال !
لم ييأس يومًا من طرق أبواب الجامعات ،
والمؤسّسات عارضًا خدماته على القائمين عليها ، طارحًا بين أيديهم سيرته الذّاتيّة
الّتي تضاعف حجمها ، خلال أشهر ، عشر مرّات أو يزيد ! حتّى الصّحف ، لم تنج من
محاولاته ، بل استطاع أن يغرّر ببعضها ؛ ليعمل فيها أشهرًا انتهت بما انتهى به عمله
في الجامعة التّي طرق بابها أوّل مرّة ! ٍ
وأخيرًا ، حطّ به الرّحال في ساحة
جمعيّة أدبيّة ، فطِن إلى أنّه كان يعرف رئيسها منذ كان معلّمًا في إحدى المدارس
الابتدائيّة ، وكان الرّجل يتردّد على المدرسة سائلاً عن ابنه ، متابعًا له مثل أيّ
أب مهتمّ بولده ، فتوجّه إليه مباشرة يذكّره بنفسه ، ويدفع إليه بطاقته المتورّمة ،
ورزمة أوراق نسج فيها خياله سيرته الذّاتية !
رحّب به الرّجل ، ثمّ دعاه ، بعد
تردّده المستمرّ عليه ، أن ينتسب إلى الجمعيّة ، ويكون عضوًا فيها .. لكنّه طلب
منه أن يمنحه فرصة للتّفكير في الأمر ؛ لكثرة ارتباطاته ، وعظيم مسؤوليّاته ! وطار
إلى جحره يكاد يغمى عليه من الفرح !
حاول في الأيّام الّتي تلت ، أن يتجنّب
زيارة الجمعيّة ؛ ليوهم رئيسها أنّه منهمك في أعماله ، منصرف إلى إنجازاته ! وهذا
ما حدث : فقد شعر رئيس الجمعيّة أنّه على وشك أن يضيع منه كنز ليس له مثيل في جزيرة
القرصان ! فبادر إلى الاتّصال به عبر الهاتف ؛ ليطمئنّ عنه ، ويعرف سبب احتجابه .
-
" أبدًا ، ولكنّها
المسؤوليّات الجسام كما تعلم .. "
قالها بصوت منتفخ كأنّه يخبره عن عمل معجز لا يقدر على مثله سواه !
-
" عافاك اللّه يا
دكتور ، وأكثر من أمثالك .. ولكنّنا لا نقدر على الحرمان من رؤيتك ، والاستزادة من
علمك ! "
-
" شكرًا .. شكرًا .."
-
" هاه .. فمتى تشرّفنا بزيارة يا أستاذي الدّكتور ؟ "
لمست الكلمتان الأخيرتان من قلبه ، وعقله ملمسًا لم يشعر بمثل نعومته من قبل ،
وكاد ينسى الرّدّ على محدّثه ، لولا أن عاد يسأله :
-
" نعم يا أستاذي ،
متى نتشرّف بزيارتكم ؟ "
-
" قريبًا .. قريبًا ،
إن شاء اللّه ! "
أنهى المكالمة ، وقعد فوق كرسيّه يتمطّى ، شاعرًا بدغدغة كلمة " أستاذ " لشيء في
نفسه ظلّ مكتّمًا زمانًا طويلاً !
_ " أستاذ دكتور ! عظيم .. عظيم ! "
وراح يحلم من جديد !!
في الصّباح أسرع إلى المطبعة ، وطلب من مديرها أن يطبع له مجموعة جديدة من البطاقات
الشّخصيّة يضيف إليها كلمة " أستاذ " قبل " الدّكتور " ؛ ليصبح لقبه " الأستاذ
الدّكتور " ! وهكذا كان ، وهكذا أضيف اللّقب الجديد إلى سيرته الذّاتيّة أيضًا !
مرّت الأيّام ، وقد صار صاحبنا مديرًا للجمعيّة المذكورة ، ومديرًا لمجلّة تصدرها .
واستطاع بثرثرته ، أن يقنع رئيسها أنّه فارس الفرسان ، إذا نزل إلى الميدان ، يقارع
بالكلمة ، ويتصدّى بالبيان ! وتمكّن بعد أشهر ، من السّماح لمن يريد بالنّشر في
المجلّة ، وحجب من عدّه من الحاقدين الحاسدين !! وقرّب جماعة ، ونحّى جانبًا من
عرفهم طوال ما يزيد على ثلاثين عامًا !!
وجاء يوم ما كان ليحلم أن يعيشه ، وأن يكون فيه نجم المهرجان ، يوم أن قرّر رئيس
الجمعيّة إيفاده ممثّلاً للجمعيّة في مؤتمر يعقده " مجمع الخالدين " في مصر ..
أعدّ " الأستاذ الدّكتور " ورقة عمل يقدّمها في المؤتمر ، وراح يدرّب نفسه مرارًا
على إلقائها قبل مجيء موعد السّفر .
وفي اليوم الموعود ، كان " الأستاذ الدّكتور " منتفشًا بلقبه فوق كرسيّ أعدّ له في
المؤتمر .. قدّم ورقته .. صفّق له الحاضرون .. تساءل أكثرهم عن سرّ سخافة المضمون ،
وسرّ اقتحام هذا الدّعيّ مثل هذا المؤتمر ! ولكنّهم قابلوه بابتسامات ماكرة لم يدر
هو ما وراءها من خبث ودهاء !
في اليوم التّالي ، ركب الطّائرة عائدًا إلى دياره ، غير مصدّق كلّ ما يحدث ! وبعد
ربع ساعة من إقلاع الطّائرة ، جاءته المضيفة بنسخة من صحيفة اليوم ؛ فشكرها ، وطلب
منها ، بلطف بالغ ، أن تأتيه بكأس ماء بارد .
عادت المضيفة بعد دقائق لتصرخ بأعلى صوتها ، وتقع من يدها الكأس على الأرض ، وقد
تناثر الماء فوق بعض المسافرين !
هبّ النّاس نحوها ؛ يستطلعون سبب صراخها ، وهلعها .. نظروا إلى الرّجل فوجدوه جثّة
هامدة لا حراك فيها ، وقد جحظت عيناه تحدّثان بحديث الموت !!
عادت الطّائرة إلى المطار ، وقد خيّم على ركّابها جوّ امتزج فيه الحزن بالتّشاؤم
!!
وقدّم الطّيّار تقريرًا عن الواقعة جاء فيه أنّ المضيفة عادت إلى " المرحوم " بكأس
الماء البارد الّذي طلبه ؛ لتفاجأ به وقد أسلم الرّوح .. ولمّا عاينه الطّيّار ،
وجد في يده الصّحيفة مفتوحة على صفحة المجتمع ، وفيها مقال بارز عنوانه : "
هبنّقة في مجمع الخالدين " !