ليست قصة بالمفهوم الفني للقصة، وإنما توصيف لحادثة غريبة

وقعت لطفل أفغاني في دار الأيتام في بيشاور، أيام الغزو السوفييتي لأفغانستان نقلتها كما حدثت من خلال زيارتي للدار عندما كنت في مكتب الرابطة هناك، وأحببت نقلها للعبرة.

أفاق عبدالكريم من غيبوبته مشدوهًا، وقد تَملَّكه ذُعر شديد، راح يتأمَّل الرجال الذين حوله، ويتفرَّس وجوههم، فاستقرَّ في ذهنه أنَّهم المجاهدون، فطالما رآهم في قريته يتجوَّلون فيها، ويذودون عن حُرُمَاتها، وكثيرًا ما كانت تراودُه أحلام الطفولة أن يصبحَ مجاهدًا عندما يكبر ويشتدُّ عوده؛ ولكن ما الذي أتى به إلى مواقع المجاهدين؟

حَاولَ أن يتذكرَ بعد أن هدأ وأحضر له المجاهدون شيئًا من الخبز والشاي، ثُمَّ سألوه عن أهله ومسكنه، فأجاب بصوت خفيض مرتجف، وبراءة الطُّفولة التي تسيطر عليه: كنت ألعب في البستان القريب من بيتنا لما جاءت الطائرات وقصفت قريتنا، فتملكني الخوف، وتسمَّرت في مكاني، لا أدري ماذا أفعل، وإذا بقذيفة تنزل فوق منزلنا، ورأيت تَطايُر الأحجار، وثوران الغُبار، وشعرت كأنَّنِي أطير في السماء، ثُمَّ لم أشعر بنفسي إلاَّ حينما أيقظتموني.

لم يشكَّ أحدٌ من المجاهدين أنَّ بيت "عبدالكريم" قد تهدَّم على من فيه من أهله، فهذه المآسي صارت حوادثَ يوميَّة في أفغانستان، وكم من قرية أبيدت بأكملها، ونَجَا بعض أهلها! (ذكر الأستاذ حكمت يار: أنَّ قرية في أفغانستان قد أبيدت إبادة كاملة في ذلك الوقت ). 

كان المجاهدون قد انسحبوا من المنطقة؛ بسبب القصف الوحشي، وهدم المنازل على ساكنيها، ومع ذلك حاولوا أن يسألوا عن خبر يدلُّهم على مصير عائلة "عبدالكريم" فلم يفلحوا، ثُمَّ أرسلوا مجموعة من المجاهدين إلى قريته؛ ليجدوا البيت قد دُمِّر تدميرًا كاملاً، وبقية من آثار الدِّماء خارِجَه، ولا وجود لأي إنسان أو جُثَّة بين الأنقاض.

وبسبب البرد الشديد في مواقعِ المجاهدين بين الجبال، الذي لا طاقةَ لطفل مثل عبدالكريم به - قرَّر المجاهدون إرساله إلى دار الهجرة - باكستان - ليكون في إحدى دُورِ الرِّعاية، أو في خيمة أحد المهاجرين.

وصل الطفل إلى باكستان، وعلم بخبره الأستاذ برهان الدين ربَّاني، فأدخله في دار رعاية الأطفال التابعة لمؤسسة المدينة المنورة الخيريَّة، وبصعوبة بالغة استطاعَ الطفل أن يتغلبَ على آلامه، وحاولَ أن ينسى مأساته، فقد كان يعيشُ مع أبويه وحيدًا بين ثلاث بنات، وقد تعوَّد على الاهتمام والحنان من أبويه، وكانت أمُّه تحبُّه حبًّا شديدًا، ولا تستطيع أن تصبر ساعة على فراقه، وها هو الآن يعيش بين الأيتام في هذه الدَّار، ولكن هل تعوِّض الدُّنيا بأسرها لمسةَ حنان من الأبوين، أو ضمة صَدْر إلى أم رَؤوم؟! هيهات!

كان أكثر ما يُؤجِّج جراحه منظر بقيَّة الأيتام، وهم يُغادرون كلَّ أسبوعين لزيارة مَن بَقِيَ من أقاربهم في المُخيَّمات، فيقف مع قلَّةٍ من الأطفال، الذين لم يَبقَ لهم أحد في الدُّنيا، يرقبون الحافلات والأولاد وهم يهرولون إليها فَرِحين، وتحجب الدُّموع الغزيرة عن "عبدالكريم" ذلك المشهد قبل أن تنطلق الحافلات؛ ولكنَّه يستطيع أن يسمع أناشيد الأطفال مع مسير الحافلة وهم يردِّدون:

"أنــا يـتـيــم  أفـغـانــي،

أَبِـي الـشَّـهـيـدُ وصَّـانـي...". 

يبتلعُ "عبدُالكريم" أحزانَه، وينطوي على آلامه، ويبقى محزونًا حتَّى يرجع أقرانُه من الإجازة، فيخفِّفُون عنه ويواسونه.

كان أحد الأيتام يحبُّ "عبدالكريم"، ويتعاطفُ معه إلى حدٍّ كبير، فيلعب معه ويُحدِّثه عن أقاربه، وكيف يعيشون في المخيَّم، ويقاسون الحَرَّ في الصيف، ويرتجفون من البرد في الشِّتاء، وأنَّ العيشَ في الدار أحسن حالاً بكثير من المخيم، ومع ذلك لم يكن عبدالكريم ليقتنع؛ لأنَّه يرى في الخروج متنفَّسًا، ويَوَدُّ أن يَخرج ولو مرَّة واحدة مع الأولاد، ويعرض عليه زميله ذات مرَّة أن يرافقه؛ ليقضيَ العطلة معه في مخيَّم خراسان قرب "بيشاور"، رحَّب عبدالكريم بالدَّعوة، واعْتلَتِ الابتسامةُ وجهه، وهو يسمع الموافقة على ذَهَابِه من مدير الدَّار (أبو الأيتام) [1].

لم يقفْ "عبدالكريم" هذه المرَّة على الشُّرْفَةِ؛ بل هَرْوَل إلى الحافلة مع زملائه فرحًا مسرورًا، ولم يكن يعلم أنَّه على موعد مع مفاجأة لم يكن عقلُه الصَّغير يتخيَّلُها، وصلت الحافلة إلى المُخيم، ونزل عبدالكريم مع زميله، وأهل المخيَّم ينظرون إلى مَشهد الأطفال وهم ينزلون من الحافلة، ويَحكي وجهُ كلِّ واحد منهم قصَّةً دامية، ومأساةً مريرةً لعائلة مفجوعة، ولكن هل يُجدي بكاؤنا وتَحسُّرنا عليهم؟! وليتنا نحسُّ بنعم الله علينا، ونشكُرُه أن عافانا مِمَّا ابتلى به غيرنا من عباده؛ لحكمةٍ لا يعلمُها إلاَّ هو سبحانه.

لما نزل "عبدالكريم" من الحافلة، كان مع النَّاس رجلٌ في الخامسة والثلاثين يتفرَّس وجوه الأطفال، ويُتابع حركاتِهم بلهفة، وما أن رأى "عبدَالكريم" حتى ثبَّت نظراته في وجهه، وصار يتابع حركاتِه وكأنَّه لا يصدِّق ما ترى عيناه، فبادله عبدالكريم النَّظرات متعجِّبًا من أمره، وفي لحظاتِ صمتٍ رهيب هجم "غلام رسول" على عبدالكريم، وهو يصيح: ولدي، ولدي، وذهبا في عِنَاقٍ طويل.

قبَّلَه ثم عاد فضمَّه إلى صدره، رجع يتأمل وجهه قائلاً:

ولدي "عبدالكريم"، كانت أمُّك تقول: إنَّها تشعرُ بأنَّك بين الأحياء، ويتهيَّأ لها أحيانًا أنَّها تسمع صوتك، فكنت أَرْثِي لحالها، وأشفق عليها، وأحسبُ أنَّها قد مسَّها ضرب من الجنون، ولكن قُدرة الله - يا ولدي - ورحمته بنا أكبر من أن يُحيطَ بها علمُ مَخلوق.

لم تكدْ أمُّ "عبدالكريم" تصدِّق أنَّها تحتضنه فعلاً، وراحت تبكي تارة وتضحكُ أخرى، وتضُمُّه مرَّاتٍ عديدةً، ثُمَّ تعود فتعيد النظر إليه، ثُمَّ تفتح قميصه؛ لترى شامةً صغيرة في رقبته، فتعود للبكاء من جديد، وتَحمَدُ اللهَ أن استجاب دعاءها في الليل والنَّهار، وردَّ عليها وليدَها الوحيد.

كما فرحت أخواته به، وجلسن حوله يسمَعْنَ حديثه عن دار الأيتام، وكيف يعيش فيها، ثُم خَتَم الجلسة بآياتٍ من القرآن الكريم مما تعلَّمه خلال دراسته في الدار.

وفي اليوم التالي كان والدُ عبدالكريم يصحبه إلى دار الأيتام، التي كان عبدالكريم يعيشُ فيها دون أم ولا أب، ولا حتَّى قريب، ودخل والدُ عبدالكريم مع ابنه وقدَّم نفسه للمدير قائلاً:

أنا والدُ "عبدالكريم"، فكبَّر مندهشًا، وسأل الرجل: ولكن كيف رجعتم من عالم البرزخ؟ ثم ابتسم.

فقال له: يا سيدي، لما قصف الرُّوسُ قريتنا، سارعت إلى بيتي، وصرخت بزوجتي أنْ تساعِدَني في إخراج الأولاد، وحملتُ ابنتي الصَّغيرة، وخرجنا مُسرعين حيثُ أدركتنا رحمةُ الله، فجاءت قذيفةٌ بعد خروجنا من المنزل، فأحالته إلى ركام، ولم نُصَبْ إلاَّ بجروح خفيفة، عافانا الله منها، وعبثًا حاولنا أن نجدَ "عبدالكريم"، حتَّى ظننَّا أنه تحت الأنقاض، ولم نفلح في العثور عليه، ولم يبقَ لنا مأوًى، فهاجرنا إلى باكستان مع مَن بَقِيَ من أهل القرية، بعد أنِ اشتدَّ علينا البرد، وحاصرنا الخراب من كل جانب.

بعد أن وصلنا إلى باكستان ظلَّت زوجتي تذكر "عبدالكريم"، وتقول: لماذا لم نعثُر على جثته إن كان قد استشهد، ولعلَّه بين الأحياء، وصِرْت أسأل المهاجرين من منطقتنا، وأتتبَّع أخبار عبدالكريم، حتَّى سمعت أن بعض المجاهدين قد أخذوا طفلاً معهم إلى إيران، ولا يعلمون أين أهله، فسارعت بالسَّفر إلى إيران، ولم أظفر بولدي، وصار عبدالكريم هاجسنا الوحيد، والتجأنا إلى الله - سبحانه - بالدُّعاء أنْ يَجمعنا به إن كان حيًّا، وكنت كلَّما سمعت بتجمُّعٍ لأيتامٍ، سارعت بالسؤال عن ولدي فيه، حتَّى غلبني اليأس، وتبدَّدت آمالي في العُثُور عليه، واستسلمت لقضاء الله، إلى أن جاء هذا اليومُ المبارك، الذي ردَّ الله به عليَّ ولدي دون حولٍ مني ولا قوَّة.

وكنت قد طلبت في هذه المناسبة من الإخوة في دار الأيتام أنْ يتكرَّموا بإعادة " عبدالكريم" إلى الدَّار، دون أن يكون يتيمًا؛ ليكونَ بارقةَ أملٍ لإخوانه، وعظة لمن يزور الدَّار من أبناء المسلمين.

جزى الله القائمين على الدار خيرًا، وبارك الله في الرجل المحسن الكريم، الذي يَكْفُل هؤلاء الأيتام، ويُنفِقُ على رعايتهم وتعليمهم، وهنيئًا له بُشرى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بمرافقته في الجنَّة، إن شاء الله.

وصلَّى الله على سيدنا مُحمَّد وآله

والحمد لله ربِّ العالمين. 

 [1] أبو الأيتام: أستاذ فاضل من فلسطين، لم يرزق بأولاد، لما سألته: أعندك أولاد؟ أجاب: كلُّ هؤلاء الأيتام أولادي.

              


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة