لا أحب سرد أجزاء من حياتي .. أهمل كل قصص السير الشخصية , أضع الروايات ومذكرات الكبار في رف مكتبتي الأسفل
بعضهم قال عندما تكتب من تعرف فأنت تقتله , لن أقتلك , كتبتك كي احتفظ بالرائحة التي أحببتها فيَّ .
كتبتك لآخر مرة .
حمل ثقيل , غصة قلب , وضباب دمع , مرارة سؤال .... : كيف أصبحت دون أن ادري أمي ؟
****************************************
تلاحقني دائما بالأطعمة التي انتهت من تحضيرها الآن في المطبخ نذرت حياتها للتعب والقهر .... وحيدة .
تعصب رأسها فوق شالها الأبيض الذي يشبه " غطاء الصلاة " بمنديل حريري كان فيما مضى غطاء رأس ثم حولته لـ " بقجة " إلى أن انتهى عصبة لرأس يتألم
في صدرها الكبير دائما مصحفا صغيرا , لا تحب الأحجبة , وقرش اصفر ... لي
ضبطتها مرة , تبحث في ملابسي , تقربها من انفها , تشمها , تشتم قميصي الأزرق من الصدر بشغف عاشقة , تغمض عينيها على أحلامها .... التي لا يعرفها الا هي
اكتشفت بعد غربتي عن وطني ان للأمهات مقاييس خاصة في الحب , تلك العجوز الطيبة لم تترك فراغا الا ملئته .
اكتشفت لما لم تبكي ابي بموته , مزيج الفرح والحزن والقسوة واللين والطلاقة ذاك , ككل امهاتنا , فلاسفة بدون نظريات وكتب يستطعن رؤية الجمال اينما كان بتعقيده وبساطته , يرتجفن منه , يحسونه , يأكلون منه .... بتلقائية .
قداسة تضمها هي وفنجان قهوتها وسيجارتها اليومية الوحيدة , تشربها ... تستغفر بعدها الله مئة مرة , وحيدة كانت كمريم , تهز نخلتها ..... الخاصة .
هدوء لم استطع فهمه الا في الأربعين , تودعني جالسة على " الدفة " وسط أكوام الغسيل الأبيض ... برميل " الغلي " الفضي وبابور الكاز طقسها الصباحي المعتاد
تناديني لأساعدها في حمل البرميل للسطح , تقترب من السرير , أراها من تحت الأغطية قادمة مياه الغلي تقطر من ساعديها وبقعتان من رغوة الصابون على ملابسها , تسبقها رائحة النظافة والمساحيق المبيضة :
- عبد الله .... عبد الله , طلعت الشمس
طلعت الشمس , عبارتها تختلط بروائحها ومساحيقها وصوت الراديو الصغير الذي تصر انه لها
" طلعت الشمس , غابت الشمس " نهارها هي يقبع بين تلك العبارتين , انا وسجادة الصلاة وسيجارة - الحمراء - وبعض من تزورهم او يزورونها من أصدقاء .
يتابع الصوت :
- بس تعال ساعدني على الدرج .
اتأفأف منها , ألف نفسي بأغطيتي مخفيا وجهي ويدي تبحث عن النظارات على الرف بجانب التلفزيون .
تتركني معلنة إفلاسها بكلمة : الله يهديك , اسمع طرقات البرميل على الدرج ولهاثها , انفض ما تبقى مني بين الأغطية مسرعا إليها بخطوتين كبيرتين أمد راسي بين يدها والبرميل
تضحك , احمله واجري به للأعلى
- الله يرضى عليك ... نمر .
أحببت اتساعها , قلة خيبتها , فرحها الدائم , يتمها , عرسها المستمر يوميا في البيت .
كانت تجد الوقت دائما لتكلمني عن فرن التنور وزريبة الجمال وعمها " كرمو " أنيس يتمها
تعبق من حكاياتها رائحة القرفة واللوز البلدي .
كانت ملجأي من خدوش طفولتي السعيدة , من مشاكلي الكبيرة الصغيرة , زلات لساني , منقذي الوحيد من رائحة الدخان المعشش في ملابسي عند لهونا " بخرابة " الحي
احترفت صمت يتمها ... إلا معي , أنا كبرت هي ازدادت اتساعا حتى وطئتني , مازلت صاحب الراس الصغير والنظارات الكبيرة
شهدت شغفي , وهواتفي الليلية , رتبت أوراقي , لملمت الواني وفرشي , راقبت لوحاتي ... بصمت يعجز عنه حجر .
تأتيني بعد ان أنام , تهزني , تسألني : تتعشا ؟.
تضيف بعد ان تسألني أين كنت :
- تعال .. اشرب معي قهوة .
بعد انتقالنا لبيت أحلامها الجديد لم تعد تردد جملتها " طلعت الشمس " , لم تعد تنام في غرفتها , استوطنت شرفة البيت هي ومسبحتها الزرقاء الطويلة وسجادة الصلاة
اشترطت ان يكون البيت جديدا :
- الصحة يا عبد معد تساعد , شفلي بيت جديد وصغير .
تستدرك :
- ويكون قريب من أمي ....
تستدرك :
- وسيدي خالد .... والبرندا واسعة .
كانت " البرندا " كما يحلو لها ان تسميها مخدعها السري تقيل فيها بعد العصر , تستقبل أصدقاءها , صومعتها الأقرب الى الله .
حتى ان شهور العدة قضتها فيها حزنا على رفيقها - أبي - هي ومسبحتها , تك , تك , تك .... تدعوا بهمس وتصلي بهمس
- الساعة هلق أربعة الفجر !.... نامي
- لا . تعال , اشتقتلك .
ينهض الطفل داخلي قبلي , قافزا , بخطوة تكون القهوة جاهزة
اجلس متربعا إمامها , عاريا بقميصي الداخلي , أعطيها علبة سجائرها الوطنية وولاعة " الرونسون " إرئها الوحيد من أبي .
تكلمني بصيغة السؤال والعتب :
- اتصلت فيك اليوم هاي البنت الشقرا ؟... والله صرت اخجل منها , بدك تعلمني الكذب بعد ها لعمر ... شو اسمها .
لا تنتظر إجابتي تجيب هي :
- نانا ؟ لانا ؟ .... المهم البنت كلها أدب ما بتقلي الا يا حجة ...؟ لك عيب عليك هدول بنات ناس
اضحك , تضيف :
- والله مابحط ايدي بجوازتك ابدا
تفهم تناقضي ... ارتمي عليها عابثا بغطاء الصلاة متناسيا أني كبرت بغفلة مني
تشعل سيجارتها .
يتوقف القلب , وتعود الذاكرة , تتأرجح هي فقط بين طيات الذكريات , يتعثر اللسان معها , يتعثر عند وصفها ... اشتقتها
" هي " وتلك النبته الغريبة فوق قبرها والتي لاتزال رغم قسوة فصول المدينة تدهش قلبي بأحمرها الجذاب وأخضرها المدهش .
رغم كل السنوات الكسيحة والأحلام الهاربة , التي تمر . تصر دوما على الظهور فجرا كل يوم مع أول خيط نور لتقول لي :
- عبد .. قوم , طلعت الشمس .