بعد
أن
تناول عنترة فطوره: قشطة*، وعسل نحل جبلي، وفطائر فرنسية بالشوكلاطة،
وحليب اللوز، مسح فمه بالمنديل الأبيض المطرز ، واستعد للقيام فسارع
الخادم إلى سحب المقعد من خلفه ، عنترة الفلحاء .. هو هو .. فقط لم يعد
فلحاء، و اختفت اللحية والشارب، ولانت كفه ونعُمت، وبرزت الكرش فزادته
هيبة ...، اتجه عنترة صوب غرفة الجلوس الفخمة، وقبل أن يتفقد سيفه البتار
المعلق خلف زجاج الدولاب المصنوع من خشب الآبنوس أصدر أمره بإعداد الحمام،
ثم
فتح الدولاب، ولمس بأصابعه السيف المفضض الموشى بالذهب و اللؤلؤ ، وشمخ
بأنفه بزهو وقد ملأت ابتسامة عريضة وجهه ، وأعاد إغلاق الدولاب بإحكام
.
وجلس
عنترة على الأريكة يتأمل الثريا الرائعة المزينة لسقف القاعة المزخرف وهو
يفكــــر " لقد كنت قبلُ في حاجة إلى سيفي ليفعل فعله نصرا تلو نصر ،
فتتيه بالأخبار ابنة العم عبلة ... الآن تتحقق بطولاتي بلا سيف ..نعم
..
بلا
سيف !! فقد من الله عليه بالراحة وخادمٍ درِبٍ بتلميعه وصقله كل يوم
..
أما
معاركي الآن فلا سيف لها، لقد تغير كل شيء، وينبغي لعنترة ألا يشذ
عن
الناس فيصير حمِقاً كسِيرا يُشفَق عليه ويُرثََى لحاله .. أعوذ بالله
من
المعارك التي تستدعي السيف ، أعوذ بالله منها .. وقد آن أوان الدعة
والرفاه .. كل شيء طوع البنان
...
-
جميل .. ياجميل
..
ناداه بصوت رخيم ، فجاء متمايلا أنيقا رقيقا كغصن بان ، وتلمظ ثم لعق بلسانه شفتيه،
وبصوت ألثغ
:
-
(
نعم
سيِّتي
)
-
الحمام...
-
دافئ سيتي كالعادة .. السَّابون و المرتِّب و الكريمات و الفوتات وسيِّتَتي عبلة
...
قفز
عنترة طرِبا متجها صوب الحمام، وقاطع الخادم
:
-
كفى
شوف ليك شغل آخر ... كفى
.
-
حادل سيتي حادل.
*** *** ***
قالت عبلة وهي ترطب ذقنه ب(الكريم)
لتحلقه
:
-
ما
رأيك في الحمام بماء الورد ؟
-
رائع ياعبلة .. ياوردة عطرة بلا شوك .. إنه يدعو إلى الاسترخاء ..لكن ماذا
أفعل يا ابنة العم ، معاركي لا تنتهي أبدا ، مع ذلك لا باس مادمت أحقق
النصر فيها فأنا أتحملها .. و الجماهير يا عبلة .. الجماهير تعتز بي
..
إنها جماهير متحمسة طيعة
...
قالت
:
-
تعرف ياعنترة أنني أعتز ببطولتك وشجاعتك، وانتصاراتك المتوالية في المعارك
التي تخوضها، إنك تبقي أنفي شامخا بين النساء أثناء حفلات الرقص و السهرات
.
-
بالمناسبة هل فستانك الجديد جاهز لسهرة السبت القادم
...
-
جاهز يا حبيبي عنترة .. وأروع ما يكون .. يا ويل النساء منه
.
-
رائع .. أنت تعرفينني أنني شديد الحرص على إلحاق أقسى الهزائم بأندادي من الفرسان
الصناديد
.
-
لا
تهتم للموضوع ياابن العم باستطاعتي أن أنهِكهم بمراقصتي فترتخي أوصالهم ، لا تهتم
.
*** *** ***
كانت
الجماهير تملأ أرجاء قاعة الاحتفالات الكبرى، وقد اشتد لغطهم وهم مشرئبون
نحو
المنصة .. ثم إذا بها التصفيقات تعلو و الصفير .. وإذا بعنترة العبسي
يظهر من خلف الكواليس متمايلا في رقة متجها صوب المنصة ، والتصفيق و
الصفير يعلوان .. يعلوان
..
وقف
عنترة
مبتسما مضطربا، ومد يده إلى لحيته وشاربه فلم يجدهما في مكانهما
..
فتقاطرت حبات العرق باردة من جبهته ، واستل بيد مرتعشة منديلا أبيض ناصعا
مطرزا ليلمس به جبهته ووجهه وعنقه بلطف، وانطلق بصوته الرخيم يتحدث عن
السلم والسلام و الحب والمحبة والتسامح وقبول الآخر
...
-
تعلمون ياجماعة أن القوة ليست دائما بالمصادمة و قراع السيوف، وأننا
أحيانا نسمح للأقدام أن تطأ أذيالنا .. بل رقابنا حتى، ومع ذلك نبقى
أقوياء أبطالا صناديد .. وننال التقدير والرضا من خصومنا. إن سيوفنا
المرصعة عماد فخرنا وزينة بيوتنا و قصورنا، فلا ينبغي أن نعرضها عبثا
للتلف. فذلك عين السفه و الحمق
...
وصار
صوت
عنترة يرق ويرق و يلين ويتكسر و ... غنت الجماهير المُحبة وتمايلت
راقصة على أنغام الموسيقى، وانتصرت عبلة تلك الليلة أيما انتصار، وكانت
سيدة الحفل
...
*** *** ***
أخيرا
وقد
ولى الليل أو كاد لفظت البوابة الزجاجية الفخمة عنترة وهو يترنح بترنح
ابنة عمه عبلة، وكانت سيارة ليموزين فخمة سوداء في انتظارهما، غيبتهما..
وانطلقت
.
*
القِشْطَةُ، بالكسْر، لغةٌ في القِشْدةِ. (تاج العروس)