هكذا شاءت إرادة الله وحلّ القدر، أن ترزأ القرية بمصيبتين متتاليتين يوما بعد يوم، فبالأمس ماتت نعجة أبي سليم بعد عمر طويل ومسيرة لاحبة من الجهد والعناء، حافلة بالكرم والعطاء، طيلة ثلاث عشرة سنة ، وصباح هذا اليوم توفي مختار القرية أبو رعد موت فجأة ، بسكتة قلبية وبدون مقدمات.
نعجة أبي سليم نعجة مباركة، كانت إحدى التوائم الثلاث من النعجة الأم، فنذر أبو سليم أن ينفق حليبها ويوزع لحم خرافها بعد أن تصبح كباشا سمينة شكرا لله ، على جميع أهل القرية لما أنعم الله عليه من ثلاثة توائم في بطن واحد.
إنها أشهر نعجة في القرية، بل هي أشهر دابة في القرية كلها بلا منازع، فمن في القرية صغيرا كان أو كبيرا لا يعرف نعجة أبي سليم؟ ومن في القرية الذين واكبوا مسيرتها لم يشرب من حليبها وتغذى بلبنها وأكل من لحم خرافها ، وأطعمها بيده ودعا لها ولصاحبها أبي سليم بالبركة وطول العمر ؟ بل ربما فاقت شهرتها كثيرا من رجال القرية ووجهائها.
أطلق عليها أهل القرية ” المبروكة ” تيمنا بلبنها السائغ الصافي الذي يوهب لفقراء القرية ومحتاجيها ، فكانت اسما على مسمى لما يمتلئ ضرعها باللبن آخر النهار فيثقل عليها مشيتها ويقوس قوائمها ويجافي بينهما ويشد مؤخرتها نحو الأرض وهو يطوح بضرعها الممتلئ يمينا وشمالا، لتروي صغار الفقراء وتساهم في سد عوزهم.
أما المختار أبو رعد فهو من كبار وجهاء القرية وأصحاب النفوذ والأطيان ، فعلاقته وثيقة مع أصحاب القرار ومتشعبة ، وكلمته لديهم مسموعة ولها وزنها !.
إنه علم يشار إليه بالبنان ، فكل من في القرية يحتاجه شاء أم أبى، فمن أراد تعريفا أو إذن سفر أو شهادة حسن سلوك أوشهادة وفاة أو حتى شهادة فقر حال ، فلا بد له من زيارة أبي رعد في مكتبه ليضع بصمة ختمه المبارك على معاملته مقابل المعلوم مقدما ! وإلا فإن ختمه يأبى الخروج من درج مكتبه ، ويظل حانقا ومعلنا عدم الظهور والتمرد تحت مائة عذر وسبب وحجة ، فربما نسي المفاتيح في البيت أو لعلها قد ضاعت، وربما جف حبر (الستامبة ) وتحتاج إلى تبديل، وربما درست أسنان حروف الختم ويحتاج إلى استبدال بختم جديد ! وكل هذه مصاريف وتكاليف ولا بد من المساهمة من هنا وهناك لتعويضها ، وهذا غير أجور المكتب الفخم، وراتب أبي جميل الذي يعمل موظفا في مكتب المختار أبي رعد، فهو يستقبل الضيوف ويوزع عبارات التأهيل والترحيب بحسب الوزن.. والحجم، ويصب الشاي والقهوة…. ويمسح ويكنس ويغسل …. ويرتب الصفقات …. وغيرها.
بالأمس ذرفت القرية الدموع، وقد كانت بأسرها في أسى وحزن عميق على فراق نعجة أبي سليم، بعد أن ساروا في موكب جنازتها وألقوا على جثمانها النظرة الأخيرة ودفنوها في المقبرة ضمن الجناح المخصص لعائلة أبي سليم ، وتمت مجالس العزاء والسهرة في بيت أبي سليم من رجال القرية ووجهائها إلى ساعة متأخرة من الليل، والجميع يذكرون محاسن هذه النعجة المباركة وعميم فضلها على القرية طوال سني عمرها .
واليوم بعد أن طاف أبو جميل على جميع أهل القرية وهو ينقل إليهم الخبر المفجع بوفاة سيده المختار أبي رعد، ويدعو الجميع للمشاركة في مراسيم الدفن والصلاة والوداع وإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان المختار ، فقد سارع رجال القرية وشبابها – بعد أن تنفسوا الصعداء – للخروج من القرية والسفر خارجها إلى المدينة والقرى المجاورة ، واللذين لم يستطعوا ذلك فقد تشاغلوا بخروجهم إلى الحقول البعيدة ، ولم يعودوا إلا في ساعة متأخرة من الليل حيث انتهت مراسيم الدفن والعزاء ، وآخرون تظاهروا بالمرض وتمددوا بالفراش ولم يفارقوه طيلة النهار والثلث الأول من الليل.
في اليوم التالي قال أحد الساخرين معلقا : إنّ كلّ ما جناه أبو رعد خلال فترة مسؤوليته وحكمه للقرية، من عرق الفقراء والمساكين مقابل أجور طبعة ختمه وبصمته الذهبية ، قد ذهب هباء في رحلة الوداع والتشييع والدفن ومجلس العزاء ، لمن استأجرهم أولاده من “الكومبارس ” لأجل جنازته ومجلس عزائه.