أعلن صوت المحطة عن انطلاق القطار، متجها صوب الرباط العاصمة.. كان صوت الإعلان هذا يبعث في نفسها خوفا ممزوجا بالأمل والشوق .. ليست المرة الأولى التي ستسافر فيها إلى العاصمة، فمنذ انفصالها عن زوجها تتردد على مكتب المحامية للنظر في مجريات التطورات في القضية.. هذه المرة، المحكمة ستنظر في موضوع الطفلة المتبناة...

وصل القطار إلى جسر نهر أبي رقراق فتدفقت عيناها بالدمع تتذكر الماضي الجميل والقريب..على ضفته كانت تتمشى ساعة الغروب دون أن يفوت زوجها فرصة ازدراد "بوزروڭ" في ابتسامة  متألقة ، متطلعة إلى السماء حمدا وشكرا..

عاشا معا ثلاثا وعشرين سنة في فرح وسرور عاشا كما يعيش الأزواج في نغم تتخلله لحظات أتراح وأفراح كما هي الطبيعة والسنة.

  ولم يرزقا بأطفال فقررا أخيرا أن يتبنيا طفلة تكون بسمة في هذا البيت وتضيف نكهة خاصة للعلاقة الزوجية..

كانت هاجر طفلة في غاية الروعة والجمال كل من رآها لاعبها أو أهداها هدية أو قبلها سعيدا بها.. كبرت هاجر وقد أيقنت أن من ربياها منذ الرضاع ماما، بابا ، أحيطت بعناية كبيرة من الحب والود .. وبين الفينة والأخرى تعلمت أن السيدة فاطمة ليست الأم الحقيقية لكنها الماما التي احتضنتها وأغدقت عليها من الحنان ما يكفي لأن يملأ جنبات البيت ويضيئه مذ كانت في مرحلة الرضاع ..

كبرت هاجر تتطلع إلى العالم الخارجي .. محاولة أن تتواصل مع بنات سنها إلا أن لغتها لم تكن مفهومة أبدا فقد تقطعت حروفها وتكسرت جملها ونظرت إلى كل من يحاورها نظرات غريبة.. لم يفهم أحد ما بها .. ورغم أنها كانت تعرف جيدا كل ركن في البيت: دميتها، ملابسها، إكسيسوارتها  الطفولية ،إلا أنها تعجز عن الإفصاح عما تريد..

-2-

اكتشف الجميع أن هاجر تعاني من عسر في النطق .. والأدهى والأمر أنها تعاني خللا في الدماغ أبطل نموها العقلي العادي، أخذتها فاطمة إلى الطبيب للعلاج ، ترددت على العيادات تنشد علاجا مناسبا لها لكن القدر كان أقوى ..

تبرأ الزوج من تكاليف المرض الذي تعانيه هاجر.. فهو قد قبل بها ابنة بالكاد بعد محاولات من جلسات الإقناع ، وتدخل أفراد العائلة، حاول أخيرا أن ينسجم معها وأن يقنع نفسه أن ما سيقدمه لها حنو على اليتيم المحروم .. ما يستطيع أن يفعله هو أن يضمن لها الالتحاق بمدرسة خاصة بالمصابين بهذا المرض .

إن هاجر لم تكن مصابة بعسر في النطق فقط فهذا الأمر يمكن التغلب عليه بطرائق متنوعة من العلاج .. لكن هاجر مصابة أيضا بخلل عقلي يفقدها توازنها مع الصغار والكبار..أحيانا تضحك ضحكات بصوت عال منفردة وأحيانا أخرى تهدد من يلاعبها من الأطفال آخذة بسكين من بلاستيك .... كثيرا ما تمنعها فاطمة من الخروج من البيت بل توصد الباب بالمفتاح حتى لا تتسلل إلى الخارج لأنها لا تعرف حتى النطق باسمها.

ذات مساء انسلت كما الشعرة من العجين دون أن يحس بها  أحد بينما كانت الأم تقوم بالأشغال في المطبخ.. كانت الأصوات تتعالى في الخارج أطلت فاطمة من النافذة وهي تناديها هاجر هاجر دون جدوى، اندفعت نحو الباب تبحث ثم تسأل الجيران واحدا واحدا فلا من رآها

-                    يا إلهي لقد ضاعت هاجر ؟ قالت الأم

كانت تضرب على وجهها وتلوم نفسها بقوة لا تعرف هل تبحث يمينا أم يسارا شمالا أم جنوبا..

استعد الجميع للبحث عن هاجر كل من يعرفها انطلق كالسهم هنا وهناك..أما فاطمة فذهبت إلى أقرب نقطة للشرطة مذهولة تسأل عنها

-                    تاهت الطفلة هاجر سيدي المفتش،أنا التي تركت الباب مفتوحا ماذا أقول للعالم أضعت ابنتي؟!

 هكذا كانت تتحدث في المخفر...

أثناء المسير كانت تمشي بخطى مشتتة لا تعرف الطريق ، تتفرس الوجوه وتعطي الأوصاف ، مرت ساعات على ذلك قطعت فيها فاطمة أميالا لاتدري أي نهاية للموضوع بينما هي كذلك ، إذ بجماعة من الناس تتحلق حول شخص ما فإذا هي هاجر وقد لقيتها سيدة تعرف من تكون تمسك بيدها وتخبر الجميع أنها ستأخذها لذويها إلا أنها لم تصدق من قبل المتفرجين...

بدت هاجر منكوشة الشعر على وجهها خدوش عيناها حمراوتان تصرخ بشكل هستيري لا يكاد المتطفلون يميزون في كلامها ..

شدتها فاطمة بقوة واحتضنتها تمنحها بعض الحنان مربتة على كتفها تكفكف دمعها،

- أنا أمك يا هاجر لا تخافي من فعل بك ذلك؟؟؟

هزت كتفيها لا تعرف ما تقول

-                    هل ضربك أحد ؟؟هل آذاك أحد؟؟

كل ما تفعله هاجر البكاء الحار..عادتا معا بعدما انفض الجمع وهي تعانقها وتقبلها وازدادت قناعة أنها لن تستطيع التخلي عنها .

-3-

توالت الأيام تباعا وأثقلت الديون كاهل الحاج المكي .. وبدأ يمهد لزوجته أن التخلص منها لن يتحقق إلا إذا بيع البيت وتم شراء بيت أصغر في حي آخر ..

تشتت عقل فاطمة بين الطفلة هاجر التي تحتاج إلى رعاية خاصة.. وبين خبر الديون الذي نزل كالصاعقة ولكي يسددها لا بد من بيع البيت قبل فوات الأوان لقد أخفى عنها ذلك لسنوات عدة ثم صدمها بالخبر أخيرا وخيرها بين قبول الفكرة أم الانفصال..

الآن أدركت فاطمة لماذا كان يحرمها من أبسط حقوقها ، فلطالما راودتها أسئلة عدة حول تبذير المال سدى ، دون أن تعرف كيف ولماذا وليس لها الحق أن تسأل أو توجه إليه نصيحة ، فاقتنعت أخيرا راضية أن رعايته لهاجر كافية لأن تغطي كل الخصاص الحاصل في العاطفة والود يكفي أن يعيلها قدر الإمكان ومع أنه قادر على ذلك.    

تهاوت أحلام فاطمة  وتساقطت كأوراق الخريف.. وأحست برجة تزلزل البيت استجمعت قواها لتفهم ما يجري من أمور حولها.. لم تصدق أن زوجها المفتش في مركزه الحساس أن يستدين الملايين دون أن يشركها أو يوضح لها ذلك .. لم تكن تعرف أن مؤامرة تحاك وراءها باتفاق مع أهل الزوج .. فحرمان فاطمة من الخلفة كانت ذريعة كافية لإجبار الحاج المكي على تطليق زوجته مع أنه يعرف الحقيقة ، فالطبيب أعلن بعد نتائج الفحوصات أنه عقيم لا يستطيع الإنجاب..

اختلطت الأوراق ووجدت فاطمة نفسها في عنق الزجاجة أين سترحل إذا وقع الطلاق رفقة طفلة معاقة؟؟؟ من سيتفهم حياتها الجديدة ومن سيعولهما معا ؟؟

وصل القطار محطة الرباط  فتمالكت نفسها، ثم نزلت إلى الرصيف وأمل كبير يحذوها في أن تحكم المحكمة بالسماح لها برؤية هاجر التي قضت بأن تعيش تحت كنف الحاج المكي..

نعم لقد وقع الطلاق وبيع البيت الدافئ بجرة قلم كاد الحاج المكي أن يجن لما استفاق من غيبوبته ووجد المال بين يديه ليكشف أنه أضاع فاطمة وهاجر معا إلى الأبد..

لم تتمكن فاطمة استيعاب الأمر فقد أصيبت بمرض نفسي، لم تتحمل تأخر المحكمة في النطق بالحكم .. فتسللت إلى مؤسسة هاجر التربوية تستجدي المديرة في رؤيتها .. رقت لحالها ، وأقنعت المربية هاجر بزيارة الماما لها لكنها رفضت رفضا تاما .. فقد بدأت تصرخ وتضرب الحائط بكلتي يديها في تأتآت غير مفهومة.. لترتمي في أحضان أمها فاطمة معاتبة إياها على تركها وحيدة في هذا العالم الغريب الذي لا تفهم لغته إلا بتفهيم الأم فاطمة لها...

 تكسر قلب الأم فاطمة فانفطرت عيناها وأصبح قلب أم موسى فارغا ....

              


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب   الآداب   قصة