عندما تساءل أحمد عن مدى قدرته ليكون من اسعد البشر .. كان يبحث عن شيء مختلف، جراء طيف كان يبدو له جميلا ، عاشه بصدق اللحظات حيث تعاقب على مخيلته شهور طويلة .. ولازال يتساءل حينها إذا ما كان باستطاعته أن يجعل منه ذاك الحب الملهم، الذي يتنفس من خلال صباحا ته عطر الياسمين ، ومساءا ته بهمسات من جوري أحمر بشذاه الأخاذ.. لكن على ما يبدو أن الواقع وحيثياته كان اكبر من أحلامه السابحة بين فضاءات تجوب أعماق الأفق ألا منتهى ..فقد بدأت جوارحه في تشكيل ذاك الطيف بعد طلته الغجرية الساحرة كيفما يشاء قلبه وصدق مشاعره.. التي أفضت عن بوح صريح أرسله عبر الأثير عله يجد جوابا شافيا .. فيتلقى ردها وقد بهت وهجه وخفت بريقه .. لم يكن بمستوى عصف أفكاره وجنونها ولا بحرارة مشاعره وأشواقها .. ليجد نفسه أمام نهاية لقصته ألا منتهية ؟؟..
فاجأه الرد منها حيث أراد طيفه أن يبقى هناك بين النجوم دون أن تبادله أي من مشاعره الصادقة .. شفافية أرادها احمد .. وقد انتظرها بفارغ الصبر بعد أن احتدمت في دواخله صراعات وهواجس .. كان لنداء الكروان فيها النصر المؤزر.. في بستان قلبه الذي يعبق بشذى من جوري احمر اللون .. استحوذ على فكره وجوارحه التي تسللت عبر تراكمات سلبية لطيف تبدلت ملامحه بوتيرة تسارعت ألوانها بعبثية ما تزال موضع استهجانه كلما تذكر تلك اللحظات الأخيرة ..
كان أحمد يحتفظ ببستانه يافع الأوراق والجذور.. فانطلق إلى عين الماء يحفر قنوات ري ليروى ارض عطشى .. تبتهل بترانيم مقدسة عن حب متكامل جوانبه !.. ارتبك الموقف ومر بمخيلته كشريط فيلم يسير ببطيء شديد وقد أعياه السير في دهاليز مشاهده المتناثرة في تعب الانتظار.. ليبدأ في ترنح كشارب نبيذ يريد الهروب من قسوة اللحظات ومرارتها .. لأنه لن ينكر على نفسه وجع ألمه لهذا الفراق ولهذه القسوة واللامبالاة منها.. حيث تلقى إجاباتها عن أسئلته المحددة ..التي تبادرت إليه كجبال من ثلج باردة شاحبة .. بصمت لن يدلل على أي شيء في زخم من البوح والشفافية المنسابة منه.. وعندما أطل في عين النبع الصافي المتدفقة مياهها فغاب بدره ولم يعد يرى ذاك الطيف كما السابق.. لقد تلاشى تماما وهنا تأكد من خسوف القمر !.. لكنه سمع رقرقة المياه تنساب في جداول قام بنبشها بأظافره ويديه العاريتين .. لتنساب من جديد تروى ارض من شهور لم تصلها قطرات مياه الحياة الأبدية .. لتتفتح من خلالها أجمل وارق وأعذب ورود عرفها منذ سنوات إدراكه الأولى .. إنها ورود الجورى الأحمر الذي عشقها وما يزال في عشقه لها.. هناك بني قصوره وارفة الظلال .. ومن هناك مجمع جداوله وأنهاره تُسقى فيه الشعور والأحاسيس والجوارح مجتمعة.. فتنعش فؤاده وتشعره بوجوده .. وتجسد فيه طبيعته وفطرته وأفكاره وثقافته .. التفت إلى صديقه الذي استهجن كلامه مكملا : نعم يا صديقي إنها الطبيعة الإنسانية المتأقلمة مع حضارة تأججت نيرانها منذ الأزل .. انه نداء الكروان الذي يقفز ويغرد خارج زمن الغزل العذري في عيون لا بريق لها ؟..
إنها الفطرة لرجل ثائر عاشق عبر سنوات عمره داخل فضاءات تعددت ألوانها وثقافاتها.. والتي جرفت معها كثير من تلك القيم الحالمة العذرية التي فشل في إدراكها لاحقا بتقدم السنين .. أو المزج بها كما تمنى لاحقا.. هنا انبرى صديقه قائلا : قد يكون بلا شك للواقع أحكامه في فرض كثير من الحواجز ونقاط التفتيش .. عبر الطرق المؤدية إلى الوصول بتوافق من المستحيل المضي فيه وإلا لكان درب من دروب المثالية الغير منطقية وألا واقعية .. وهذا ما بحث عنه عقلك وفكرك الثائر المتوهج لحب متكامل يجمع بين شاعرية الروح وغزل الجسد والهام الجوارح !.. هز برأسه قبل أن يمضى الصديق في طريقه خارجا كمن يوافقه الرؤى ...
بقى أحمد وحيدا مع نفسه، لينفجر زلزاله في دواخل أعماقه ، تذهب به حد الدهشة التي حتما ستنتهي بقهقهات في لحظات جنون مع الذات وعدم توازن مع الحدث.. ومع رعش جسده الموجع يهمس إلى نفسه: انه طيف مجنون لم يستوعب جنونه هذا الحب من قلب عاشق ثائر طيب شفاف .. في زمن تتراقص فيه الكلمات فتظهر بريقها لامعا ..على حين يكون جوفها اخرق قاتم و الذي لو قدر له الإنعتاق لطغى بقتامته سطح الأرض كلها..
قام بالإسراع بإشعال سيجارته من جديد .. و غرق في تذكر كلماته الأخيرة لها.. حيث كان يعيش بين حضورها اسعد لحظات عمره .. كانت تجتاح أنفاسه فتتلاحق ، وتغمر جسده فينتفض ..تمسح كآبته فتنفرج أساريره..وتظهر ابتسامته وتفتح أفكاره ..حضور تسرب إلى دواخله بأحاسيس صادقة ومعاني اكبر من أن توصف.. أحب فيها الحنان المنتظر.. والقليل من الهمسات الدافئة و المنفلتة من بين طيات كلماتها.. ومع شحها إلا أنها كانت قطرات من ندى الصباح .. كان حبه لها قد منحه مزيد من الإبداع والعطاء..كان ذلك قبل أن يصل إلى الحقيقة التي تبلورت من تراكمات سلبياتها وعبثية تصرفاتها تجاهه باستخفافها بقلب لن تجد شبيها له .. وعدم تفهمها لطبيعته الثائرة العاشقة بحب الورد الجورى إلى جانب إعجابه الكبير بباقي الورود وعبقها.. فلم تفلح شهور طوال من فهم حقيقة ما ينشده منها..
كان احمد اضعف من قطعه بسكويت في فنجان من الشاي الساخن أمام رقة ومشاعر حواء.. لا شك بان أسبابها ستبقى سر من أسراره .. لأنه الوعد الذي قطعه على نفسه وعلى معشوقات قلبه من حبيبة اللحظات إلى حبيبة المستحيل ومن حبيبة الأحلام إلى حبيبة الواقع ومن صدر حنون دافئ إلى آخر تغلفه أوراق التوت المتساقطة في ربيعها! .. انه قلب رجل مختلف تماما عن أي قلب آخر ؟.. فها هو يلوذ بالهروب من خلال الصمت وان تمزق كبده من شدة الألم خوفا وحفاظا على مشاعر أي حبيبة ينهل منها لحظات من سعادة وصدق في مسيرة حياته الممتدة .. ما يزال فيها قلبه الفسيح يحتضن بساتينه الفيحاء بجداولها العذبة الرقراقة وطيورها الغناء..
في ليلة التحفت بردائها المعتاد .. كان فيها يلملم أفكاره المبعثرة ، كان يقضم فيها المسافات بلمح البصر.. بخطوات قرر الإقدام عليها بعد أن فاض به عبث طيف لا يستحق إلا تلك القلوب الزائفة التي تبيع العواطف ببخس الأثمان ..في مزادات جماعية وأسواق الدلالين الشاخصة أبصارها والجاحظة عيونها؟.. وهكذا أُسدل الستار عن قصة حب كانت من جانب واحد .. استمرت أكثر من وقتها .. وأخذت أكثر من حجمها .. ساعده لحسن حظه حصيلته من تراكمات تجاربه الغنية بألوان قزح.. وجغرافيا ممتدة المسافات .. جعلته يتقبل خسوف قمرها وكسوف شمسها..ليأخذها احمد برفق وحنان بين يديه.. ويودعها في غرفة محكمة الإغلاق ..لا يملك مفاتيحها سواه .. في ركن بعيد في شق قلبه النابض بالحياة والأمل حيث تقبع ذكرياته المتنوعة بألوانها ومذاقاتها .. هذا هو قسمه وهذا هو وعده لحبيباته.. لتستقر هناك ضمن أرشيف زاخر بالذكريات الجميلة من ماضي بعيد وقريب على السواء.. ففي تاريخه الغائر في الذكريات قرر بأن يكون إنسان مختلف ..أملا في أن يكفر عن ذنوبه التي أرًقت ماضيه !.. فتهدى منه حاضره ومستقبله ..ثم مضى إلى حيث بستانه.. يرويه بينبوع حنانه المتدفق بعطاء لا ينقطع من حب يعمر قلبه.. لأنه يعنى له الكثير.. فهو أكسير حياته وعطائها.. لا يعيش بدونه ولا يستطيع..
بالجوار بدأ يشعر بملاك يقترب من بستانه.. و قد استحوذ على جوارحه وإلهامه .. بدأ ينفذ إلى تلابيب قلبه.. بعد أفول طيف وبزوغ أمل جديد .. انه ملاك يسمع همسات صوته.. ويرى صورته ويكاد يُمسك بيديه ويداعب شفتيه ..ينشد من خلاله الشباب والمرح والحب ليتناثر في أرجاء المكان.. فيهيم القلب ويختلج الوجدان..فيتعانق الحبيبان.. وتتورد منهما الجوارح كجوري أحمر ألوانه.. لتبدأ قصة أخرى فصولها أعنف وقعا تبشر ببزوغ فجر امرأة مختلفة.. تعانقت أفكارهما ورغباتهما معا .. كانت مزيج من الياسمين والجورى .. خليط من تلاحم شفافية ونقاء الروح مع نداء الكروان الخالد !.. الذي طالما بحث عنه..وها قد أصبح الآن بين يديه وفى قلبه وأعماق جوارحه.. فهل تنجح سناء في شقلبة كيانه من جديد لتطلق العنان لإبداعات متميزة قادمة ؟؟.
يتبع..
إلى اللقاء.
المراجع
grenc.com
التصانيف
أدب الآداب قصة