استيقظت الأميرة ذات صباح ندي، وتلفتت حولها وهي لا تزال في فراشها وأدهشها عدم سماع تغريد بلبلها الأثير القابع داخل قفصه الذهبي بالقرب من النافذة الفضية الواسعة المطلة على حديقة القصر الغناء. 

قامت الأميرة من سريرها بعدما أزاحت اللحاف عن جسدها الفتي، ومشت وهي تتمطى دافعة عنها آثار النوم إلى أن وصلت القفص، فنظرت إلى البلبل الذي أشاح بوجهه عنها حينما رأى وجهها الغض الجميل وهو يقترب من أعمدة القفص، فزاد ذلك من استغرابها ودهشتها، فظنت أن بلبلها المدلل قد يكون جائعا أو عطشان، ولكنها وجدت كل شيء في القفص عامرا بالخيرات، فلماذا إذا بلبلها اليوم صامت ولم تصح على غنائه كالمعتاد. 

حاولت الأميرة أن تداعبه فصفرت له ببعض النغمات التي يعرفها، ولكنه لم يستجب، فانتقلت إلى الجهة الأخرى من القفص لترى وجهه، ولكنه أشاح بوجهه عنها مرة أخرى فرأت أن تستدعي طبيب القصر البيطري ليفحص بلبلها الحبيب فلربما يكون سبب صمته مرضا الم به. 

فأمرت خادمتها أن تنادي الطبيب فحضر مسرعا، فأخرج البلبل من القفص وقام بفحصه، وبعد أن أكمل الفحص نظر إلى الأميرة مبتسما وهو يضع البلبل داخل القفص وقال: 

- يا مولاتي بلبلك في صحة جيده فاطمئني 

- قالت الأميرة وهي مستغربه: إذا فلماذا هو صامت لا يغني ولا يتحرك كعادته كل يوم 

- قال الطبيب مطمئنا الأميرة: يا مولاتي أعتقد أن بلبلك طماع 

- وكيف أيها الطبيب؟ 

- لأنك كلما دللته أكثر، تمادى في طلب المزيد 

- إنني أحبه فهو مبعث سعادتي في هذا القصر 

- بعض الطيور يا مولاتي مثل بعض البشر غير مخلصين.

وبعد انصراف الطبيب جلست الأميرة وحيدة في غرفتها أمام القفص، وراحت تطالع بلبلها الحبيب الصامت والألم يعصر قلبها والدموع تترقرق في عينيها الجميلتين، ثم دفنت وجهها بين كفيها وراحت تبكي، وبينما الأميرة على تلك الحال، اقترب البلبل من أعمده القفص ونظر إلى الأميرة وهي تبكي فقال بصوت حزين: 

- أيتها الأميرة الجميلة أنا لا استحق حبك.

تنبهت الأميرة إلى صوت البلبل فأمسكت بالقفص غير مصدقه ان بلبلها قد نطق وكانت سعيدة بسماع صوته من جديد وقالت بحنان: 

- وكيف تقول ذلك فأنت ملأت علي حياتي فرحا وسعادة وجعلت من جدران هذا القصر الكبير الواسع المحصن بالأسوار العالية والحرس والكلاب المفترسة نوافذ حياة ونورا وفضاء فسيح.؟ 

قال البلبل: 

- لا استطيع الاستمرار في خداعك يا مولاتي 

- وكيف تخدعني وأنت الذي آنست وحدتي؟ لقد عوضتني عن الإخوة والأخوات والصديقات. 

- إنني يا مولاتي أتألم كل يوم كلما وجدتك تعامليني بمنتهى الرقة والعطف والحنان، لذلك قررت في هذا الصباح أن اعترف لك بكل شيء

- دع عنك هذا الكلام وهيا غن لي إحدى أغنياتك الجميلة.

- لا استطيع يا مولاتي، فكل ما فعلته قبل هذا اليوم كان تمثيلا وخداعا أما اليوم فلابد أن أقول لك الحقيقة وأريح ضميري. 

ماذا تريد أن تقول: 

- منذ سنوات يا مولاتي كنت احلم أن ادخل هذا القصر لاستمتع بالنعيم والرفاهية فكنت أطير بالقرب من القصر أنا وبعض الأصدقاء، وكنا أحيانا نحلق فوق حديقة القصر، ونحط فوق أغصان أشجارها الوارفة، ولكننا في اغلب الأوقات كنا نطرد من قبل بستاني القصر، وفي يوم من الأيام شاهدتك يا مولاتي وأنت تجلسين وحيدة تحت ظلال احدى الاشجار، وكان يبدو عليك الكآبة والحزن، وكنت أنا واقفا على احد الأغصان القريبة فقلت في نفسي هذه هي الفرصة التي كنت انتظرها فنزلت إلى احد الأغصان القريبة من المكان الذي كنت تجلسين فيه، وحينما انتبهت إلى حلقت بين يديك وغنيت وحططت على كتفك وواصلت الغناء، فحملتني على كفك فرأيت وجهك يتلألأ فرحا وسعادة وأنت تبتسمين لي في سرور، فانطلقت بي مسرعة إلى والدك السلطان الذي حملني على كفه هو أيضا وأمر في الحال في بإحضار قفص مصنوع من الذهب فوضعتني فيه وصار ذلك القفص بيتي الملكي في غرفتك يا مولاتي، حينها تنفست الصعداء وقلت في نفسي لقد تحقق الحلم فأين أصدقائي البلابل ليروا ما أنا فيه من نعيم. 

ومرت الأيام والشهور والسنين فاكتشفت أني لست ملكا بل بلبلا مسجونا في قفص ذهبي مهمته الوحيدة الترفيه عن ابنه السلطان الوحيدة، بالغناء والتغريد. 

فضعف جناحاي، ونسيت لون السماء، وغناء الفلاحين واخضرار المروج وخرير الجداول، وفقدت صحبه الأصدقاء ونحن نجتهد كل يوم في البحث عن الطعام، والتعاون في بناء الأعشاش، لقد خسرت الكثير يا مولاتي، ولكن أهم ما خسرته هو حريتي. 

جففت الأميرة دموعها وابتسمت لبلبلها الحبيب، فرفعت بأصابعها رأسه الذي كان منكسا من شده الحياء والخجل فقالت له: 

- هل تعني انك تريد مغادرة القصر؟ 

- إذا سمحت يا مولاتي. 

- ولكن أين ستذهب؟ لا أعتقد أنك ستجد أصدقاءك القدامى، وحتى الأماكن خارج القصر تغيرت، ستكون غريبا ياعزيزي. 

- يكفي أن أكون حرا 

- إني أخاف عليك 

- الحر لا يخاف 

حملت الأميرة القفص بالقرب من النافذة، ثم فتحت بابه فاقترب البلبل من الباب فقبل الأميرة في خدها وبعدها طار في الفضاء محلقا فوق القصر وحديقته وظل محلقا والأميرة تودعه بعينيها الدامعتين وهو يبتعد إلى أن اختفى.

القاص: إبراهيم راشد الدوسري

 العنوان: مملكة البحرين

المحافظة الوسطى/ الرفاع الشرقي

منزل: 348/ طريق: 3704/ مجمع 937

هاتف: 97339165703+

ebrahimrashed@hotmail.com


المراجع

akhbar-alkhaleej.com

التصانيف

أدب   الآداب   قصة